«ليست الفرجة مجرّد نتاج لتقنيات التعميم الواسع للصُّور فحسب، بل هي رؤية فِعلية للعالم» – جي دوبور
«لقد تلاشى العالم الواقعيّ، وحلّت محلّه علامات الواقعيّ، التي تمنح الوهم للعالم الحقيقيّ» – جون بودريار
«لذّة الماء على الشّفاه أكثر إمتاعاً مِن شربه» – ج. بودريار
إنّ مجتمع اليوم بوصفه مجتمعاً للفرجة: يُفضِّل الصورة على الشيء، النسخة على الأصل، التّمثيل على الواقع، المظهر على الوجود. وما هو مقدّس عنده ليس أكثر من الوهم، أمّا ما هو مدنّس فهو الحقيقة عينها. إنّه يقدّس الوهم على حساب تدنيس الحقيقة. بهذا المعنى تَكون: الفرجة مجتمعاً، والمجتمع فرجة. هذا هو مجتمع الفرجة.
في بداية هذا المقال المكثَّف، تجدر الإشارة إلى ضرورة إبعاد المعنى الكلاسيكي المتقادم لمفهوم المجتمع الذي هيمن على كل مِن الفكر الاجتماعي والفلسفة الاجتماعية (والسياسية)، على السُّوسيولوجيا الكلاسيكية والسوسيولوجيا الشمولية ((Le holisme، أو السوسيولوجيا الحتمية، بما فيها السوسيولوجيا المعاصرة منها، كما هيمنت على مختلف العلوم الاجتماعية والإنسانية بشكل عام. أيْ النّظر إلى المجتمع بوصفه وحدة كُلِّيَّة منْغلقة على ذاتها. ذلك الإبعاد الذي مِن شأنه أنْ يُقرِّبنا أكثر فأكثر مِن النّظر إلى المجتمع بوصفه علاقات اجتماعية، علاقات بين الفاعلين الاجتماعيينLes) (acteurs sociaux.
لا يمكننا اليوم الحديث عن المجتمع ككلّيّة مفقودة في ذاتها، سواء كموضوع للسّوسيولوجيا أو كبراديغم (Paradigme) للفهم السّوسيولوجيّ. والحال أنّ المجتمع نفسه: انفجر في العلاقات الاجتماعية. لهذا فلزاماً على السّوسيولوجيا اليوم أنْ تتخلَّى عن فكرة المجتمع هذه، الّتي هيمنت على الفكر الاجتماعي والسِّياسي من ناحية، وعلى السّوسيولوجيّات التُوتاليتاريّة (أو الشمولية) من ناحية ثانية، لتحلّ محلّها العلاقات الاجتماعية، ولا شيء غير العلاقات الاجتماعية. لا نتعامل مع فكرة المجتمع والحالة هذه إلاّ بوصفها وحدة متفجِّرة في العلاقات الاجتماعية نفسها، في تعدُّدها واختلافها، وفي انفصالها عن ذاتها. مثلها في ذلك مثل الأشكال الجديدة للمجتمعات الجديدة: مجتمع الفرجة La société du) (spectacle [1].
أمام ما شَهِده (ويَشْهده) العالم مِن تحوُّلات في الكيانات المجتمعية والسياسية، الاقتصادية والثقافية، التقنية والتيكنولوجية.. في الكيانات البشريّة برمّتها، مع اختلاف في وتيرتها وإيقاعاتها من سياق إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، انطلاقاً من نهاية الحرب العالمية الثانية، مروراً بتفكّك الاتحاد السوفيتي وهدم جدار برلين، وصولاً إلى الاقتصاد العولمي المتوحّش والثورة التكنولوجية الحالية. أمام كل هذه التغيّرات لم يكن أمام المفكِّرين، الفلاسفة منهم والسّوسيولوجيِّين، الأنثروبولوجيِّين منهم والمؤرِّخين… وغيرهم، إلاّ أنْ يبلوروا تصوُّرات ومفاهيم ونظريات لفهم ما يتخلَّل الكيانات المجتمعيَّة الجديدة مِن تغيُّرات، قذفت بالإنسان في قلب لحظة تاريخية ومجتمعية جديدة، إنّها لحظة المُعاصَرة أو بعبارة أخرى لحظة: العوالم المعاصرة) (Mondes contemporains.
هكذا، تعدَّدت الفُهوم بتعدِّد المفاهيم والتصوُّرات مِن ناحية، وبتعدِّد الأشكال المجتمعيَّة ذاتها مِن ناحية ثانية. فلم تنفكّ التّوصيفات والتّسميات عَن التوالد والتناسخ والتناسل: المجتمع الحضري la société urbaine) ( بالمعنى الذي نجده عند الفيلسوف هنري لوفيفر، بوصفه لحظة تاريخية راهنية مفرطة التعقيد ): L’urbain)، المجتمع ما بعد الصناعي (في مقابل المجتمع الصناعي)، المجتمع المبرمج(la société programmée) بالمعنى الذي نجده عند السوسيولوجي آلان تورين، مجتمع ما بعد الحداثة (في مقابل مجتمع الحداثة)/الحداثة المفرطة/ ما فوق الحداثة، مجتمع اللّا أمكنة(أو اللّا مجتمع)، المجتمع الشبكي(و المجتمع المنشبك)، مجتمع الاستهلاك، مجتمع المعلومات، المجتمع السائل..، إلخ. وغيرها مِن الأشكال المجتمعية الجديدة، التي تعبّر عن تعقيدات المعاصرة، ومراياها المنكسرة. فكلّ تسمية من تلك التسميات المتعدّدة، تعكس تصورات ومفاهيم ونظريات بعينها، تحاول بشكل أو بآخر، إنتاج وخلق وإبداع تأويلاتها الخاصة لحالة الكائن المعاصر.
يقدِّم مجتمع الفرجة، لصاحبه جي دوبور (Guy Debord)، نفسه متفرِّداً في هذا السياق. لأنّه والحالة هذه، يُجسِّد إلى حدّ ما مجمل الأشكال المجتمعيّة (والاجتماعيّة) الجديدة، وما يتنفّسه إنسان المعاصرة من تحوُّلات وتوترات. لماذا؟ يعود ذلك لاعتبارات عديدة. يَكمن أهمها في كون:
- مجتمع الفرجة مِن الكتابات المبكِّرة (1967)، تشخيصاً واستشرافاً، لمآلات الإنسان المعاصر والانفجارات المجتمعيّة المستحدثة والجديدة.
- مجتمع الفرجة ليس مجرّد توصيف أو تسمية، إنّه مفهوم مُحلّل Analyseur) (، ونظرية، بما يتضمّنه كمفهوم من تصوّرات، وما تتضمّنه كنظرية مِن أطاريح متعدّدة (105 أطروحة)، بتعدّد الكائن المُعاصر نفسه.
- تتمتَّع نظريَّتنا هذه، بأصالة نظريّة ومنهجيّة وتأويليّة متفرِّدة. لا يعود ذلك إلى إستراتيجيّة الكتابة فحسب، صياغة الأطروحات في شذرات بعينها، وإنّما إلى قراءة صاحبها، أو إعادة قراءته المغايرة للماركسيّات الكلاسيكية (والمستحدثة)، بل وقلبها رأساً على عقب، انطلاقا مِن المُمارسة (البراكسيس) الاجتماعيّة المُساِوقَة لعَصْرِه، التي ترمي بظِلاَلها على لحْظتنا التاريخيّة الّتي نعيشها.
وغيرها من الاعتبارات التي تجعل من مجتمع الفرجة، مجتمعاً للمجتمعات الجديدة، تفكُّراً وممارسة. لكن: ما هي أسس مجتمع الفرجة؟ ما معنى الفرجة، وما موقعها في المجتمع الّذي تُشكِّله؟ هل هي مجرّد صور انعكاسيّة للواقع المجتمعيّ، أم أنّها هي الواقع المجتمعيّ أو المجتمع نفسه لمَّا تحوَّل إلى فرجة؟
لعلّ الفُرجة مِن حيث هي مشهد بالدرجة الأولى، مشهد يجذب ويجلب النّظر، الرّغبة في أنْ يُصبح الإنسان منظواراً (وناظراً)، رائياً ومرئِيّاً، مُشاهِداً (أو متفرِّجاً Spectator) ومُشاهَداً، تقوم على الصُّوَر أو بالأحرى تقوم على توسُّط الصُّوَر. غير أنّ القول بتوسُّط الصُّوَر شيء والقول باختزال الفرجة في الصُّور شيء آخر. لا شكّ، في كون الصّور تلعب دوراً مهما ومركزياً في إنتاج الفرجة، لكن ليس إلى درجة اعتبارها مجرّد نتيجة تراكميّة للصّور أو اعتبارها كمجموعة أو رزنامة مِن الصّور، وإنّما هي علاقة اجتماعيّة بين الأشخاص: إنّها علاقة اجتماعيّة تتوسّطها الصُّور، إذ لم نقل هي الصّور الّتي أضْحينا نتوسَّطها، وسيلة المجتمع لإنتاج ذاته، ليغدو مطابقاً لصورته منفصلاً عَن ذاته. إنّها الفرجة… بوصفها مجتمعاً. في هذا المضمار كتب دوبور: «في العالم المقلوب واقعياً رأساً على عقب، يكون ما هو حقيقي وواقعي لحظة مِن لحظات ما هو وهمي وزائف».
