ذكرتُ في مقالتي السابقة بأن أم الصغير آلفي سينغر في فلم وودي آلان الكوميدي آني هال (1977) قد أخذته إلى الطبيب النفسي؛ وذلك بعدما اكتشفَ آلفي من قراءاته أن الكون يتمدد -ويبدو بأنه قد قرأ ذلك في أحد كتب العلوم المبسّطة والرائجة- فجَزِعَ قلقًا من أن معنى ذلك هو أن الكون سينهار على نفسه في يومٍ من الأيام، وقد قذف به ذلك القلق تحت وطأة ضربٍ من الاكتئاب أو الأزمة الوجودية. من وجهة نظر والدته، إنّ أخطرَ أعراضِ هذه الحالة تجاهلُه أداء واجباته المدرسيّة.
يمكنكم مشاهدة المشهد من الفلم من هنا .
لقد أفضتْ معرفة آلفي بتمدد الكون -ولعلّه قد تعرّف أيضًا على الموت الحراري للكون- إلى طرح سؤال فلسفي: «ما الفائدة؟»؛ ما فائدة إنجاز الواجبات المدرسيّة؟ ما فائدة القيام بأي عمل؟ لقد توصل إلى نتيجة؛ فنظرًا إلى أن الكونَ محدود، ونظرًا إلى أننا نقوم بفعل الأمور لأنها تقودنا إلى مستقبل أفضل -كما اَفترض-؛ فلقد توصل إلى أن لا فائدة قد تُرجى من أفعالنا في المستقبل، كما يعتقد آلفي. كيف يمكننا أن نساعد آلفي المسكين؟
إنّ تعرّض آلفي إلى معلومة علميّة قد قاده إلى هذه النتيجة، ولكنّه توصّل إلى هذه النتيجة أيضًا بسبب افتراضاته حول الأمور المهمّة، وعن ما يجعلها كذلك. إنّ العلمَ يخبرنا عن ماهية العالم الواقعي. توجد جوانب من العالم الواقعي يبدو بأنها تزعجنا، ونفضّل لو أن العالم الواقعي قد كان مختلفًا عما وجدناه عليه؛ إذ باستطاعتنا أن نتأمّل احتمالات ممكنة للأشياء بخلاف ما هي عليه. إنّ العلم، والتاريخ، والأخبار يقولون لنا ما يبدو عليه العالم الواقعي؛ فنحن قادرون على التفكّر فيما قد تبدو عليه الأشياء بخلاف حالها.
إنّ آلفي منزعج من حقيقة العالم كما وجدها، ومعرفة شيء يصعب جمعه مع فهمه للقيمة قادته إلى طرح سؤال فلسفي، وهذه ليست تجربة غريبة؛ إذ عادةً ما تصدمنا حقائق العالم الواقعي -سواء كانت إيجابية أو سلبية في طبيعتها- وتقودنا إلى طرح أسئلة يُمكننا أن نُسميها أسئلة فلسفية بالمعنى الواسع للكلمة. إنّ جوانب العالم السلبيّة، أو تجاربنا السلبيّة فيه؛ مثل المظالم التاريخية، والكوارث الطبيعية، والأحداث القاسية، والإخفاقات الكبيرة في حياة المرء الشخصية، أو في العالم؛ كل هذا قد يقودنا إلى طرح أسئلة فلسفية؛ أي، أسئلة حول القيمة، والعلّة، والمسؤولية، إلخ. لكن لاحظوا بأننا قد نطرح أسئلةً فلسفيّة طرحًا نابعًا من الدهشة أو التقدير؛ إذ قد يُدهشنا الجمال، أو جلال العالم الطبيعي، أو قوة التفكير الرياضي، أو ولادة طفل، أو القوة الغامرة شعورنا بالحب.
إذن، الأسئلة الفلسفيّة تتولد فينا؛ فماذا نفعل بشأنها؟ كيف ينبغي علينا أن نفهم قلق التساؤلات مثل أسئلة آلفي؟ فإن أخذنا هذه الأسئلة مأخذ الجد؛ فالسؤال حينها ماذا نفعل بعد ذلك. دعونا نأخذ سؤال فيما لو كانت العلوم الطبيعية يمكنها أن تمد لنا يد العون في هذا الصدد.
