لو أنَّك أغلقت هذا المقال من هاتفك أو حاسوبك وبدأت في لعب لعبة قوية عليه ستلاحظ شيئًا؛ أنَّ الهاتف -أو الحاسوب- بدأت حرارته ترتفع، وكلما ضغطت عليه واستمرَّ لعبك ستزداد حرارته أكثر، حتى تصل إلى النقطة التي لن يمكنك معها أن تمسكه بيدك. وإذا زدتَ في الأمر فسيقلِّل المُعالج من أدائه تلقائيًّا، أو سيغلق اللعبة ويعيد تشغيل الجهاز. لماذا؟! كي لا ينفجر داخليًّا. والسبب بسيط إنَّها حركة المُعالج الدائبة -ومعالج الرسوم- التي تولِّد حرارة، وتستمرّ في توليدها.
هذا عن حاسبك أو هاتفك الذي يعمل بطاقة ضئيلة جدًّا، ومعالج لا يتجاوز أنملة الإصبع الواحد. فما بالك بمُحرِّك ضخم في سيارة سباق صُنِع ليولِّد طاقة هائلة تدفع الهيكل المعدنيّ ليتقدم ويتقدم، ولا يكفُّ عن التقدُّم؟! .. إنَّه باختصار جحيم مُستعر أنت بداخله. إنَّ سيارة السباق التي تراها متألقة وزاهية الألوان أمامك على التلفاز نعشٌ طائر من النيران في نظر السائق. فإنْ كنتَ مهتمًّا ومُستعدًّا، أو تحبُّ روح المغامرة، وتريد الاكتشاف فستحبّ هذا الفيلم.
تتعدد أنواع سباقات السيارات لكنَّ أحد أنواعها سباق يُسمَّى “سباق التحمُّل”. فيه لا يكون الهدف أن تسرع حتى تتخطَّى الآخرين وصولاً إلى خط النهاية، بل الهدف أن تستمرَّ في منافسة طويلة جدًّا حيث على جميع السيارات المُتسابقة أن تظلّ في السباق لمدة يوم كامل بلا توقف إلا للتزود بالوقود، أو إصلاح بعض الأضرار الجانبيَّة. أربع وعشرون ساعة من طنين المُحرِّكات. وقد سُمِّي سباق تحمُّل لأنَّه سباق للمُتسابقين في المقام الثاني، لكنَّه سباق لمدى قدرة السيارة على تحمُّل هذا العبء الهائل الذي من الممكن أن يُفجِّرها وكأنَّك تنفخ ريشة لتطير في الهواء. أشهر حلبات هذا السباق هو سباق فرنسيّ اسمه “لومان 24 ساعة”. طول حلبة السباق ما يُقرب من 14 كيلومترًا. تظلُّ السيارات المتسابقة تكملها واحدةً بعد الأخرى لمدة يوم كامل. فتخيِّلْ أنت كمّ الجنون في هذا اليوم الذي يمرُّ دهرًا.
هذه هي الأجواء التي اختارها فيلمنا ” Ford v Ferrari “. من إنتاج “فوكس” شهر “نوفمبر” 2019م. وإخراج “جيمس مانجولد” (مخرج فيلم لوجان)، وتأليف “جيز بيتروورث” وآخرين. ومن بطولة “كريستيان بيل”، “مات ديمون”، “جون بيرنثال”، وكثيرين. من تصنيف تاريخ، حركة، دراما. تكلَّف إنتاجه أكثر من 95 مليون دولار، وحقق إيرادات أكثر من 220 مليون دولار. ورُشِّح لأربع جوائز “أوسكار”، منها أفضل فيلم.
تبدأ قصتنا حينما تتعرض شركات السيارات العظمى لبعض الركود في النصف الأول من الستينيات. فيعرض أحد المسؤولين في شركة “فورد” الأمريكية الشهيرة فكرة لتطوير الشركة، وتحسين صورتها التسويقيَّة لدى جمهورها. وتتمثَّل هذه الفكرة في أن تدخل الشركة إلى حلبات سباق السيارات التي كانت حينها تسيطر عليه الشركة الإيطاليَّة بالغة الشهرة “فيرَّاري”. شركة “فورد” تملأ سيارتها السوق، لكنَّ “فيرَّاري” تصنع الأفضل والأجمل؛ هذا ما كان لدى المُوظف الذكي. وفي الوقت الذي يتعجّب فيه الموظفون من هذا التحدِّي الغريب، لاقتْ هذه الفكرة إعجابًا وصدًى عند مالك الشركة حفيد الملياردير الشهير “هنري فورد”، والذي بدوره اسمه “هنري فورد الثاني” -كما كانت أسماء الملوك، فهؤلاء ملوك الأرض الآن-. لديه أغراض داخليَّة فهو يريد أن يحقق إنجازًا ليُخلِّد اسمه، ولا يظلُّ تابعًا لاسم جدّه العملاق.
يقرر “هنري” أن ينتصر ببناء سيارة سباق خاصة بالشركة -بعدما حاول شراء “فيراري”- فيلجأ لبطلَينا البطل الأمريكيّ الفائز بسباق “لومان” “كارول شيلبي” (مات ديمون)، الذي يستعين بأحد أشرس السائقين وصديقه القديم “كين مايلز” (كريستيان بيل). كان “شيلبي” قد اعتزل السباق لمشاكل صحيَّة، وهو رجل هادئ، رزين، وشخصيته معقدة. أمَّا “مايلز” فشخصية واضحة حادَّة تقول للشخص إنَّه حمار في وجهه، ثمَّ لا تتراجع؛ لأنَّها قد قالت الحقيقة. يبدأ كلاهما في محاولات عديدة لبناء هذا الجسد الهائل الذي يمكنه تحمُّل هذا السباق. ويعرض الفيلم صعوبات الأمر، وبنائهما للسيارة العتيدة ” GT40 ” التي استطاعت أن تفوز بسباق “لومان” عام 1966م، وثلاثة أعوام بعدها.
لكن متى كان الطريق مُمهَّدًا لأن تمشي؟! هناك عقبات كثيرة ستواجه بطلَيْنا في سبيل هدفهما. عقبات أسريَّة، وعقبات عمل، وعقبات شخصيَّات بغيضة لا تريد لك النجاح، وأكثر. هذه العقبات هي التي شكَّلتْ خريطة دراما الفيلم. وبخلاف الدراما هناك مُسلَّمة تقول: طالما تشاهد فيلمًا لسباق السيارات فهناك عاملان يتوقف عليهما الفيلم هو ملحمة الصوتيَّات فيه، وعمليات التصوير للسباق. هذا إنْ اعتمد الفيلم على دعامة السباق، وهذا هو نوع فيلمنا. لكن قبل أن نتطرق لهذين العاملين لا بُدَّ أن نوضح أنَّ الفيلم به الكثير من المعاني التي قد تفوت على المشاهد لذا يجب التنويه عنها، فلا تعتقده فيلمًا عاريًا عن المعاني والدلالات، بل قد حشدها حشدًا.
لا يكتفي الفيلم بإدخالك إلى بعض خبايا صناعة السيارات، والتنافس الشرس بين العلامات التجاريَّة، ورغبة كل منها في أن تتقدم على الأخرى. بل إنَّنا -إنْ دقَّقنا النظر- سنجد أن الفيلم أشار من خلال هذه الخبايا إلى مقارنة حضاريَّة. تدور هذه المقارنة بين الروح الإيطاليَّة الشرقيَّة وبين الروح النفعيَّة الأمريكيَّة. “فيراري” التي تنفق كل ما لديها من أموال لصناعة تُحف من السيارات، لصناعة آيات من الفنّ. و”فورد” التي تهتمّ بكم تبيع وكم توزِّع، والتي ليس أمام عينها هدف الكمال الجماليّ، بل الكمال الحسابيّ. شركة تبحث عن أن تُمتعك، أخرى تبحث عن أموالك.
وبالقطع لعلَّنا لا ننسى أنَّ “إيطاليا” بلد حضارة قديم جدًّا؛ حيث هي مقرّ الحضارة الأوربيَّة منذ “الإمبراطوريَّة الرومانيَّة” العتيقة، وهي صاحبة شرارة البدء في عصر النهضة الأوربيَّة الحديث من خلال الفنّ والشعر. أما “أمريكا” البلد الوليد الذي لا يمثل قيمة حضاريَّة، لكنَّه يحرص كل الحرص على أنْ يكسر عائق القِدم الحضاريّ بينه وبين الأوربيين، ويحاول بكل الطرق أن يبني له سمتًا خاصًّا مُغايرًا عنهم، أيْ أنَّه يحاول الانسلاخ عن أوربا ومعاملتها على أنها “آخر”، لا “أنا”. يحاول أنْ يقول: أنا أمريكا ونجاحي لا يعتمد على أنَّني أوروبيّ، بل على أنَّني أمريكيّ. وقد رأينا في الفيلم هذه النزعة لدى رئيس “فورد”، وأيضًا عند البطل “كين مايلز” وهو يتحدث عن السيارات الألمانيَّة. مع أنَّ كليهما من الحضارة الغربيَّة، وكلاهما يكوِّن فكرة “الغرب” لكنه ما يشبه تنازع الأجنحة في الحضارة الواحدة. لهذا نجد الكثير جدًّا من مظاهر السخرية المتبادلة بين الجانبَيْن الأوروبيّ والأمريكيّ في عديد الأفلام.
ففي الوقت الذي ما زالت تعمل فيه شركة “فيراري” بنفس روح الفنّ عند أسلافها “دانتي أليجري”، و”فرانشيسكو بتراركا” -عَلَمَانِ من أعلام الأدب الإيطاليّ في أوائل عصر النهضة-. تعمل شركة “فورد” بمبدأ “البرغماتيَّة” -الفلسفة الرئيسية للفكر الأمريكيّ- التي تقيِّم كل الأفعال على حسب نتيجتها؛ أيْ الفعل الجيد هو ما يؤدي إلى نتائج جيدة بغضّ النظر عن وسائل فعله، وبغضّ النظر عن أيَّة معايير- إلا المعايير التنظيميَّة التي اعتاد البعض على تسميتها معايير أخلاقيَّة، بينما هي معايير ضمان استقرار المكاسب-. وفي الفيلم نرى روح الانتهازيَّة في الجانب الأمريكيّ، وكيف أن “شيلبي” لا يجد غضاضةً في أنْ يغشَّ أثناء السباق لينتصر. وباختصار هكذا قدَّم الفيلم لنا شخصياته وقصته، وستجد هذا جليًّا أمامك بأدنى تدقيق في الملامح الشخصيَّة والحوارات.
المعنى الآخر هو المعنى الإنسانيّ الذي يدور بين بطلَيْنا. وكم كان التوافق والانسجام بينهما واضحًا وفعَّالاً جدًّا في الفيلم! .. سترى فيه رجالاً مفتونين بمجال عمل، سترى فيه كيف ينسجم الإنسان ذو الموهبة مع موهبته، سترى فيه كيف يتصرَّف الرجال الناضجون في حياتهم العمليَّة؛ كيف هم هادئون رغم وجود رغباتهم ودوافعهم في الوقت الذي تصنع فيه الدوافع الشخصيَّة من غيرهم وحوشًا. سترى هذا الهدوء وستعرف أنَّه يأتي من الثقة في الذات، وأنَّ الرجل الجيِّد يعرف أنَّه جيد، ويثق في نفسه دون أنْ تجده سخيفًا كلّ همِّه أن يقول للناس: انظروا كم أنا جيِّد! .. حينها اعلمْ أنَّه طفل يلهو.
هناك معنى فلسفيّ بدأ به الفيلم وانتهى به. وقاله في ملامح شخوصه كثيرًا. هذا هو القول على لسان “شيلبي” أصوغه بطريقتي:
تلك النقطة التي يتجاوز فيها المُحرِّك سبعة آلاف لفَّة في الدقيقة .. هناك حيث يبدأ كل شيء في التلاشي .. الآلة تصبح بلا وزن، فجأةً تختفي .. تصبح هيكلاً يعبر المكان والزمان .. “سبعة آلاف لفَّة في الدقيقة” هو المكان الذي عندما تقابله يسألك السؤال الوحيد الذي يستحق الاهتمام: مَن أنت؟!”. ولك أن تعلم أن مُعدَّل ” RPM ” هو مُعدَّل دوران المُحرِّك في الدقيقة الواحدة. ولك أن تعلم أن آخر الأمان عند ستة آلاف، وأوَّل الخطورة وبدء مشوار التحطُّم عند سبعة آلاف. وعندما يصل الإنسان إلى هذه النقطة التي قالها البطل وكأنَّها مصطلح عن “تسابق الإنسان مع ما هو أقوى منه”، أو “عُمق إحساس الإنسان عند محاولة خروجه عن حدّ طاقته”؛ عندها تسمع صوتًا يقترب منك، ويخيفك ليسألك السؤال الوحيد المُستحقّ للاهتمام: مَن أنت؟!
حتى لا نطيل نختم بالتعليق على الجانبيْن التقنييْن اللذين يجب توافرهما في هذه النوعيَّة من الأفلام. أولاً، الصوت وقد كان جيِّدًا إلى حدّ بعيد في هذا الفيلم، وبالقطع هم محترفون كفايةً ليعلموا أنَّ جزءًا ضخمًا مما تشعر به في هذا الفيلم نابع من الصوت وليس الصورة. الصوت في هذه الأفلام يقود الصورة، لا يُكملها، يأخذ بيدها ليملأ الفراغ -الذي يستحيل أن تملأه بالصورة لوجود عوائق جبَّارة- في المشاهد، ويعطيك كل مشاعرك التي ستفتقدها دونه. متعجبٌّ من الحديث؟ تريد أن تتأكَّد؛ إذن جرِّب المشهد مرتَيْن في إحداهما قمْ بكتم الصوت، ثم انظر إلى النتيجة في نفسك، وساعتها ستعلم جيّدًا قيمة الصوت في هذه النوعيَّة، وفي الأفلام عمومًا.
لقد اعتمدوا في الصوت على خليط من المؤثرات الصوتيَّة التي ستُمتع مُحبِّي أزيز المحركات، وطنين العجلات على الأسفلت، لكنَّ الدور الأبرز كان للموسيقى. أمَّا التصوير فقد أجاد المخرج إجادة كبيرة في تصوير كل ما يستطيع، والهروب مما لا يستطيع بالمزج الدراميّ لفعل السباق؛ مما أبان عن مهارة وقدرة.
ولعلّ الفيلم يستحق كتابة مقالة كاملة عن الصوت وفنيَّاته، وآخر عن تصوير مشاهد التسابُق. لكنَّ الأهم من الأمرين أن يكون السيّد المشاهد على وعي بما يراه، مما يستطيع صُنَّاع الأفلام المَهَرة أن يدخلوه في أفلامهم حتى نكون مُشاهدين حقيقيِّين، لا ناظرين وسامعين.