مقالات

على بساطِ الشعر: رحلةٌ إلى إسبانيا بحثًا عن المعنى ومغفرة الذنوب

أليسا بايبر ترجمة: حمد الشمري

المصدر: برنامج (Poetica) الأدبي على إذاعة (ABC) الوطنية الأسترالية؛ والحلقة عرضت في مايو 2012 تحت عنوان :(Sinning Across Spain) من إعداد وتقديم الكاتبة، وهي عبارة عن ملخّص لكتابها بالعنوان نفسه. طباعة جامعة ملبورن الأسترالية

 

قصيدة البداية:

ما الذي يجعلني أتخيل أنني قادرة على المشي[1] يومًا عبر بلدٍ من البلدان حاملةً على ظهري أوزار أناس أغراب؟ الجواب وبكل بساطة هو قصيدة! نعم بهذه البساطة .. كانت قصيدة الشاعرة الأمريكية (ميري أوليفر) “يومٌ صيفيٌ” دافعي إلى المشي في رحلة طويلة:

__

من خلق الدنيا؟

من خلق البجعة والدب الأسود؟

من خلق الجراد؟

هذه الجرادةَ أعني؛

هذه التي نأت بنفسها عن العشب؛

هذه التي تأكل الآنَ السكّرَ من يدي.

هذه التي تحرك فكيها للأمام والخلف؛ لا للأعلى والأسفل.

هذه التي تحدق حولها بعينيها الواسعتين والمعقدتين.

ها هي الآن تغسل وجهها بكل تفاصيله بيديها الضئيلتين.

ها هي الآن تفتح جناحيها لتطير بعيدًا.

***

أنا لا أعرف ما هي الصلاة؛

ولكني أعرف كيف أخشع؛ أعرف كيف أخرُّ أرضًا

على ذلك العشب؛ كيف أركع على ذلك العشب؛

كيف أكون ناسكةً ومباركةً؛

كيف أجول خلال الحقول؛

وهو ما كنت أفعله طوال النهار.

قل لي بربك: ما الذي كان يجب على أن أعمله؟

أليست كل نفس ذائقة الموت؟ أليس ذلك بقريب؟

قل لي بربك: ما أنت صانع بحياتك الواحدة الثمينة الجموح؟

__

كانت القصائد وما تزال بوصلتي الخاصة؛ خرائطي والأقلام التي أعلّم بها عليها. هنّ علامات الطريق. وقد جعلتني قصيدة )مري أوليفر( أمشي ..

مررتُ صدفةً أثناء بحثي عن فكرة كتاب جديد على معلومة مدهشة. إن الإنسان في القرون الوسطى كان يتقاضى أجرًا ليقطع ماشيًا أرضًا “مقدسة” لأجل مغفرة الذنوب نيابة عن آخرين؛ ذنوبٌ تُغْفرُ عند وصول هذا المفوَّض إلى نهاية مسيرة الحج هذه: مغفرةٌ بالوكالة!

نشأتُ كاثوليكيةً، لكني لم أشعر يومًا بما قد أسميه “النداء السماوي” إلا حين استمعت إلى قصيدة (ميري أوليفر). عرفت حينها ما أنا صانعة بـ “حياتي الواحدة الثمينة الجموح” .. سأمشي عبر إسبانيا في أحرّ طرق الحج الكاثولوكية. وقبل عقد نيتي للتلبية، أرسلت إلى مجموعة من الأصدقاء والزملاء والمريدين قائلةً: “سأمشي نيابةً عنكم لمحو خطاياكم، فالسائرون للحج يبحثون عن المذنبين لغرض المنفعة المتبادلة!” شرحت لهم أنني أحاول تذوق تجربة المشي نيابةً عن الآخرين ولأجل محو خطاياهم بدافع ذاتي وكونيّ؛ بدافع الإيمان! وأنا أبحث عن مذنبين ليتحملوا نفقات رحلة الحج مقابل أن يسمّوا خطاياهم التي يتطلعون إلى مغفرتها. جاءت الردود على رسالتي كثيفةً وسريعةً ومتنوعةً. أحد الردود كان من الشاعرة (إليزابيث آي هورن[2])؛ قصيدة كانت قد كتبتها بعدما التقينا صدفة في طريق القديسة كيلدا في ملبورن[3]:

 

قدمُ مثاليةٌ مهيأةٌ للمسير تطارد أختَها في تزامنٍ دقيق؛

تمشيان وكأنهما نبضات من نور على مروج القرن الواحد والعشرين الخضراء.

وكان قلبُك قد سبقك في مسيركِ.

ها أنت تتدربين على معركتك مع سانتياقو[4] بصراعك مع الرياح على شاطيء القديسة كيلدا.

وكأنما تتدرجين في درب فيها لمحةٌ من قداسة، لتقابلي تلك الدرب المقدسة حقيقةً.

في بروتوكولات الملوك، حقائب الظهر، والنظارات الشمسية، وقبعات الرحلات أشياءٌ ربما وجب إخفاؤها؛

ولكن ابتسامتك المشرقة كانت قد أعلنتكِ بينةَ الهوية، والإصرار، والرغبة.

