الفنان المنفي:
مايكل أنجلو ميريزي (1571-1610) الشهير بكارافاجيو، نسبة إلى اسم القرية التي هاجرت إليها عائلته هربًا من وباء الطاعون الذي فتك بعدد كبير من سكان مسقط رأسه. هو فنان تشكيلي إيطالي عُرف بتمرده على التقاليد والقواعد الفنية السائدة في عصره، وبممارسة حريته في تحدي وتجاوز المانيريزمو (التصنع والتكلف) الذي نهجه رسامو بلده، وطغى كأسلوب بعد النهضة. اشتهر بطبعه الحادّ وإثارته للمشاكل وشجاراته المتعددة، لذلك لم يكن طيلة حياته محاطًا بالأصدقاء فقط، بل تربصّ به الكثير من الأعداء، الشيء الذي جعله باستمرار عرضة للاتهام والملاحقة. ولقد اضطر إلى الفرار من روما هربًا من حكم بالإعدام طاله بعد قتله لشخص (رانوتشيو توميسوني) خلال شجار عنيف يوم 28 ماي 1606. رحلة الهروب قادته إلى نابولي، ثم إلى مالطا، ومنها إلى صقلية. وأحد أيام سنة 1610، حاول الرجوع إلى روما، لكن الموت لم يمهله، فغادر عالمنا عن عمر لم يتجاوز 38 عامًا.
حيّر لغز موته الباحثين (تسمم بالرصاص؛ الملاريا؛ التهاب الأمعاء؛ الغرق؛ القتل، إلخ.)، لكن آخر التحليلات العلمية التي أُجريت على أسنانه، أثبتت أنه توفي نتيجة تعفّن دمه بالباكتيريا الكروية العنقودية الذهبية (ستافيلوكوكس أوريس) التي استوطنت جروح جسمه. بهذا الخصوص يقول يانيك هاينيل في روايته “العزلة كارافاجيو”: ” قام فريق من علماء الأنثروبولوجيا الإيطاليين مؤخراً باستخراج الهيكل العظمي المزعوم لكارافاجيو من بين بقايا أخرى من المقبرة الصغيرة المجاورة لمستشفى الأخوة … حيث توفي قبل أربعة قرون. بفضل جزء نادر من الحمض النووي يقع على كروموسوم Y، والذي يتوافق مع أحد الهياكل العظمية للحفرة، ومع الإيطاليين الحاليين الذين يحملون اسم ميريزي، كان من الممكن تحديد جثة كارافاجيو. وفقًا لفريق من علماء الأنثروبولوجيا، كانت العظام تحتوي على نسبة أعلى من الرصاص مقارنة بالعناصر الأخرى، وهو عنصر موجود بكثرة في مواد الصباغة. وبعد ذلك، من خلال تحليل لبّ الأسنان، أمكن أن يستنتجوا وجود بكتيريا تسببت في تعفن الدم وأدت إلى وفاة الرسام: المكورات العنقودية الذهبية”.
الفن مسألة إضاءة وترتيب للمَشَاهد:
بالرغم من قصر المدة التي عاشها كارافاجيو، إلا أنه ترك ما يقارب 60 منجزةً فنية، بعضها تعرض للسرقة كلوحة الميلاد التي سرقت من مصلى القديس لورينزو بمدينة باليرمو، ولوحات أخرى يقال إنها لم تُكتشف بعد، أو يتم العثور على بعضها بالصدفة كما هو حال اللوحة التي وجدت في غرفة علوية بمنزل في مدينة تولوز الفرنسية، والتي بيعت شهر يونيو من السنة الجارية بعد أن قدر ثمنها بحوالي 150 مليون يورو (170 مليون دولار). يدلّ المبلغ المذكور على الاهتمام المتزايد بإبداع كارافاجيو الذي نُسي لقرون، رغم تأثيره البالغ في الفن الأوروبي خلال القرن السابع عشر، وبصماته الواضحة في فيلاسكيز، وربيرا، وجورج دو لاتور، ورمبرانت، وفرميير. وبالفعل، فإعادة اكتشافه لم تتم إلا في بداية القرن العشرين من طرف مؤرخ الفن والناقد روبيرتو لونغي. ومنذ ذلك الحين لم تتوقف القاعات الكبرى عن استضافة أعماله وإقامة المعارض لمنجزاته.
وإذا كان هناك من يميل إلى مقارنة كارافاجيو بجان جوني في الأدب، إلا أن الرسام الإيطالي يتقاسم الشيء الكثير مع ذي القروح، الشاعر العربي امرؤ القيس، الذي مات بسبب إصابته بداء الجدري ولم يتجاوز الخمسين من العمر، وكان مخالطًا للصعاليك وميالًا إلى الخمر واللهو وخوض المعارك، وخالف التقاليد وأدخل الشعر إلى مخادع النساء. أوليس “الملك الضليل” من أنشد:
تضيء الظلام بالعشاء كأنها
منارة ممسى راهب متبتل
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم ليبتلي
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح، وما الإصباح منك بأمثل
فيا لك من ليل كأن نجومه
بأمراس كتان إلى صم جندل
إن ما تميز به كارافاجيو هو “الكياروسكورو”، ومعالجته الثورية للفضاء والضوء ولخلفيات لوحاته، وتمثله الخاص لتصوير المواضيع الدينية انطلاقًا من الواقع، وليس من تخيّل ينشد المثال الخالص، وترجيحه للحقيقة والصدق على قيمة الجمال والانسجام. لقد كان يختار موديلات مشاهده الدينية من محيطه القريب، ونجح في رسمها بطراوة وقوة وواقعية؛ ولذلك اعتبر مؤسس الواقعية في التشكيل الإيطالي.
كارافاجيو الممقوت:
لم يعرف أنجلو ميريزي السلم والراحة طيلة حياته القصيرة، وكان عنيدًا في شغله، ومحاربًا بلا هوادة للاتجاهين الانتقائي والتصنعي. لكن نقّاد عصره وعدد من الفنانين المنافسين له، هاجموا أسلوبه الفني واتهموه بتدمير الفن، ونعتوه برسّام الأقدام المتسخة. قال عنه نيكولا بوسان (1594-1665): “جاء كارافاجيو لتدمير التصوير الصباغي”. ويقول دوبوا دو سان جولي في كتابه وصف لوحات القصر الملكي مع ذكر سيرة الرسامين ( 1776 ): ” لقد ابتكر كارافاجيو طريقة قوية، واقعية وذات تأثير كبير، لكنها مجردة من النبل والأناقة، مصوِّرا كل شيء وفقًا للنموذج الطبيعي، في غرفة يدخلها الضوء من الأعلى…ذوقه في الرسم رديء… ولما كان حكمه على أعمال الرسامين الآخرين سيئًا، فقد جلب له هذا الازدراء الكثير من الأعداء”. بينما يسجّل شخص آخر، لم يذكر اسمه، في كتابه موجز حياة الرسامين الأكثر شهرة: ” دون معلم، ودون دراسة المنجزات الفنية العظيمة، ودون الاطلاع على المنحوتات القديمة، صار رسامًا كبيرًا. كرّس 4 أو 5 سنوات لرسم الوجوه. ينظر للطبيعة بحسبانها الطريق الأكثر ضمانًا لفنّه، حتى صار عبدًا لها. وبالفعل، فهو لم يرسم أي شيء إلا وفقًا لها، ممسكًا دون انتقاء، بالجميل والقبيح، ناقلًا عيوبها حتى”.
كارافاجيو في السينما والرواية:
ألهمت سيرة حياة كارافاجيو وأعماله الفنية مبدعين آخرين فنقلوا مقارباتهم إلى السينما والرواية. وهكذا قام ديريك جرمان (1942-1994) بإخراج فيلم عنه سنة 1986. يعرض الشريط سيرة هذا الأخير الذي شخصه الممثل نايجل تيري (Nigel Terry )، وتتمفصل قصته حول لقاء الفنان الإيطالي بسارقَين، امرأة ورجل، وتطور العلاقة إلى مغامرة عشق ثلاثي الأطراف. جدير بالذكر أن ديريك جرمان وجهٌ رئيسٌ في السينما البريطانية خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، جاء إلى السينما من ممارسته لفنّ الديكور، بعد دراسة التاريخ والأدب، ومتابعة تكوين خاص في التصوير الصباغي دام من 1963 إلى 1967. ولذلك، لا يختصر منجزه في أعماله السينمائية فقط، بل يسجل تاريخ الفن أعماله التشكيلية الكثيرة. هذا التكوين الفني المميز، هو ما أتاح لجرمان إنجاز فيلم، هو عبارة عن بيوغرافيا لكارافاجيو خارجة عن المعتاد، وتأمل شخصي في سيرته. ومن بين ما سجله النقادّ، أن فيلم جرمان جاء محاكيًا لأعمال الرسام الإيطالي. وهو ما يعني أن صلة التشكيل بالسينما هي صلة وطيدة. بهذا الخصوص، سبق لجرمان أن صرّح ذات مرة: ” لو عاش كارافاجيو في عصرنا، لكان رمى فرشاته في نهر التبر، واقتنى كاميرا تصوير”.
وفي مجال السرد الروائي، ألف جيمس تويننغ (لندن 1972) رواية بوليسية عنونها بِـ”قضية كارافاجيو“، تدور وقائعها حول عمليات قتلٍ مروعة، تعيد إنتاج بعض لوحات الرسام. في الوقت ذاته، يقوم لصّ الأعمال الفنية الذي صار محققًا، بتحريات عن لوحة كارافاجيو “الميلاد”، التي سُرقت في الستينيات من القرن الماضي، والتي ظهرت من جديد في السوق السوداء. ويتضح أن كل الوقائع متصلة ببعضها، ويكتشف المحقق أن شركاء مموّلين غامضين، هم مستعدون للقيام بكل شيء من أجل الحفاظ على سرّ قديم، كان اتفاقًا موقعًا بالدم. يجد البطل نفسه داخل مؤامرات يحركًها مجتمع سري، وسياسيون فاسدون، والفاتيكان والمافيا…
من جهته، صدر ليانيك هاينيل منذ أشهر قليلة، رواية عميقة عن سيرة الفنان وأعماله عنونها بـ”العزلة كارافاجيو” ( La Solitude Caravage )، وهي تعدّ الآن من المراجع المهمة للتعرف إلى معتم الأنوار وسارق الألوان. حرص هاينيل كثيرًا في مؤلفه، على وصف لوحات رسام الداكن والمضيء، وتقديم تصورّه للفن في أسلوبٍ شاعريٍ فريد. يرى هاينيل أن كارافاجيو يُنهي عصر النهضة: “إن الأسود الذي يأخذ مكان الطبيعة يشخص نهاية عالم النهضة وأوهامها الإنسانوية. انتهى الانسجام، سيبدأ العالم الباروكي باضطراباته الكوسمولوجية، وتفاقم الشعور بالعزلة البشرية. لم نعد نرى فيه أي شيء، وفي الوقت ذاته، وانطلاقًا من هذا الأسود، ستنبثق الوجوه المرسومة كشظايا ضوء”. ويوضح في سياق آخر: ” كارافاجيو ليس رسام شؤم، كئيبًا أو مرضيًا. انظروا إلى فرح موديلاته الشابة ورسومه…و”العلم المرح” الذي يبعث الحياة في تثبيته الفني… إن تشكيل كارافاجيو ميتافيزيقي… إنه موجه دائمًا نحو الحقيقة التي تمزق الأجساد بين الحياة والموت. واللحظات التي يرسمها هي حاسمة دومًا، وعلى حافة الاندثار”. وعن سؤال عمّا إذا كانت روايته مجرد بيوغرافيا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، يجيب هاينيل: ” أحكي حياة كارافاجيو وجميع مغامراته بالتفصيل. إجمالًا، يوجد في كتابي كل ما يمكن العثور عليه في الأرشيف. إلا أن ما يهمني هو التجربة الباطنية للرسام، وما يقع في عزلة الورشة، وضعه وجهًا لوجه مع ليله الداخلي. لقد اختُزل كارافاجيو كثيرًا إلى فلكلور الفنان اللعين. ويثرثر الناس عن عنفه دون محاولة التفكير فيه…أعتقد أن العنف الأقصى الذي يعبره إلى حدّ ارتكاب جريمة، يفتح عينيه، ويتيح له تجريب الافتراس البشري الأساسي، ورسم ما يرسمه، وهو خارق: العالم الذي يسيطر عليه الجلادون، الحكم بالموت الذي يضر بكل الأجسام. ومثل فان غوخ أو بيكون، اللذان جاءا بعده بزمن طويل، فإنه رسام في حالة حرب”.
وأما رسام القصص المصورة الإيطالي ميلو مانارا المزداد سنة 1945، والذي شارك فلليني في بعض أعماله، فقد خصص لكارافاجيو ألبومين، صدر الأول عام 2015 وكان عنوانه “الملون والسيف” (La Palette et l’épée )، بينما نشر الجزء الثاني خلال 2018 باسم “التأنق“ (La Grâce). جاء حكي مانارا ليعكس إرادته في احترام بيوغرافيا الرسام احترامًا شديدًا، لكن دون السقوط في الابتذال المُشَوه لعبقرية لوكارافاج. يقول مانارا: ” كنت متوجسًا من الشروع في العمل، لكني أدركت أن كارافاجيو عاش حياة بطل قصة مصورة حقيقية. لم يكن هدفي إصدار كتاب فني، كان الأكثر أهمية بالنسبة لي، هو إظهار كيف كان يتصرف كارافاجيو لإنجاز لوحاته، والإخراج، والإضاءة…لقد ابتكر كارافاجيو التخييل بحد أقصى من الواقعية”، ” إنه يروي حكايات في لوحاته. كان ينظم مشهده مثل سينمائي، الضوء، تركيب الصورة مثل مخرج فيلم…لم يكن يمتلك كاميرا، وبدلًا منها كان لديه يدين سحريتين. لو كان حيًّا اليوم، في اعتقادي، لاشتغل في حقل السينما عوضًا عن الفن التشكيلي… ولأنه لم يكن يشعر بالسهولة في الرسم، كان يرسم خلال بضعة أيام، ثم لا يفعل أيّ شيء لعدة أشهر…لم تكن لديه سهولة الرسم نفسها التي كانت لروبينس أو لفراغونار. نحسّ في أعمال كارافاجيو بالتعب، وبالكدّ في العمل”.
لم يحب أندري مالرو فن كارافاجيو، وعبّر عن ذلك في كتابه “أصوات الصمت”، ولم يذهب لزيارة المعرض الذي أقيم له ولتلاميذه في ميلانو سنة 1951، لكن الفنان الإيطالي الذي كان يستضيف الفقراء ليحولهم إلى قديسين، سيبقى عبقريةً فريدة لا تُضاهى، ومصدر إلهام للمبدعين في جميع الحقول الفنية.