ما الذي قد لا يروق لنا في البَستَنة والعنايةِ بالحدائق؟ إنّها طَريقة مُثلى للتَنزّهِ في الهواءِ الطَلق، وتَشذيب مُخيلتنا، بعيدًا عن المشاغل اليوميّة الروتينيّة. فأيًّا كانت مرحلتكَ العُمرية، فهي شيءٌ مُفيدٌ لصِحَتّك، ويميلُ البستانيون -أو المهتمّون بالحدائق- لكونِهم أسعد غالبًا. لكنّ البَستَنة ليَستْ مُجرّدَ هوايةٍ للاسترخاء؛ فكما أشارت أبحاثٌ في علمِ النَفس أنّ الميلَ إلى البَستنةِ والاهتمام بالحَدائق يُمكن أنْ يَكون ذا تأثيراتٍ سحريّة أحدها هو تغيّر مرورِ الوَقت.
إنّني أهوى البَستَنة، إذْ أزرعُ حَديقةً في كُلّ منزلٍ أنتقلُ إليه، أو أُعيد ترميمَ وزِراعة حديقته، بإحضارِ النباتاتِ وإعادةِ تَجديد الأشياء. إنّ البَستَنة جزءُ مني، فقد اعتادَتْ عائلتي على انزوائي في الحَديقة في عُطلِ نهايةِ الأسبوع، وبِمُجردِّ أن أنَسى نفسي هناك، يَظلُّ الوقتُ ثابتًا وساكَنًا؛ فيحَلُّ الليل دونَ أن أنتبَه لمرور الوقتِ وأنا في مكاني مُنذُ الصباح.
ولَستُ وحدي مَنْ يعرفُ هذا الشَعور، فقَد وَصَف كَثيرٌ مِنْ البُستانيين في الماضي والحَاضر تَجاربَ مُمَاثِلة عن شعورهم بالانفصالِ عن حياتهم المُزدَحِمَةِ ومشاكلها حينَ يَنسون أنفسهم في الحَديقةِ أو فِناء المَنزل. إنّ الحَديقة والعِناية بها تُعدُّ مَلاذًا نلتَجِئُ إليه هروبًا مِن الضغوطِ اليوميّة. وقد أخبرني بعض الناس أنّ حدائقهم تُمَثِّلُ «خَلاصًا» بالنسبةِ لهم، وبدونها سيَفتَقِدونَ شيئًا مُهِمًا في حياتهم. هذا الاِنفصالُ الذِهني لا يتمحورُ فقط حولَ التوقّف عنْ التفكير؛ بل أيضًا حول إدراك الوَقت نفسه.
يَقول البستانيون إنّ الوقت في الحَديقةِ يبدو غالبًا أقصرَ مما هو عليه؛ حيث تَنسابُ الساعة التي خُطِّطَ لقضائها فيها بسهولة. فبداية الوقت ونهايته في الحديقةِ يَعتمدُ على المهامِ المُجدولة في ذلكَ اليوم، أو على توقيتِ الطَبيعة. وتَتنوّع المهام ما بينَ الأعمالِ التي لا بُد مِنها؛ مِثل إزالةِ الأعشابِ الضَارّة، وتَفقُّدِ نمو النباتات، ومَهام عَرضيّة من وقتٍ لآخر مثلَ تَشذيبِ العُشب. أما التوقيت الطبيعي فَيعتمِدُ على عوامل طبيعية خارج إرادتنا مثل شُروقِ الشَمس وغروبها، وتعاقُب الفصول. ويُقاس بالوقتِ الذي تَستغرقه البُذور لتَنبُت وتصير جَزرًا أو أزهارَ ذُرة، أو بمواسم قُدوم طيورٍ مُعيّنة. إنّ الالتزامَ بالتوقيتِ الطبيعي يُحتّمُ عليّ وعلى البستانيين نوعًا مِنْ الانفصالِ عنْ الإيقاعِ الاجتماعي المُعتاد كالاجتماعاتِ والمناسبات والتَنقُّل.
