عرقية الأمس واليوم والغد – حسين إسماعيل

مدخل تنظيري
لما انتُخب باراك أوباما رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، تغنت وسائل الإعلام بدخول عصرٍ جديد، عصرٍ تُصبح العرقية فيه ماضيًا لا عودة له. فبعد كل العقود الطويلة من النضال في سبيل الحقوق المدنية والمساواة، باتت أمريكا تعيشُ عصرًا سياسيًا ما-بعد-عرقي.[i] اتخذ هذا التغني بانتخاب أوباما صيغًا أخرى؛ فمرةً اعتُبر تجاوزًا لقرون من اللامساواة[ii]، بينما اعتُبر في مرات أخرى تجليًا لعمى الألوان الاجتماعي -إن صح التعبير-، أي اختفاء تأثير لون بشرة الأفراد في الفضاء العام.[iii]
وفيما لا يمكن القول إن رئاسة أوباما لم تفتح الأبواب لتغييراتٍ جسيمةٍ فيما يتعلق ببعض السياسات الداخلية، إلا أن الحديث عن عصر ما-بعد-عرقي أو عصرٍ بلا ألوان ما يزال مبكرًا جدًا. ما تزال أمريكا عرقية، وما تزال العرقية جزءًا من بنية المجتمع الأمريكي. في عام ٢٠١٢، لقي ترايفون مارتن (١٧ سنة) حتفه على يد كابتن مراقبة أحد الأحياء.[iv] في يوليو ٢٠١٤، قُتل إيريك غارنر (٤٣ سنة) خنقًا بأيدي الشرطة.[v] في أغسطس ٢٠١٤، قُتل مايكل براون (١٨ سنة) برصاص أحد أفراد الشرطة.[vi] في سبتمبر ٢٠١٥، اعتقل أحمد محمد (١٤ سنة) من مدرسته بعدما اشتُبه بكون ساعته منزلية-الصنع التي أحضرها للمدرسة قنبلةً.[vii] القاسمان المشتركان الرئيسيان بين هذه الأحداث هما أن الجاني كان دومًا ذا سلطةٍ قانونية أولًا، وأن الضحايا دومًا من ذوي البشرة الملونة ثانيًا. وقعت كل هذه الأحداث أثناء رئاسة أوباما. وإذا كانت هذه الأمثلة قد تصدرت وسائل الأعلام، فلا شك أن هناك العشرات أو المئات غيرها مما توارى خلف زحام الأحداث اليومية وتجاهل الصحف لها. يمكن لأي فردٍ أن يستطلع تفاصيل الأحداث المختلفة، ولن يكون من الصعب استنتاج أن هؤلاء الأربعة (والعشرات غيرهم) ضحايا للتمييز العرقي، أي أن السبب الرئيسي للاشتباه بهم هو انتماؤهم لجماعات عرقية معينة بمعزلٍ عن أي أمرٍ آخر.
قد تبدو فكرة أن أمريكا باتت ما-بعد-عرقية الآن أكثر قابلية للشك والتساؤل، أو قد يبدو كونها عمياء اللون اجتماعيًا مجرد خطابٍ للاستهلاك الإعلامي أكثر من كونه إشارةً لما يجري فعلًا. والحقيقة أن هذه المقالة تبحث جزئيًا كون هاتين الفكرتين جزءًا من خطابٍ سلطويٍ تدعمه وتبشر به الجماعة المهيمنة، أي أنه خطابٌ يهدف في المقام الأول إلى المحافظة على الوضع الراهن ومنع أي تغييراتٍ بنيويةٍ حقيقية عن طريق التعتيم والتجهيل. يحق للقارئ أن يتساءل عن ماهية الوضع الراهن هذا أو عن طبيعة بنية المجتمع العرقيّ الذي أعنيه. سأطرح جوابًا مبدئيًا -على أن أتناوله بتفاصيل أكثر لاحقًا – . تقوم أطروحة المقالة على كون المجتمع الأمريكي عرقيًّا حتى يومنا هذا. هذه العرقية بنيوية أو مؤسساتية في جوهرها، بمعنى أنها جزءٌ من الأسس التي تقوم عليها المؤسسات في النظام السياسي الأمريكي. ولا أعني بالنظام السياسي أنها محصورةٌ على الفضاء السياسي المباشر وحسب، بل أتناول الأمر من زاوية عامةٍ تعتبر كل ما يتعلق بتنظيم الناس جزءًا من السياسة، حتى وإن تسمى بغير ذلك.
