في أحد مشاهد فيلم “The Matrix” يطرح الضّابط المنتمي للآلات “سميث” رؤيته حول الإنسان، خلال التّحقيق مع البشريّ “مورفيس” أحد قادة التّمرّد على استعباد البشر؛ فيقول: “خلال عملي جاءتني رؤيةٌ عندما حاولت أنْ أصنِّفَ جنسكم؛ وتبيّن لي بأنّكم لستم من الثّدييّات؛ فكلّ ثَدْيِيٍّ على هذا الكوكب يُطوّر نفسه ويُوازنها على حسب المحيط، بينما البشر لا يفعلون. إنّكم تتحرّكون من مكانٍ إلى آخر وتتكاثرون، حتّى تنفد الموارد الطّبيعيّة جميعها، والطّريقة الوحيدة الّتي تستطيعون العيش بها، هي أنْ تنتقلوا إلى منطقة أخرى، وهناك كائنٌ آخر على الكوكب نفسه يتبع الأسلوب نفسه؛ أتعرف ما هو؟ إنّه الفيروس. فالبشر مرضٌ، سرطانٌ لهذا الكوكب، أنتم طاعون”.
يجمع استغلالُ بقيّة الأنواع الحياتيّة أو إقصاؤها بين البشر والفيروسات، فالاستحواذ والهيمنة على البيئة جزءٌ جوهريٌّ في سلوكهما. يُقدّم فيروس كورونا (كوفيد- 19) مثالًا فريدًا على الهيمنة من أجل الهيمنة، فوظيفة الفيروس هي الاستمرار، عبر استغلال الأنواع الحياتيّة الأُخر بوصفه عائلًا لأفراده وحاضنًا لهم؛ ليتغذّى الفيروس على خلاياهم، ويستغلَّهم في الهيمنة على أقصى مساحة ممكنةٍ من محيط الحياة.
بينما تُفرِّق بينهما قدرةُ الإنسان على نقد الوجود البشريّ، ومن ذلك نقد الهيمنة البشريّة على البيئة، وتسخير مكوّناتها كافّةً لغاية الانتشار والتّوسّع، لا لهدف محدّد سوى الهيمنة، بينما يفتقد الفيروس مثل هذه الرّؤية النّقديّة.
يُترجم فعل الهيمنة من خلال الاستحواذ المعنويّ والماديّ على البيئة بوصفها مكانًا يحوي الحياة على كوكب الأرض، باستغلال كائنٍ لمميّزاته ليُسخّر بقيّة الكائنات لخدمة وجوده، وهو ما يُعبّر عنه التّاريخ البشريّ إلى اليوم، وحدث ذلك على حساب ملايين الأفراد الأحياء والأنواع الحيّة والبيئات الأُخَر.
ذاك بالتّحديد ما يفعله فيروس كورونا اليوم مع البشريّة؛ فلا هدف للفيروس سوى الهيمنة؛ فلا غاية من تكاثره وتحوّله إلى موجاتٍ وبائيّةٍ تهدّد كلّ إنسانٍ، وما ذاك بسلوك جديدٍ عن السّلوك الإنسانيّ الغالب تجاه بقيّة الأنواع والبيئات الحياتيّة، إلّا أنّ هناك اختلافًا في المدّة الزّمنيّة الّتي يستغرقها كلّ منهما لتحقيق الهيمنة، ومدّة دوامها؛ إذ لا تتطلّب الهيمنة عند الفيروسات وقتًا طويلًا؛ فلم تمض ثلاثة أشهر حتّى هيمن فيروس كورونا على الوجود البشريّ، وبات يهدّد حياة الإنسان بالشّلل والجمود، وصار الإنسان ذلك الكائن الغازيّ الذي يئنُّ تحت وطأة مُهيمن آخر.
في الوقت الرّاهن نشهد صراعًا بين أشدّ الكائنات رغبةً في الهيمنة، والمثير للانتباه أنّ الصّراع نتج عن سلوك الهيمنة البشريّ، الّذي طال استحواذه للكائنات الأُخر الّتي يُهيمن فيروس كورونا عليها.
