“…الإنسان الذي يعتبر حياته خالية من المعنى ليس تعيسًا وحسب، بل بالكاد يصلح للحياة”.
ألبرت أينشتاين
تحتاج الحيوانات الأخرى إلى الغذاء الكافي والمأوى من أجل البقاء على قيد الحياة. نحن بحاجة إلى هذه الأشياء أيضًا، لكننا نحتاج كذلك إلى معنى. نحتاج أن نشعر كما لو أن حياتنا تستحق العيش. ما نتوق إليه ليس معرفة معنى الحياة، أو الغرض من وجود الكون (إذا كان هنالك غرض أصلًا)، بل معنى حياتنا الخاصة “سبب وجودنا”.
“…كل ما في الأمر هو العثور على حقيقة تكون حقيقية بالنسبة لي، العثور على الفكرة التي أكون على استعداد للعيش والموت في سبيلها”. سورين كيركيجارد
عمل فيكتور فرانكل، وهو معالج نفسي في القرن العشرين وأحد الناجين من معسكرات الاعتقال ومؤلف غزير الإنتاج، على بناء أعماله ومحورتها حول فكرة تقول “إن بحث الإنسان عن المعنى لهو الحافز الأساسي لحياته”. (فيكتور فرانكل).
وكحافز أساسي، ينبغي أن يتحقق الوصول في عملية البحث عن المعنى، وذلك من أجل سلامتنا النفسية. وإذا فشلنا في العثور على المعنى الذي نبحث عنه، فسيتبع ذلك اضطرابات نفسية تأتي على شكل اللامبالاة والاكتئاب وحتى الغضب. ويعتبر هذا الفشل في العثور على معنى، والاضطراب النفسي الذي يتبعه، أمرًا بارزًا في المجتمع الحديث. لدى الكثير منا اليوم وسائل للعيش، ولكن ليس لديهم شيء يعيشون من أجله:
يزداد عدد المرضى الذين يتجمهرون في عيادتنا وفي غرف الاستشارة خاصتنا، والذين يشتكون من فراغٍ داخلي؛ من شعور بانعدام تام ونهائي لمعنى حياتهم. لقد صِغت مصطلح “العصاب معنويّ المنشأ nothingness neurosis” لوصف هذه الحالة. (الإنسان يبحث عن المعنى – فيكتور فرانكل).
الإنسان يبحث عن المعنى
يعتبر عمل فرانكل الكلاسيكي، الإنسان يبحث عن المعنى، بمثابة تأمل في أهمّية إيجاد معنى في الحياة، والمسارات التي يُمكننا اتّباعها للعثور عليه. وفي مذكراته عن السنوات الثلاث التي قضاها في مختلف معسكرات الاعتقال النازية، اختبر فرانكل بشكل مباشر كيف يمكن لوجود المعنى أو نقصانه أن يكون، في ظروف معينة، هو -حرفيًا- الفرق بين الحياة والموت:
“… ماذا يحدث إن عاد الإنسان من سعيه الحثيث نحو المعنى خالي الوفاض؟ قد يؤدي هذا إلى حالة قاتلة. دعونا نتذكر، على سبيل المثال، ما حدث في بعض الأحيان في مواقف قاسية مثل معسكرات أسرى الحرب أو معسكرات الاعتقال… وكما أخبرني جنود أمريكيون؛ فهنالك نمط سلوكي يتبلور أشاروا إليه بمسمّى “داء الاستسلام give-up-itis[1]“. وفي معسكرات الاعتقال، كان هذا السلوك موازيا لسلوك أولئك الذين رفضوا في صباح أحد الأيام، عند الساعة الخامسة، النهوض والذهاب للعمل، وبدلا من ذلك، بقوا في الكوخ، مستلقين على القش المبلل بالبول والبراز. لم يكن لأي شيء -لا التحذيرات والتهديدات- أن يتمكن من تحفيزهم على تغيير رأيهم. ثم حدث شيء نمطيّ: أخرجوا سيجارة من أعماق جيب عميق كانوا قد خبّئوها فيه، وبدأوا في التدخين. في تلك اللحظة، علِمنا أننا سنشاهدهم خلال الثماني وأربعين ساعة القادمة، أو نحوها، وهم يحتضرون. كان سعيهم نحو المعنى قد انطفأ، وبالتالي حلّ محله مباشرة البحث عن المتعة الفورية.” (الإنسان يبحث عن المعنى – فيكتور فرانكل).
