من الأمور المستقرة في الأدبيات التي تؤرخ لحركة ما بعد الحداثة أن المصطلح، فضلًا عن المفهوم، قد ظهر أول ما ظهر في ميدان التصميم المعماري، لوصف توجهًا بدأ يسود هذا الميدان ليحل تدريجيًا محل التوجه الحداثي، الذي اعتمد بصورة رئيسة على الوظيفية البحتة؛ تلك التي صاغها معماريين من أمثال لو كوربوزييه وأدولف لوس. ويوضح الناقد الماركسي فريدريك جيمسون هذا بقوله: “ليس هناك حقل من الحقول المعرفية شعر فيه رجاله بموت الحداثة، وأعلنوا عن ذلك بصورة حادة، مثلما حدث في فن العمارة”. كانت النظرية الحداثية المعمارية تعتمد في الأساس على فكرة الوظيفة دون الالتفات إلى الشكل؛ بمعنى أن يحقق البناء وظيفته على النحو الأكمل بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى تتعلق بشكل البناء ومكامن الجمال فيه. لذا جاءت المسطحات الحضرية التي أقامتها الحداثة، كما يقول جين جاكوبس J. Jacobs في دراسته موت المدن الأمريكية الكبرى وحياتها، نقية ومنظمة وناجحة من الناحية المادية، أما اجتماعيًا وروحانيًا وإنسانيًا فقد كانت أقرب إلى الموات.
بالإضافة إلى ما سبق، نستطيع أن نرصد، إبان العقدين الخامس والسادس من القرن العشرين، تفاقمًا داخل المجتمع المعماري للأزمة المرتبطة بالمعنى، مدفوعة بالإخفاقات الواقعية للحداثة في تحقيق أهدافها الاجتماعية؛ السامية والنبيلة. وقد أدت التطورات المتزامنة في ميادين الأنثروبولوجيا والفلسفة واللغويات إلى إعادة توجيه الاهتمام الأكاديمي نحو القدرة التعبيرية للهندسة المعمارية، بوصفها نوع من الإنتاج الثقافي والفني. من هنا عول بعض المنظرين على العمارة لإحداث نوع من التغيير داخل هذين المجالين؛ الثقافي والفني.
في هذا السياق نستطيع أن نتفهم تجربة المعماري الأمريكي الشهير فيليب جونسون (1906- 2005)، التي حاول من خلالها صياغة مفهوم جديد للتصميم المعماري كنوع من التمرد على النمط الوظيفي الحاد الذي ساد إبان الفترة الحديثة.
كان جونسون مديرًا لقسم الهندسة المعمارية في متحف الفن الحديث، وشغل المنصب من عام 1946 إلى عام 1954. وقد ساعدته هذه المكانة الوظيفية في الدفاع عن أسلوبه المعماري وتقديمه للعالم بالشكل المطلوب. تأثر جونسون على نحو كبير في بداية حياته المهنية بالمعماري الألماني المعاصر له ميس فان دي رو وقد صمما معًا مبنى سيجرام Seagram Building في 1958والمكون من 39 طابقًا. وكان هذا المبنى سببًا في تحول خارطة طريقه المهنية، حيث بدأ في تلقي المزيد من المشاريع بعد إتمامه.
