تُقدم الروائية جي.كي. رولينغ في أول كتاب من سلسلة هاري بوتر واحدة من أروع الأدوات في عالم السحرة بأكمله، وهي (مرآة Erised). و(Erised) ليست إلا مفردة (Desire) مكتوبةً بالعكس وتعني (رغبة). واسمها هذا يشير إلى مهمَّتها، حيث تُظهر لمن يقف أمامها ما يتمناهُ بشدةٍ في حياته. فقد يرى الرياضي الأولمبي نفسَه حائزًا على الميدالية الذهبية، وقد يرى عامل مصنع بسيط نمطَ حياةٍ باذخ، وقد يرى يتيمٌ -مثل هاري بوتر- والديه.
كلنا نملك مرآة كهذه. إنها تقبع في أذهاننا وتستثير رغباتنا. ليس ثمة مشكلة في القليل من أحلام اليقظة، ولكن عندما رأى (دمبلدور) الفتى (هاري) وهو يُحدِّق في المرآة مرارًا وتكرارًا، قال له: “لا ينفع المرء انغماسه في الأحلام ونسيانهِ الحياة.”
إلى جانب ملاذ التمني هذا ثمة مرآة أخرى مُندسَّة في أعماق أذهاننا، لكنها أقل لطفًا وأكثر خطرًا من الأولى. إنها المرآة التي تظهر كل عيوبنا، وأعتقد أن بإمكاننا تسميتها مرآة (Swalf).[1]
مِيم القرن التاسع عشر
هل تعرف مصدر كلمة “Okay”؟ ما قد يكون التأكيد الأكثر شيوعًا وحيادية في كل الثقافات العالمية وليس فقط في اللغة الإنجليزية بدأ كمزحة أو كميم من القرن التاسع عشر، إن صح التعبير.
لقد أخطأ المثقفون في ثلاثينيات القرن التاسع عشر في إملاء العبارات المكونة من كلمتين عن عمد، ثم اختصروها بغرض التحدث بالرموز مع المُطَّلعين الآخرين. فالاختصار “KY” كان يعني “know yuse” بينما الاختصار “OW” كان يعني “oll wright”. اختفى هذا التوجُّه في نهاية المطاف غير أن كلمة ساخرة صغيرة تحولت بشكلٍ غير متوقع من تقليعة إلى عبارة متداولة، وهي عبارة “OK” أو “oll correct”.
وصف الرئيس الأمريكي (مارتن فان بيورين) نفسَه بـ “OK” اختصارًا لـ “Old Kinderhook” أثناء حملته الانتخابية عام 1840، آملًا أن ترتبط العبارة بعُمره ومسقط رأسه. أُنشِأت نوادي “OK” في كل أنحاء البلاد ولو كنت فيها، فأنت لا تدعم (فان بيورين) فحسب بل كنتَ ستكون “OK” فجأة. نشر التلغراف لاحقًا عبارة “OK” في طول البلاد وعرضها حيث استعان بها للتأكيد السريع على استلام الرسائل. خسر “”Old Kinderhook الانتخابات في حين حققت العبارة فوزًا صريحًا.
ولسببٍ ما، نحن نحاول الانضمام للنادي حتى يومنا هذا.
اللَّهاية الأكثر تطورًا في العالم
(جيمس بلونت) ليس مغنيًا رائعًا فحسب، بل إنه أيضًا أحد عمالقة برنامج تويتر:
“إن كنت تظن أن عام 2016 كان سيئًا، فإنني سأُطلق ألبومًا في عام 2017.”
إنه يشترك مع مجموعة كبيرة من الناس في الاعتقاد بأن عام 2016 كان الأسوأ على الإطلاق. لا يوجد ما يُثبت هذا الادعاء لكنه يُظهر أن التصوُّر قد تغير بشكلٍ عام.
تتوافر نماذج تحقيق الرغبات بكثرة على الإنترنت، ولكن بالرغم من أن تلك القصص تُصوِّر لنا قابلية تحقيق أهدافنا إلا أننا نكتفي عادةً بقراءتها بدلًا من العيش وفقها. من المريح أن نعرف “كيف نحصل على 2.3 مليون تنزيل للتطبيق وكيف نحقق 72,000 دولار”. إن هذا الأمر يجعل الهدف يبدو أقل أهمية بشكلٍ غريب ويُظهر لنا أننا “على ما يُرام” “Okay” حتى لو لم نكن مطوِّرين بارعين.
لكن، في وقتنا الحاضر، تبدو رغبتنا في الراحة أكثر جلاءً. إننا نُطالب بها مباشرة بدلًا من إخفائها وراء الأهداف السامية؛ لا تهم الأحلام طالما أن العالم يواصل الدوران وأننا سنكون على ما يرام – هذا ما نظن -. غير أن الحالة السائدة على الشبكة هي أكثر إبهامًا، إذ إن ما يدفعنا ليست رغباتنا بل ما نظن أنه يتطلب التصحيح.
نحتاج إلى تذكيرٍ مستمر بأنه لا بأس في البداية المتواضعة، ولا بأس في الوحدة، ولا بأس في الامتناع عن النضال. إننا نسأل لماذا يجعلنا الإنترنت بائسين، ولماذا يريد أصدقاؤنا قتل أنفسهم، ولماذا لا يكون عملنا جيدًا بما فيه الكفاية. نحتاج إلى من يخبرنا بأنه لا بأس في الاستقالة من وظيفةٍ ممتازة، ولا بأس في عدم الرغبة بترقية، ولا بأس في عدم الانضمام لعالم الرياديين، وأنه، بالمناسبة، لا وجود للكسل.
إنها رغبات ملحة وأسئلة شرعية لها ما يُبررها، لكن عندما تهيمن “لا بأس” الملهية بقوة على حديثنا العالمي، فإن هذا يشرح الكثير عن حالة الإنسانية عمومًا: الأمر ليس على ما يرام. إننا نحوِّل الإنترنت إلى لهاية في غاية التعقيد للبالغين. إننا نلتهي به للتعويض عن المهارات التي لم نتعلمها قط وكان ينبغي لنا تعلمها، مهارات مثل التعاطف مع الذات، والثقة، والمشاركة الوجدانية، والتفاؤل، وعدم إطلاق الأحكام، واللطف، والتجرد والمرونة. وأسباب ذلك عديدة، منها التربية السيئة والتعليم الحديث وثقافة الإنترنت والتقنية المنتشرة في كل مكان. ولكن ما ينبغي علينا فعله الآن هو التعامل مع الآثار بغض النظر عن الأسباب.
إننا نتحول إلى مرآتنا الداخلية ولا نرى سوى عيوبنا، إذ نرى نسخة من أنفسنا جريحةً ومحطمة وتوشِك على الهزيمة. نسخة تغطيها الجروح والندبات، إنسان غير مكتمل. لقد شوَّهت المرآة صورتنا الذاتية، والصدوع التي تُظهِرُها لنا تدمر إحساسنا بذواتنا.
إن أغنية (جيمس بلونت) الأكثر شعبيةً لعام 2017 لم تكن من ألبومه الجديد، بل كانت إصدارًا منفصلًا يحمل اسم “OK”. يظهر (جيمس) في الفيديو الموسيقي وهو يؤثِر حذف ذكرياته في عالمٍ مستقبلي، ويغني “سيكون الأمر على ما يُرام”.
أعتقد أن مزحة القرن التاسع عشر تنطبق علينا الآن.
الحكُّ حتى النزف
يقول (سيث غودين) في أحد كتبه الأكثر مبيعًا، Linchpin، إنه توجد طريقتان للتعامل مع القلق، أولاهما هي البحث عن الطمأنينة.
“تقضي هذه الطريقة بأنه إذا كنت قلقًا بشأن شيءٍ ما، فاسترسل في القلق واطلب من الناس حولك إثبات أن كل شيء سيكون على ما يُرام. شدِّد على ذلك الطلب باستمرار وقيّمه وكرره. “هل كل شيءٍ على ما يُرام؟” قابِل القلق بالطمأنينة وردود الفعل الإيجابية. وطبعًا، هذا يؤدي إلى مزيدٍ من القلق لأن الكل يحب الطمأنينة وردود الفعل الإيجابية.”
هذا ما نفعله بالضبط عندما نتحول إلى الإنترنت لتهدئتنا بينما نواجه عيوبنا الكثيرة، إلا أن هذا السلوك يخلق حلقةً مفرغة يتعذر الخلاص منها.
“طمئنِّي حول مشكلةٍ ما وأؤكد لك أنني سأجد شيئًا آخر أقلق بشأنه. إن الاطمئنان لا يعالج مشكلة القلق، بل إنه في الواقع يُفاقمها. كما لو أنك تعاني من حِكَّة فتتعامل معها بالحك. الحِكة مصدر إزعاج وفعل الحك يولد شعورًا جيدًا فتُكرره باستمرار حتى تنزف.”
يقول (سيث) إن القلق دائمًا ما يكون حول شيءٍ مُبهم يكمن في المستقبل على عكس الخوف الذي يستهدف تهديدًا حقيقيًّا ومحددًا. ليس ثمة هدف من القلق، إنه “خوفٌ من الخوف” ومن ثم فهو خوفٌ بلا معنى.
ما يود (سيث) قوله هو إن هاتين المرآتين الموجودتين في أذهاننا هما في الواقع مرآة واحدة، والنظر إليها دائمًا له علاقة بالحاجة إلى الاطمىئنان بأن أحلامنا يمكن تحقيقها وأننا سنكون بخير لو لم تتحقق. ولكنها مجرد مرآة في النهاية، ما نراه فيها لا يعكس الحقيقة. وسواء كانت الأهداف التي لم نحققها أو العيوب التي تخيفنا هي ما سيؤذينا، فلا وجود لأيٍّ منها. لا وجود للصورة التي نحملها في مخيلتنا عن أنفسنا لأنها مجرد انعكاس، تمامًا مثل القلق الذي نشعر به عندما ننظر إليها.
لذلك، لا تزال المشكلة الجذرية هي نفسها بالرغم من احتمالية أن يكون تركيزنا قد تغير. إن الصدوع موجودة في المرآة وليست فينا. ولهذا السبب أصدر (دمبلدور) تحذيرًا آخرًا للفتى (هاري) الذي كان يسعى لمزيدٍ من الطمأنينة:
“هذه المرآة لا تمنحنا المعرفة ولا الحقيقة. لقد ضاع الإنسان أمامها حتى فقد عقله.”
مهما تكن طريقتك الأخرى للتعامل مع القلق يا (سيث)، فعسى أن تكون نافعة.
لا وجود للآباء السيئين
قدَّم لنا مغني فرقة Linkin Park الراحل (تشيستر بينينغتون) وصفًا صادقًا لما يدور داخل عقل المرء الذي يعاني من الاكتئاب مدى الحياة، حيث قال في إحدى مقابلاته الأخيرة التي أجراها قبل انتحاره:
“أنا لا أقول أشياء لطيفة لنفسي. هناك (تشيستر) آخر يريد تدميري. إذا لم أكن خارج نفسي، كأن أكون برفقة أشخاص آخرين أو أن أكون أبًا أو زوجًا أو زميلًا أو صديقًا أو أن أساعد أحدًا.. أعني إذا كنت خارج نفسي أكون في أحسن حال، وإذا كنت حبيسًا في داخلي طوال الوقت، أكون في وضعٍ مريع. لكن إنها اللحظة التي أدرك فيها أنني أقود نفسي إلى الجنون حينما أظن أن كل مشكلاتي حقيقية. كل الأشياء التي تجري داخل عقلي أجلبها لنفسي في الواقع بغض النظر عن أي شيءٍ هو هذا الشيء.”
فلو كنت قلقًا من أن تكون أبًا سيئًا فهذا لا يجعلك أبًا سيئًا، إنما يجعلك قلقًا فقط. لا وجود للآباء السيئين، إنما هم أشخاص يقلقون بشدة ولا يستطيعون التعامل مع بعض التجارب التي يعيشونها في أذهانهم دائمًا، وقد يضربون أطفالهم أو يصرخوا عليهم أو يهجروهم بالنتيجة. هذا ليس عيبًا في الشخصية، بل سلسلة من السلوكيات التي اتخذت منحىً خاطئ.
تتكون الحقيقة من أفعال وفاعلين، ونحن من نأتي بجميع الصفات. ونحن نفعل ذلك لتبدو الحقيقة أكثر دوامًا. لو خضت تجربة والدية سيئة، فقد تشير إلى ذكرى “الأب السيء” في كل مرة تتخذ فيها قرارًا مؤذيًّا. تُسرف في الشرب؟ أبٌ سيء، طُردت من العمل؟ أبٌ سيء، فشلت في علاقة؟ أبٌ سيء.
الحقيقة هي أنه بقدر ما كانت تلك التجربة سيئة فهي لم تعد واقعًا لأنها محضُ ماضٍ، وعندما تجرُّها معك للحاضر فأنت تُحرِّف الواقع. أنت تنظر للمرآة وترى جرحًا آخر لا وجود له. ومن المحزن، أن تلك التجارب تتراكم إلى الحد الذي يعجز فيه المرء عن التفريق بين الواقع والانعكاس، مثلما حصل مع (تشيستر).
لا يمكنني إلا أن أتخيل مدى صعوبة إدراك حصول ذلك، ولكن عندما يحدث ذلك وأنت على وعيٍ به فاطلب المساعدة بأكبر قدرٍ ممكن.
في هذه الأثناء، رحل (تشيستر) وترك لنا هديةً ثمينة.
الحقيقة
من بين العديد من مقولات (دمبلدور) الحكيمة، يظهَر أن إحدى مقولاته الأكثر انتشارًا تتناقض مع كل ما قلناه:
“بالطبع هذا يحدث داخل عقلك يا هاري، ولكن لماذا ينبغي أن يعني ذلك أنه غير حقيقي؟”
وهذه أحد الاقتباسات التي يُساء فهمها، لأن (دمبلدور) لا يُوحي إلى أن كل ما نتخيله حقيقي، إنما يُحاول إخبار (هاري) ما كان يُشير إليه (تشيستر) و(سيث):
الحقيقة حول ذواتنا هي ما نختار تصديقه
أسدى (دمبلدور) هذه النصيحة لـ (هاري) حين كان بإمكان الأخير الاختيار بين الحياة والموت. أحيانًا يكون تأثير الكلمات التي ننتقيها عندما نتحدث لأنفسنا وخيمًا للغاية. هذا هو السبب في كون هذه العبارة فعَّالة بقدر ما هي خطيرة. جميعنا نتشوش في بعض الأحيان ونفقد القدرة على التمييز، وكلنا نقضي وقتًا طويلًا في التحديق في تلك المرآة اللعينة، غير أن طرق تعاملنا مع هذا الوضع مختلفة.
بالنسبة إلى (تشيستر) فهذا كان يعني أن السعادة تكمن خارج نفسه. حاوِل أن تتوقف عن الكلام إذا نفدت الكلمات الرقيقة التي يمكن أن تقولها لنفسك؛ لا تسعى إلى النجوم، بل إلى الأرض تحت قدميك. انظر إلى الواقع، انظر حولك. لا يوجد نادٍ للانضمام إليه ولم يكن هناك أيُّ نادٍ قط. كنت دائمًا بخير. إن الإنسانية مجتمعٌ كبير وقد كنت عضوًا فيه منذ يومك الأول. وفي بعض الأحيان، يكون التركيز على هذه الفكرة هو كل ما تحتاجه لتغيير الحديث الدائر في رأسك.
أما بالنسبة لـ (سيث)، فهذا يعني التأقلم مع القلق وتقبل الواقع بدل الهروب منه.
“إن الاسترسال في القلق يزيده سوءًا، فبدون الماء تحتدم النار حتى تحرق نفسها، ويا لَه من أمرٍ مثير! لا يمكن إذن أن يستمر القلق إلى الأبد، لا سيما عندما يحين الصباح ولم يُغزا منزلك، وعندما ينتهي الحديث ولم يُسخر منك، وعندما ينتهي التقييم ولم تُسرَّح من العمل. إن الواقع هو أفضل مصدر للطمأنينة.”
مدى ملائمة أيٍّ من هاتين الطريقتين لك، وفي أي وقت، راجع إليك. لكن كلتاهما تستلزمان وجودنا في الواقع. متى ما أصبح الواقع الموجود داخل عقلك مخيفًا، فابحث عن الإجابات في الواقع الخارجي لأنها عادةً تكون متاحةً فيه. قد تضطر إلى التأقلم معه أو إلى تناسيه لبعض الوقت إلى تتمكن من النظر إلى المرآة مجددًا ورؤية نفسك كما أنت فعلًا: إنسان؛ خالٍ من العيوب، غيرُ ناقص، وذو قدرةٍ على اختيار أي معتقد تحتاجه.
ثم مرةً أخرى، أتذكر ساحرًا قال ذات مرة: “الكلمات، في رأيي غير المتواضع، هي منبع لا ينضب من السحر.” – ألباس دمبلدور
[1] أي “Flaws” بمعنى “عيوب”، ولكن كتبت مقلوبةً. – المترجمة –