ما سبق يطرح على مَلَكَة الإنسان النّقديّة سؤالًا حول المآسي الّتي سبّبها سلوك الهيمنة والرّغبة في الاستحواذ على شركائنا في الحياة، وهي قضيّة محوريّة في فلسفة البيئة، المنبثقة عن تفعيل ملكة النّقد الإنسانيّة.
فهل سلوكنا بوصفنا بشرًا مماثل للفيروس في علاقته بالمكان؟
نعم، وكما قلنا نتشابه والفيروس في الرّغبة المحمومة للاستحواذ، وهي رغبةٌ لا تهدف لإشباع حاجة أساسيّة في البقاء، بقدر ما هي خلل لدى كلينا، مع فارقٍ أنّ الأول حائزٌ ملكةَ التّفكير؛ الّتي تُمكِّنه من تحقيق البقاء دون الإضرار بالتّوازن الطّبيعيّ إذا توافرت الإرادة الصّادقة.
تنبع أهمّيّة المكان في فلسفة البيئة بوصفه أهم محاور الوعي الإنسانيّ بها؛ حيث المكان وسيطٌ مادّيٌّ للتّفاعل بين البيئةِ بمعناها الواسع والإنسانِ.
التّملُّك والمكان:
بدايةً يجب التّأكيد على خروج الإنسان عن سلطة الغرائز، وسلطة التّوازن الطّبيعيّ، وذلك مع تطوّر المخّ البشريّ، وصولًا إلى مرحلة العقل، الّتي أعلت من شأن الذات الفرديّة، وجعلت منها مركزًا للوجود؛ ممّا ترتّب عليه إدراك الإنسان للمكان لا بكونه ضرورةً للبقاء، أو بيئةً للتناسل والحفاظ على النّوع؛ بل بكونه إمكانيّةً لتحقيق الوجود الذّاتيّ؛ ما أدّى إلى طغيان الهويّة البشريّة على هويّة المكان.
أخذ ذلك الطّغيان شكلَ الملكيّة؛ ففقد المكان وجوده ودوره الفعّال تجاه الحياة عمومًا؛ ليتحوّل إلى مِساحةٍ لإظهار السّيادة البشريّة. وتَتعدّد أنواع الملكيّة، سواء أفرديَّةٌ كانت، أم جماعيّةٌ، أم ثقافيّةٌ، أم قوميّةٌ، وشكَّلت جميعها الوعي الإنسانيّ بالمكان. نجد مثال المنزل كمكان في الحالة الفرديّة، فيسعى الإنسان إلى صيانته والحفاظ عليه ليؤدّي الوظيفة المرجوّة منه في الخدمة.
تنهضُ سياسة الإنسان تجاه المكان على الاستغلال؛ فيحافظ عليه بوصفه ملكيّةً قائمةً، ولا يهتمُّ بما هو خارجٌ عن حيازته، إلّا عندما تُصبح ملكيّة محتملة. ويشترك الفرد في عددٍ من أنماط الملكيّة بجانب الملكيّة الخاصّة، على حسب المجموعات الّتي ينتمي إليها، ويشاركها في أملاكها.
في حياة الفرد أنماطٌ عدةٌ من الملكيّة؛ منها الخاص، أو القوميّ بحكم جنسيّته؛ فينمو لديه شعورٌ بامتلاك مساحة المكان الّذي يحمل اسم دولته. ويحوز الفرد المؤمن نمط ملكيّة آخر؛ وهو الملكيّة التّشاركيّة للأماكن المقدّسة ودور العبادة والرّموز الدّينيّة.
يختلف سلوك الفرد من نمطٍ لآخر؛ ففي الحالة الفرديّة يبذل جهدًا كبيرًا لصيانة ممتلكاته وإدارتها بكفاءةٍ. أمّا في الحالة القوميّة فيغلب الحرص على بقاء الملكيّة دون نُقصانٍ على الاهتمام بكيفيّتها وحالها؛ فقد يموت الفرد دفاعًا عن أمتار معدودة من تراب الوطن؛ لكنّه لن يضحي بعدّة ساعاتٍ للاهتمام بقضيّة بيئيّة خطيرة تهدّد سلامة تراب الوطن؛ مثل دفن النّفايات النّوويّة.