وأنا أعرفكِ يا صديقتي، أيتها المشّاءة، وأعرف كم أنت مغرمة بتلك الدرب؛ تلك الأرض الصلبة وصخورها؛

ترينَ ذاتك منتظرةً دون خوف من ذلك التاريخ الجاف والدموي لتكون لك نهضتك[5] الخاصة؛

كأنما تقودين شارلمان[6] والروم من خلفه لتكوني فاتحةً وموحدةً لمملكة قلبِك.

***

دعاء:

ليكن السلام رفيقك في حجك يا صديقتي.

ولتنمُ الخضرة في حضرتكِ.

لتجدي لا القديسة كيلدا فقط، بل العذبة كيلدا: عينًا سائغةً للشاربين حيث أنتِ.

كلُّ غُرفةٍ من أصدافك[7] تفيض وفرةً.

ولا غارت من لمعانك درب التبانة ولا من اختياراتك في الطريق.

لعلك تدركين بهجة الدهشة في الاكتشاف.

وليكن القديس جيمز[8] رفيقًا بكِ.

ولتكن الأرض مسخرةً لتجديها.

عودي إلى بلادكِ سالمةً أيتها المعجزة الأخيرة.

__

ذنبٌ مُؤرّقٌ:

كان من المحفز أن تكون لرحلتي قصيدتها الخاصة لتدفعني إلى الأمام، لكن حاجتي للذنوب كانت أشد؛ وقد تكفّل الأصدقاء بذلك: حملٌ كبيرٌ جدا!

كان أحد تلك الذنوب مكدّرًا للغاية: تلك المذنبة طلبت مني المشي لأجل ذنبها، خيانتها لصديقتها المفضلة مع زوج تلك الصديقة. تكرّر الفعل لعدة مرات ولعدة أشهر. تقول: “لقد كلفني ذنبي هذا الكثير. حملته وحيدةً لخمسة عشر عامًا. وأظنه كان المانع بيني وبين أن أجد الحب في حياتي؛ أن أجد من يحبني لذاتي. لم أعد أطيق عبء الشعور بالذنب والعار بعد الآن. سأكون شاكرةً إذا استطعتِ المشي لأجل خطيئتي هذه أو ماتبقى منها! مهما تطلب الأمر. فمن يعلم؟! فقد تجدين أنتِ خلاصي”.

وعند توالي وصول رسائل الذنوب، شعرت أن مراحل رحلتي لن يملأها قلبي وحيدًا فهو بحاجة للمساعدة؛ وأنا بحاجة لمعيّة الشعر وصحبته: أن يكون دليلي في رحلتي.

الشعرُ الذي أحب:

دبّتْ روح الشعر في حياتي عندما تعرفت على قصيدة “بلادي” للشاعرة (دوروثيّا ماكّيلار) ضمن مادة المختارات الأدبية في المدرسة. “يا قرّة فؤادي، يا بلادي ..” هكذا كَتَبَتْ. وقد كنت فتاة من الريف وأدرس في المدينة. وحين قرأت قولَها “لسماءٍ، زرقاءَ قاسيةٍ ..” سافر بي الحنين إلى دياري، إلى الريف. فَتَحَتْ تلك القصيدة باب الاحتمالات، إلى كل ما تحمله الكلمات في طياتها من الأماكن، والمشاعر، والذكريات. في المقابل كانت هناك مرة واحدة هي التي حفظت فيها عمدًا قصيدة عن ظهر قلب. حدث ذلك حين كنت طالبةً صغيرةً مشاركةً في مسابقة لإلقاء الشعر في المدرسة؛ وكانت كلمات السيد (روبرت لويس ستيفينسن) التي تعلمتها حفظًا لا حبّا هي مشاركتي التي ما زلت أذكرها:

رأيتك تقذفين بالطائرات الورقية عاليًا

رأيتك تعصفين بطيور السماء

وسمعتك حول المكان حين جئتِ

لكِ صوت تنورات النساء وهي تلامس العشبَ

يا أيتها الريح التي تعصف طوال النهار

يا أيتها الريح التي تغنّي أغاني صاخبة

__

كنت حينها مشدوهةً بتنورتي الوردية المنقطة غير مدركة مطلقًا لأي علاقة بين الكلمات عدا كونها في سجن جماعي على تلك الأسطر. كنت حبيسة الاعتقاد بأن لملامسة الشعر طريقًا واحدًا فحسب. ففي طفولتي كان لقاء الشعر يشبه تمامًا لقاء الملكة: تأدّب عال، ووقفة مستقيمة، ونطق متصنّع، وحذاء ملمّع! لم يكن هذا هو الشعر الذي أحب!

الشعر الذي أحب يحيل العاديّ إلى سحريّ؛ هو الصلةُ بوالدتي التي خدّ فقدُها في نفسي أخدودًا عميقًا ..

كانت والدتي تقرأ عليّ قصيدة “طائر البومة والهرّة”  كلَّ ليلة حتى أنام. كان هذا ديدنها لسنوات حتى استطعت تلاوة القصيدة لها حفظًا. مازال ذلك المشهد حيًّا أمامي:

“قارب البازلاء الخضراء” يبحر خلال بحر عظيم مرصع بالنجوم؛

“ملعقة سحرية” تغرفُ “قطعًا من السفرجل” ..

“أشجار اللوبيا ذات الأفنان” تظللّ “الدّوبل[9] اللطيف” ..

والزوجان الخياليان “طائر البوم والهرة” يتراقصان على الرمال تحت ضوء القمر ..