إنّ توقّف الزَمن جُزءٌ لا يَتجزأ مِنْ تَجربةٍ ذهنيّة تُدعى «التَدفُق الذهني». التَدفق هو حالةٌ ذهنيّة تَجعلك في حالة تركيزٍ مُكثّف، وتغمرك بشعورٍ سَعيد وأنتَ مُنهمِكٌ في عملِ نَشاطٍ تُحبّه إلى درجة أنك لا تلحظ معه أي شيءٍ، بما في ذلكَ مرور الوقت. وهذا يُشابه تَمامًا تجربتي مع الحديقة. إذْ يَجعل التَدفقُ النَشاطَ الذي نقوم به مِحور اهتمامِنا، ويُلغي الحدود بينَ الذات والنشاط. قد يَشرح لنا مفهوم «التَدفُّق الذهني» السبب الذي يَجعل مِنْ تَجربة الانغماس في الحَديقةِ مُغرية، إلا أنّه لا يَبيّن لنا بالضبط ما الذي يجذب الكثيرون إلى الحدائق في المقامِ الأول، هذا الانجذاب الذي يَنتهي بهم إلى الارتباط بها.
لعلَّ للحديقةِ دورٌ أساسي في ذلك، فِكرة أنْ نُراقِب عن كَثب ماذا يَحدث في غيابنا وما الذي علينا فِعله بعد ذلك. إنّ هذا يجعل الحديقة مُثيرةً للاهتمام وجذّابة، ويحوّل تركيزنا الذِهني للبيئة الطبيعية. في الحقيقة يُعد «الافتتان» أحد جوانب نظرية استعادة الانتباه «ART»، التي طوّرها عالِما النفس الأمريكيان رايتشل وستيفن كابلان، وتم تقديمها في كتابهما «تجربة الطبيعة» 1989؛ إذْ تَصف النظريّة كيف أنّ البشر مُهيئين للانخراطِ مع العالم الطبيعي، وإيجاد الراحة فيه وتجديد النَفس. تَتمحور النظريّة حولَ تأثيرِ الطبيعة علينا وتَعلُّقِنا بها. المحور الأساسي هو أنّ للطبيعةِ القُدرة على مُساعدتنا في التَعافي مِنْ الاضطرابِ النَفسي والتَخفّف من العبء الذهني.
تَأسرُ الطبيعة اهتمامنا: النَحل الطَنّان على أزهارِ الخُزامى، وخَشخشة الأوراقِ المُتساقِطة، وعبور الغيوم، والبَراعِم المُتَفتحة، كُلّها أشياء من الممكن أن تَسحرنا. تَسرح عقولنا إلى البَعيد مع الطَبيعة، تُخرجنا قليلًا مِنْ سَطوة اهتماماتنا الشخصيّة. وإنْ كانَ جَوهر الطَبيعة مُثيرًا للاهتمام، فإنّ ازدياد احتكاك الناس بها يَسترعي انتباههم أكثر ويُخفف مِن تركيزهم على القضايا الأخرى. تَتطلب عملية استعادة الانتباه المُقَدّمة في نظرية «ART»، ثلاثة عوامل: «الامتداد، والابتعاد، والانسجام». هذه العوامل مُجتَمِعة قَد تُفَسِّر تَغيّر الشعور بالزَمن لدى البُستانيين.