ومع خضوعه لمصاعب بالغة القسوة – جسدية ونفسية وعاطفية وروحية- داخل معسكر الاعتقال، كان فرانكل يسير، بشكل يومي، على خيط واهن بين الحياة والموت، وقد أجبره ذلك على البحث بشكل يائس عن مصادر للمعنى من شأنها أن تمنحه سببًا للمواصلة والمضي قدمًا والاستمرار في المقاومة وقمع الرغبة الملحة في الاستلقاء والاستسلام ببساطة.
قاده بحثه اليائس إلى اكتشاف ثلاثة طرق مختلفة للمعنى، والتي استمد منها الدعم، لا ليبقى على قيد الحياة فقط، بل ليستقيم كذلك روحيًا وأخلاقيًا خلال الثلاث سنوات التي قضاها على شفا حفرةٍ من الموت.
تُشكّل هذه المسارات الثلاثة للمعنى أساسًا للعلاج بالمعنى logotherapy، وهي مدرسة للعلاج النفسي أسسها فرانكل بعد تحريره. ووفقا لفرانكل، يمكننا أن نجد المعنى عن طريق:
” 1. الانخراط في العمل أو فعل الخير. 2. تجربة شيء ما أو العثور على شخص ما. 3. الموقف الذي نتخذه تجاه المعاناة التي لا مفرّ منها.” (الإنسان يبحث عن المعنى – فيكتور فرانكل).
- إيجاد معنى في العمل الإبداعي.
عندما نكتشف أو نُنمّي شغفًا تجاه مشروع يتطلّب وقتًا وجهدًا إبداعيًا لتحقيقه، فإننا نوجه عقولنا نحو المعنى. فمع مواجهتنا لكل يوم بشعورٍ من الإلحاح البهيج؛ نبحث بشكل غريزي عن التحفيز والإلهام لمساعدتنا على المضي قدما نحو تحقيق هدفنا، والشروع في إيجاد معنى في الأشياء والأفكار التي نبذناها في السابق واعتبرناها تافهة. عندما نوجّه أنفسنا صوب تحقيق هدفٍ مستقبلي نهتم بشأنه اهتمامًا عميقًا، لن نجد الحياة مليئة بمعنى أكثر فحسب، بل سنطوّر كذلك الحافز الذي يجعلنا نتحمّل، بكل شجاعة، المعاناة والمصاعب الحاليّة.
فحتى في البيئة القاسية لمعسكر الاعتقال، وجد فرانكل قوةً في التفكير في مستقبله كطبيبٍ نفسي، حيث كتب أنه في أحد لحظاته العصيبة على نحوٍ خاص قد بدأ يتخيل نفسه في لحظةٍ ما في المستقبل وهو يلقي محاضرة حول “علم نفس معسكر الاعتقال”. لقد ساعده ذلك في النظر إلى معاناته الحالية على أنّها ذات معنى في ضوء بعض الأهداف المهمة في المستقبل، كما منحه القوّة لتحمل المصاعب التي أُجبر على مواجهتها.
“إنّ أيّ محاولةٍ لمحاربة التأثير النفسي للمخيم على السجين … كانت يجب أن تهدف إلى إعطائه القوة الداخلية من خلال توجيهه ولفت انتباهه نحو هدفٍ مستقبلي يمكنه أن يتطلّع إليه. كان بعض السجناء قد حاولوا، بشكل غريزي، العثور على واحد من تلقاء أنفسهم. إنّها ميزة يختصّ بها الإنسان؛ وهي أنّه لا يستطيع العيش إلا من خلال النظر إلى المستقبل؛ من منظور الأبدية Sub specie aeternitatis. وهذا هو خلاصُه في أصعب لحظات وجوده، على الرغم من أنه في بعض الأحيان يضطر إلى إجبار ذهنه على إنجاز العمل.” (الإنسان يبحث عن المعنى – فيكتور فرانكل).
- إيجاد معنى في الحب
عندما ننخرط في علاقة حقيقية وأصيلة مع إنسانٍ آخر، ونحب هذا الشخص بطريقة غير أنانية، يصبح بإمكاننا استخدام حبّنا لإيجاد القوة والمعنى، حتى في الساعات العصيبة.