القول بأن العرقية “ما تزال” قائمة يفترض استمرارية من نوعٍ ما. تشكل هذه الاستمرارية نواة المقاربة التاريخية التي سأنتهجها في هذه المقالة، أي المقاربة التي تنطلق من أن تحليل الظواهر المعاصرة يتطلب بحثًا لا في تجلياتها وأصولها وحسب، بل يشمل حتى الافتراضات التي أنطلق منها في تحليل تلك الظواهر. ولأنني أزعم أن بذور العرقية المعاصرة مزروعةٌ منذ تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية، فستشكل المصادر التاريخية الأولية محور الجزء الثاني من المقالة.
لعل الإشكال الأول فيما يتعلق بالمقاربة التاريخية مرتبطٌ بما يمكن تسميته بالتنظير اللا-زماني. أثناء تتبع جذور أي ظاهرة معاصرة، قد يسقط الباحث في فخ إسقاط قيم عصره أو أطره الفكرية على الماضي الذي يحاول تحليله. لا أزعم بإمكانية التحرر تمامًا من هذه النزعة، ولكن أؤمن بإمكانية تقليل عواقبها من خلال التركيز على العلاقات بين الظواهر بدلًا من تناول الأحكام المفردة على حدة. بعبارةٍ أخرى، بدل إصدار أحكام قيمية أو تفنيد أفكار معينة، يتوجب استعراض هذه الأحكام والأفكار بوصفها تجلياتٍ لنسيج أكبر، أي بوصفها جزءًا من تفاعلات البنى الفكرية القائمة آنذاك.
توضيح هذا التحليل العلائقي وحل الإشكال الناجم عن المقاربة التاريخية يستلزمان التعريج سريعًا على ثلاثٍ مما يمكن تسميتها بالميتا-نظريات، أي النظرية التي يكون موضوعها نظريةً (أو مقاربة نظرية) أخرى. أولى هذه الميتا-نظريات مرتبطة بأطروحة الفيلسوف الألماني هانز فايهينغر عن المُتَخيّل في كتابه The Philosophy of ‘as if’. فحسبما يقول في مقدمة الكتاب، المتخيل هو ما يوجد على المستوى النظري (أو العقلي) دون المادي، أي هو ما نعلم بألا وجود مادي له. لكن عدم وجوده ماديًا لا يعني أنه خطأ أو غير ذي جدوى إن صح التعبير، بل من الممكن أن يكون مفيدًا عمليًا، أي أن يكون له عواقب مادية.[viii] ويضيف فايهينغر في الفصل الرابع أيضًا أن المتخيلات ليست إلا بنىً عقلية، مشددًا على كونها وسائل لازمة عقليًا للوصول لنتائج مادية لم تكن ممكنةً لولاها.[ix]
يُمَثّل فايهينغر على هذه المتخيلات بمفهوم اللانهائية الرياضي ومفهوم الأشياء-في-ذاتها الفلسفيّ، ويمكن أن نضيف إليها مفهوم المجتمع كذلك. كل هذه المفاهيم مُتخيّلة بمعنى أنها لا تشير إلى واقعٍ موضوعيٍّ مادي. بالرغم من ذلك، تُفضي معاملتها كما لو أنها حقائق مادية إلى نتائج واقعية ملموسة. يمكن فهم هذه الفكرة بشكلٍ أوضح فيما يتعلق بالدراسات العرقية. العرق بحد ذاته مفهومٌ متخيل، أي أنه مبنى اجتماعي يهدف إلى تصنيف الناس وفق خواص ظاهرية معيّنة دون أن يكون له أسس مادية حقيقية. لطالما وُظّف هذا المفهوم لأجل إخضاع جماعات معينة لمصلحة أخرى.