وفي حالة الملكيّة الدّينيّة مثل دور العبادة والأماكن المقدّسة ينال المكان أهمّيّة كبيرة، تصل إلى حدّ القداسة؛ وعَبّرت اللّغة عن ذلك من خلال استخدام كلمة “تدنيس” بحمولتها الثّقيلة من الإدانة والاستنكار للتّعبير عن انتهاك هذه الملكيّة.
على الرغم من ذلك فمن السّهولة تغيير هذه العلاّقة إذا فقد المكان صفّة القداسة؛ وبإمكان السّلطة الدّينيّة والسّياسيّة إحداث ذلك. تعكس أنماطُ السّلوك البشريّ تجاه أنواع الملكيّة السّابقة هيمنةَ الذات الإنسانيّة على هويّة المكان، وسيادة النّظرة الوظيفيّة عليه.
إذ يفهم الإنسان المكان في حضوره الشّخصيّ، وينظر إليه بوصفه مجالًا لنشاطه، فتظلّ نظرته قاصرةٌ على الحدود الأكثر مباشرةً. فالإنسان قد لا يُلوّث منزله، لكنّه يُلوّث شارعه، وربمّا لا يُلوّث الأخير لكنه لن يبالي بنظافة الحيّ السّكنيّ الّذي يعيش فيه. فكلّما كانت البيئة أكثر قربًا من الحضور الشّخصيّ للإنسان زاد حفاظًا عليها.
يؤكّد ما سبق استحالة تأسيس وعي بالبيئة بوصفه مكانًا استنادًا إلى مفهوم الملكيّة، حتّى وفقًا للرّؤية الدّينيّة عن استخلاف الإنسان في الأرض، الّتي تقول إنَّ الإنسان مُكلّفٌ بمهمّة إعمار الأرض أو صيانة المكان الّذي يحيا فيه؛ لتوفير بيئة محفزة لتحقيق فعل العبادة. ورغم ذلك لا نجد الفرد المؤمن حريصًا على صيانة البيئة الّتي خلقها الله بوصفه مكانًا لإقامته، ولم تنجح النّصوص والمـُدوّنات الدّينيّة في تأسيس أخلاق بيئيّة فعّالةٍ، تؤثر على سلوك المؤمنين بها.
ويبدو جليًّا أنّ رؤية الإنسان للمكان عبر مفهوم الملكيّة لا تعني الحفاظ على ماهية ما هو مُمْتلكٌ، بقدر ما تَعْني الحفاظ على الصّورة الّتي يراها الإنسان في الممتلكات، هذا من ناحيةٍ، والأخرى أنّ مفهوم الامتلاك ذاته لا يتطلّب سوى شروط صلاحية فعل الامتلاك، وممارسة سلطة التّملّك؛ إذ إنّ ملكيّة المنزل لا تعني سوى ملكيّة مفهوم المنزل؛ الّذي يؤدّي دورًا وظيفيًّا لخدمة الإنسان، ولا يمتدّ ذلك إلى الاهتمام بالمكان الّذي يَشغله في البيئة؛ فلا اهتمامٌ بتصريف المخلّفات بآليّةٍ تحافظ على البيئة عند الأغلبية.
يتكرّر السّلوك ذاته مع أنواع الملكيّة الأُخر؛ فالحفاظ على المسجد بوصفه مكانًا من التّدنيس لا تمتدّ إلى حمايته من التّلوّث الّذي يملأ باحته. كما أنّ ملكيّة أرض الوطن لم تقف حاجزًا أمام إجراء تجارب نوويّة تحت سطحها، أو دفن نفاياتٍ نوويّةٍ فيها؛ الأمر الّذي يبرهن على أنّ الملكيّة بوصفها مفهومًا لم تنجح في تأسيس علاقة متكافئة بين الإنسان والبيئة.