ليست الفرجة هنا مجرّد واجهة، بل هي الواجهة لمّا تحوّلت إلى المجتمع ذاته. فهي ليست بمثابة بنية فوقية انعكاسية لبنية تحتية بالمعنى الماركسيّ الكلاسيكيّ، أو هي مجرّد ديكور، أو بريستيج، أو ملحق مِن ملاحق العالم الواقعيّ، وإنّما هي لبّ لا واقعيّة المجتمع الواقعيّ؛ إنّها تشكيلة مجتمعيّة اقتصادية؛ إنّها نمط إنتاج أو لنقل إنّها مشروع نمط الإنتاج الراهن. تشكلّ الفرجة بمعنى أو بآخر النموذج الراهن المهيمن اجتماعياً في مختلف المجالات، في الإعلام، الاقتصاد، السياسة، الإشهار، المعلومات، التواصل، وفي وسائط الإعلام الجديدة المرتبطة بالعولمة والتِكنولوجيّات الجديدة.
إنّ تطور الوسائط الإعلامية الجديدة وما يُنعت بالعالم الافتراضي، ساهم ويساهم في انقلاب مستويات التشكيلة الاجتماعية، إلى درجة أصبحت فيها البنية الفوقية بنية تحتية. حيث صار الرّمزي واقعاً للواقعيّ الّذي أصبح رمزيًا لما كان يُنعت بأنّه رمزي. إلى درجة أصبحت فيها المجتمعات وسائط لتلك الوسائط: صار الإنسان وسيطاً لإنتاج الوسائط المعنية، ومن ثمَّ تحويل الواقع الإنساني إلى فرجة. إذ لا يكاد أيّ فعل اجتماعي في الوجود إلاّ وتسارع نقله “افتراضياً” لكي تنفخ فيه وسائل التواصل المسماة اجتماعية: أنطولوجياه؛ أنطولوجيا الفرجة.
لا تقتصر هذه الحركة والقوّة الفُرجويّتيْن على مجتمع بعينه وعلى ثقافة بعينها، في ظِلّ تقنيات الاتصال والوسائط الإعلامية الجديدة وحركة العولمة، بل تكتسح العالم برمّته، وتبحث عن السبب والمبرر في المحلِّي نفسه لتغلغلها وتجذّرها وتسارع انتشارها. على الرّغم من كون الفرجة، بوصفها انفصالاً مُعمَّماً بالدرجة الأولى، انفصال أكثر منها اتصال، فإنّها تقدم نفسها كوحدة للعالم والمجتمع، فالانفصال يُشكِّل جزءاً من وحدة العالم، ومن الممارسة المجتمعيّة الكلِّيّة المتجسِّدة في الواقع والصورة، معاً. في المجتمعات المستحدثة والمعاصرة، تُقدِّم الحياة نفسها بكاملها على أنّها تراكم هائل من الفُرجات. فكلّ ما كان يُعاش في المجتمع على نحو مباشرٍ، يتباعد عن نفسه متحوِّلاً إلى تمثّل وتمثيل (Représentation).
تمثّل الفرجة بهذا المعنى اقتصاد وسياسة، بل إنّها اقتصاد سياسي؛ صناعة الفرجة، إنتاجها (واستهلاكها)، وتدبيرها. بهذا صار الاقتصاد اقتصاداً فُرجَوِياًSpectaculaire (السِّلعة الفرجويّة)، وصارت معه السِّياسة سياسة فرجوِيَّة، والتّاريخ تاريخاً فرجوياً، والزّمان زماناً فرجوياً، والإنسان إنساناً فرجوياً (الإنسان المتفرِّج)، بل غدا الوجود وجوداً فرجوياً.
ومن هذا المنطلق، وبناء على حسّ فيورباخي (نسبة إلى الفيلسوف فيورباخ)، فإنّ مجتمع اليوم بوصفه مجتمعاً للفرجة: يُفضِّل الصورة على الشيء، النسخة على الأصل، التّمثيل على الواقع، المظهر على الوجود. وما هو مقدّس عنده ليس أكثر من الوهم، أمّا ما هو مدنّس فهو الحقيقة عينها. إنّه يقدّس الوهم على حساب تدنيس الحقيقة. بهذا المعنى تَكون: الفرجة مجتمعاً ويكون المجتمع فرجة. وعلى هذا النحو فإنّ مجتمع الفرجة يمثِّل: مجتمع المجتمعات الجديدة.
[1] اعتمدنا في هذا المقال، بشكل مركزي، على كتاب جي دوبور الموسوم بـ: “مجتمع الفرجة”.
-Guy Debord, La société du spectacle, Les Éditions Buchet- Chastel, Paris, 1967.