ثاني الميتا-نظريات مستوحاةٌ من تصور سلافوي جيجيك الهرمي للعنف. يشير جيجك إلى ثلاثة مستويات مختلفة للعنف إن صح التعبير. هناك أولًا العنف الذاتي، وهو العنف الذي يمكن ربطه بفاعلٍ واضح. وهناك ثانيًا العنف الرمزي، كالعنف المتضمن في اللغة بمختلف أشكالها. وهناك ثالثًا العنف الموضوعي أو النظامي، وهو العنف الناتج عن آليات عمل الأنظمة الاقتصادية والسياسية.[x] يمكن تصور العرقية على ضوء المستويات الثلاثة المذكورة نفسها. في هذا السياق، يصبح التنابز بين الأفراد مثلًا جزءًا من العرقية الذاتية، إذ يمكن الإشارة للأفراد ووصفهم بالعنصريين (بغض النظر عما إذا كان هذا صحيحًا أم لا). وفي نفس السياق، يصبح التقسيم العرقي للمناطق السكنية والمقاطعات جزءًا من العرقية الموضوعية أو النظامية، إذ تجري العمليات من بدايتها لنهايتها بطريقة نظاميّة تؤثر على كل أبعاد حياة الأفراد دون أن يمكن بالضرورة ربطها بفاعلٍ واضح.
ثالث الميتا-نظريات متعلقٌ بالصراعات بين الجماعات، وهي مستوحاةٌ من فكرة اغتراب الذات الماركسية. في مقالته المعنونة بـ “الاغتراب والطبقات الاجتماعية”، يرسم ماركس علاقةً ضدّيةً بين البروليتاريا والثروة برغم أنهما تنشآن من الظروف ذاتها.[xi] بعبارةٍ أخرى، لا يمكن للبروليتاريا أن توجد بمعزلٍ عن طبقةٍ برجوازية تحتكر الثروات، لكن هذا لا يعني أن مصالحهما سواسية؛ تعلو البرجوازية بانحطاط البروليتاريا، والعكس صحيح. لكن هذا الانحطاط غير محصورٍ على الجانب الاقتصادي وحسب، بل يمتد للظروف المحيطة بشكلٍ عام. بعبارة أخرى، ذات الظروف التي تُنتج البروليتاريا تتسبب أيضًا في لا-أنسنتهم، أو سلب إنسانيتهم: “تمثل البروليتاريا التجرد الكامل من كل ما هو إنساني، بل حتى من مظهر التأنسن.”[xii]
يمكن رؤية العرقية من خلال أطروحة ماركس حول هذين الأمرين، فالظروف التي مر بها غير البيض في أمريكا سلبت منهم إنسانيتهم بدرجاتٍ متفاوتة خلال المراحل الزمنية. وبالإضافة لذلك، كلما اشتدت ثنائية البيض ضد غير البيض فإن توزيع المصادر ينحى نحوًا مشابهًا، إذ يعلو البيض فيما ينحط سواهم. الشاهد من هذه الفكرة -برغم اختزاليتها حتى الآن- أن البيض منتفعون من الظروف القائمة وأنهم سيحاولون الحفاظ عليها بأي ثمن، وهذا ما يفسر جزئيًا تغير هوية الرجل الأبيض في الولايات المتحدة الأمريكية وفق المصالح الاقتصادية تاريخيًا.
تهدف الميتا-نظريات الثلاث المذكورة إلى تجهيز أرضية فكرية مبدئية تنبني عليها المفاهيم القادمة حول العرقية والنقد التاريخي للمصادر.