قبل هذا لفت جونسون الأنظار إليه من خلال تصميمه الشهير للبيت الزجاجي، وهو التصميم الذي ارتبط باسمه على نحو كبير باعتباره أحد أثاره الخالدة. كان البيت الزجاجي، في نيو كانان، مبنى بسيطًا للغاية، حيث جاءت جدرانه الشفافة ومكوناته المتناغمة أقرب إلى المدرسة التعبيرية الألمانية؛ وبالتالي لا يمكن اعتباره نموذجًا أوليًا، استهدف منه جونسون كسر القوالب السائدة، بل كان تحية تقريبًا لمنزل فارنورث الذي صممه صديقه ميس فان دير روه. وفي الواقع لم يقم جونسون أبدًا بإخفاء حقيقة أنه استوحى تصميم البيت من عمل روه. غير أن البيت الزجاجي لم يكن مجرد تصميم معماري انتهى أمره بعد تشييده، بل ظلّ، حتى وفاة جونسون، موضعًا للتجريب والابتكار، ومناظرًا للمختبر التجريبي لدى العلماء، الذي لا يمكن الاستغناء عنه في تصميم تجاربهم. لهذا وصفه جونسون نفسه بأنه أشبه بـ”يوميات مهندس معماري غريب الأطوار”. فمثل اليوميات، يعكس “البيت الزجاجي” تغييرات جونسون الأسلوبية على مدى خمسة عقود من الممارسة، من الحداثة إلى الشكلية إلى ما بعد الحداثة وما بعدها.
وفي عام 1961 أصبح جونسون عضوًا مشاركًا في الأكاديمية الوطنية للتصميم. وقد استخدم جونسون أشكالًا منحنية وتصميمات ذات اقتباسات تاريخية في معرض فني اقيم في دومبارتون أوكس في واشنطن العاصمة في 1963. أما في العام 1978، فقد حصل على الميدالية الذهبية من منحه المعهد الأمريكي للمهندسين المعماريين، وهو أعلى وسام شرفي في المعهد، تكريمًا له ولأعماله الهندسية المبدعة. كما حصل على أول جائزة بريتزكر للهندسة المعمارية في عام 1979، التي غالبًا ما يشار إليها بجائزة نوبل للهندسة المعمارية.
وبالتعاون مع المؤرخ المعماري الأمريكي هينري رسيل هينشكوك، ألف جونسون كتابًا بعنوان الأسلوب العالمي في العمارة في الفترة من 1922 إلى 1932 “The International Style: Architecture Since 1922-1932” . وقد تضمن الكتاب المبادئ الجديدة التي دعى إلى تطبيقها جونسون في أوروبا والولايات الأمريكية المتحدة.
ينتقد جونسون في هذا الكتاب ما أسماه “البساطة الزائدة” في التصميم المعماري الحداثي واصفًا إياه بـ”النقيصة التكوينية” داعيًا إلى “إثراء الناتج المعمارى” ومبشرًا بميلاد مفاهيم نظرية جديدة، تخالف التوجهات المعمارية السابقة وتعارض تطبيقاتها البنائية المستقرة.
إن الأبنية الجديدة التي يدعو إليها جونسون لابد أن تشكل نوعًا من الانفتاح المتزايد على العالم الجديد في تنوعه واختلافه، ومن ثم فلا ضير مثلاً من مزج الأفكار المعمارية الجديدة مع الأشكال والرموز التقليدية الغابرة بهدف إحداث نوع من الصدمة والإدهاش، وربما المرح والتسلية للرائي. وهو ضرب من الإيمان بأن الجمال قد يتولد من التنافر، مثلما يتولد من الاتساق، ومن الفوضى مثلما يتولد من النظام. أما التعددية والصخب، الذي قد يأتي البناء مجسدًا لهما، فما هما إلا تعبير عن تعددية وصخب الأحداث التي بداخل جدران البنايات وفيما حولها. أو هما لون من حرية التعبير، التي تسمح لكل معماري أن يطرح أفكاره الخاصة دون الالتزام بقالب يحده أو نموذج يتمثله، وهو أمر لم يكن بمقدور المعماريين أن يفعلوه في السابق.
ربما كانت “الانتقائية” هي السمة الأبرز التي حاول أن يرسخها جونسون في معماره، وقد انتقدت هذه السمة بقوة لتعارضها مع التيار السائد آنذاك. وتشير الانتقائية، كما جسدتها أعمال جونسون، إلى “الجمع” و”المزج” بين العديد من “الطرز” و”الأساليب”، كما تعني “الانفتاح على الماضي” والحنين إليه أيضًا.