إنّ البحثَ العلمي هو الاستراتيجية الصحيحة للإجابة على ضروب معينة من الأسئلة؛ فلو أردتُ أن أعرف وزن النيتروجين الذري؛ فمِنَ الحمق أن أحاول الإجابة على السؤال من مقعدي دون مساعدة البحث التجريبي. ولقد جادل بعض الفلاسفة أنّ البحث العلمي هو أفضل طرقنا في الإجابة عن جميع الأسئلة، ولكن توجد بعض الأسئلة حيث يبدو استعمال مناهج العلم معها لا طائل منه؛ وأوضحها، تساؤلي حول ثقتنا بالعلم نفسه من عدمها؛ فلا يبدو معقولًا أن استعمل مناهج العلم إجابةً عن هذا السؤال. وعلى نفس المنوال، لا يبدو واضحًا كيف قد تمنحنا الفيزياء إجابًة عن سؤال لماذا ينبغي علينا أن نقدّر الفيزياء. تأمل السؤال التالي:
ما فائدة العلم؟
هل هذا سؤال علمي؟ يُمكننا تصوّر طُرق متعددة إجابةً عن هذا السؤال، ولكن يصعب علينا تصوّر تسويغ علمي لقيمة العلم نفسه؛ فتوجد أسئلة لا يُجاب عنها بالنظر في طبيعة العالم. من المستبعد أن يجاب عن سؤال كسؤال »ما الذي ينبغي علي أن أهتم بشأنه؟« بواسطة التجارب واستطلاعات الرأي. تصوّر أنك أجريت استطلاع رأي وجدت فيه بأن 85% من المشاركين يعتقدون بأن أهم جانب من جوانب الحياة يتضمن الروابط العائليّة والعلاقات. قد تكون الغالبية محقة، وقد تكون مخطئة، وغالبًا ما يكون رأي الغالبية مخطئًا. لعل هناك مواضع يكون رأي الغالبية فيها صوابًا. مثلًا، هب لو أننا كنا نريد أن نعرف معاني كلمات إنجليزي معينة؛ ففي هذه الحالة فإن استطلاع رأي متحدثي اللغة قد يكون مناسبًا. ولكن لاحظ بأن حتى في هذه الحالة فإن متحدثي الإنجليزية لن يكونوا مصدرًا موثوقًا إنْ تعلّق الأمر بكلمات غير شائعة الاستعمال؛ فلو سألنا أغلب متحدثي الإنجليزية عن معنى كلمةweal ؛ فغالبًا لن يعرف جلّهم الإجابة ما لم يستعينوا بأصحاب الخبرة والاختصاص. فمن الواضح أن سياقات محدود للغاية هي التي يكون فيها آراء الغالبية مفيدًا، ولكن الأهم من ذلك، إن آراء الغالبية لن تجيبني قطعًا عمّا لو كان ينبغي علي أن أقبل رأي الغالبية أم لا.
إن فتنغنشتاين -مثلًا- عادةً ما كان يكتب وكأن إلحاحَ التفلسفِ أمرٌ يدعو إلى استجابة علاجيّة؛ فمن هذا المنطلق، ينبغي علينا أن نُعامل الأسئلة الفلسفية معاملةَ أعراضِ سوء الفهم أو اضطراب الفكر، بدلًا من أن نحاول الإجابة عنها. فلو كانت الأسئلة الفلسفية أمراضًا؛ فيبدو بأن هذا المرض ينبع من شيء متأصّل فينا إلى درجة قد لا يمكننا فصله عن معنى أن تكون إنسانًا كاملًا. تأمل قلق آلفي. لعله أخطأ فيما يتعلّق بحقائق تمدد الكون، وقد لا يُفكّر في العلاقة بين القيمة وعلم الكونيات تفكيرًا سليمًا؛ ولكن مع ذلك، لنسلّم الآن بأنه استوعب الحقائق استيعابًا سليمًا، وأن تفسيره للقيمة تفسيٌر متماسك. تصوّر الآن نفسك في مكانه، ولكنك لم تأخذ المشكلة مأخذ الجد. إنّ آلفي طفل مُتفكّر قابلته -من منظوره- معضلة حقيقية؛ فما الذي قد يعنيه الشفاء بالنسبة له من هذا التساؤل المقلق؟ هل إنْ لم تشغله قضية الموت الحراري للكون لكان شخصًا أحق بالتقدير والاحترام؟
كيف يتعامل المرء مع هذه الأسئلة؟ كما رأينا أعلاه، عمومًا، لا يُجاب عن الأسئلة الفلسفية بإجراء التجارب أو استطلاعات الرأي؛ بل إن العلم وحده لا يمكنه الإجابة عن هذه الأسئلة؛ إذ إن العلم محدود بمجال معين. كلنا نهتم -اهتمامًا متفاوتًا- بإجابات عن أسئلة طبيعة القيمة، والحقيقة، والواقع؛ والفلسفة مُكرّسة لهذه التساؤلات لكي تساعدنا في العثور على هذه الإجابات بأنفسنا.