تلك الحقيقة الّتي كشفت جائحة فيروس كورونا عنها؛ فوفقًا للتفسيرات الأولية عن انتقال الفيروس عبر وسيط من الحيوانات البرّيّة، يتجلّى الاقتران بين فعلِ الهيمنة البشريّ، والخللِ في العلاقة مع البيئة الكبرى؛ إذ لم يحترم الإنسان وجود الأنواع الأُخر بوصفهم شركاءَ في الحياة، وراح يستغلّ كلّ ما تقع عليه يداه، فكان انتقال فيروس كورونا إليه من هذه الثّغرة.
ما المكان؟
يتطلّب تأسيس علاقة فعّالة بين الإنسان والمكان أن نحدّد تعريف المكان وفقًا لهويته، لا وفقًا للوظيفة الّتي أسبغها عليه الإنسان. الأمر الّذي سيتبعه تأسيس وعي إنسانيّ بهويّة المكان، ينتج عنه علاقة عمليّةٍ تراعي هذه الهويّة.
ينحو ذلك إلى بحث مكوّنات البيئة، وهويّة المكان من منظور دوائر أُخر غير الإنسان. بدايةً تتحدّد البيئة بالحيّز المكانيّ لكوكب الأرض، وسمته الأساسيّة هي نشوء الحياة عليه؛ ممّا يعني أنّ الحياة هويّة مميّزة لكوكب الأرض، وهي الّتي يندرج الإنسان تحتها.
من تلك الهويّة العامّة تنبثق عدّة هويّاتٍ فرعيّةٍ عن المكان، يمكن اعتبار كلٍّ منها طبقةً، وهي:
الطّبقة الأولى: تُمثّل كوكب الأرض بوصفه بيئةً شهدت نشوء الحياة، الّتي أصبحت الهويّة الأساسيّة للكوكب بكونه مكانًا. وأصبح الحفاظ عليها مطلبًا ضروريًّا لبقاء هذه الهويّة. وبدون هذا الفهم تفقد قضايا عديدة أهمّيّتها؛ فمثلًا تستمد قضيّة الاحتباس الحراري هويّتها من الخطورة الّتي تُمثّلها على الكائنات والبيئات الحيّة كافّةً.
وبناءً على ذلك يُعرّف التّلوّث على أنّه فعلٌ يمثّل تهديدًا للحياة. إنّ إجراء تجربة نوويّة تحت سطح مياه البحار تُعد تهديدًا للحياة؛ لذلك عُدَّت قضيّةً بيئيّةً؛ لكنّ الانفجارات النّوويّة الدّائمة الّتي يشهدها نجم الشّمس لا تُعد قضيّة بيئيةً؛ لأنها جزءٌ من هويّة الشّمس بكونها نجمًا، ولأنّها جزءٌ من هويّة الكون الّذي نحدّده بما هو قائمٌ.
فهل يمّكنّ تأسيس وعي مكانيّ لما هو خارج كوكب الأرض؟
ليس هناك أهمّيّةٌ، أو مقدرةٌ لتأسيس تصوّر عن بيئة خارج كوكبنا؛ إلّا إذا وُجدت كينونة الحياة في أيّ كوكبٍ أو كويكبٍ أو جرم سماويّ؛ عندها سيتطلّب الأمر تأسيس وعي بيئيّ بالمكان انطلاقًا من مفهوم الحياة الّتي يحويها.
يظهر سؤال أخلاقيّ هنا، وهو، إذا وُجدت كائنات عاقلة في كوكب آخر غير الأرض، قبل أنْ تنشأ الحياة عليه بملايين السّنين، وأسّست لها وعيًا انطلاقًا من مفهوم الحياة؛ ممّا يعني أنّ الأرض بكونه مكانًا لا هويّةَ له، فهل يعد سلوكها بإجراء تجارب نوويّة على كوكب الأرض أخلاقيًّا؟ وهو الكوكب الّذي سيشهد حياةً فيما بعد؟
يبيّن هذا السّؤال أوجه النّقص في طرح مفهوم الحياة بوصفه محددًا للمكان. فما الّذي يضمن ألّا تنشأ الحياة في أيّ مكانٍ؟ الأمر الّذي يعني ألّا نتدخّل بالتّأثير فيما هو خارج الكوكب. إنّ فعل الحياة هو محض صدفةٍ واحتمالات؛ فمتى ما توافرت ظروفٌ مشابهةٌ لنشوء الحياة ستنشأ في المكان المناسب.