يمكن البدء بتحليل مفهوم العرق بحد ذاته. بحسب غولاش-بوزا، يمكن تعريف العرق بكونه “الاعتقاد المبني اجتماعيًا بإمكانية تقسيم الجنس البشري إلى جماعات بيولوجية حصرية ومتمايزة وفقًا لخواص جسدية وثقافية.”[xiii] بعبارةٍ أخرى، يتضمن مفهوم العرق الاعتقاد بأن الخصائص الجسدية الظاهرة مرتبطةٌ بأبعاد ثقافية، كالذكاء والقيم الأخلاقية وما إلى ذلك. برغم أن الاختلافات الظاهرية وحتى التمييز بناء على لون البشرة أمران قديمان تاريخيًا، تشير غولاش-بوزا إلى أن مفهوم العرق بحد ذاته مفهومٌ حديث، ولم يتولد إلا مع عصر الاستعمار.[xiv]
ما أهمية هذا الأمر؟ بادئًا ذي بدء، لا يمكن فصل العرقية وعواقبها عن مفهوم العرق. بعبارةٍ أخرى، الاعتقاد بارتباط الخواص البيولوجية المسؤولة عن تحديد لون بشرة الإنسان بأبعاد ثقافية ورسم الهويات بناء عليها سيؤدي في نهاية المطاف إلى العرقية، إلى التمييز بناء على العرق. ما العرقية إذن؟ من الممكن مقاربة مفهوم العرقية بمقاربتين: أولًا، يمكن اعتبار العرقية آيديولوجيا تشدد على الارتباط العضوي بين الصفات الجسدية والخواص الثقافية والاجتماعية. وبالإضافة لذلك، يمكن وصفها بممارساتٍ تهدف لإخضاع الأعراق التي يعتقد أنها دونية، سواء اتخذت هذه الممارسات مستوى ماكرويًا أو مايكرويًا.[xv]
من السهل فهم مستويي العرقية الماكروي والمايكروي عبر منظومة العنف الهرمية لجيجيك، والمذكورة بالجزء الأول من المقالة. مثلما يمكن تصنيف العنف إلى عنفٍ ذاتي وموضوعي، يمكن تقسيم الممارسات العرقيّة إلى مستويين كما تشير غولاش-بوزا: “المستوى الأول هو مستوى الفرد. أما الثاني فهو على مستوى المؤسسة، حيث تصبح العرقية آيديولوجيا تطبيعية واجتماعية، وتعمل داخل وضمن منظماتِ ومؤسساتِ وعملياتِ المجتمع الأكبر.”[xvi]
ينطلق كلًا من هذين التعريفين (أي العرقية بوصفها آيديولوجيا والعرقية بوصفها ممارسات إخضاع) من فرضية أن العرقية ظاهرةٌ موجودةٌ بالفعل، ويسعى كلا منهما لتوصيفها ورسم حدودها. إلا أن السؤال حول أصلها ما يزال قائمًا: كيف تكونت العرقية؟
من الممكن الاستعانة هنا بنظريتين تحاولان تفسير الأمر. النظرية الأولى هي نظرية التشكّل العرقي كما طرحها الباحثان وينانت وأومي. من وجهة نظرهما، يمكن تعريف التشكل العرقي بأنه عملية اجتماعية-تاريخية تتعلق بالفئات العرقية، حيث تقوم هذه العملية بتكوين وتأهيل وتحويل وتدمير هذه الفئات.[xvii] تعيد هذه العملية تشكيل الفضاء السلطوي الذي تتحرك فيه الفئات العرقية، حيث أن التحولات التاريخية ترفع من مرتبة بعض الفئات في مقابل تدمير أخرى.
لا يعني ذلك أن العملية موجودةٌ في كل مكانٍ وزمانٍ، بل هي مشروطةٌ بوجود نظامٍ اجتماعيٍّ “مُعرقن” كما يسميه بونيا-سيلفا. بحسب استخدامه، النظام الاجتماعي المعرقن عبارة عن مجتمع تكون جوانبه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والآيديولوجية مبنية بشكلٍ جزئي وفق ترتيب العوامل الفاعلة داخل الفئات العرقية أو الأعراق.[xviii] هذا يعني أن توزيع الموارد والمصالح بشكلٍ عام يتأثران بعوامل داخلة في تشكيل الهويات العرقية، مما يعني أيضًا أن الصراعات بين الجماعات تكتسب طابعًا عرقيًا. ولأن هذه الصراعات بحد ذاتها جزءٌ من عملية تفاعلٍ معقدة، فليس من المُستغرب أن تكون العلاقات بين الأعراق المختلفة هي الأخرى معقدةً ومتغيرة. قبل بلوغه الشكل المعاصر، تعرض المجتمع الأمريكي للعديد من عمليات العرقنة، وسأحاول في السطور القادمة استكشاف بعض جذور هذه العمليات.
قد يتساءل القارئ هنا عن أهمية التركيز على الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الأمريكي، خصوصًا أن العرقية ظاهرةٌ تفشت إلى شتى بقاع العالم. هناك سببان رئيسيان وراء هذا التركيز. أولًا، من السذاجة التقليل من شأن الغزو الثقافي الأمريكي على جميع الأصعدة، سواء كان هذا الغزو ظاهرًا أم مستترًا. يكمن أحد جوانب هذا الغزو في تصدير المفاهيم النظرية الفلسفية والاجتماعية كغيرها من المنتجات الاستهلاكية، بحيث تبدو هذه المفاهيم كأنها أحدث النظريات وأفضلها وما إلى ذلك، وأن على العالم “استخدامها” حتى تأتي نظريةٌ أفضل. أؤمن أن نقد النظريات والمفاهيم جزءٌ من مقاومة هذا الغزو، وعمليةٌ لا بد منها لتفكيك الهيمنة الثقافية كيفما تلوّنتْ. تبيان ارتباط المجتمع الأمريكي المعاصر بالممارسات العرقية التي مورست تاريخيًا قد يسلط الضوء على ارتباط هذه النظريات بحد ذاتها بظروف التاريخ نفسه، مما قد يعني أيضًا توضيح أوجه نسبيّتها.
السبب الثاني للتركيز على أمريكا هو كونها “حالةً خاصة” في نشأتها. بحسب تعبير توكوفيل، أمريكا هي “الدولة الوحيدة التي أمكن متابعة التطور الطبيعي والهادئ لمجتمعها، حيث أن تأثيرات أصل الولايات على مستقبل بالغ الوضوح.”[xix] هذا يعني أن تتبع أصول العرقية وتطور المؤسسات العرقية هو الآخر أكثر وضوحًا في حالة الولايات المتحدة الأمريكية. طالما ظلت جذور العرقية المؤسساتية اليوم متوارية، ستظل العرقية قائمةً وسترسم المستقبل.
يمكن الآن البدء بتحليل بعض المصادر التاريخية، وليس هناك أفضل من إعلان الاستقلال كنقطة البداية. لطالما طُبّع إعلان الاستقلال بوصفه وثيقة إنسانيّة عالمية تهدف للإطاحة بالاستبداد ونيل كل الحريات الفطرية. وهذا ما تريد السطور الأولى من الوثيقة إيصاله، إذ أنها تطالب الناس باسترداد حالتي الاستقلال والمساواة الطبيعيتين الممنوحتين من قبل قوانين الطبيعة ورب الطبيعة.[xx] سرعان ما تضيف الوثيقة أيضًا إيمانها “بأن هذه الحقائق بديهية، وأن كل البشر خلقوا متساوين، وأن الخالق منحهم حقوقًا لا يمكن التنازل عنها، إذ تشمل [هذه الحقوق] حق الحياة والحرية والسعي وراء السعادة.”[xxi]
يبدو النص محايدًا ظاهريًا، أي أن الحديث هنا عن عموم البشر. لكن الحقيقة أن التدقيق في السياقات التاريخية واللغوية للنص يكشف لنا أن هذه الحيادية مجرد تطبيعٍ لاحتكار البيض للإنسانية إن صح التعبير. بعبارةٍ أخرى، مفردة البشر المذكورة في إعلان الاستقلال لا تشمل جميع الأعراق، بل تمجد العرق الأبيض وحده وتُقصي غيره من الأعراق “الدونية.” من الضروري الاستطراد قليلًا من أجل توضيح هذه النقطة.
يقول ديفد هيوم في إحدى كتاباته: “أجد من اللائق الاعتقاد بأن الزنوج بشكلٍ عام وأن كل الأنواع البشرية الأخرى (إذ هناك أربعة أو خمسة أنواع) أدنى من البيض فطريًا.”[xxii] في كتابه عن تاريخ جامايكا، يقول إدوارد لونغ أن أفريقيا مصدر كل ما هو وحشي في الطبيعة، ويسمي الأفارقة “مخلوقات” كما لو أنهم فعليًا ليسوا بشرًا.[xxiii] وفي إحدى قصصه القصيرة، يتهكم فولتير على الفكرة الشائعة آنذاك بكون الفوارق “الفطرية” بين البيض والسود سببًا للخصومة الفطرية. وأخيرًا –وليس آخرًا-، يمكن اقتباس توماس جيفرسون، أحد الآباء المؤسسين لأمريكا: “ولهذا السبب أقول من باب الشك وحسب أن السود –سواءً كانوا عرقًا مختلفًا أصلًا أو أن الزمن والظروف جعلتهم كذلك- أدنى من البيض في قدراتهم الجسدية والعقلية.”[xxiv]
هذا الاستعراض الوجيز كفيلٌ بتوضيح النقطة السابقة: لا تشمل مفردة “البشر” جميع الناس. لو رجعنا لإعلان الاستقلال لأمكننا استنتاج أن جميع المفردات من قبيل “نحن” أو “الأفراد” أو “الناس” تشير إلى البيض تحديدًا، لا لغيرهم.
وليس إعلان الاستقلال الوثيقة الوحيدة التي تكرس هذه الفكرة أو توظفها في سياقات شبيهة. في دستور ماستشوستس عام 1780م، عُرّف المجتمع السياسي بأنه تجمع اختياري للأفراد، حيث يُعتبر عقدًا اجتماعيًا بين المواطن والمجتمع لأجل المصلحة العامة.[xxv] التفريق بين الفرد والمواطن ليس لغويًا، بل يشير إلى أن المجتمع السياسي لا يشمل فعليًا جميع الأفراد ضمن المجتمع. يصبح السؤال هنا: من هم المواطنون تحديدًا؟ يتشارك دستورا ماستشوستس وجورجيا (1777م) فكرةً شبيهة في الإجابة على هذا التساؤل: هم الذكور ممن بلغوا الحادية والعشرين –وقد يُضاف شرطٍ إضافي متعلق بحد أدنى من الملكية الخاصة-.[xxvi]
هناك إذن تمييزٌ ضد المرأة والقصّر فيما يتعلق بتكوين المجتمع السياسي. ولكن هل يمكن تعميم ما تقتضيه هذه الدساتير على المجتمع؟ بعبارةٍ أخرى، هل يمكن افتراض أن الذكور السود ممن بلغوا الحادية والعشرين واستوفوا بقية الشروط مستثنون أيضًا من المشاركة السياسية؟
الحقيقة أن هذا ليس افتراضًا، بل هو مبنيّ على واقعٍ كان مُعاشًا آنذاك. أستشهد هنا بقضية دريد سكوت ضد سانفورد. كان دريد سكوت عبدًا، وقد قام برفع قضيةٍ من أجل نيل حريته وحرية عائلته. حكمت المحكمة العليا ببطلان هذه القضية من أساسها لأن سكوت ليس مواطنًا أمريكيًا، مما يعني أنه غير قادر على رفع أي قضيةٍ بالمحكمة الفيدرالية. وردًا على أي شك قد يساور القارئ حول حيثيات هذه القضية، أقتبس ما يلي:
“ترى المحكمة أن تشريعات وتأريخ تلك الحقبة واللغة المستخدمة في إعلان الاستقلال تُظهر عدم كون هذه الطبقة من الأشخاص الذين أحضروا كعبيدٍ وعدم كون من تحدر منهم (سواءً أصبحوا أحرارًا أم لا) مشمولين بوصفهم جزءًا من الشعب، ولم تكن هناك نية لجعلهم مشمولين على ضوء مفردات تلك الوثيقة التاريخية.”[xxvii]
وأقتبس أيضًا:
“اعتبر الزنوج لأكثر من قرن كائناتٍ من رتبة دنيا، وهم غير لائقين أبدًا للاختلاط مع العرق الأبيض سواء في العلاقات الاجتماعية أو السياسية، وهم من رتبةٍ أدنى لدرجة أنهم لا يمتلكون أي حقوقٍ يتوجب على الرجل الأبيض احترامها، بل أن استعباد الزنجيّ هو من باب العدل والقانون لمصلحته هو.”[xxviii]
إذا كان هذا رأي المحكمة العليا، فليس لنا إلا أن نتخيل الدور المحوري الذي لعبته العرقية في الحياة اليومية عبر التاريخ.
لا يجب أن يُفهم من الوثائق المذكورة أن السود هم المتضررون الوحيدون من العرقية، سواء بمستواها الماكروي أو المايكرويّ. بغض النظر عن تغير مفهوم الأعراق عبر التاريخ، يمكن القول بأن أغلب الجماعات العرقية من غير الأنجلو-ساكسونيين (وهذا يشمل بيض شرق أوروبا من الدرجة الثانية) عانت تاريخيًا. أستحضر هنا قوانين التجنيس المختلفة التي تحد من تجنيس غير البيض عبر التاريخ. وأستحضر مثلًا قوانين 1882م التي منعت قدوم المهاجرين الصينيين عشرة أعوام.[xxix] أستحضر أيضًا قرار الكونغرس عام 1921م بتحصيص المهاجرين حسب جنسياتهم.[xxx] بل من الممكن أيضًا استحضار الـGI Bill، وهي السياسة التي يُقال بأنها صنعت الطبقة المتوسطة في أمريكا. تشير هذه السياسة إلى المميزات الممنوحة للجنود الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية. وفيما استطاع الحاصلون عليها تأمين العديد من الفرص التعليمية والوظيفية، مُنع الظل الأكبر من غير البيض من غنائمها.[xxxi] وحتى المفارقة المعاصرة بين أحياء البيض وغيرهم ليست مستثناة، إذ أن قرار الإسكان الوطني عام 1934م مرسومٌ من الأساس على حدود الفصل العرقية، أي أن الفصل العرقي القائم حاليًا والانفجارات الثورية ليست إلا نتيجةً لماضٍ متراكم.[xxxii]
من خلال هذه المقالة، يتضح أن العرقية جزءٌ من البنية المؤسساتية للولايات المتحدة الأمريكية، وليست مجرد ممارساتٍ فرديةٍ يمكن تجاوزها بسهولة. وبالإضافة لذلك، هذه الشرعية النظامية تُطبعن العرق والعرقية وتجعلهما جزءًا من فلسفة الوضع الراهن، مما يُغيّب جذورها عن تفاصيل الحياة اليومية. حين قال دو بوا أن “مشكلة القرن العشرين [في أمريكا] هي مشكلة حدود اللون” لم يكن يبالغ.[xxxiii] وحين قال أن الزنجي “يشعر يوميًا وبشكل متزايد أن القانون والعدالة ليسا ملجأين آمنين، بل مصدرًا للذل والإخضاع”، فهو يطرح وجهة نظره الخاصة عن العرقية بوصفها جزءًا من بنية المؤسسات ذاتها.[xxxiv] تكمن خطورة العرقية المؤسساتية في أنها مخفية وغير واضحة للعيان، في أنها تنتهج ما يُطبعن الممارسات كما لو أنها غير عرقية.
حاولتُ من هذه المقالة البرهنة على أن العرقية المعاصرة في الولايات المتحدة الأمريكية ليست إلا امتدادًا لجذورها منذ تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية. وبالإضافة لذلك، حاولت استعراض الأدلة على وجود علاقة وثيقةٍ بين المفاهيم النظرية فيما يتعلق بالمجتمع والعرق وما أشبه وبين بنية تلك المجتمعات نفسها. إذا كان هناك من حلٍّ للأزمة العرقية المعاصرة، فلا شك أن نقد آلية عمل المؤسسات العرقية جزءٌ لا يتجزأ من نقد المفاهيم والنظريات التي تكرس الوضع الراهن بطريقةٍ أو بأخرى. أي محاولةٍ للدوران حول ذلك مجرد إتاحة فرصةٍ أكبر للجماعة المهيمنة لكي تسترد عافيتها وتزداد هيمنة.
[i] Schorr, Daniel. A New, ‘Post-Racial’ Political Era in America. 28 January 2008. 5 December 2017.
[ii] Staff, History.com. History.com. 1 January 2009. A+E Networks. 13 December 2017. <http://www.history.com/topics/us-presidents/barack-obama>.
[iii] —. MSNBC’s Matthews On Obama: “I Forgot He Was Black Tonight”. 27 January 2010. 4 December 2017.