أحفظ تلك القصيدة عن ظهر قلب، عن ظهر قلبي وقلب أمّي ..

وبُعيدَ قرار المسير في رحلة الحج، سمعت عالمًا نفسانيًا يتحدث عن أهمية تلك القصص التي نحكيها لأطفالنا. وبحسب اعتقاده فإن قصة “طائر البوم والهرة” في قصيدة (إدوارد لير) هي من أفضل النماذج التربوية التي يمكن تقديمها إلى الأطفال، فهي مثال للعلاقات الجيدة وتحتوي على مزيج جيد: فطائر البومة والهرة مبتهجان باختلافهما ويحبان تلك الاختلافات؛ كما أنهما مقيمان على حفظ تلك التعددية في علاقتهما. لديهما الكفاية مما يعتاشان عليه: المال والعسل. وعرض الزواج كان ابتداءًا من الهرة، وطائر البوم أحب قوتها التي تقدمت بها فقبل بها زوجةً له.

أظن أن أمي كانت على دراية بدروس هذه القصيدة التربوية وكأنها بذلك تهيئني للحياة ..

ولكن الذي لم تعلمه أمي أن السيد (لير) -شاعر القصيدة- كان قد تركها قبل تمامها فاستمرت الحكاية لتتكون قصيدة جديدة بعنوان “أولاد طائر البوم والهرة” .. تمنيتُ لو علمت أمي بها قبل موتها.

كانت أمنا هرة؛ وأبونا طائر البوم.

لذا فبعضنا ثديّ؛ وبعضنا الآخر طائر.

للإخوة في أسرتنا ريش ولهم صياح؛

وللأخوات لباس من فروٍ ولهنّ ذيلٌ يضربن به.

ولكننا جميعًا نؤمن أن فأرةً صغيرةً

ستكون وإن كانت بمفردها طعامًا لذيذًا.

توفيت أمنا منذ سنوات طوال، وقد كانت هرة لطيفة.

كان ذيلها بطول خمسة أقدام، رماديًا ببعض الخطوط. ولكن من يبالي؟!

في غابة سيلا[10]، شرقًا، قريبًا من شواطئ قلورية[11]،

سقطتْ أمنا من شجرة عظيمة؛ ثم لم يرها أحد من حينها.

فأصبح أبونا طائر البوم ضعيفًا من الحزن والفاجعة.

لكن وبمساعدة ريش ذيله ظلّ يمسح عينيه الغارقتين بالدموع.

وفي جوف شجرة في شبهة المتاهة، الغابة سيلا،

اتخذنا لأنفسنا سكنًا سعيدًا، بعيدًا عن أيامنا الماضيات.

 

الرحلة:

حسنا .. هأنذا أسافر بعيدًا عن سكني السعيد في ملبورن، وعن زوجي وأصدقائي. اتجهتُ شمالًا وأنا أحاول تجاهل اضطرابات معدتي الناتجة من مخاوفي. لكن قبل ذلك وفي اليوم السابق لرحلتي فُجعنا بوفاة زوجة أخي. بدت كلُّ عوالمنا مغلقة حين سقطت (سو) على الأرض بلا أمل في نهوضها مرة أخرى. في جنازتها اختار أخي قصيدة “صغيرة إلى الأبد” لـ (بوب ديلان) كتلويحة وداع أخيرة لزوجته. رافقتني تلك الأغنية قبل ذلك أثناء المشي؛ كانت تغني نفسَها مرات ومرات في رأسي المحروم من النوم على متن الطائرة وأنا متجهة إلى إسبانيا، ولكنها لم تبدّد خوفًا ولم تغير شعورًا. قبل أرسل لي أحد الأصدقاء مختارات من القصائد؛ لكن ومع حالة عينيّ التين تشبعتا من الكلمات قبيل السفر، بدت هذه المجموعة وكأنها قد انحنت كي لا أراها. كانت إحداها قصيدة “تمشية” .. لـ (رينيه ماريا ريلكه) الذي مرّ ذات يوم بإسبانيا:

عيناي قد لامستا الهضبة المشمسة

متجاوزتين حدود الطريق الذي ابتدأتُ.

لذا فنحن مُدرَكون ممّن لا يمكننا إدراكه

بنوره ذاته وإن من بعيد؛

يبدّلنا وإن لم نصل إليه

لشيء آخرَ تماما، وإن لم نشعر به.

لقد كنا تلويحةً تموج بذواتنا

نحو إجابة موجتنا الأولى؛

ولكنّ ما ندركه هو النسيم على وجوهنا.

__

ما هو إلا أن بدأت المشي وكأن أعصابي قد استُبدِلت تكيّفًا مع البعدِ وحرارة الجو والطرق السريعة والطرق البرية والشاحنات بالإضافة إلى الفيضانات التي ضربت إسبانيا في ذلك الربيع. كل ذلك لم يترك لخوفي السلبي أي مجال في تفكيري. عليّ أن أستغل كل تلك المساحة المخصصة لمعرفة الجهات والطرق في دماغي، خاصة وأنني استهلكت كامل ذهني وطاقتي للتفكير في الذنوب التي حملتها؛ فصحبتها لم تكن سهلة أبدًا. كانت الذنوب تحثني أن أستكشف ذاتي من خلالها في كل دقيقة من كل يوم. وما اكتشفته لم يكن جميلًا! ولكن القصائد أنجدتني مرة تلو الأخرى.