لا بديل عن تبنيّ مفهوم الحياة بوصفه محددًا لهويّة الكوكب بكونه مكانًا، مع التّأكيد على أنّ الإنسان غير مدعوٍّ للمشاركة في العشوائيّة الكونية. إنّ محاولة إسباغ التّنظيم وفق المحدّدات البشريّة على الكون هو دربٌ من العبث؛ وعودةٌ إلى علاقة التّملّك والاستحواذ.
يتمثّل الموقف الأخلاقيّ تجاه الكون في الحرص على عدم تلويث بيئة الأجسام الكونيّة أو تغييرها. وهو ما يُراعى في رحلات الفضاء؛ عندما يتم التّأكيد على تعقيم المركبة والمعدّات، كي لا ينقل البشر الكائنات الدّقيقة إلى بيئات أخر؛ ممّا قد يُشكّل تدخلًا على احتماليّة النّشوء الذّاتيّ للحياة في كوكبٍ آخر.
تشمل الطّبقة الأولى الغلاف الجوّيّ، والتّربة، والماء، والمناخ، والتّضاريس … إلخ؛ أيّ كلّ ما هو شرطٌ ضروريٌّ لاستمرار الحياة، وبناءً على ذلك يمكن تأسيس وعي بيئيّ بكوكب الأرض بوصفه مكانًا هويّته الحياة. ويصبح التّلوّث هو كلّ ما يُسبّب ضررًا للحياة في أشكالها جميعها، ومن هنا يُصبح الانبعاث الحراريّ قضيّةً محوريّة يجب معالجتها، حفاظًا على سلامة الغلاف الجوّيّ، الّذي يحمي الحياة من مخاطر الظّروف الكونيّة غير المواتية.
لا تكفي هذه الطّبقة لصيانة هويّة الكوكب؛ إذ بالإمكان حماية الغلاف الجوّيّ مع القضاء على إحدى البيئات الحيويّة الفرعيّة؛ مثل القضاء على بحيرةٍ ما. ربّما ينتج عن ذلك تأثيراتٌ ضارّةٌ لكنّها ستكون ضئيلة، ويمكن للكوكب استيعابها. ولمعالجة هذا النّقص تظهر طبقةٌ ثانيةٌ من الوعي بالمكان.
تُمثّل البيئاتُ الجغرافيّة هذه الطّبقةَ الجديدة، والتي تسبّبت حالةُ الاستقرار فيها في تحفيز نشوء الحياة؛ ممّا يجعل الحفاظ على وضعها الأصليّ مطلبًا للحفاظ على هويّة كوكب الأرض؛ ولذلك يُعد أيّ تغيّر في البيئات الجغرافيّة كالجبال، والمنخفضات، وتوازن سطح الأرض تلوّثًا، إذا نتج عنه تغيّر في استقرار الكوكب.
تُفيد هذه الطّبقة بوصفها ضميرًا أخلاقيًّا عند إنشاء مشروعات كبرى لها تأثيرٌ على البيئات الجغرافيّة؛ مثل إنشاء السّدود النّهريّة، والبحيرات الصّناعيّة الكبرى، وفي هذه الحالة يجب ضمان عدم تأثّر المحيط الجغرافيّ بمحتوياته الحيويّة بهذه المشاريع.
يتفرّع عمّا سبق طبقة ثالثة، وهي الوعي بالمكان انطلاقًا من البيئات الحيّة، الّتي يظهر فيها فعل الحياة بشكل مباشر.