إنّ فِكرةَ الهروب الجَسدي مِن الداخل إلى الخارج، وتَجربة رِقّة العيشِ في مكانٍ قَصيٍّ يَزدهر بالسلام، بعيدًا عنْ المنزل وحياة المكتب، حيثُ يُمكنني الشعور بأشعةِ الشمس والرياح تُلامس ظهري، إنّ هذه الفكرة بحدّ ذاتها تبعثُ الشفاء. إنّ هذا أحد الجوانب الأساسية في البستنة بالنسبة لي، ويَعكِس عنصر «الابتعاد» في النظرية. إنّ الاسترخاء يعني تقليل هرمونات التوتّر، وبالتالي فإن الراحة هُنا جسدية بقدرِ ما هي نفسيّة. إنّ الابتعاد -حتى لو كانَ لوقتٍ قصير- مُهمٌ للغاية للتجدد الروحيّ، وأيًّا كانت مساحتها، فإنّ الحدائقُ تَنقلنا إلى عالمٍ مُختلف. مع ذلكَ، فإنّ تَحقيق الفائدةِ النفسية يتطلب أيضًا عُنصرًا مُهمًا للأماكن وهو «الامتداد».
إنّ «الامتداد» ما هو إلا فكرة أنّ الحديقة مُرتبطِة ماديًّا وروحيًّا بحياة البستاني؛ بماضيه وحاضِره ومستقبله. إذْ يجعل «الامتداد» من الحديقة مًستودعًا للذكرياتِ والعواطِف؛ مكانًا تتقاطع فيه ذكرياتٌ مُختلفة. على سبيلِ المثال، دائمًا ما أزرع نبتة عباءة السيدة في حديقتي، ليس فقط لافتتاني بالطريقة التي تَحمل فيها قطرات الندى، ولكن لأنها أيضًا تُذكرني بأجدادي. عندما أراها أسمعُ صوت جدي ينَطق اسمها وكيف كانَ يَجدُه مُضحكًا. غالبًا ما يَتضح جُزءٌ من التاريخِ العائلي في حديثِ الأشخاص عن حدائقهم أو مُمتلكاتهم الخاصّة. وقد تتجلى الذكريات مِنْ خلال أعمالِ العناية بالحدائق، فكما أخبرني رجلٌ قابلته بأنّه عندما كان يَحفر في الحديقة قد انتبه إلى أنّه يقوم بنفس الحركات التي كانَ يقوم بها حينَ كانَ مُراهِقًا يعمل في المَصهر، وشعَر أنّ الإحساس أعاده شابًا.
إنّ ذكرى هذا الرجل المُجسّدة في الماضي تَعكس عُنصر «الانسجام». فبالنسبةِ له، كانَ ذلكَ النشاط البدني ذا معنىً نفسيٍّ وعاطفيّ، وتَنسجم البستنة مع طبيعته التي كانَ عليها في الماضي، وما يُمكنه فعله في الحاضر. إنّ الانسجام يعني امتلاكَ الوقت والقدرة على إنجازِ أشياء مُرتبطة بنا. فمثلًا زراعة الطعام الطازج مُرتبطة بدوركَ كمزَوّد غذائي للعائلة، واهتمام جارتي بالوصول إلى النتيجة المثاليةِ لزهرِ الأقحوان مُرتبط برغبتها في الفوزِ بجائزةٍ ما.
إنّ البستنة والعناية بالحدائقِ هوايةٌ ذاتَ فائدة وتَبعثُ على الراحة. تُوفّر لنا فرصةً للهروبِ والانفصالِ الذهني بعيدًا عن المشاغِل اليوميّة، وتَمنحنا لذّةً ساحِرة. ولكنّها في العُمق أكثر بكثير من ذلك. إنّ القوّة النفسيّة في جوهرها مُستمَدةٌ مِنْ قُدرة الحَديقة على تخطّي الزمان والمكان. إنّ أشكال الوقت المُختلفة والمُعقدة في رأيي تتفاعل باستمرار في محيطِ الحَديقة والبستاني. إذْ يتشابَك الماضي مع الحاضر والمُستقبل في أصيص الأزهار، ويَجذبُ البستاني لنسيان نفسه ببهجةٍ في هذا «التَدفق». وليهتم شَخصٌ آخر بأمرِ الغَداء.