لنتأمل تساؤلات مقلقة مثل التساؤلات التالية: ما معنى أن تقول بأن الشيء حقيقي (real)؟ هل العقل أو الروح حقيقيان؟ هل المؤسسات الاجتماعية مثل الدول أو العملات حقيقية؟ أيصحُ القول إن الأشياء الحقيقية هي الجزيئات الفيزيائية الأساسية فحسب؟ إن مساعدة العلم لنا في الإجابة عن مثل هذه التساؤلات تكاد تكون معدومة. خذ مثلًا سؤال هل الظلال أو الثقوب أشياء حقيقية أم لا؛ قد لا نُنكر بالضرورة وجود الظلال أو نُسائل وجودها الظاهر، بل نتساءل عن نوع وجودها؛ إذن قد يتساءل امرؤ -مثلًا- عن صحّة رؤية الظلال بوصفها حقيقية كحقيقة الأشياء التي تُلقي هذه الظلال.
يُمكننا أن نفترض بأن حتى فتغنشتاين نفسه لن يقبل بأن يعتبر كل الأشياء متساوية أنطولوجيًا؛ وبناء على ذلك يمكننا أن نفترض بأنه سيسمح لنا -على مضض- بأن نبحث في سمات علاقة وجود الظلال بوجود الأشياء التي تُلقي هذه الظلال. إنّ هذا البحث يتعلّق جزئيًا بالعلم، ولكنه يتضمن كذلك مقدرتنا على اعتبار إمكانات أخرى للأشياء بخلاف ما هي عليه. هل كوني عمًا أقل حقيقة من كوني إنسانًا؟ أنا معلّم (لستُ معلمًا زائفًا) وأنا أيضًا إنسان حقيقي (لستُ تمثال عرض أزياء)، ولكن أليس معقولًا أن أقول إنّني أمثّل خصيصة كوني إنسانًا بمعنى أقوى من كوني أمثّل خصيصة كوني من ولاية كانساس الأمريكية؟ أيمكنني أن أمثل خصيصة كوني مواطنًا إيرالنديًا وكانساسي في نفس الوقت؟ إنّ الفلاسفة الذين يدرسون هذه الأسئلة قادرون على فهم هذه الادعاءات والأسئلة وتفكيكها بواسطة طرق مختلفة.
فحتى لو كان فتغنشتاين محقًا بخصوص منشأ الأسئلة الفلسفية؛ فإن تشخصيه نفسه مُصابٌ بمغالطة المنشأ؛ فكون أن المعضلة الفلسفية وُلدت من رحم تشوش فكري أو سوء فهمي جذري؛ فلا يفيد ذلك بالضرورة بأنه لا ينبغي أن نأخذ هذا السؤال في صيغته الحالية مأخذ الجد.
لقد ألهم فتغنشتاين حركة في الفلسفة ندعوها اليوم فلسفة اللغة العادية (ordinary language philosophy)، ولقد كانت حركة قصيرة الأجل، ولكنها أثّرت تأثيرًا بالغًا في بعض أهم الفلاسفة اللذين لحقوها، وأحد أتباع تقليد فلسفة اللغة العادية اللافتين للنظر كان بيتر ستراوسن؛ إذ بخلاف فلاسفة اللغة العادية الذين سبقوه، فإن ستراوسن اِنهمك في بحث المسائل الكبرى. وقد وصف ستراوسن الميتافيزيقا بوصفها البحث عن أسباب لما نعتقده غريزيًا، وبدلًا من أن يقف عند اللغة العادية، كان هدف ستراوسن أن يقدم تفسيرًا لبعض سماتها البارزة فلسفيًا؛ ففي كتابه الصادر عام 1959 Individuals (الأفراد)، حلل ستراوسن المقولات الأساسيّة التي اِعتقد بأنها جوهر تفكير الإنسان. وقد قدّم الكتاب محاججة لصالح أساسيّة المكان والزمان، وأشار إلى أن الأجساد في المكان والزمان ينبغي أن تُعتبر العناصر الأساسية في إطار بحثنا الميتافيزيقي.
سنرى في مقالتنا القادمة ما يعنيه أن تفكر تفكيرًا متأنيًا في الأسئلة الأنطولوجية؛ الأسئلة المتعلّقة بأساس طبيعة الوجود.