وفي إحدى اللحظات الصعبة على نحوٍ خاص، حيث كان مبّللًا، ويشعر بالبرد والجوع والضعف، ويقوم بعمل يدوي يقصم الظهر، بينما كان يتعرض للجلد والصّياح، روى فرانكل حدوث ما لا يمكن تسميته إلا بتجربةٍ روحيّة، حفّزتها فكرة الحب الذي كان يشعر به تجاه زوجته:
“خطرت لي فكرة أصابتني بالذهول: للمرّة الأولى في حياتي أرى الحقيقة بصورتها المجرّدة، كما تغنّى بكتابتها كثيرٌ من الشعراء، وكما وصفها الكثير من المفكرين بالحكمة المُطلقة. وهذه الحقيقة هي أنّ الحب هو أعلى وأسمى هدف يمكن للإنسان أن يطمح إليه. ثمّ قبضّتُ على معنى السّر الأعظم الذي تحدث عنه الشعر والفكر والعقائد الإنسانيّة: إن خلاص المرء يكون من خلال الحب، وفي الحب. لقد فهمت كيف لرجلٍ لم يتبقَ له شيء في العالم ما زال يعرف معنى النعيم، حتى وإن كان للحظةٍ وجيزة، من خلال التأمّل في محبوبه.” (الإنسان يبحث عن المعنى – فيكتور فرانكل).
- إيجاد معنى في المعاناة
ماذا يحدث إذا وجدنا أنفسنا في موقفٍ تكون المعاناة فيه أمرًا لا مفرّ منه؟ هل يتسبّب وجود معاناة عميقة ومحتومة في جعل حياتنا بلا معنى؟ ونظرًا لأنّ المعاناة أمرٌ لا مفرّ منه في الحياة، يجادل فرانكل قائلًا: “إن كان هنالك من معنى في الحياة على الإطلاق، فلا بدّ من وجود معنى في المعاناة.” إذا تمكّنا من التغلب على مشاعر الغضب والحزن التي نشعر بها نتيجة اضطرارنا إلى تحمّل الألم العميق والمعاناة، فسنتمكن من تحويل أنفسنا، إذ ليس هنالك دافعٌ أكبر للتغيير من وجود معاناة عميقة ودائمة:
“علينا ألّا ننسى أبدًا أننا قد نجد أيضًا معنى في الحياة حتى عندما نواجه وضعًا ميؤوسًا منه؛ عندما نواجه مصيرًا لا يمكننا تغييره. لأن ما يهمّ حينها هو أن نشهد الإمكانات البشرية الفريدة في أفضل حالاتها، وهي تحويل مأساة شخصية إلى انتصار؛ تحويل مأزق الفرد إلى إنجازٍ إنسانيّ. إذا لم نعد قادرين على تغيير حالةٍ ما -فكر مثلًا في مرض عضال لا يمكن الشفاء منه كالسرطان- نصبح حينها أمام تحدّي تغيير أنفسنا.” (الإنسان يبحث عن المعنى – فيكتور فرانكل).
معنى شخصيّ للحياة
على الرغم من أنّ بإمكاننا تلقّي بعض التوجيه من أولئك الذين تأمّلوا في الحاجة الإنسانية للمعنى، إلا أن علينا في نهاية المطاف إجراء هذا البحث بمفردنا، فكون المرء منّا فردًا مميزًا، وظاهرة لا مثيل لها في الكون، يحتّم وجود معنى فريد له، معنى يتناسب مع فردانيّتنا وأهدافنا واهتماماتنا في الحياة:
“لا ينبغي للمرء البحث عن مجرّد للحياة، فلكل شخص نداؤه ومهمّته الخاصة والمحدّدة في الحياة، والمتمثّلة في الاضطلاع بمهمّةٍ ملموسة بحاجة إلى التحقيق. ولهذا، لا يمكن استبداله، ولا يمكن لحياته أن تتكرّر، وهذا ما يجعل مهمّة كل شخص فريدة من نوعها، كفرادة فرصته المخصّصة له لتنفيذها.” (الإنسان يبحث عن المعنى – فيكتور فرانكل).
[1] أو ما يسمى بالموت النفسي (يقرر الشخص الاستسلام والتخلي عن الحياة، ويموت). المترجمة.