نجدة الشعر:

تتجلى بعض القصائد لي بلا استدعاء ولا مناسبة، فتجيء في الوقت الذي ينبغي كقافلةٍ من الأقربين والأحبة. أجد في نفسي ثقة وقوة كلما أكرمت وفادتها. كان حضورها مذهلًا حيث أني لم أقصد يومًا حفظ أيّ منها. لكن دماغي ربما تأثر باهتزاز خطواتي على الطريق مما قد يكون فعّل خلاياه التي لم تكن قد عملت من قبل. ربما لم يعانِ دماغي قبل ذلك من زحام روتين أيامي التي كنت أعيشها، بل كان بابه مفتوحًا ..

وها قد زارني (شكسبير[12]):

لا تخَف! فالجزيرة مليئة بالأصوات، غريبة وعذبة؛ تحسّن المزاج ولا توذي أحدًا.

أحيانًا أسمع آلاف الآلات تدندن عند أذني بغنّتها؛ وأصوات أخرى تأخذني إلى النوم وإن كنت للتو مستيقظًا.

أحلم حينئذ بغيمات تتفتح وتمطرني بركاتٍ .. فأستيقظ؛

بكيتُ؛ أودُّ لو أحلم ثانيةً.

__

أخذ (ويليام) بيدي عبر الطرق السريعة والطرق الزراعية الغارقة من الفيضانات بقوله “لا تخَف!” وبدوري أخذتها وكررتها كثيرًا على نفسي كلما أُرهقَ صوتي من أغنية “غنوا جميعا لماتيلدا[13]” التي لا أظنها كتبت ولحنت لتغنى عند المطر، وعبر الأنهار، ومن ماشية شبه عارية تحمل حقيبة مثقلة بالذنوب. ولكني ظننت أن الموسيقى والقوافي ربما ساعدت في إبقاء الضفادع والسلاحف دون حراك أثناء مروري. كما جرأني على الغناء أنه لم يكن ثمة أحد ليضحك على صوتي المتعب ولا على منظر أردافي العارية.

ومع تقدم الرحلة، ومرور أيامها، والشعور بالضعف وإرهاق العضلات، يكون حضور الشعر بمثابة الإنعاش. وصلت إحدى هذه القصائد عبر رسالة بريد ألكتروني من مؤلف مسرحي ورفيق في رحلة الحج وكانت القصيدة لـ (روبرت لويس ستيفينسن) صاحبنا الذي ذكرته آنفا مع كلماته عن الرياح التي ما زالت تهبُّ. هنا يكتب السيد ستيفينسن عن فرنسا، ولكن القصيدة هذه المرة مرتبطة بهذه الدروب التي أسير عليها التي عبدتها المعارك والدماء في حروب النصارى والمسلمين.

نُسافر على خطى الحروب القديمة،

ولكن الأرض تبدو خضراء،

والحبَّ وجدنا، والسّلام،

حيث كانت النار والحرب.

ها هم يمرون ويبتسمون، أولاد تلك السيوف،

ولكن دون سيوف؛

ويا إلهي ما أعظم حقول الذرة

في محلّ ساحات القتال.

__

قرطبة:

في قرطبة، التي كانت ذات يوم مركزًا للتسامح الديني والعلوم والفكر، بل والمدينة الأغنى في غرب أوروبا، جُلْتُ المدينة منبهرةً لمجرد وجودي فيها. كانت ثمة امرأة في العليّة رافعة صوتَها تزامنا مع همسة أحد المارة لي بالإسبانية: “قيل وقال” .. رفعت بصري ولم أشاهد أي أمارة لـلقيل والقال، بل شاهدت فخّاريات الورد الأحمر وأبيات الشعر معلقة على الجدران. كأنني حبيسة كرنفال شعري. معلقات على شُرفات المنازل وجدرانها تحمل من شعر (ميغيل هيرنانديز)؛ الذي كان قد كتب جلَّ شعره هذا حين كان يقضي حكمًا مخففًا في السجن بدلاً عن حكم الإعدام، لمجرد تعاطفه مع حركة مناهضة الفاشية! كانت قصاصات شعره تحلق بحريّة مع النسيم في جو المدينة:

من الدم وإليه جئتُ كالبحر .. موجةً موجةً ..

كانت وكأنها الهايكو[14] تارةً:

سأقبّلك حريرًا، وستنظرين إليّ وردًا ..

وكأنها حصنٌ منيعٌ تارة أخرى:

حين النداء إلى كشف الحجاب، لا يكون أي شيء مهمًا!

متعِبةٌ وجميلة:

كان من الجيدِ أن أتوقف عند فكرة مراجعة النفس قليلاً، فقد أثقلتني الذنوب التي أحملها منذ أيام. الثأر، والغضب، والأنانية وغيرها من الخطايا حضرن فيّ وعليّ. لقد شعرت أني أنا المذنبة وأن لقائي بالعابرين على الطريق جعلني واعيةً ببعض قصوري: بنزعتي إلى الحكم على الآخرين على سبيل المثال! كما تجلّت لي طبيعتي المليئة بالكبر، التي لا تأذن لي أحيانًا حتى بطلب المساعدة.

