عودة الأنظمة الفلسفية إلى كانط – علاء جواد كاظم

شهدت الأزمنة الحديثة -ربما منذ بداية خمسينيات القرن المنصرم- تداعيات مشروع الحداثة في طغيان العقل، وتراجع الروح، وحيرة الكائن ومصادرة إمكانياته، وما تبعها من أحداث؛ كحرب فيتنام، وثورة الشباب في أوروبا وفرنسا خصوصاً (1968)، والأزمة الاقتصادية في السبعينيات، وتراجع التجارِب الاجتماعية في أوروبا، وسقوط النموذج الاشتراكي، كل ذلك أدى إلى انهيار أحلام الحداثة في أشكالها السابقة؛ ولذلك ظهرت تيارات فكرية رفضت الأبستمولوجيا القائمة على يقينية التنبؤ، وتمرَّدت على أسطورة الذات، وعلى نقد المنطق الكلي في السياسة والأخلاق، وما يتبعه من أنظمة متسلطة، وعلى معارضة ميتافيزيقية التفكير الفلسفي المتحصنة بوهم المعرفة اليقينية([1]).
نقد الحداثة والعودة إلى الذات
عندما تخلَّت الحداثة عن قوتها النقدية، وتحولت أسطورة العقلانية النفعية إلى قوة مادية، تنامت قوة الأفكار التي شكَّلت الاتجاه الأهم، الذي اختارت النظريةُ الاجتماعية والفلسفية البَعْد حداثية السيرَ فيه إلى النهاية([2])، عندما قررت إعادة قراءة (كانط) من جديد؛ إما بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال قراءة امتداده الفلسفي في أعمال كل من ويلهلم دلثاي([3]) (W.Dilthey)، أو أدموند هوسرل([4]) (E. Husserl)، أو فريديرك نيتشه (F. Nietzsche)، ومارتن هيدجر (M.Heidegger)؛ لإعادة تشكيل قطاع واسع من جسدها الأبستمولوجي، وغيَّرت طِبْقاً لذلك الكثير من مواقفها النظرية؛ للوقوف في مواجهة الفلسفة الوضعية أو الوظيفية أو البيولوجية وصولاً إلى النموذج التأويلي-التفسيري بناءً على نموذج ديلثاي-فيبر.
لقد عَبَّرَ المنعرج الجديد (الانقلاب ما بعد الحداثي) عن نفسه بشكل رسمي في بدايات القرن العشرين متخذاً من التقليد الجديد بناءً لأُطُرِه: “ليست مهمة الفلسفة قول الحقيقة، بل الفصل بين الاقتراحات الميتافيزيقية (العميقة والخالية من المعنى) والمقترحات العلمية المتعلقة بالواقع”([5])، وقد شكَّل كتابُ هوسرل([6]) (E. Husserl) “أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا المتعالية” (The risis of European Sciences and Transcendental Philosophy) التعبيرَ الأمثلَ لهذا التقليد عندما اعتبر أن المشروع الغربي للعلوم يعطينا نظرة لا إنسانية عن الحقيقة، يغيب فيها (عالم الحياة)؛ لذا علينا أن نتحرر من الأوهام، وفي الوقت الذي تحتاج فيه أوروبا -وهي تواجه خطر الفاشية- إلى نَفَسٍ جديدٍ، عليها أن تتساءل عن المعنى، أن تبحث عنه في الحياة ([7]).
لقد حدَّد هوسرل في القسم الأول من كتابه هذا، ماذا تعني بالنسبة له أزمة العلوم الأوربية؟ فقال: “إن الأزمة لا تمسّ علمية وصلاحية هذه العلوم، بل دلالتها بالنسبة للحياة، هذه العلوم لا تستطيع أن تُوجِّه الإنسان؛ لأنها تُقْصِي من ميدان العلم كلَّ الأسئلة التي لها علاقة بالوجود الإنساني: أسئلة المعنى، والغاية، والحرية، والتاريخ”([8])، ويُرْجِع هوسرل هذه الوضعية إلى سيطرة النزعة الموضوعية وإهمالها للذات البشرية بشكل نهائي. وقد تَمَثّل ليوتار هذه المقولة بشكل دقيق معتبراً إياها شعاراً لنظرية ما بعد الحداثة: “إذا كانت المجتمعات ما بعد الحداثية تتميز بتحطم (الحكايات الكبرى)، يبقى إذن تكريس الجهد للفكر الإستراتيجي الذي يُسجِّل تبعثر الكليات القديمة للانفتاح على تفاوض غير قارٍّ دائماً بين الذات، والآخر المُماثِل والمُختلِف، وإعادة النظر في التفاصيل الصغيرة، في عالم كهذا يَلْمَع بسهولة نجمُ المديح المُهلِّل لفقدان المعنى، والاتجاه إلى تأمُّل أخلاقٍ لا أساس لها”([9]).
هذه الرؤى دفعت بـ (ليوتارد) (Jean-F. Lyotard) في كتابه “حالة ما بعد الحداثة” (The Postmodern Condition ) إلى شن هجوم واسع على النظريات الشمولية، والسرديات الكبرى (Grand Narrative)، ونظريات التنوير العقلي الأخرى، التي شوَّهت قدرتنا على رؤية الحقيقة من خلال أكاذيبها عن التحرر والتقدم والعدالة، لقد أعطى أولئك الفلاسفة المعنى والمغزى لتقصيّات الماضي، لكن المشكلة تكمن في أنهم يميلون إلى فرض معنى على الأحداث التاريخية بدلاً من تقصّي مغزى تلك الأحداث ميدانياً. وللتخلي عن هذه الخطابات الفلسفية يجب أنْ نقبل فكرة أنَّ التاريخ قد لا يملك غرضاً؛ بمعنى أنه مسيرة غير تطورية أو تقدمية نحو هدف نهائي، إنَّه مجموعة من الأحداث الطارئة التي غالباً ما تحدث في الصدفة مع العديد من النتائج غير المستبقة.
من ثَمَّ توالَتْ أفكار العودة إلى كانط، الذي مارس تأثيراً لا ينتهي، ففي سبعينيات القرن العشرين، كتب كارل بوبر (K. Popper) تحت ضغط هذه التأثيرات المعرفية والشكوك الهائلة في العلم الإنساني قائلاً: “نحن لا نقول الحقيقة أبداً، لا نفعل أكثر من مواجهة الحقيقة بافتراضات خاضعة على الدوام لثقل التمثيل ورهانات السلطة، ليست النظرية العلمية تلك التي تقول حقيقة نهائية، بل التي تقبل على العكس من ذلك أن تكون خاضعة لمبدأ النقض”([10])، وشاءت الصدف أن تكون هذه المقولة هي المنطلق الأساس لفلسفة (رورتيِ)، ومن ثم تنتقل عدواها إلى صديقه (رابينو) الأنثروبولوجي، الذي نقل كانط بكل ملحقاته النظرية وتعقيداته المعرفية إلى الأنثروبولوجيا الجديدة: “سيُشكِّل كانط أساساً أبستمولوجياً عميقاً لكل نظرية اجتماعية أنثروبولوجية قادمة”([11]).
لكن المُنظِّرين الجُدد وجدوا أنهم (يعانون) في مواجهة فلسفة كانط من صعوبة إعطاء مضمونٍ ما للوعي البشري، خاصةً إذا التزموا بتحديد كانط للفلسفة الترانسندتالية؛ لأنها لا تتساءل مباشرة عن موضوعات الوعي، بل عن الكيفيات التي تُعطى بها هذه الموضوعات للوعي، فالمهمة الملقاة على الفلسفة الفينومينولوجية هي تفسير الكيفية التي يَتوصَّل من خلالها الوعي إلى الاعتقاد بوجود موضوعات متعالية عليه؛ أي كيف يتخطى دائرته الداخلية وينسب للموضوعات في العالم وجوداً قائماً بذاته؟([12]).
والحقيقة أنه لم يتمكن من توسيع تحليل بناء مجالات الموضوعات إلى بناء العالم؛ لأنه كان يتصور الانفعالية والفعالية طبقتين للوعي مستقلتين. وبالمناسبة فإن هذا التصور مستوحى من التمييز الكانطي بين التقبلية والتلقائية؛ للإشارة إلى تقبلية الحساسية وتلقائية التفكير؛ لذا فضَّل الأحفادُ الجُدد للكانطية (ليوتار، ودورتيِ، ورورتيِ، وفوكو، وغيرهم) أمرَ تأسيس نظرية فلسفية تتمحور على وصف الأنشطة الإدراكية؛ وصفاً من شأنه أن يقود إلى الانخراط في المنهج الجديد، وبات عليهم من الآن فصاعداً أن يتكيَّفوا مع نموذج نسبي للحقيقة: ليست هناك أيَّةُ نظريةٍ صحيحةً تماماً، وما كلُّ شيءٍ في النهايةِ سوى تأويل!! هذه القناعة كانت مستوحاة من النظام المعرفي الكانطي، كان قد اجتهد كل من ديلثاي ونيتشه في إعادة صياغتها؛ لكي تنتقل فيما بعد من خلال المراجعات والمناقشات التي واظب كل من (غيرتز وتيرنر) في الوصول بها إلى النظرية التأويلية في الأنثروبولوجيا الأمريكية “ليست هناك أيَّةُ حقيقةٍ نهائيةً لدينا، كلُّ ما نُقدِّمُه في النهاية محضُ تأويلاتٍ”([13]).
الآن وقد انتهى القرن العشرون، بإمكاننا العودة إلى الوراء قليلاً، وحصر التيارات الكبرى التي شكَّلت القواعد الأبستمولوجية للعلوم الإنسانية في الحُقبة الجديدة، ربما باستثناء فلسفة العلوم، هذه التيارات جميعها أعادت قراءة كانط، واتَّخذت منه علاماتٍ كبيرةً لطريقها الفلسفي: الفينومينولوجيا، الفلسفة التحليلية، فلسفة العلوم، وأخيراً التفكيكية.
الأمر لا يتعلق هنا سوى بمبادئ عامة هي في تصورنا (الأساس) الذي بات مرتكزاً للكثير من النظريات الحديثة للعلوم الإنسانية؛ من أجل الوصول إلى المعنى (تنفيذاً لوصية هوسرل)، أو بلورة تصورات خاصة به وسُبُل قراءتها،إكمالاً لمشروع فيتغنشتاين، كذلك تحديد حجمه وامتداده عمَّا يحيط به، والتعرف على أنماط تجلِّيه من خلال أشكالٍ تعبيريةٍ متنوعةٍ.
لقد كشفت لنا أركيولوجيا فوكو أنَّ الخطاب المعرفي الذي تستند إليه العلوم الإنسانية لم يعد صالحاً لفهم الإنسان، لقد استبطن هذا الخطاب الميتافيزيقيا التقليدية التي هزمتها عدمية نيتشه، ولم يُغيِّر عصر الأنوار من أنظمتها المعرفية شيئاً.
إنها علوم الإنسان الجديدة، التي بدأت تتحرك بموجب نظام معرفي ضمني كان قد استكمل قراءة كل الطروحات الحداثية، حتى بدا جلياً أنَّ مقياس معرفة الظاهرة ليست هي الظاهرة نفسها، ولا ظهورها المحض، وإنما هذا الظهور مؤوَّلاً بطريقة مختلفة تتناسب وذلك الخطاب الضمني الكامن وراء فعالية العقلنة الموضوعية، فيما تبلور في الجهة الأخرى مشروع التأويل؛ بحثاً عن المعنى الذي أراده دلثاي (W.Dilthey)، وطوَّره من بعده هانز غادامير (H.G. Gadamer).
[1] – ذياب، محمد حافظ: خطاب ما بعد الحداثة انحلال الحتمي وإغراء المختلف، ص44.
[2] – بالطبع هنالك اتجاه آخر، سار متعاكساً مع الاتجاه الذي اختاره مقالنا هذا، وهو الذي تأسس على نظرية المعرفة الهيغلية مثلما تقدمت ورُمِّمت بالتنظير الماركسي، فمع بدايات السبعينيات من القرن العشرين التفَّت حلقة من الشباب حول أفكار تطورية مزجت في توليفة من نوع ما بين: أفكار ماركس ومورغان وليزلي وايت؛ من بينهم سيدني مينتز، وروي رابوبرت، وايلمان سيرفس، واريك ولف، وأخيراً مارشال سالينز حلقة التطوريون الجدد، وهي مجموعة راديكلية، ما زالت تعمل بمن تبقى من أفرادها وخاصة سالينز.
[3] – فلهلم دلتاي: (1833-1911) فيلسوف وطبيب نفساني ألماني، يعتبر الممثل الرئيسي للفلسفة الكانطية الجديدة، وقد استفاد من صياغة ما بعد الهيغلية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، سعى إلى استخدام فئات كانط التصاعدية في ميادين (علوم الروح) العلوم الإنسانية.
[4] – أدموند هوسرل: (1859-1937) فيلسوف ألماني، ومؤسس الظاهريات، درس هوسرل الرياضيات في لايبزغ (1876) وبرلین (1878) على کارل وایستراس و کرونکر، ثم ذهب إلى فيينا للدراسة تحت إشراف لئو کونیکس برکر في العام 1881، كما درس الفلسفة على فرانتس برنتانو و كارل شتومف، أثَّر إدموند هوسرل على فلاسفة؛ من بينهم: ماکس شیلر، جون بول سارتر، ألفرد شوتز، وإيمانويل لیفيناس، هو أستاذ مارتين هايدغر، ولئن كان هوسرل متأثِّراً في بداياته بالاتجاه النفساني في الفلسفة، فإنَّه سرعان ما اتّجه نحو الاهتمام بالمعاني والماهيات الخالصة، وهو ما تجلَّى في كتابه “البحوث المنطقية”.
[5] – المقولة التي عبَّرت عنها أفكار فتغنشتاين (L.Wittgenstein) أفضل تعبير.
[6] – لا شك أن هوسرل لم يتبنَّ مقولات كانط بلا مراجعة وتحليل وتفكيك ونقد، ومهم جداً أن نذكر هنا أن هوسرل كان قد انتقد كانط في بعض من الجوانب المهمة؛ رغبة في تطويرها، فقد ارتبط نقده للنزعة السيكولوجية بتأكيد أن العام سواء اتَّخذ شكل ماهيات أو مقولات، له وجود موضوعي، والأمر الحاسم عنده هو أن العام يمكن أن يعطي نوعاً من الحدس، في هذه النقطة بالذات يعارض هوسرل وجهة نظر كانط، ومن جهة ثالثة فإن هوسرل كان قد رفع شعار “إلى الأشياء ذاتها”؛ لأن مقولة كانط: “الاشياء في ذاتها”، لا تعطي -حسب هوسرل- إلا في إنجازات ذاتية. لمزيد من القراءة، ينظر في: هوسرل، أدموند: أزمة العلوم الأوربية، مصدر سابق، ص256.
[7] – هوسرل، أدموند: أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترانسندنتالية، مصدر سابق، ص48.
[8] – المصدر نفسه، ص40-46.
[9] – دورتيي، جان فرانسوا: فلسفات عصرنا: تياراتها مذاهبها، أعلامها وقضاياها، ترجمة إبراهيم صحراوي، (الجزائر- منشورات الاختلاف)، 2002، ص116.
[10] – بوبر، كارل: منطق البحث العلمي، ترجمة د. محمد البغدادي، (بيروت- المنظمة العربية للترجمة)، 2006، ص233.
[11] – Rabinow, Paul : Essays on the Anthropology of Reason, Princeton: Princeton University Press, (1997) , p 29.
[12] – هوسرل، أدموند: المصدر السابق نفسه، ص23.
[13] – غيرتز، كيلفورد: تأويل الثقافات ومقالات أخرى، ترجمة د. محمد بدوي (بيروت- المنظمة العربية للترجمة)، 2009، ص213.