تمتاز الأنظمة البيئيّة الحيّة بوجود توازن طبيعيّ بين أعضاء مجموعاتها، هذا التّوازن يحكم علاقتها بالمكان، ويحافظ على الشّروط الحيويّة لها. ويتّسم التّوازن الطّبيعيّ بالمنطق؛ فأعداد الكائنات الحيّة تتوقّف على كميّة الغذاء، ويُعالَج الخلل على حساب أعداد النّوع الحيوانيّ، وهو ما لم يعد مقبولًا من الإنسان، الّذي خرج بعقله عن سيطرة التّوازن الطّبيعيّ، فربّما تدفعه الشّفقة على بيئة حيويّة للتّدخّل لإطفاء حريق نشب بشكل طبيعيّ في بيئة أشجار عجوز.
أمّا في الأنظمة البيئيّة فيختلف مفهوم العشوائيّة عن الأنظمة الإنسانيّة؛ فحدوث حريقٍ في غابة، أو نفوق حيواناتٍ في فصل جفاف الأمطار، أو الصّراع بين الحيوانات في موسم التّزاوج، بما ينتج عنها من فناء آلاف الأفراد الحيّة، ودمار بيئاتهم، لا يعد بمنظور التّوازن الطّبيعيّ كارثةً؛ بل سلوك طبيعيّ في نظامٍ يُصحّح ذاته بذاته.
على مدى ما يزيد عن ملياري عام نجحت الحياة في البقاء؛ من خلال آليّات التّوازن والتّطوّر والتّكيّف والإحلال وغيرها. إنّ الحياة لا تُحابي كائنًا بعينه، ولا ترجو من أيّهم هدفًا، إنّما غايتها استمرار كينونتها.
فهل يستطيع النّظام البيئيّ تَحمُّل التّدخّلات البشريّة؟
قطعًا لا، سينهار النّظام الحيويّ أمام التّدخّلات الإنسانيّة غير المحسوبة. فشتّان بين عشوائيّةِ الحياة الّتي تحمل في طيّاتها المزيد من الاحتمالات والتجلّيات الحيويّة، والعشوائيّةِ الإنسانيّة الّتي تقضي على الظّروف المواتية لاستمرار الحياة ذاتها.
فموت غابة نتيجةً لموجات الحر قد يُدمّر بيئة حيويّة، إلّا أنّها تُفسح مكانًا لنشوء أخرى أكثر حيويّةً. أمّا تدخّل الإنسان بالتّنقيب عن النّفط في إحدى الغابات، فلن يدمّر البيئة الحيويّة فقط؛ بل سيقضى على احتمال تعافي النّظام البيئيّ لملايين الأعوام.
إنّ وجود حيّز مكانيّ بعيدًا عن التّدخّلات البشريّة المباشرة هو الشّكل الأمثل للأنظمة البيئيّة، مع الأخذ في الاعتبار التّأثيرات غير المباشرة للسّلوك البشريّ؛ مثل تلويث مصادر المياه، أو تسميم الهواء.
شهدت مدينة البندقيّة في إيطاليا، بعد تفشّي وباء كورونا، حالة فريدة لقدرة الطّبيعة على التعافي والتّجدّد شريطة غياب التّدخّل البشريّ، أو تقلّصه إلى تفاعل محدود مثل بقيّة الكائنات. استعادت القنوات المائيّة في المدينة نقاءها، بعد توقّف نشاط السياحة، والنّقل، وصرف مخلّفات الأنشطة الاقتصاديّة؛ ممّا أدّى إلى عودة الحياة البحريّة إلى تلك القنوات، وشُوهدت الدّلافين والأسماك في هذه القنوات، بعد 60 عامًا من تدمير بيئاتها بفعل النّشاط الإنسانيّ.
عمليًّا بات الكوكب خاضعًا لهيمنة الإنسان بشكل مباشر أو غير مباشر؛ وأصبح الإنسان بالنّسبة إلى الكوكب أشبه بالفيروس بالنّسبة إلى الجسد البشريّ. فبات علينا تأسيس طبقة رابعةٍ من الوعي بالمكان؛ تختصّ بالكائن الفعّال وهو الإنسان.