[iv] Gutman, Matt and Seni Tienabeso. Trayvon Martin Shooter Told Cops Teenager Went For His Gun. 26 March 2014. 12 December 2017. <http://abcnews.go.com/US/trayvon-martin-shooter-teenager-gun/story?id=16000239>.
[v] Goldstein, Joseph and Nate Schweber. Man’s Death After Chokehold Raises Old Issue for the Police. 19 July 2014. 12 December 2017. <https://www.nytimes.com/2014/07/19/nyregion/staten-island-man-dies-after-he-is-put-in-chokehold-during-arrest.html>.
[vi] Mckay, Hollie. Missouri cop was badly beaten before shooting Michael Brown, says source. 20 August 2014. 12 December 2017. <http://www.foxnews.com/us/2014/08/20/missouri-cop-was-badly-beaten-before-shooting-michael-brown-says-source.html>.
[vii] Fantz, Ashley, Steve Almasy and AnnClaire Stapleton. Muslim teen Ahmed Mohamed creates clock, shows teachers, gets arrested. 16 September 2015. 12 December 2017. <http://edition.cnn.com/2015/09/16/us/texas-student-ahmed-muslim-clock-bomb/index.html>.
[viii] Vaihinger, Hans. The Philosophy of ‘As if’. Trans. C. K. Ogden. Mansfield Centre: Martino Publishing, 2009.
[ix] المصدر نفسه
[x] Zizek, Slavoj. Violence. New York: Picador, 2008.
[xi] Marx, Karl and Friedrich Engels. The Marx-Engels Reader. Ed. Robert C. Tucker. New York: W. W. Norton & Company, Inc, 1978.
[xii] المصدر نفسه
[xiii] Golash-Boza, Tanya. “A Critical and Comprehensive Sociological Theory of Race and Racism.” American Sociological Association 2 (2016): 129-141.
[xiv] المصدر نفسه
[xv] المصدر نفسه
[xvi] المصدر نفسه
[xvii] Omi, Michael and Howard Winant. Racial fornation in the United States: from the 1960s to the 1990s. New York: Routledge, n.d.
[xviii] Bonilla-Silva, Eduardo. “Rethinking Racism: Toward a Structural Interpretation.” American Sociological Review 62.3 (1997): 465-480.
[xix] Tocqueville, Alexis de. Democracy in America. New York: Bantam Books, 2000.
[xx] Alexander, Hamilton, James Madison and John Jay. The Federalist Papers. Ed. Clinton Rossiter. New York: Signet Classic, 2003.
[xxi] المصدر نفسه
[xxii] Hume, David. Essays, Moral, Political, and Literary. Ed. Eugene F. Miller. Indianapolis: Liberty Fund Inc, 1987.
[xxiii] Long, Edward. The History of Jamaica. London: T. Lownudes, 1774
[xxiv] Jefferson, Thomas. “The Founders’ Constitution.” 1 January 1785. University of Chicago Press. 6 December 2017. <http://press-pubs.uchicago.edu/founders/documents/v1ch15s28.html>.
[xxv] http://press-pubs.uchicago.edu/founders/documents/v1ch1s6.html
[xxvi] http://press-pubs.uchicago.edu/founders/documents/a1_2_1s6.html
[xxvii] https://supreme.justia.com/cases/federal/us/60/393/
[xxviii] المصدر نفسه
[xxix] Chinese Exclusion Act (1882). n.d. <https://www.ourdocuments.gov/doc.php?flash=false&doc=47>.
[xxx] 1921 Emergency Quota Law. n.d. <http://library.uwb.edu/Static/USimmigration/1921_emergency_quota_law.html>.
[xxxi] Katznelson, Ira and Suzanne Mettler. “On Race and Policy History: A Dialogue about the G.I. Bill.” Perspectives on Politics 6.3 (2008): 519-537.
[xxxii] Madrigal, Alexis C. The Racist Housing Policy That Made Your Neighborhood. 22 May 2014. 15 December 2017. <https://www.theatlantic.com/business/archive/2014/05/the-racist-housing-policy-that-made-your-neighborhood/371439/>.
[xxxiii] Du Bois, W.E.B. The Souls of Black Folk. New York: Barnes & Noble Classics, 2003.
[xxxiv] المصدر نفسه