لم تكن لغتي الإسبانية جيدّة بل كانت كما يقول الإسبان: “لا مزهرة ولا مبهجة” .. ذات ظهيرة وبعد مطر غزير ومستمر لساعات كنت أترنح بمحاذاة الطريق الترابي الذي أصبح طينًا وبحذائي الممتلئ ماءً .. بعيدًا عن الوطن وأبعد من ذلك بكثير عن المنطق!

فجأة وإذا بصوت ينادي بالإسبانية: “مرحبا بك أيتها الحاجّة” .. كان المنادي يرعى غنمه عن شمالي. لوّح لي بعصاه داعيًا إياي لمكانه ومراقبًا لاختياري لموضع قدميّ خلال الطين وأنا أحاول العبور إلى جهته. سألني: “كيف حال مسيرتكم؟” فأجبته بالإسبانية طبعًا: “متعبِة لكنها جميلة” .. فابتسم الراعي ابتسامة عريضة ليكشف عن فم دون أسنان وقال: “وكذلك الدنيا!” أخذتُ كلماته وضممتها إلى قلبي “متعبِة وجميلة” ..

هدايا الطريق:

وصلتُ أخيرًا إلى نقطة أذنتُ فيها لبعض رفقاء الرحلة أن نسير سويًا، كانوا منفتحين لي بقدر ما فتحتُ لهم قلبي. وقدموا لي الشعر كذلك ..  كان أحدهم مفتونًا بـ (أنتونيو ماتشادو) وألقى علي من شعره ما لامسني بطريقة لا تقبل التفسير:

أيها السائر، خطواتك هي الطريق ولا شيء سواها ..

أيها السائر، ليس ثمة طريق؛ فالطريق نحن نصنعه بمسيرنا ..

__

بمسيرنا نصنع نحن الطريق؛ وبنظرنا نحو الوراء نعلم أننا لن نسير هذا الطريق كما هو مرة أخرى. حين انتعشت روحي بصحبة السائرين وبالشعر زادني صاحبنا من شعر (ماتشادو) قولَه:

انبض أيها القلب فلمّا تأكل الأرض كل شيء بعد ..

وردًّا لجميله ومكافأةً على هديته حاولت أن أعطيه بعضًا من (شكسبير[15]):

__

وهذه حياتنا، بعيدة زحام عامة الناس ..

لنجد الغناء في الأشجار، والكتب في جريان الجداول،

والموعظة في الحجارة، والخير كل الخير في كل شيء ..

__

يظهر أن (ويليام) كان يمشي كثيرًا!

علمني هذا الصديق مفردات إسبانية جديدة فـ(الطائر النجار) هو نقار الخشب. كان نقار الخشب حينها ينقر بشدة على شجر السنديان؛ كررت اسم الشجرة كثيرًا وأنا أمشي محاولة حفظها كما حاولت غناءها ولكن صاحبنا نبهني أن الإسبان يستخدمون المفردة ذاتها لوصف الغبي. شعرت بالحزن على الأشجار لمشاركتها هذا الاسم مع الغباء! كان على جذوع الأشجار أسهم صفراء لتكون علامات لطريق الحجاج؛ يعتبرونها دليلًا معتمدًا وهي بالفعل كذلك. وأثناء مسيرنا لعبنا سويًا النسخة الإسبانية من لعبة طفولتي المفضلة وهي لعبة تخمين تبدأ بقول “أنا أنظر إلى ….” ثم يذكر صاحب الجملة أمارات تدل على الإجابة، وعلى المشاركين التخمين. فقلتُ “أنا أنظر إلى شيء صغير” .. فأجابني صديقي “ما الشيء الصغير الذي تنظرين إليه؟” فأخبرته بأول حرف من تلك الكلمة، ثمّ سرحت بفكري قليلًا .. أشياء صغيرة وعلامات؛ هكذا يستدعي المشي الأشياء كاللغة والقوافي والذكريات. لا يشترط للقصيدة أبدًا أن تكون رشيدة، كما أن الألعاب لا تحتاج أن تكون معقدة، فالطريق نفسه سيكمل كلّ نقص. أمضى صديقي الإسباني عشرين دقيقة محاولًا أن يجد إجابة لسؤالي؛ وعند يأسه، أخبرته أن الإجابة هي السماء. احتجّ قائلًا “إن السماء ليست شيئًا صغيرًا!” وصدق، خاصة في ذلك المكان وفي ذلك اليوم.

تفتحت السماء لتكون أوسع من الطرقات .. وتراقص الأفق ليكون أشد ما يكون في إغرائه لنا لنتقدم .كأن ظلالي حينها تسابقني فتتقدم عليّ بالمسير. وكأن (ماتشادو) كان يمشي تلك الدرب معنا ..

الجبلُ الأزرق .. النهرُ

وقوامُ أشجار الحور النحاسيّ الطويل

وبياضُ اللوز على التلال

وثلجٌ على الزهرة، وفراشةٌ على الغصن

وعطرُ الحبوب؛ ذاك الذي تحمله الرياح

إلى عزلة الأرض المكشوفة.

__

عندما تركت صديقي خلفي وسبقته ماشيةً، افتقدته قليلًا واشتقت لهداياه من الشعر. لكن الطريق أهداني أصحابا آخرين ..

