صاغ روائي الخيال العلمي، نيل ستيفنسون، في روايته الحديثة “سبع ليال” (Seveneves) مصطلحًا مُثيرًا للاهتمام: “الآميشية” التي تعني “علم القرارات التي تتخذها ثقافات مختلفة في الاستفادة من بعض التكنولوجيا ونفي الأخرى”، وهذه الكلمة مشتقة من مبدأ طائفة الأميش فيما يتعلق بالاستخدام الانتقائي للتكنولوجيا. والمثال الوارد في رواية ستيفنسون لا يُقصد به تكنولوجيا الأسلحة أو الذكاء الاصطناعي كما تتوقع، إنما رؤيته المستقبلية تحدد التكنولوجيا المعاصرة والمنتشرة على نحو مُتزايد لغرض استبعادها، وهي: “وسائل التواصل الاجتماعي المتواترة”.
لماذا؟ نظرًا لقدرة وسائل التواصل الاجتماعي على “توفير أفضل المدارك الفائقة” من خلال استهداف عقول البشر بإثارات انفعالية ومُشتتات وإغراءات قصيرة المدى. وفي المستقبل الذي تنبأت به رواية “سبع ليال”، فإنّ هذه المُثيرات والمُحرّضات النفسية تُعجِّل من قرب وقوع أزمة قاضية داخل مجتمع يعاني بالفعل من الصدمات النفسية بسبب الأحداث الفظيعة. وبعدها، “أي جهود بذلتها الشركات المُصنَّعة للسلع الاستهلاكية الحديثة لإنتاج أنواع الأجهزة والتطبيقات التي تسببت في اضطراب الدماغ [مثل وسائل الإعلام الاجتماعية المُتتالية]، قُوبِلَت بـ … تراجعٍ فطري”.
نستنتج أن فن الآميشية جاء متأخرًا وهو ثمرة للتجارب المُرّة وصيحات من قبيل “لن يتكرر هذا مجددًا!” وكما أنه يعدُّ مُحفِّزًا مدروسًا ووسيلةً للوصول إلى مجموعة من التساؤلات المُقلِقَة، مثل، ماذا يعني استخدام التكنولوجيا بانتقائية؟ إلى أي مدى يمكن لكافّة المجتمعات تحديد أيّ من التكنولوجيا التي تستخدمها –إن وُجدت- دون السماح للتكنولوجيا بتسطير تاريخها؟
تختلف المجتمعات الأميشية أنفسها فيما تسمح به؛ إذ أن هنالك حوالي 40 تفرعات مختلفة في طائفة الأميش، وكلهم يطبّقون الاستخدام الانتقائي للتقنيّة بدلًا من رفضها بأكملها، ويقيّمون ما إذا كانت أي تقنية جديدة ستحسّن أسلوب معيشتهم على ضوء قيمهم “المسيحية المتشددة”. ويُمنع التلفزيون والحوسبة المنزلية وامتلاك السيارة، بالإضافة إلى حظر الكهرباء الرئيسية، فيما يُسمح ببعض الأجهزة التي تعمل بالبطاريات، وكذلك توليد الكهرباء المنزلية والطاقة الشمسية في بعض المستوطنات. ويمارسون الطب الحديث بانتقائية، وكما أن أغلب الجماعات تسمح لأفرادها باستئجار المركبات لأغراض التجارة والسفر لمسافات بعيدة. ويستخدمون أيضًا عمليات التكييف غير الكهربائية للسلع الأخرى -من وقت لآخر- كالثلاجات التي تعمل بالكيروسين.
يعدُّ اختبار تأثير التكنولوجيات إجراءً رسميًا عند مجتمعات الأميش؛ إذ يأتي أحدهم بتقنية جديدة من التقنيّات ويعرضها لقادة المجتمع، ثم يُعيِّن القادة أشخاص لاختبارها وهؤلاء الأشخاص بأنفسهم يُراقَبون أثناء تجربة تلك التقنية، وبعدها يكتب الجميع تقريرًا مفصّلًا عنها. وإذا لم يجدوا فيها أي فائدة مقنعة بما فيه الكفاية، فلن يتقبلها المجتمع. ويجوز لليافعين من الأميش تجربة الحداثة التكنولوجية كالسيارات والإعلام وثقافة البوب العصرية، قبل أن يقرروا في مرحلة البلوغ ما إذا كانوا سيحتفظون بهذه الحداثة ويمارسوها أو يتركوها، وهو أسلوبٌ قديم ومُتوَارَث ومتين على نحو يثير الدهشة. ويستمر أعداد الأميش بالازدياد في أنحاء أمريكا.
إن حرفية الكتاب المقدس بالكاد تعدُّ نهجًا عالميًا عمليًا للتكنولوجيا، بيد أن تركيزها على اتّباع نهج تقوده القيم، أمرًا مُثيرًا للاهتمام. إذ يمارس الأميش بطريقتهم الخاصة نظامًا منقوص القيَم وهو التفكير النقدي في التكنولوجيا. وغالبًا ما يهيمن على الممارسات الحديثة للتكنولوجيا ما عمّده عالم النفس، بول سلوفيك، في المسيحية وأطلق عليه ” التأثير الاسترشادي” – ويعني أنه في غياب الأدلة أو الخبرة، يُرجَع اتخاذ القرارات الصعبة إلى الحدس والعواطف. وكما أوضح دانييل كانمان، الحائز على جائزة نوبل، قائلًا: “التأثير الاسترشادي يبسّط حياتنا من خلال إيجاد عالم أكثر تنظيمًا من الواقع. وللتقنيات الجيدة تكاليف قليلة في العالم الخيالي الذي نعيش فيه، بينما التقنيات السيئة ليس لها أيّ فوائد، وكل القرارات سهلة الاتخاذ”.
هل نأمل أن نفعل ما هو أفضل من الاعتماد على مشاعرنا؟ إن إحدى المشاكل التي تحدث مع أي ابتكار تكنولوجي مهم هو أنه لا يمكن التنبؤ بعواقبه من الأساس، لذا لا عجب أن النتيجة تكون التأخر في استخدامه. ومع ذلك، فإن ما يظل ثابتًا بقوة وغير ثابت في أي حالة تكنولوجية، هو الطبيعة البشرية نفسها -وفي هذا الصدد- يمتلك الأميش حيلة أو اثنتين لتعليم التقنية.
إن الممارسات التكنولوجية للأميش مُوجَهَة ضد علّتين قبل كل شيء: الغرور والسعي وراء الثروة المادية. وعلى سبيل المثال، إذا سُمح لبعض المزارعين باستخدام تقنية الأتمتة لعملهم بما يتجاوز حدًّا مُعينًا، فمن المنطق أن يضطر الآخرين أيضًا إلى استخدام ذات التقنية للاستمرار – أو أولئك الذين لديهم إمكانية الوصول إلى آلات أفضل سيحصلون على الأرض والسلطة والثروة على حساب أولئك الذين رفضوا استخدامها. ولا يمكن ضمان المساواة إلا بتسوية ساحة الملعب، إذ يجب أن يوضع حد للغرور من خلال تقييد بعض التقنيات مثل التصوير الفوتوغرافي واستنساخ الصور.
قد تكون هنالك علاقة بين التصوير الفوتوغرافي والغرور أو قد تنعدم، علمًا أنني قد تصفحتُ بعض المجلات اللامعة التي تشير بالتأكيد إلى وجود علاقة بينهما، لكن الأميش يتجهون إلى غاية ما عندما يتعلق الأمر بالمنافسة. وإذا كنت تبحث عن السبب الأقوى الوحيد الذي يجعل الحتمية التكنولوجية تمثّل نموذجًا للتاريخ، فأجب على هذا السؤال: لماذا يبدو أن التطورات التكنولوجية تحدد -على المدى البعيد- ما يحدث لنا بصفتنا أصناف بشرية؟ الإجابة أن المنافسة هي العامل الحاسم.
تخيّل أنك فرد من مجتمع قِبَلي مُبكِّر وتقنيته الأكثر تقدمًا هي أداة القدّاحة، وفي المقابل تواجه منافسين قادرين على صنع أسلحة برونزية. وما لم تتعلم أيضًا سر العمل في صنع البرونز –أو على الأقل، تزوير الفولاذ- فستظل تحت رحمتهم؛ إذ يمكنهم انتزاع شروط تجارية غير مواتية أو الاستيلاء على منطقتك، إذا اختاروا ذلك. وحتى إذا لم يختاروا اغتنام صلاحياتهم، فأنت لا تزال في مأمن فقط حتى يأتي الحظ القادم بسلاح أفضل.
إن التكنولوجيا ليست العامل الوحيد في النجاح الحضاري، ولكن عندما يتعلق الأمر بالمنافسات طويلة المدى، فإنها تميل إلى أن تكون حاسمة. فبمجرد أن يمتلك أعداؤك البنادق الآلية، عندها لن تكون المعارك بالخيول خيارًا مناسبًا، وبمجرد امتلاكهم طائرات بدون طيار، فستحتاج إلى طائرات بدون طيار أكبر وأفضل (أو قراصنة الكمبيوتر، أو روبوتات قاتلة مستقلة). وبمجرد امتلاك دولة واحدة للأسلحة النووية، فإن الرادع الوحيد والكبير بما يكفي لإبقاء الآخرين داخل اللعبة هو المزيد من الأسلحة النووية (أو التحالفات الاستراتيجية الدقيقة).
والأمر ذاته ينطبق على عالم التجارة. فإذا كنت تعمل في مجال الخدمات المالية ونافستك عملية تجارية تمتلك أحدث تقنيات الأتمتة عالية التردد، فستحتاج إلى ذات التقنية لمجرد الاستمرار، ومع هذا تحتاج إلى تقنية أفضل لتحصل على الأفضلية. وبإمكانك الانسحاب في أي وقت، لكن سيكون هناك دائمًا منافسًا آخر ليحل محلّك. إنّ التفكير بعمق نعمة يمكنك الوصول إليها فقط بعد وقوع الحدث، لذا يعدُّ التنظيم في أغلب الأحيان نوعًا من أنواع تخفيف آثار التقنية التي وضعتها أندية الفائزين.
وبهذا تنتهي حكاية الحتمية، حيث يكون التقدم التكنولوجي والبشري مرادفين إلى حدٍّ كبير، وفي المقابل الاحتجاجات ضدها إما قد تكون سببًا للحنين إلى الماضي أو للإنكار.
لكنني أرى أن الحتميّة هي في إنكار الحقائق، وألّا تُدرك أن الجزء الجيد من القصة يبدأ فقط حيثما تنتهي. فما هو مسار تقدمنا، وما الذي يكلّفه؟ في أي المجالات يكون التقدم ولمن المكسب؟ ما لم نتمكن من اللجوء إلى الأفكار التراكمية للحقول الأخرى، كالفلسفة والعلوم والسياسة والفن، بالإضافة إلى التاريخ وعلم النفس وعلم الجَمَال (أستَاطِيقا) وأدب الخيال، فلا يمكننا البدء في مناقشة مثل هذه الأسئلة. بالفعل، لا يمكننا مناقشة أي شيء. وبما أننا تخلّفنا في استخدام تقنية الأتمتة، بذلك فشلنا في إنصاف أنفسنا وأنشطتنا الإبداعيّة.
فما البديل؟ إن الاستغناء عن التكنولوجيا بأكملها، يفصلك عن المجتمعات التي من المفترض أن تكون التكنولوجيا مترابطة من خلالها. لذا عليك تقبّل حقيقة أن البشر وأدواتهم، من سكاكين الصوان إلى الأبجدية وحتى الزيتابايت في البيانات الحاسوبية، محبوسين في مفاوضات لا تنتهي. لذلك انظر لما نفعله وكيف ولماذا نفعله؟ بدلًا من التركيز فيما نفعل به فحسب.
أَعلن –بشكل معروف- مؤلف خيال علمي آخر، ويليام جيبسون، أن “المستقبل موجودٌ بالفعل، لكنّه ليس موزّعًا على نحوٍ متساوٍ بالقدر المطلوب”. والنتيجة الطبيعية هي أنه إذا نظرتَ بِجدٍّ وصِدقٍ كَافٍ، سترى ظل مستقبلك يتلألأ في مكان آخر في الحاضر. فماذا يفعل الناس اليوم حقًّا بأدوات قديمة وجديدة؟ وما هي الموازين التي يجب أخذها في عين الاعتبار كأثر الابتكار على القيم التي تستحق السعي إليها؟ ومن الجدير الإجابة على هذه الأسئلة؛ لأنه لا توجد إجابات نهائية أبدًا.
إن أكبر خطر على الإطلاق، عندما يتعلق الأمر بالتقنية، هو أننا نتخلى عن التفكير النقدي عند أي نسمة تهبّ من الحتمية؛ إذ إننا نُطفئ مداركنا الفائقة في لهيبٍ من مُثيرات مُصمّمة بدقَّة، كما فعل المجتمع الخيالي في رواية ستيفنسون فيما يتعلق بتكاليفه.
إن مسؤوليتنا لا تتمثل في رؤيتنا المُجرّدة للإمكانيات البشرية، سواء أكانت معززة بالتكنولوجيا المطلقة أم أنها مسلوبة منها بالكامل، بل إنها تقف على عاتقنا سويًّا، حيث يمكننا أن نفهم ظروفنا على نحوٍ أفضل: في حالة كنّا مُعرّضين للخطر، أو مرهونين بالتاريخ، أو عالقين في ارتباطاتٍ لم نختارها. لذا، كي نصبح أكثر حرية، علينا ألّا نتظاهر بأن المرايا التي تصنعها آلاتنا تُظهِر أي شيء جديد تمامًا، إنما يجب أن ننظر بعناية أكبر في كيفية عيشنا، مع هذه الآلات وبدونها، وأن نأمل أن نصبح أكثر وعيًا.
New Philosopher : Issue #11: technology