وقد تحول المبنى الذي صممه جونسون، مبنى مؤسسة At& t (مبنى سوني Sony الآن)، إلى مثال يستخدمه المعماريون باستمرار لشرح مفهوم “الانتقائية”، كما تتجلى في فن المعمار. إذ جمعت هذه البناية ما لم يكن من الممكن جمعه معماريًا من قبل. فهي ناطحة سحاب مبنية على الطراز الحداثي الوظيفي المتقشف الخالي من الزخارف والحليات التي لا وظيفة لها. فيما تعلو قمتها مقصورة مثلثة الشكل على الطراز القديم المميز للقرن السابع عشر، الذي يتسم بوفرة الزخارف والتفاصيل الشكلانية التي لا تخدم وظيفة بعينها سوى تحقيق المتعة الجمالية. أما بالنسبة لمدخلها فقد استلهمه جونسون من العمارة الكلاسيكية (خاصة عند كارل سكنكل) فالأقواس الدائرية ذات المقياس التذكاري، تستدعي لدى الرائي مفردًا مهمًا من مفردات العمارة الكلاسيكية. وبالإضافة لذلك يحقق المدخل العميق للمبنى الحماية من الظروف الجوية عند الخروج منه؛ وهنا يعود جونسون إلى النزعة الوظيفية الحداثية.
هذه الانتقائية، التي رسخها جونسون عبر معماره، أصبحت بمرور الوقت هي اللغة السائدة في العمارة ما بعد الحداثية، فأصبح من الطبيعي أن نجد بناية شديدة الحداثية محمولة على أعمدة بيزنطية أو رومانية موغلة في القدم. وهنا يكون البناء نوع من الانعكاس لعالم تعددي يسوده التشظي، عالم يستمع الفرد فيه إلى موسيقى الريجاي، ويشاهد فيه أفلام رعاة البقر، ويتناول الوجبات السريعة على الغداء، وطعامًا محليًا على العشاء، ويضع عطورًا باريسية في طوكيو ويرتدى أزياء “ريترو” في هونج كونج….إلخ.
لم يكن مبنى At& t هو الأول من نوعه الذي يجمع بين أساليب مختلفة في الهندسة المعمارية. ولكنه تحول بالتأكيد إلى مبنى أيقوني، بإعلانه ميلاد حقبة جديدة من التصميم المعماري؛ لقد دشن رسميًا ما بعد الحداثة ووضعها في قلب المشهد المعماري العالمي. حتى أن البعض قد اعتبره أهم تفصيلة معمارية ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين. ربما لهذا السبب كان لهذا المبنى تأثيرا طاغيًا داخل الثقافة الأمريكية، حتى قبل اكتماله. وفي عام 1979، قبل خمس سنوات كاملة من افتتاحه، ظهر فيليب جونسون على غلاف مجلة التايم وفي خلفيته نموذجًا للبناية. وبعدة طرق، جسدت هذه هذه الصورة نقطة تحول في العمارة الأمريكية التي تجاوزت التوجهات الأسلوبية والرسمية. وبشرت بولادة حقبة جديدة من العمارة.
بدأت أعمال جونسون بعد ذلك تنحو نحوًا أكثر طموحًا، حيث نرى ذلك بوضوح في الكنيسة البللورية بكاليفورنيا والمكتبة العامة ببوسطن، إضافة إلى تصاميمه الأخرى للمتنزهات والكنائس والمتاحف. ومنذ عام 1969 تبنى مجموعة من المعماريين، أشهرهم بيتر إيزنمان ومايكل جرافيز وتشارلز جواثمي وجون هيجرك وريتشارد ميير، ليطوروا من أسلوبهم ويصبحوا امتدادًا لمدرسته، وهو ما تحقق بالفعل. وقد أعلن جونسون تقاعده في العقد الأخير من القرن العشرين، مكرسًا وقته لمشاريعه الخاصة وعمله كمستشار بمكتب جون هنري بيرغي. وقد تمثلت أخر تصاميمه في مدرسة الفنون الجميلة الجديدة لكلية سيتون هول بجرينسبرج بنسلفانيا.