 

عن الوصول:

تسارعت خطاي على الهضاب، وتعاظمت معها عاطفتي تجاه رفقتي من الحجاج، والقرويين الذين مررت بهم، وتجاه أحبتي المذنبين: الذين حملت خطاياهم. أولئك الذي استمروا بإعطائي دروسًا، وعظات، وإلهامًا. أن تكون صادقًا وصريحًا تمام الصدق والصراحة مع إنسان آخر لهو أمر يتطلب الكثير من الشجاعة. في ضوء ذلك حاولت أن أكون صادقة وصريحة مع نفسي وعنها. في كل يوم أحاول تطهير نفسي والقضاء على ذنوبي؛ كما كنت أعيد تقييم معاييري التي أسير عليها حيث لم تشارك بوصلتي الأخلاقية الكنيسةَ توجهاتِها. ولكن دون انتباه أُجبرتُ على امتحان ضميري امتحانًا شاملًا وبيّنًا. أحيانًا أشعر أنني وبتمرد أعلى صوتًا من مملكة الدين التي أقامها البشر. ودون مقدمات وكأن وحيًا أنزلَ إليّ، وجدني (جلال الدين الرومي) ..

بعيدًا عن فكرة الصواب والخطأ، هناك حقل

سألتقيك عنده ..

حين تستلقي الروح على ذلك العشب،

سيكون العالم مليئًا بما يمكن الحديث عنه:

الأفكار، واللغة.

حتى عبارة “بعضنا بعضا” قد لا تعني شيئًا آنذاك.

__

تتنزّل عليّ السكينة حين أمشي بمعية (الرومي) فليس للغضب سبيل سهل معه. ثم مالبث (رينيه ماريا ريلكه) حتى حضر مجددًا كهدية من امرأة ألمانية؛ كانت تلك الألمانية تتمنى بشدة أن تكون أمًّا فقد طالت بها السنوات والمحاولات. تقول المرأة: “لقد ذهبت في حياتي إلى مرقدي مع سبعة رجال؛ شخر الرجال ليلهم كله ولم يكن لي نصيب من الولد” .. ترجمتْ لي بعضًا من قصيدة “وتكلّم الرب” ..

توهّج كاللّهب

واصنع لي ظلالًا كبيرةً لأتحرك فيها

ائذن لكل شيء أن يكون: الجمال والرعب

استمر، فليس ثمة نهاية للشعور

لا تسمح لنفسك بأن تخسرني

__

وفعلًا واصلت المسير .. ولم تكن ثمة نهاية للشعور ولن تكون. بل وكأنما كانت تلك المشاعر تكبر كلمّا مشيت أكثر. إنه من الحق أن أقول إنها كانت حالة وجودية؛ حب يفوق ذاتي البسيطة كما قال (أنتونيو ماتشادو) في “أغاني الديار المرتفعة” فكلمات الحب تكون أكثر وقعًا إن كان فيها قليل من الإسراف ..

واستمرت الرحلة تفاجئني بهداياها .. كلُّ وصولٍ لبلدة على الطريق قدّمَ لي شيئا يعينني على مواصلة المسير. هذه القصيدة جاءت من (مَتَيّو بيرنال) وهو “حاجّ” لطيف من الجهة الأخرى من العالم:

يتحدثون عن الوصول

أظنهم عنوا الشعور

كأن المرء يقترب من باب منزله

ويجد رائحة السكنى في عظامه

ولكن الوصول عندي حينما تعانق روحُك

روحي ..

__

لذا يجب على المرء أن يعتني بذاك الشعور، شعور الوصول، مهما كان قويًا وعميقًا وساخنًا؛ أو رقيقًا مثل مولود جديد. لأن الحياة نفسها رقيقة مثل رقة سيقان حشرة ضئيلة تحمل جسدها نحو الحياة كلها. انظروا كيف يمكننا نحن البشر حملها على كفوفنا، وإن كانت كزِنَة همسةٍ أو هي أقل.

رسالةُ فرح:

بين رسائل البريد الألكتروني التي قرأتها في مقهى للإنترنت في قرية في (سانتياقو) -وللمرة الأخيرة- كانت رسالة من رفيقتي المذنبة، تلك التي اعترفت بخيانتها لصديقتها مع زوجها؛ تلك التي ظنت أن لعنة ذنبها لن تسمح لها أن تجد علاقة الحب الذي تريد. قالت: “بينما كنتِ تسيرين في رحلتك، كنت أسير في رحلة روحية مع نفسي في غرفة نومي هنا في أستراليا. أظنني وجدت رفيق حبي الذي كنت أبحث عنه؛ أنا سعيدة جدا. أظن أن الذنب الذي حملتِه لي وعني قد غُفِرَ جملةً وتفصيلًا. لم أعد أشعر بثقل وزره على ظهري. أظنه أصبح الآن رمادًا: بقايا حريق ذُرّت مع الريح؛ وكُنِسَ ما تبقى منها ليصبح المكان نظيفًا” .. وخلال أقل من سنة بعد وصول هذه الرسالة، قرأتُ في حفل زفافها قصيدة “التأكيد” لـ (إدوين ميور):

 

نعم .. أنتِ، يا وجه الإنسانية الحقيقي

أنت التي انتظرتها طويلًا في خيالي؛

حين كنت أرى الذي هو أدنى وأبحث عن الذي هو خير.

فوجدتكِ، كما يجد المسافر مُقَامًا حفيًّا

خلال المفاوز والصخور والسبل البعيدة.

وأنتِ .. ماذا أسميكِ؟ نافورةً عند الظمأ؛

بئرًا عذبةً عند الجفاف.

أم أنتِ كل ما هو خيّر وجميل؟

أم أسميك عينًا أبصرُ من خلالها الحياةَ مشرقة.

قلبك المبسوط بعطائه وحسناته،

يا أولَ الصالحاتِ؛ يا زهو الورد؛ وبذرة الخضرة؛

يا دفئي؛ وأرضي الراسخة؛ وبحري المائج.

لستِ الأجمل ولا الأندر في كل شيء؛

ولكنك أنتِ؛ كما يجب أن تكوني.

__

لا أدري إن كانت رحلة الحجّ فعلًا مرتبطة بما انتهى إليه أمر صديقتي، ولكني أرى تغيرًا في حال بقية الأصحاب. كما أني توصلت للاعتقاد أن الإقرار بالذنب مع أنفسنا أو مع غيرنا هو أمر مؤثر ومحفز لردات فعل وإن لم ندركها. وأن هذا الإقرار بالذنب يتطلّب شجاعة؛ شجاعة تتجاوز بكثير ما يتطلبه قرار المشي في رحلة حج ومسيرة دينية.

الرسالة الأخيرة:

آخر رسائلي للأصحاب والأحباب خلال الرحلة رسالة كتبتها محاولةً ذكر بعضٍ مما مرّ علي في دربي “المتعبِة والجميلة” .. قلت لهم: وانتهت الرحلة! ولهؤلاء المغرمين بالأرقام، فهي رحلة ألف وثلاثمئة كيلومترًا قضيتُ ثلاثة وأربعين يومًا في مشيها: ثلاثين كيلومترًا في اليوم تقريبًا، ولكن …

ولكن كيف يقاسُ الحب، والتجربة الإنسانية، والشعور بالعرفان يا ترى؟ ربما بالخُطى!

حضرتُ محفلًا في الكتدرائية يقدمون ضمن طقوسه صكوك إنهاء الرحلة في كل عام. لذا فأنا أكتب لمن وثق بي من الأحبة والأصدقاء وحملني وزره ليغفر في رحلتي، شكرًا لكم .. لقد كنت بمعيتكم في تلك الكتدرائية. ولكني ظننتُ أن المهمة لمّا تنتهِ بعد، وأظن أن بعض رفقة المسير شاركوني ذلك أيضًا. تلك الزاوية من الأرض كانت تسمى “نهاية العالم” .. خرجتُ ماشيةً من الكنيسة باتجاه بعض مخابز المدينة وشوارعها الضيقة التي تضيق كلما تقدمتْ، وكأنها تقودني نحو جهة محددة. زاوية خضراء ومشمسة لا يجب أن تكون فيها الأقدام إلا حافيةً، مباشِرةً للأرض ومتصلةً بها؛ كأن المرء غارق في الماء والهواء في الوقت نفسه. تلك البقعة المباركة من إسبانيا. النظرة الأولى للبحر في تلك اللحظة كانت مهيبةً جدًا .. إنه الأطلسي، تطلّ من فوقه هضبة من أرض منسيّة، عليها منارة، منارة لنهاية العالم! بكيتُ وضحكتُ؛ قلت لنفسي في تلك الزاوية “انتهت الرحلة” .. قلت تلك الجملة لنفسي للمرة الأولى وقبل بلوغ النهاية فعلا، قلت “انتهت الرحلة” .. وأثناء حديثي ذلك مع نفسي، وقَعْتُ! السقطة الأولى خلال رحلة الألف وثلاثمئة كيلومترًا  كانت متزامنة مع تهنئتي المبكرة لنفسي على المهة التي لمّا تكن فعلًا انتهت. نعم … الآن أستطيع الجزم بخطيئتي أنا؛ أسقطني الفخر قبل تمام رحلتي لينبهني. خطيئتي هي الفخر الذي لازمني طوال الرحلة، الذي كلما حاول أن يطلّ برأسه جَلَب معه علامة تدل عليه؛ يا لروعة هذه الدرب ودروسها.

بعد ذلك أكملت مشيي بهَون وتؤدة نحو الغروب. كان موعد مغيب الشمس عند العاشرة. مشيتُ قبله وفي اتجاهه في ذلك الدفء، وحين بلغت الحافة، انتظرته. أدركتُ عندها جمالَ وسهولةَ أن يسمى ذلك المكان “نهاية العالم” … يختفي الأطلسي في ضبابه فتكون الدنيا كلها زرقاء دون أفق بيّن.

أخرجت حينها قائمة الذنوب التي حملتُ وأسماء أصحابها، وقائمة الأفكار وهدايا الطريق؛ وضعتها جميعا تحت صخرة وأضرمتُ بها النارَ ..كان منظرًا جميلًا. احترقت كلّها عدا قصاصة صغيرة تحمل مفردة صغيرة: “لأجل” ..

