مع كل دورة زمانية تبعث عنقاء الفلسفة من جديد، عفية فتية دائمًا، تنفض عن ريشها غبار الذي انقضى، وتنطلق برؤاها الثاقبة لاستشراف آفاق ما هو آت، تتسلح بالثابت الديناميكي فيها: مناهجها النقدية التي تسائل وتحاور، لتخرج برؤاها الشمولية المطابقة لمستجدات واقع يمكن دائمًا أن يكون أفضل. أليست الفلسفة في النهاية هي الانعكاس المجرد الواعي لمرحلتها الحضارية؟
انطلقت عنقاء الفلسفة على مدار القرن العشرين عازفةً عن بناء أنساق شامخة، فأصبحت مناهج أكثر منها مذاهب، أي أسلوب للبحث وطريقة للنظر وليست مصفوفة من الحقائق أو بناءً مهيباً من الأفكار المطلقة. غلب الميل نحو الواقعي والعيني والحي والمعاش والفعلي والنسبي والمتغير، والابتعاد عن المطلق والمجرد والذهني الخالص. ومن ناحية أخرى شهدت أواسط القرن العشرين منعطفًا جذريًا بانتهاء الحرب العالمية الثانية التي أثارت ويلاتها الشك في قيم الحداثة وأعلنت إفلاس الاستعمارية الأوربية، وتصاعد المد القومي في أنحاء العالم ومطالب الحرية والاستقلال، فازدهر الطابع النقدي للفلسفة بظهور موجات مابعد الحداثة ومابعد الاستعمارية.
ثم تواترت متغيرات القرن العشرين، عميقة وشاملة، يتصدرها فارس الحلبة المعرفية في العصر الحديث بجملته، العلم وتطبيقاته التكنولوجية، وقد بلغت حدّ التلاعب بقدس أقداس الحياة وبيئاتها وأفضت إلى ثورة المعلومات والاتصالات.
ويأتي الخبر الأصدق عن تطورات الفلسفة في القرن الحادي والعشرين من فلسفة العلم المعاصرة، فلم تعد تقتصر على منطق العلم ومناهجه، بل تنشغل أيضاً بقضايا مستجدة كفلسفة البيئة وأخلاقيات العلم وقيم الممارسة العلمية، وعلاقة العلم بالأبنية الحضارية والمؤسسات الاجتماعية الأخرى، فضلًا عن علاقته بالأشكال الثقافية المختلفة، واتخاذه أداة لقهر الثقافات والشعوب الأخرى.
في هذا الإطار يبرز الآن على ساحة الفلسفة الغربية تيار يمثل إضافة حقيقية، وتجسيدًا لقيم ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمارية، ويعكس متغيرات وطبائع الفلسفة الراهنة، إنه الفلسفة النسوية التي ظهرت بودراها منذ سبعينيات القرن العشرين.
قامت من أجل رفض مطابقة الخبرة الإنسانية بالخبرة الذكورية ورفض اعتبار الرجل الصانع الوحيد للعقل والعلم والفلسفة والتاريخ والحضارة جميعًا، وتجِّد لإبراز الجانب الآخر للوجود البشري الذي طال قمعه وكبته.
وفي هذا تعمل الفلسفة النسوية على خلخلة التصنيفات القاطعة للبشر إلى ذكورية وأنثوية، بما تنطوي عليه من بنية تراتبية سادت لتعني الأعلى والأدنى، المركز والأطراف، السيد والخاضع. امتدت في الحضارة الغربية من الأسرة إلى الدولة إلى الإنسانية جمعاء، فكانت أعلى صورها في الاستعمارية والإمبريالية. وكما تقول لورين كود: الظلم الذي نراه في معالجة أرسطو للنساء والعبيد هو عينه الظلم في معالجة شعوب العالم النامي، إنه تصنيف البشر والكيل بمكيالين.
وتعمل الفلسفة النسوية على فضح ومقاومة كل هياكل الهيمنة وأشكال الظلم والقهر والقمع، وتفكيك النماذج والممارسات الاستبدادية، وإعادة الاعتبار للآخر المهمش والمقهور، والعمل على صياغة الهوية وجوهرية الاختلاف، والبحث عن عملية من التطور والارتقاء المتناغم الذي يقلب ما هو مألوف ويؤدي إلى الأكثر توازنًا وعدلاً. أمعنت في تحليلاتها النقدية للبنية الذكورية التراتبية، وتوغلت في استجواب قسمتها غير العادلة، وراحت تكسر الصمت وتخترق أجواء المسكوت عنه، حتى قيل إنها تولدت عن عملية إعطاء أسماء لمشكلات لا اسم لها وعنونة مقولات لا عناوين لها.
الفلسفة النسوية أعمق من مجرد المطالبة بالمساواة مع الرجال. فلابد من استجواب تاريخ العقل البشري والسياق الحضاري، لسبر أعماق التهميش الطويل الذي نال المرأة، وإثبات إلى أي حد كان جائراً؛ تمهيدًا لاجتثاثه من جذوره. لا بد من إعادة اكتشاف النساء لأنفسهن كنساء، لذاتهن المقموعة، وإثبات جدوى إظهارها وإيجابياتها وفعالياتها، وصياغة نظرية عن الهوية النسوية.
الفلسفة النسوية حرث للأرضية العقلية، واستنبات لبذور لم تـُبذر من قبل. تقدمت بمنهاج لإعادة تأريخ الفلسفة القديمة والوسيطة والمحدثة للإجابة عن تساؤلات لم تطرح فيما سبق، ثم تقديم رؤى أنثوية متكاملة، أولاً في فروع الفلسفة اللينة وهي السياسة والأخلاق والجمال، ومع الثمانينيات تطرقت إلى فروع الفلسفة العسيرة وهي الميتافيزيقا والإبستمولوجيا والميثودولوجيا وفلسفة العلوم. وكان امتدادها إلى فلسفة العلم ضربة إستراتيجية جعلتها استجابة عميقة للموقف الحضاري الراهن.
فقد كان العلم الحديث أكثر من سواه تجسيدًا للقيم الذكورية، فانطلق بروح الهيمنة والسيطرة على الطبيعة وتسخيرها، مما تمخض عن الكارثة البيئية، واستغلال قوى العلم المعرفية والتكنولوجية في قهر الثقافات والشعوب الأخرى، وجاءت العولمة لتنذر بعالم يفقد تعدديتـَه وثراءه وخصوبته…. فترفض فلسفة العلم النسوية التفسير الذكوري الوحيد المطروح للعلم بنواتجه السلبية وتحاول إبراز وتفعيل جوانب ومجالات وقيم مختلفة خاصة بالأنثى، كالعاطفة والخيال وعمق الارتباط بالآخر والرعاية طويلة المدى، كلها جرى تهميشها وإنكارها والحط من شأنها في عالم العلم بحكم السيطرة الذكورية، ويجب أن يُفسح لها المجال لإحداث توازن منشود.
تنزع فلسفة العلم النسوية إلى أن تكون تحريرية، تمد علاقة بين المعرفة والوجود والقيمة، لتكشف عن الشكل العادل لوجود البشر في العالم، وترى العلم علمًا بقدر ما هو محمل بالقيم والأهداف الاجتماعية، ولا بد أن يكون ديمقراطيًا يقبل التعددية الثقافية والاعتراف بالآخر. إنها لا تنفي منهجية العلم السائدة أو تريد أن تحل محلها، بل فقط أن تتكامل معها من أجل التوازن المنشود.
هكذا تحاول الفلسفة النسوية أن تضيف إلى العلم قيمًا أنكرها، فكان اشتباكها الحميم بالقضايا المستجدة التي أشرنا إليه كالبيئة وأخلاقيات العلم وعلاقته بالمؤسسات الاجتماعية الأخرى ، واتخاذه أداة لقهر الثقافات والشعوب الأخرى.
إن الشغل الشاغل للفلسفة النسوية هو نقد العقل الذكوري، عقل الهيمنة والسيطرة، ولقد رأته يتجسد في النموذج التنويري الحداثي، وهو وجه آخر للمركزية الغربية التي تعني أن الثقافة الغربية تتمتع بالسيادة والتفوق، فتمثل معايير الحكم على الحضارات والثقافات الأخرى، ليكون تقدمها تبعًا لمدى اقترابها من النموذج الغربي الذي هو المثل الأعلى للجميع. أصبح ناموس كل الأشياء: إما أن تكون الرجل الأبيض وإلا فأنت في منزلة أدنى، الثانية أو الثالثة أو العاشرة… تبعًا لمدى الاقتراب منه في التراتب الهرمي الجامع.
سادت مركزية الحضارة الغربية العالمين بفضل المد الاستعماري، وقهرت ثالوث الأطراف: قهرت المرأة وقهرت الطبيعة لتخلق مشكلة البيئة، وقهرت شعوب العالم الثالث. والفلسفة النسوية ترفض التراتب الهرمي أصلًا في العلم وفي الحضارة على السواء، نازعةً إلى تقويض مركزية العقل الذكوري؛ تحريراً للمرأة وقيمها الأنثوية، وبالمثل تحريراً للبيئة. ثم تشعر أنها مسئولة عن مواجهة الوجه الآخر المتضخم للمركزية الذكورية، أي مركزية الحضارة الغربية.
لقد وجدت طريقها لكي تكون فلسفة للمرأة بقدر ما هي فلسفة للبيئة، وفلسفة لتحرر الثقافات والقوميات وشعوب العالم الثالث من نير الاستعمارية والمركزية الغربية. تفخر النسوية الغربية بدور النساء المكافحات اللاتي شاركن في النضال للتحرر من الاستعمار، شاركن بأنفسهن ولم يقتصرن على إنجاب الرجال المناضلين. فكانت المرأة قوة خفية وقوة ظاهرة في النضال من أجل الحرية وتحقيق الذات القومية.
اشتبكت النسوية بالقضايا الشائكة المتعلقة بالهوية واللغة والقومية. تحاول استكشاف وتقويم المفاهيم المتعلقة بالمرأة عبر الثقافات المختلفة. ولا ثقافة تفوق الأخرى أو تعتبر نفسها الأرقى، فالنسوية قامت أصلًا من أجل تقويض التراتبية. وظهرت الدعوة لاتحاد نساء الشمال ونساء الجنوب لمواجهة الأخطار الثقافية والاقتصادية للعولمة.
رأين الإمبريالية لا تنفصل عن غزو ثقافي وقهر ثقافة الأخر وتدميرها، وإحلالها بالثقافة الغازية المنتصرة؛ وبالتالي تنطوي مقاومة الإمبريالية على مقاومة ثقافية، ومحاولة الإبقاء على ثقافة الأنا وحمايتها من الضياع، وعلى نقد للثقافة الإمبريالية. فكان استبعاد المركزية الذكورية من العلم هو استبعاد للعنصرية والاستعمارية.
ولكن هل انتهت الاستعمارية حقا كما تصادر النسوية، أم أنها اتخذت أشكالًا أكثر خبثًا وسرطانية؟
لقد كان حديثنا نظرة عامة على معالم في الفلسفة الغربية الراهنة، أما تفاعلها مع الفكر المتوثب والواقع الموار في ثقافتنا فحديث آخر أمره يطول.