تعبّر هذه الطّبقة عن المكان المناسب للإنسان بوصفه كائنًا حيًّا، غدا خارجًا عن سلطان التّوازن الطّبيعيّ بامتلاك العقل، ممّا يُحتم عليه خلق بديل لذلك؛ لعلاج الفوضى المدمّرة الّتي يثيرها وجوده.
لم يعد أمام الإنسان من خيار إلّا أنْ يكون عاقلًا بحقٍّ، وأن يحيا وفق ذلك، غير هذا سيكون الفيروس المدمّر للحياة. لم يستطع الإنسان أنّ يُدرك مساوئ مركزيّته المـُفرِطة إلّا في القرن المنصرم، وهي أزمةٌ لم تواجه بقيّة الكائنات الأُخر، لعدم تمتّعها بإدراك فردّي للذوات، فظلّت مضبوطةً بقوانين البقاء والتّطوّر، ومتكيّفة مع بيئاتها.
تحظى كلّ ذات مفردة في البيئة الإنسانيّة بوجود مستقلّ، ترتّب عليه أنْ أصبحت ذات الفرد مُقدّمةً على مجمل الحياة، وهو ما يُعبّر عنه بيت شعرٍ لأبي فراس الحمداني: “مُعللّتي بالوصل والموت دونه .. إذا مِتّ ظمآنًا فلا نزل الْقَطرُ”.
امتدّت العلاقة الاستغلالية للمكان على يد البشريّة لآلاف الأعوام، وطالت الكائنات الحيّة، فتأثّر توازنها بتدخّله، وعُد ذلك الانتصار الأكبر للبشريّة؛ حتّى أنّ التّأريخ للحضارات ارتبط بنظريّة قهر سلطان الطّبيعة على الإنسان.
يقول اشفيتسر: “الكفاح في الوجود مُزدوجٌ: فيجب أنّ يؤكّد الإنسان نفسه في الطّبيعة، وضد الطّبيعة”. ثمّ يُضيف: “وتحقيق الكفاح يتحقّق بتقوية سيادة العقل على الطّبيعة الخارجية، والطّبيعة الإنسانيّة، وجعله يخدم الأهداف المطلوبة بكلّ دقّة ممكنةٍ”.
مع سلطان العقل نحا الإنسان إلى السّيطرة على المكان، وترويض الطّبيعة بمجابهة التّحدّيات كما يرى أرنولد توينبي في نظريّته عن التحدي والاستجابة، كمُحفز لنشوء الحضارات. قبل الحضارات عاش البشر عشرات آلاف الأعوام في قطعان مثل بقيّة الحيوانات، خضعوا لسلطان التّوازن الطّبيعيّ، إلّا أنّهم بسلاح العقل تفوّقوا على التّوازن ذاته. منذ تلك اللّحظة تكاثر البشر، ونشأت الحضارة، وأصبحت العلاقة بالتّوازن الطّبيعيّ عكسيّة؛ كلّما زاد التّطوّر البشريّ ضعفَ سلطان الطّبيعة، ولم يعد باقيًا من ذلك السّلطان سوى المرض، والّذي يتقلّص بشكل زمني.
بات الحديث عن مكان ملائم للجنس البشريّ اليوم غير عمليٍّ، نتيجة آلاف الأعوام من الخروج عن طوع التّوازن الطّبيعيّ، دون استبدال توازن من إبداع العقل بذلك؛ ممّا خلق أزمةً ترتبط بعدد الكائن البشريّ، الّذي فاق قدرة البيئة الحيويّة على الاستيعاب، دون وجود آليّة لإصلاح الخلل بيدها، بعد قهر سلطانها بيد العقل. ولم يكن انتصار العقل على التّوازن الطّبيعيّ في صالح البشر على طول الخطّ، فدفع الإنسان ثمن هيمنته اللانهائيّة، بأن أصبح كائنًا عليلًا، فاقدًا لهويّته الحيويّة، وهو ما نراه في اللاسواء المنتشر بين أفراد النّوع البشريّ، مقارنةً بحيويّة الأنواع الأُخر.
يستتبع ذلك حاجة ملحة إلى ربط عدد النّوع بمبدأ التّوازن الطّبيعيّ، لا مبدأ توفير الغذاء فقط، الّذي يضمن بقاء أفراد النّوع على الحياة، دون اهتمامٍ بنوعيّة هذه الحياة وجودتها. بجانب ذلك يتداخل الوجود البشريّ مع الطّبيعة في علاقات عديدة، يترتّب عليها العديد من الآثار، تطال البيئات الحيويّة، والجغرافيّة، والكوكب ذاته، وهي أمور يجب مراعاتها في تحديد علاقة الإنسان بالبيئة.
ويتطلب تحقيق ذلك التخلي عن مركزيّة الإنسان، وهو ما لم يُدركه المنشغلون بقضايا البيئة؛ فالخوف على صحّة البشر، والدّعوة إلى الزّراعة المستدامة، ومعالجة قضايا العالم النّامي دون ربط ذلك بحاكميّة التّوازن الطّبيعيّ هو محض أنانيّة بشريّةٍ، وتسخير للمكان. على الإنسان أنّ يُحكّم العقل في إدارة حياته، وعلاقاته مع البيئات الأُخر، ومعالجة الآثار المترتبة على وجوده.
أحدُ هذه الآثار هو وجود الكائنات الحيّة داخل المكان الإنسانيّ؛ مثل الحيوانات المستأنسة أو الضّالة، فوجودها في بيئة البشر أخرجها من دائرة التّوازن، فزادت أعدادها بشكل كبير، دون زيادةٍ في الفرائس، حتّى أنّها فقدت غريزة الصّيد، وتحوّلت إلى طفيليّات تعيش على مُخلّفات البشر، وغدت بلا حقٍّ في مكان حيويّ، وباتت تعاني انحطاطًا حيويًّا، مقارنةً بمثيلاتها في بيئاتها الطّبيعيّة.
يؤكّد ما سبق على ضرورة خلق نظام توازن طبيعيّ قائم على العقل، يكون مجال نشاطه في البيئات الحيويّة الّتي يُهيمن عليها الإنسان بشكل مباشر، دون ذلك لن يختلف سلوك البشر عن الفيروس. فلا يُمكن تأسيس الوعي بالبيئة بوصفها مكانًا وفق مفهوم الدّين. بالمثل لا يُمكن تأسيس العلاقة وفق أفكار عصر التّنوير والعقلانيّة الغربيّة، على الرّغم من تنحيتها للإله، وإعلائها من قيمة الأرض، وذلك لاستبدالها بما سبق مركزيّةً إنسانيّةً أشدّ غلوًّا.
فهل هناك حلّ لعلاقتنا المأزومة بالمكان؟
يكمن الحلّ في الإدارة الرّشيدة لموارد الكوكب، مع إعادة تحديد مفهوم الاستهلاك؛ فيحصل الكائن على غذائه وفقًا لحاجته الطّبيعيّة؛ لا تبعًا لأنماط ثقافيّة، وبشكل لا يأتي على حساب البيئات الحيّة الأُخر، وتبقى الحاجة إلى إعادة هندسة البشر بوصفه جنسًا واحدًا، وصولًا إلى العدد المناسب للبيئة الحيويّة.
يدخل الطّرح السّابق بكونه حلًّا في باب المستحيلات حتّى اليوم؛ فالحديث عن تعاون بشريّ هو حلمٌ ما زال تحقيقه بعيد المنال. إنّ الرّهان على التّعاون البشريّ الطوعيّ هو رهانٌ على الجواد الخاسر.
لذلك من المتوقّع أن تستمرّ العلاقة المأزومة مع المكان، بما يجلب من أخطار عظيمة على الكائنات الحيّة جميعها؛ ويهدّد التّنوّع الحاليّ لها، دون أنّ يهدّد الحياة ذاتها؛ الّتي ستجد طريقها للتّكيّف والتّطوّر ولو على حساب الكائنات الحاليّة، بما فيها الإنسان نفسه، وما وباء فيروس كورونا عمّا سبق ببعيد؛ إذ إنه نتاج طبيعيّ للرّغبة المحمومة للكائن البشريّ في الهيمنة على الوجود.