لأجل ماذا؟

لأجل الحب .. لأجل العرفان .. لأجل الألم .. لأجل الحزن .. لأجل الغضب .. لأجل الكدمات .. لأجل الأنس .. لأجل الراحة .. لأجل التعاطف .. لأجل الدروس .. لأجل النِعم .. لأجل إسبانيا .. لأجل الأصدقاء .. لأجل الزملاء .. لأجل الحياة .. لأجل الموت .. لأجل الشمس .. لأجل الظلال .. لأجل أستراليا .. لأجل العالم .. لأجل السلام .. السلام الداخلي مع النفس والسلام مع كل شيء.

لأجل الحب .. دائما لأجل الحب.

حرقت تلك القصاصة الأخيرة وقد غرقت الشمس في المحيط وإذا برجل على صخرة يقول لي بالإسبانية: “الآن تشرق الشمسُ في الجهة الأخرى من العالم ربما أستراليا” .. فقلت له: “أنا من أستراليا” .. قال الرجل: “إذن فهي تشرق الآن في بلادك” … كان محقًا فالساعة كانت حينها السادسة صباحًا هناك في أستراليا. أبكاني ذلك قليلا. لقد كنتم جميعًا محل تفكيري واهتمامي، وفكرت كذلك بمدى سعادتي وحسن حظي أن يضع الأصدقاء والأحباب إيمانهم بي … الإيمان! لقد كان همّ الإيمان رفيق فكري طول الطريق؛ وكنت أطرح أسئلته وأحاول ترتيب احتمالات إجاباتها. وفي النهاية وصلت لجواب بسيط. عُلّمنا في صغرنا أن الربّ هو الحب، وأنا أقول الآن وببساطة إن الحبّ هو الرب. كما أن القدرة على الحب هي الامتحان وهي الجائزة في الوقت نفسه. عدت أدراجي ماشية وكأن جسدي بدأ للتو يشعر بتعب كل خطوة أخطوها؛ لكنه تعب بعد أداء مهمة، فلقد أتممت النسك. شكرت تلك القرية، وبعثت منها حب قلبي للدنيا كلها.

 

قصيدة النهاية:

عندما عدت لملبورن، تناولت مجلد ديوان ميري أوليفر لأشكرها على قصيدة البداية. لكن الكتاب أخذني إلى صفحة دون سيطرة مني، إلى قصيدة “حين يأتي الموت” ..

حين يجيء الموتُ

كدُبٍّ جائع في الخريف

حين يجيء الموتُ مخرجًا ماله اللامع من حقيبته

ليشتريني، ثم يغلق تلك الحقيبة

حين يجيء على هيئة الحصبة

حين يجيء كجبل جليدي بين كتفيّ

أريد حينها أن أخطو للأمام مليئة بالفضول والتساؤل

كيف شكله يا ترى؟ كيف هو كوخ الظلام ذاك؟

وسأحاول ربط الأمور ببعضها

وسأنظر إلى الوقت كمجرد فكرة لا غير

وسأعد الخلود احتمالاً ممكنًا

أرى كل حياة كوردة، منتشرة

كالأقحوان، فُرادى

وكلّ اسم كموسيقى مطمئنة على الشفاه

تؤولُ كما تفعل كل الموسيقى إلى الصمت

وكلّ جسد وكأنه أسدٌ من حماسة، وشيء

عزيز علىى الأرض

حينما ينتهي كل شيء، أريد أن أقول إنها كلها كانت حياتي

كنت عروسًا تُزفّ إلى الدهشة

وكنت عريسًا، آخذًا الدنيا بين ذراعي

حينما ينتهي كل شيء، لا أريد أن أتساءل

إن كنت قد صنعت من حياتي شيئًا محددًا

وحقيقيًا

لا أريد أن أجد نفسي أتنفس خوفًا

أو مترعةً بالجدل

ببساطة، لا أريد أن ينتهي بي الأمر مجرد زائرة عابرة في هذه الحياة[16]!

 


[1] المشي هنا يعود على ممارسات دينية في الديانة النصرانية وهي عبارة عن رحلات حج طويلة في أوروبا كما سيأتي في بقية النص.

[2] شاعرة وكاتبة ورسامة للأطفال من أستراليا.

[3] شاطئ القديسة كيلدا من أشهر المواقع للزيارة وممارسة المشي في مدينة ملبورن الأسترالية.

[4] عاصمة إقليم شمال غرب إسبانيا ومن مناطق رحلات الحج.

[5] هنا إحالة لعصور النهضة واستخدام لها على الصعيد الذاتي.

[6] شارلمان ملك الروم الذي جاهد لتوحيد أوروبا.

[7] هنا تناص مع قصيدة للشاعر الإنجليزي السيد والتر ريليه.

[8] القديس جيمز أحد حواريي المسيح حسب معتقد النصارى وهو أصل تسمية سانتياقو بالإسبانية.

[9] صغير الخنزير بحسب لسان العرب وهي محاولة لإيجاد لفظة عربية قد تلطف الخنزير كما هو المراد في النص.

[10] غابات في إيطاليا.

[11] إقليم في الجنوب الغربي لإيطاليا.

[12] النص هنا من مسرحية “العاصفة” لشكسبير.

[13] أنشودة أسترالية شعبية شهيرة.

[14] شعر الهايكو نوع من الشعر أصله من اليابان يعتمد على بساطة الأسلوب والتعبير.

[15] النص هنا من مسرحية “كما تشاء” لشكسبير.

[16] هنا الشطر تحديدًا لا توفيه الترجمة حقه، فله وللشاعرة وللقراء العذر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى