لعل السؤال الأهم من بين كل الأسئلة التي يتناولها علم النفس هو ذاك المرتبط بمرونة الإنسان (plasticity)، أو بمعنى آخر، قدرة البشر على التغيير. فبينما تهيمن أساليب واستراتيجيات التغيير على تنمية الذات ومؤلفات علم النفس، يظل الموضوع الأقل حضورًا هو كيف يتحقق التغيير أساسًا في حياتنا. ومع أن كل حالة تحول شخصية هي حالة فريدة في تفاصيلها، إلا أنه توجد أوجه شبه عامة في طريقة التغيير بين الناس، وفي هذا المقال -واستنادًا على أعمال عالم النفس مايكل ج. ماهوني- سنتطرق لبعضٍ من أوجه الشبه هذه، وهذه المعرفة تمنحنا فوائد عملية تكون في أحيانٍ كثيرة سدًا منيعًا في وجه نجاح التغيير في حياة الفرد، لكون التغير مفهوم يُساء فهم ما ينطوي عليه حقًا.
نحنُ نتغير دومًا من ناحية ما، فمرور الزمن، والمدّ والجزر في محيطنا يُبدل شكل وجودنا ولا مناص من ذلك. وهذا النوع من التغيير الحتمي الذي لا يد لنا فيه لا يهمنا في هذا المقال، ولكننا معنيون بالتغيير الذي يؤدي لنمو الذات وتطورها، وهذا التغيير كما سنرى هو ناتج ضخم لقدرتنا على التعلم وتطبيق أنماط جديدة مغايرة عما نعرفه في الفكر والسلوك. لطالما كان الاعتقاد السائد أن الإمكانية لمثل هذا التغيير تتضاءل وتتناقص بتقدمنا في السن نقصًا كبيرًا، وهذه الفرضية التي تُعرف في علم النفس باسم (funnel hypothesis) ما عادت رائجة. إذ كشفت الأعمال في علم الإدراك وعلم النفس أننا وإنْ كنّا أكثر مرونة في سنوات حياتنا المبكرة، إلا أننا قادرون على تعلم سلوكيات جديدة وتغيير عناصر جوهرية في كياننا في سن الرشد.
إنّ هذه التغيرات الطارئة على عاداتنا هي الأكثر تأثيرًا واستمرارية، لكن عملية تبديل عادة سيئة بأخرى جيدة ليست بالمهمة السهلة، فبتقدم العمر تصبح عادتنا راسخة ومتأصلة لدرجة قد نتساءل معها: “هل نملك عاداتنا أم أنها هي التي تملكنا؟ “.
كما إن دورنا في تغيير عاداتنا يتطلب موقفا استباقيًا بالإضافة إلى جهودنا الموجه مباشرة نحو تقديم ما هو مستحدث إلى حياتنا. فكل التغييرات تتطلب التعرض لما هو مستحدث، وليس اكتساب عادة جديدة ببعيد عن ذلك. لذا علينا أن نستعد لاكتشاف وتجريب طرقٍ جديدة للتعامل مع أنفسنا، والآخرين، ومع بيئتنا، إذ إنه ودون هذه التجديد لن يوجد التغيير.
“يمكن للمرء أن يُسهل تغييره بتجربة فعالة لطرق جديدة لوجوده وكيانه وبالمشاركة الانتقائية (وكذلك) بترسيخ أنماط جديدة تخدمه جيدًا” (1)
وبينما تعد الحاجة للتجديد، من نواحٍ عديدة، دليلًا ذاتيًا على عملية التغيير -والتي عادةً ما يُغفل عنها- فإنها الأثر الذي يخلفه التجديد على حيواتنا. كما أشار ماهوني إلى أن التغيير يمكن أن يعد كعملية “نتمزق نحن فيها ونرتق.. النسيج الدقيق لحيواتنا”(2). تحدث مرحلة التصدع بينما نحن نهدم أنماطنا السلوكية اللاتكيفية ونبدأ بتجربة أخرى جديدة. لكن هذه المرحلة الجدلية من التغيير مشوشة وفوضوية، وهذه الفوضى تخلق أرضًا خصبة لنشوء أنماطٍ أخرى جديدة من التفاعل مع الذات ومع المحيط وربما كانت أكثر تكيفًا.
“الاضطراب/الفوضى مكوّن طبيعي وأساسي في إعادة تنظيم الحياة ويتطلب عمليات وخطوات… فنظام الحياة الجديدة الذي ربما يتطلب تسلل موجات من الاضطراب هو عادةً أكثر تعقيدًا واختلافًا عن سابقه”(3).
هذا التشوش والارباك الذي عادةً ما تتصف به عملية التغيير هو السبب وراء صعوبته الشديدة على كثير من الأشخاص؛ فإعادة رتق نسيج حيواتنا يؤدي إلى الشعور بالقلق، والحيرة، والشك، والخوف. لكننا لو أدركنا أن هذه المشاعر ليست علة فينا، ولكنها طبيعية في عملية التغيير سنكون أقل ميلًا لغواية العودة إلى طريقتنا القديمة في العيش، كما أن الفوضى الطبيعية في التغيير أيضًا تتأثر بسرعة حدوث هذا التغيير، فإذا ابتعدنا كثيرًا عن عاداتنا في زمن قصير، قد تخلّف الفوضى الناتج عن ذلك آثارًا مدمرة في حياتنا، كما يُبيّن ماهوني:
“هناك .. حدود لمدى قدرة الشخص على التغيير، ومدى سرعة ذلك التغيير دون تهديد سلامته/ها النفسية (إنه معنى من معاني الذات والواقعية)” (4).
لكن، ورغم أن عملية التغيير تدريجية، إلا أنها لا تسير في خطٍ مستقيم من المكاسب الصغيرة الثابتة، بل التغيير هو عملية حيوية خطواتها الصغيرة تتخللها قفزات كبيرة إلى الأمام من حين لآخر، ودومًا ما تلهمها التذبذبات بين أنفسنا القديمة والعادات الجديدة التي نحاول اكتسابها.
“عادة ما يعيش الواحد حال التغيير تتنافسًا بين أنماط التأقلم الجديدة والقديمة على السيطرة والتحكم كمعاناة داخلية أو كصراع”(5).
يشير ماهوني أننا عادةً ما نضخم هذا الصراع بلا مبرر بسبب عدم قدرتنا على ممارسة فن التقبّل. فنحن نميل إلى رغبتنا في السيطرة على كل جوانب حيواتنا، إلى إصلاح كل تقلباتنا وتغيراتنا، ولتخليص ذواتنا من كل جوانب ضعفنا، بيد أن الحياة ليست سهلة أبدًا ولا يتطلب التطور الذاتي أن نتعلم كيفية التغيير وحسب، ولكن أن نتعلم -بنفس القدر من الأهمية- كيفية ممارسة فن تقبل هذه الأشياء التي لا نقدر على تغييرها. يلخص ماهوني في كتابه “العلاج النفسي البنّاء” أهمية التغيير والتقبل في عملية تطوير الذات وتحسينها:
“نحنُ نتوقع، نحن نقدم في الحياة. نحن نتعثر في تقدمنا نحو كياننا. وكمحلق في سقوط حر، أو باستعمال طائرة شراعية، أو كبحار، أو كمتزلج تؤثر وضعيتنا في تلك العملية شكلها واتجاهها. نحن نتحرك في قلب قوى أكبر بكثير من ذواتنا، لكن لنا رغم ذلك صوتٌ واختيارٌ ضمن هذه القوى. ربما لا نقدر على التحكم بالنجوم أو الرياح، لكننا قادرون على تعلم كيفية قراءتها قراءة حسنة، وعلى توجيه سفننا وأفعالنا إلى جهات تخدم حركتنا. وخوفًا من أن تكون هذه الأصوات كلها طموحة أو جريئة جدًا يمكننا أن نتعلم أيضًا فن السكينة والتقبل المقدس في الدوامة اللامنتهية من المحاولة والاستسلام”(6).
عادات صغيرة: استراتيجية مبتكرة لغرس عادات حسنة
“عادات صغيرة: عادات أصغر، نتائج أكبر” (Mini Habits: Smaller Habits, Bigger Results) هو كتاب قصير يقدم استراتيجية مبتكرة لغرس العادات. وتستند الاستراتيجية إلى فرضية أن العقبات التي تعرقل تكوين العادات نابعة من عدم مصداقية المحفز ومحدودية طبيعة قوة الإرادة.
“نحنُ ما نكرر فعله. حينها تكون البراعة فعلًا لا عادةً” (أرسطو)
كما فهم أرسطو، سواء كانت عاداتنا حسنة أم سيئة؛ فإنها ما يحدد إلى حد كبير شخصياتنا، وبالتالي جودة حيواتنا. في واقع الأمر توصلت دراسة أجرتها جامعة دوك سنة 2006 إلى أن ما يزيد عن 45% من سلوكيات المرء اليومية هي عادة، لكن هذا لا يعني أن عاداتنا تؤثر فقط على ما نسبته 45% من حيواتنا، بل إن عادات المرء، مثل ممارسة الرياضة، أو التدخين، أو التأمل، يمتد أثرها لكل جوانب حياته؛ لأثرها على سلامته العقلية والجسدية. ولذا فإن تغيير الشخص لعاداته -التخلص من عادة سيئة وغرس أخرى جيدة محلها- هو المفتاح لتطوير الذات.
لحسن الحظ أصبحت الآن الفكرة الراسخة تنص على قدرة الناس على تغيير سلوكياتهم المعتادة بسبب مرونة وطواعية العقل. وهو ما شرحه ريتشارد أو كونور في كتابه (Rewire):
” هناك في العلم الحديث مستجدات مهمة تُشْعر بالتفاؤل: إنها فكرة العقل المرن (القابل للتغيير)، الاعتراف بأن عقولنا تتغير وتنمو فيزيائيًا استجابةً للتجارب الحياتية.
تتشكل باستمرار خلايا دماغية جديدة: تظل شبكات عصبية جديدة بين الخلايا تنمو بتعلمنا لأمور جديدة. يعرف علم الأعصاب الآن أن للعادات السيئة امتداد فيزيائي في بنية الدماغ: إذ أنها تصبح الدارات التلقائية التي تعمل حين نواجه ما يغرينا … لكننا الآن نعرف أيضًا أننا قادرون على تجديد العقل لصنع دارات أحسن”.
بالنظر للمعرفة بمرونة الدماغ، يصبح السؤال كيف للمرء أن يعزز بفاعلية هذه التغييرات الفيزيائية في الدماغ، والتي تسمح له بغرس عادات جديدة؟
يعرض المؤلف ستيفين غويس في كتابه (عادات صغيرة: استراتيجية مبتكرة لغرس عادات حسنة) استراتيجية مبتكرة وحديثة لغرس العادات الحسنة:
“إنّ مفاد استراتيجية العادات الصغيرة هو أن تُجبر نفسك على اتباع إجراءات استراتيجية “صغيرة وتافهة” يوميًا، وهذه الإجراءات والأفعال أتفه وأصغر من أن تفشل بالقيام بها، أو أن تؤجلها بسبب وجود مناسبات مهمة، إذ إنها تحقق هدفًا مزدوجًا: تشعل حماسك لفعل المزيد، وتصبح عادات “صغيرة” ثابتة”.
ولنضرب مثلًا بشخص يود أن يغرس عادة ممارسة التمارين: تملي عليه استراتيجية العادات الصغيرة أن يختار أفعالًا تافهة وصغيرة مرتبطة بالتمارين ويلتزم بممارستها كل يوم، وهذا يعني، مثلًا، ممارسة تمرين ضغط واحد، أو تمارين القفز خمس مرات، من ناحية أخرى فلو أراد أحدهم غرس عادة الكتابة في حياته فإن له أن يلتزم بكتابة خمسين كلمة يوميًا، وهكذا.
وهذه الاستراتيجية مبتكرة وبارعة لكونها تعالج أهم مشكلتين مرتبطة بامتلاك العادات الجيدة، وأعني: عدم موثوقية الحافز، ومحدودية ما تمدّنا به العزيمة أو قوة الإرادة (willpower).
لفهم مشكلة الاعتماد على الحافز، فكر بكل هؤلاء الأشخاص الذين يتخذون قرارًا للسنة الجديدة بأن يمارسوا التمارين بانتظام: سيشتري عددٌ من هؤلاء عضوية في النادي الرياضي بنيَّة الذهاب عدة مرات في الأسبوع، ولربما سيكون هذا الحافز كافيًا لتحقيق هذا الهدف في الأسابيع الأولى بعد شراء العضوية، لكنه لسوء الحظ لن يصمد. فالحافز -كما يعرف ذلك معظم الأشخاص- غير حقيقي ولذا لا يُمكن الاعتماد عليه في خلق العادات واكتسابها.
وهذا يؤدي بنا إلى قوة الإرادة: فحين لا يحركنا الحافز فعلينا أن نعتمد على قوة الإرادة لتدفعنا إلى أفعال جديدة ننوي اكتسابها. لكن قوةَ الإرادة، كما كشف عالم النفس روي بوميسِتر في عددٍ من الدراسات التي وثقها في كتابه “قوة الإرادة: إعادة اكتشاف أعظم قوى الإنسان”، مصدرٌ محدود. فمثلًا بعد يوم طويل في العمل أو حين يكون المرء متوترًا سيكون مخزونه من قوة الإرادة قليلًا، وقلة مخزون قوة الإرادة هو ما يُصعب على عدد من الأشخاص الشروع في الأفعال اللازمة لاكتساب عادة جديدة.
يجب على الاستراتيجية الفعالة في خلق العادات أن تضع نصب عينيها عدم موثوقية الحافز، ومحدودية قوة الإرادة بطبيعتها، ونرى أن استراتيجية العادات الصغيرة المبتكرة تتغلب على هاتين المشكلتين، فأولًا: هي استراتيجية لا تتطلب أن يظل المرء متحفزًا؛ فحين يكون المرء متحفزًا سيسهل عليه ممارسة العادات الصغيرة، لكن حين لا يكون كذلك، وهنا إذ يجب الاعتماد على قوة الإرادة، فإن العادات “الصغيرة التافهة” تعني أن ما يحتاجه هو نزر يسير من قوة الإرادة؛ فمقدار قوة الإرادة الذي تتطلبه ممارسة تمرين ضغط واحد أو كتابة خمسين كلمة يعني أن معظم الأشخاص سيقدرون على الإيفاء بالالتزام اليومي.
يؤدي هذا إلى السؤال التالي: كيف يمكن لممارسة عادة صغير يوميًا أن يساعد المرء في تحقيق هدفه الأسمى في زرع عادة أكثر ثباتًا ورسوخًا في حياته، أو بمعنى آخر كيف للالتزام بعادة صغيرة كتمرين ضغط يوميًا أن يؤدي لاكتساب عادة ممارسة التمارين التي ستجعل الشخص لائقًا بدنيًا، يشرح هذا غويس:
“إنّ الفائدة من اتباع نظام العادات الصغيرة هي تلك النتيجة الكبيرة المفاجئة، والفائدة الأولى: هناك احتمالية كبيرة أنك ستمارس “تمارين إضافية” بعد إنهائك لالتزامك اليومي الصغير؛ لأننا أصلًا نرغب بهذه السلوكيات الإيجابية والشروع فيها يقلل من المقاومة الداخلية. أما الفائدة الثانية فهي العادة. فحتى لو لم تزد على متطلبك اليومي سيصبح السلوك عادة (صغيرة)، ومن هناك تبدأ الممارسات الإضافية والزيادة. فائدة أخرى هي النجاح الثابت المستمر، ولئن كانت الأهداف الكبرى -كتحقيق ثروة ضخمة- أمرًا أكبر من أن يفشل فيه المرء، فإن العادات الصغيرة -في المقابل- أصغر من أن يتركها، ولذا، لا يصاحبها الشعور بالذنب الشائع المدمر، ولا العجز والقصور الذي يرافق الفشل في تحقيق الأهداف الكبرى عادًة، هذا أحد الأنظمة القليلة التي تضمن عمليًا النجاح اليومي بفضل التشجيع التصاعدي القوي، والأهداف القابلة لتحقيقها وبلوغها دومًا”(7).
بمعنى آخر فإن استراتيجية العادات الصغيرة فعالة جدًا؛ لأنها تعالج العائق الأكبر أمام غرس أي عادة جديدة في بداياتها، فمتى ما بدأ الواحد بعادته الصغيرة من غير المحتمل أبدًا أنه سيتوقف عن ممارسة تمرين ضغط واحد أو كتابة خمسين كلمة يوميًا، وبالتالي، فإن ذلك سيؤدي إلى غرس العادة التي يرغب بها كاملة.
ختامًا، نقول إن استراتيجية العادات الصغيرة هي طريقة مستحدثة ومبتكرة يتعين على أولئك الذين يعانون باتباع الطرق الأخرى لغرس العادات أن يأخذوا هذه النظرية بعين الاعتبار، ولذا فإن كتاب غويس جدير بالقراءة.
الهوامش:
(1): من كتاب العلاج النفسي البنّاء، مايكل ماهوني.
(2)/(3)/(6): المصدر السابق.
(4)/(5): من كتاب: عملية تغير الإنسان، مايكل ماهوني.
(7): من كتاب العادات الصغيرة، ستيفين غويس.
المصادر: