زان بواج: لقد توغلت في لغز الزمن على مدار حياتك، وهي رحلة أدت بك في النهاية إلى تأليف كتاب The Order of Time (نظام الزمن). فلماذا؟ وما الذي جعلك تتوغل في هذا الموضوع؟
كارلو روفيلي: أعتقد أن هناك إجابتين منفصلتين. إحداهما هي أنني كنت مفتونًا بالفيزياء النظرية، وانبهرت تحديدًا بفيزياء القرن العشرين – بميكانيكا الكم والنسبية العامة – وبعد ذلك اكتشفتُ أن ثمة مشكلة غير محسومة تقع في قلب الفيزياء النظرية، وهي الجاذبية الكمية، فقررتُ دراسة الجاذبية الكمية. تقع طبيعة الزمن في بؤرة تركيز مشكلة الجاذبية الكمية: إذ تتطلب مواجهة هذه المشكلة إعادة التفكير في ماهية المكان والزمن. وسبب ذلك هو أننا نكتشف أشياءً عن المكان والزمن لا تتوافق مع حدسنا المسبق، وعلينا تكييف فهمنا للمكان والزمن مع ما اكتشفناه ومع الفيزياء الجديدة التي نريد تطويرها. هذه هي الإجابة الأولى. هناك في الواقع إجابة ثانية، معاكسة تمامًا. فقد افتتنتُ بالجاذبية الكمية تحديدًا لأنها تتطلب إعادة التفكير في المكان، وإعادة التفكير في الزمن، وكنت مهتمًّا بهذا لفترة طويلة، قبل أن أحصل على فرصة لمعرفة الفيزياء؛ أي منذ سنوات المراهقة. ففي أثناء مرحلة المراهقة، تصير كل الأفكار مرتبكة ويدور في خلد المرء كل أنواع الأسئلة الفلسفية: “ما هو الواقع؟”، “ما هي الكينونة؟”، “ما هو الوهم؟”، بما في ذلك أسئلة مثل: “ما هو الزمن؟” و”ما الذي يعنيه مرور الزمن؟”. كنت مراهقًا من هذا النوع، كنت مرتبكًا، ومليئًا بالأسئلة، وفضوليًّا للغاية، ومهتمًّا بشدة بما تقوله الفلسفة عن ذلك. وحين اكتشفت أن هناك فرعًا من الفيزياء يتناول هذه الأسئلة مباشرة، وفي الحقيقة يبين أن فهمنا البديهي للمكان والزمن فهم خاطئ، فكرت: “عجبًا، هذا هو ما أريد القيام به لبقية حياتي.” وهو ما فعلته بالفعل.
من الواضح أنه كان لأينشتاين تأثير عميق على عملك. كيف تأمل أن تبني على بعض أفكاره بشأن الزمن، أو تهدمها إذا لزم الأمر؟
إن المعرفة بعالمنا معرفة تجريبية على الدوام، لذا فهناك مناقشة فلسفية عن الزمن، لكن هناك أيضًا حقائق تبين أن بعض أفكارنا صحيح، وبعضها خاطئ. لقد بُنيَت فيزياء القرن العشرين العظيمة على الحقائق والقياسات والنتائج، وهو ما أدى بنا إلى ميكانيكا الكم، وإلى النسبية العامة. وقد غيرت نظرية أينشتاين بالفعل فهمنا السابق للمكان والزمن تغييرًا كبيرًا. غير أن ميكانيكا الكم لا تتوافق مع فهم أينشتاين للمكان والزمن، وميكانيكا الكم صحيحة؛ إذ إن هناك الكثير من التجارب التي تؤكد صحتها. ومن ثم فإن علينا أن نجد طريقة للتفكير بشأن المكان والزمن تتسم بتوافقها مع ميكانيكا الكم وكذلك مع نسبية أينشتاين. وعلينا التقدم في كليهما، وهذه مشكلة الزمن في الجاذبية الكمية. إنها مشكلة مبهرة لأن الزمن له ارتباط مباشر بنا. فنحن نشعر بالزمن في حياتنا، ونعرف ما هو الزمن. ونحن نعرفه جيدًا، وبوضوح، وبصورة بديهية، لدرجة أن لدينا هذه الفكرة الشديدة التعقيد، وهذه الفكرة الشديدة الثراء عن الزمن: أنه يتدفق، وينقضي، أن المستقبل مختلف عن الماضي، وأن الزمن متماثل في نظر الجميع، وأن الساعات تقيسه. غير أن غالبية هذه الأفكار، كما فهمنا، لست هي الطريقة التي تمل بها الطبيعة؛ بل هي صورة تقريبية. إنها صورة مبسطة. وكلما درست الزمن، أدركت أنها مشكلة معقدة ومتعددة الطبقات. ويكمن جمال المشكلة في الحاجة إلى ربط ما نعرفه من الفيزياء بخبراتنا.
لقد خضع الزمن للنقاش لآلاف السنوات. والفكرة النيوتونية عن الزمن يبدو أنها ظلت رائجة لأكثر من 300 عام؛ وهي تقضي بأن هناك تدفق ثابت متصل للزمن. لكن إذا رجعت إلى الوراء أكثر، فهناك الفكرة الكلاسيكية الأرسطية، التي تقضي بأن الزمن لا يوجد إلا عندما يحدث شيء، وأنه ليس عامَّا، ولكنه شيء محلي، شيء يشعر به شخص ما. الفكرة النيوتونية تبدو أنها الأكثر اعتناقًا بشأن الكيفية التي يعمل بها الزمن، ويتدفق في استمرارية من الماضي إلى المستقبل، لكن هل الفكرة الأرسطية أقرب إلى الصحة؟ أم هل الفكرتان خاطئتان؟
الفكرة الأرسطية أقرب بصورة ما من الصحة. إنها غير كاملة، وهناك الكثير من الأمور الغائبة فيها، لكنها في الواقع أقرب إلى الصحة. واليوم، نحن نعتبر الفكرة النيوتونية عن الزمن بديهية، غير أن البشرية لم تكن تعتبر هذه الفكرة بديهية قبل نيوتن. وما نعتبره اليوم بديهيًّا هو أمر حديث، لا يتجاوز عمره بضعة قرون. وعلى مدار آلاف السنوات من الحضارة الزراعية، كانت الطريقة التي يفكر بها الناس في الزمن مختلفة. لقد كان الزمن مجرد طريقة لإحصاء الأشياء التي تحدث؛ النهار، الليل، النهار، الليل، النهار، الليل. فالنبات ينمو، ونحن نتحدث، لذا هناك الكثير من الأشياء التي تحدث، ونحن نحصي هذه التغييرات التي تتحقق مع حدوث الأشياء، وهذا هو الزمن. بعد ذلك جاء نيوتن ومعه هذه الفكرة البديهية: أن الزمن موجود بصورة منفصلة، وأنه مستقل عن حدوث الأشياء. كانت ليه فكرة عن متغير، t، يتدفق وأنه مساوي لنفسه، وعام، ورياضي، وصحيح، وأن هذا هو الزمن الفعلي الحقيقي، الذي يتدفق، نهر الكون، زمن الأشياء، زمن الأحداث الخاصة بكل شيء. نجح هذا البناء بصورة جيدة جدًّا، ولهذا السبب تبنيناه جميعًا. فنحن ندرسه في المدرسة، ونحل المسائل بهذا المتغير t، ونعتقد أن الساعات هي مجرد أدوات لتتبع هذا المتغير. لكن تبين لنا أن هذا التصور عن الزمن ما هو إلا تصور تقريبي، وأن ما يتتبعه هذا المتغير هو تغير في حدوث كيان واحد بعينه في العالم، وهو مجال الجاذبية، الذي لا يتسم بكونه عالميًّا، وليس مستقلًّا عن بقية ما حوله، وليس متماثلًا لدى الجميع، وهو يتغير اعتمادًا على الموضع الذي يوجد به المرء، وتكون النتيجة أن الساعات ليست متماثلة في كل مكان، وأن السرعة التي تتحرك بها الساعة تتأثر بالأشياء الموجودة حولها. لقد منحنا أينشتاين هذا الفهم الأكثر تفصيلًا للزمن، والذي فيه بدلًا من هذا الزمن النيوتوني المطلق يوجد شيء يحدث، وهو مجال الجاذبية. وبمعنى ما هذا يشبه الفكرة الأرسطية القائلة بأن الزمن محض وسيلة لإحصاء الأحداث التي تقع. وهو ليس مساويًا تمامًا للفكرة الأرسطية لأنه أكثر تعقيدًا بكثير، فنحن نعرف كيف نحسب الاختلاف في السرعة بين ساعتين؛ وكيف تسير إحداهما بصورة أسرع والأخرى بصورة أبطأ، وهكذا. ومع ذلك، فإن ما نعنيه بكلمة “الزمن” بعد أينشتاين هو أقرب كثيرًا إلى إحصاء الأحداث، منه إلى التدفق المستقل الذي تذهب إليه الفكرة النيوتونية. الأمر المثير للدهشة هو أننا اليوم نعتبر الفكرة النيوتونية عن الزمن بديهية، رغم أن البشرية لم تكن تعتبرها بديهية قبل نيوتن. وما نعتبره اليوم بديهيًّا هو أمر حديث، لا يتجاوز عمره بضعة قرون.
أود أن أتوغل قليلًا فيما ذكرته عن كون الزمن ليس ثابتًا؛ وأنه يختلف باختلاف البيئات، وأن الأشخاص المختلفين يشعرون بالزمن بصورة مختلفة. فعلى الرغم من حقيقة أن حياتنا محكومة بمفهوم منتظم للزمن – تسجل فيه الساعات والتقاويم الزمن وتقيسه – أعتقد أن غالبية الناس سيتفقون على الأرجح مع هذا التغيُّر: إذ إننا كثيرًا ما نشعر بالزمن وكأنه يسير بصورة أسرع أو أبطأ، ويتقدم ويتراجع، ويتسارع ويتباطأ، في مراحل مختلفة وفي بيئات مختلفة. فلماذا الأمر كذلك؟
نحن نشعر بمرور الزمن بسرعات مختلفة؛ ما من شك في ذلك. والكل يعلم أن الساعة التي نقوم فيها بعمل ممل تكون أطول من الساعة التي نقوم فيها بعمل ممتع. لكن بعد ذلك نذهب إلى المدرسة ويقول لنا معلمونا إن هذا تأثير نفسي وحسب، وهو أمر صحيح، وأن هناك وقت عام كامن خلف هذه التجربة، يمكن قياسه بواسطة الساعات، وأن كل الساعات تسير بالسرعة ذاتها؛ ولكن هذا غير صحيح فالزمن يمر بسرعات مختلفة من الناحية النفسية بالنسبة لنا، وهذه حقيقة. غير أن الفكرة القائلة بأن زمن الساعات متماثل لكل شخص فكرة خاطئة. وهكذا فإن ما نشعر به يكون أقرب إلى الواقع مما نتعلمه في صفوف الفيزياء. يمكننا اختبار الأمر بسهولة في وقتنا الحالي عن طريق أخذ ساعتين ووضع واحدة في مكان مرتفع والأخرى في مكان منخفض. واليوم، حتى في وجود اختلاف مقداره بضع سنتيمترات فإننا نمتلك ساعات جيدة بما يكفي لرؤية أن الساعة المرتفعة تسير أسرع من الساعة المنخفضة. ومن ثم فإن المزيد من الزمن ينقضي، حرفيًّا، عند رؤوسنا مقارنة بأقدامنا. فرؤوسنا أكبر عمرًا على الدوام من أقدامنا، ما لم تمضي حياتك في وضع مقلوب …
من الواضح أن للزمن أهمية كبيرة لنا؛ وكلمة الزمن، time، هي الاسم الأكثر استخدامًا في اللغة الإنجليزية. والسؤال هو: لماذا؟ ثمة فقرة بارزة علقت في ذهني من كتابك تشير إلى الكيفية التي يفتح بها الزمن مُدخلنا المحدود إلى العالم. وقد كتبت: “الزمن إذن، هو الشكل الذي نتفاعل به نحن البشر، المؤلفة أدمغتنا أساسًا من الذاكرة والبصيرة، مع العالم: فهو مصدر هويتنا.” هل مفهومنا عن الزمن، مع التفاعل بين الذاكرة والبصيرة، يساعدنا على بناء سرد متسق ومتماسك لحياتنا؟ وهل هو، بالتبعية، الغراء الذي يُبقي هويتنا متماسكة؟
الإجابة نعم. فمن الأشياء الرئيسية التي أفهمها عن الفيزياء وعن مشكلة الزمن عمومًا هي أنه ينبغي على المرء عدم الخلط بين الزمن في الفيزياء، أي الكيفية التي تسير بها الساعات، وخبرتنا الذاتية عن الزمن. فهذان الشيئان متصلان، لكنهما مختلفان. إن خبرتنا عن الزمن متصلة بالساعات لا شك، لكنها أكثر ثراء بكثير من أي شيء تقيسه الساعات بصورة مباشرة، لأن خبرتنا عن الزمن ليست قاصرة على لحظة واحدة؛ إذ إن لدينا هذا الإحساس بتدفق الزمن، هذا الإحساس بمرور الزمن. لماذا؟ وما هو؟ أؤمن أنه ليس شيئًا متصلًا بصورة مباشرة بالفيزياء، فهذا شيء متصل بالطريقة التي تعمل بها أدمغتنا. فالدماغ لا يوجد وحسب في لحظة ما، بمعنى أنه يستخدم بكثافة بقايا الماضي، ما حدث قبل ذلك وفق زمن الساعات، ويخزنها في الذاكرة. وعندما نفكر في الزمن، فإن ما نفكر فيه حقًّا هي حقيقة أن لدينا ذاكرة. فالذاكرة تأخذنا إلى الماضي. وما يأخذنا إلى المستقبل هي قدرتنا على التنبؤ، وتصور المستقبل، وتوقعه. إن الدماغ البشري ماكينة تستخدم الذكريات المخزنة في محاولة التنبؤ بالمستقبل وتتصرف وفقًا لذلك. وفي الخط الطويل للزمن الفيزيائي، نحن متصلون بنافذة صغيرة للزمن، بواسطة ذكرياتنا الشخصية، والذكريات التي نستقيها من الكتب، والذكريات التي نحصل عليها من تليسكوبات الماضي، وهكذا دواليك، ونحن متصلون بالمثل بالمستقبل بواسطة تخميننا بشأنه: هذا ما يعنيه الزمن لنا. وأؤمن أنك إذا أردت فهم ما يعنيه الزمن لنا، فإن المعادلات الفيزيائية للجاذبية الكمية، أو المعادلات التي وضعها نيوتن أو أينشتاين، ليست كافية بصورة مباشرة، وسيتعين عليك أن تفهم أيضًا الكيفية التي تعمل بها أدمغتنا.
أنت تتحدث عن “الزمن الخاص بنا”. إذا نظرنا إلى الماضي، قبل أن يوجد البشر، وإلى المستقبل، حين لا يوجد نوع يحصي الزمن أو يسجله، فما الذي سيحدث للزمن؟ هل يوجد الزمن فقط حين يوجد شخص ما أو شيء ما يقوم بتسجيله، وملاحظة وجوده؟
مفتاح الإجابة على هذا السؤال هو فهم أننا نعني بكلمة “الزمن” أشياء شديدة التنوع والاختلاف. فإذا كنا نعني بالزمن التعقيد الوقتي الكامل لحياتنا التجريبية، فبالتأكيد لم يكن للزمن وجود من دوننا؛ لأن الزمن يعني ضمنيًّا الذكريات، وإذا لم تكن توجد ذاكرة، فلا وجود لهذا النوع من الزمن. لكن إذا كنا نعني بالزمن ببساطة إحصاء الأحداث، أو موضع العقرب على الساعة، حينها من الواضح أن الزمن كان له وجود قبلنا. إن مفتاح محاولة فهم الزمن هو الخروج من الخطأ المتمثل في اعتبار الزمن حزمة واحدة. فمفهوم الزمن متعدد الطبقات: وكلما ركزنا على دراسة الجوانب العامة للكون، قل عدد الخصائص التي تتضح لنا.
ثمة مفهوم آخر تعرضت له بالشرح وهو فكرتنا عن الحاضر، عن وجود “لحظة حاضرة” كونية. كيف تختلف “لحظتي الحاضرة” عن لحظتك، وعن “اللحظة الحاضرة” الخاصة بشخص موجود على مسافة بعيدة من الموضع الذي نوجد فيه، لنقل مثلًا اللحظة الخاصة بشخص موجود على مسافة سنوات ضوئية من كوكب الأرض، وهو المثال الذي استخدمته في كتابك؟
أعتقد أن هذا هو الاكتشاف الأبرز للفيزياء الحديثة، بل وربما الاكتشاف الأبرز للعلم الحديث. ما اكتشفناه هو حقيقة أن “اللحظة الحاضرة” التي تختلف باختلاف الأماكن في الكون لا تسير معًا بصورة طبيعية على الإطلاق. فالسؤال عما يحدث في “اللحظة الحاضرة” في مجرة مختلفة هو سؤال عديم المعنى حرفيًّا. فأنت وأنا نتشارك “لحظة حاضرة” لأننا نتحدث، وبذا يمكنني أن أقول “اللحظة الحاضرة” لك وستفهم ما أعنيه. لكن ما الذي يحدث حقًّا بينك وبيني هو أن هناك فجوة في التواصل – الزمن الذي تستغرقه المعلومات في الانتقال مني إليك – وحين نكون في نفس الغرفة سيقدر هذا الزمن ببضع نانوثانية، أي سيكون ضئيلًا للغاية وغير محسوس من جانبنا. لكن حتى إذا كنت موجودًا على الجانب الآخر من الكوكب فسيكون الفاصل قصيرًا للغاية، لا يزيد عن كسر بسيط من الثانية. هذا الاختلاف ليس له أهمية لنا، لذا يمكننا التحدث عن “اللحظة الحاضرة” المشتركة. لكن إذا كنت بعيدًا للغاية، فستكون هذه الفجوة هائلة. وستكون واعيًا للغاية بأنك لو قلتَ: “الآن”، وقلتُ أنا: “حسنًا، الآن.” وسمعتني أنت … فربما تكون قد انقضت 20 عامًا بين قولك “الآن”، وسماعي وأنا أقول: “حسنًا، الآن.” هل يمكننا العثور على طرق للاتفاق على “لحظة حاضرة” مشتركة؟ كل التجارب التي أُجريت على الضوء توضح بجلاء أن الإجابة هي: لا؛ فمن المستحيل تحديد “لحظة حاضرة” كونية. هذا يعني أننا لا نستطيع التفكير في الواقع، أو في الكون، بوصفه “لحظة حاضرة” مشتركة تمر بنا. فنحن مجبرون على التفكير فيه بوصفه مجموعة من “اللحظات الحاضرة” المحلية. فهناك “اللحظة الحاضرة” الخاصة بك، و”اللحظة الحاضرة” الخاصة بي، التي يمكننا توصيلها، غير أن هذا التوصيل يستغرق وقتًا. إن الواقع الزمني للكون أشبه بنسيج مرقع مؤلف من لحظات زمنية محلية، ولا يوجد معنى لوجود لحظة حاضرة عالمية للكون. هذا أمر مفاجئ، وصادم، ويخالف البديهة، لكنها حقيقة من حقائق الطبيعة. الأمر يشبه الأرض حين تبدو مسطحة في نظرنا، لكنها في حقيقة الأمر كروية. وبمجرد أن نستوعب هذا، يصير الأمر على ما يرام. ليس هذا أمرًا جذريًّا، كذلك لا يعد غياب “اللحظة الحاضرة” الكونية تغييرًا جذريًّا، لكن من الصعب تعديل حدسنا.
أود أن أقرأ عليك اقتباسًا من كتابك، تدعونا فيه إلى التوقف عن التفكير في العالم باعتباره يتألف من “أشياء”. والاقتباس يقول: “ليس العالم مجموعة من الأشياء، بل هو مجموعة من الأحداث. والفارق بين الأشياء والأحداث هو أن الأشياء موجودة داخل الزمن، بينما الأحداث لها فترة محدودة. يعد الحجر “شيئًا” نموذجيًّا: فيمكننا أن نسأل أنفسنا أين سيكون غدًا. على العكس من ذلك فإن القُبلة “حدث”. وليس من المنطقي أن نسأل أين ستكون القبلة غدًا. يتألف العالم من شبكات من القبلات، لا الأحجار.” الآن، أرى أن الجزء الذي يجد الكثيرون صعوبة بالغة في تقبله، خاصة العلماء، ربما لا يتعلق بالفكرة نفسها، وإنما بتمثيلك للفكرة: استخدامك للغة الشعرية بدلًا من المعادلات من أجل توضيح مقصدك. لماذا تعتقد أن استخدام اللغة المثيرة للمشاعر أمر مهم في توصيل الأفكار المعقدة؟
لسببين مستقلين. الأول هو أنني لم أكتب هذا الكتاب من أجل زملائي وحسب، ولكن من أجل جمهور كبير أيضًا، بحيث أردت، ببساطة، استخدام لغة غير مملة. لكن هناك إجابة أخرى، وهي أن العلم يتحدى أفكارنا، وهو يجبرنا على العثور على مفاهيم جديدة، وطرق جديدة في التفكير. هناك جانب حالم لهذا الأمر، جانب إبداعي فيه، وهناك دائمًا جانب مجازي قوي للابتكار العلمي. إننا نقدم أفكارًا جديدة، تبدو شبيهة بأفكار سابقة، وذلك عن طريق إعادة ترتيب المفاهيم السابقة؛ فنحن نقول إن الإلكترون “يشبه حجرًا صغيرًا”. بعد ذلك نقول إنه لا يشبه الحجر الصغير تمامًا، لهو يشبه الحجر الصغير لكنه أيضًا يشبه الموجة. ونحن نستخدم التشبيهات طوال الوقت. علينا استخدام التشبيهات، فهذه هي الطريقة الصحيحة للتفكير لأنها هي الطريقة التي تعمل بها أدمغتنا: فهي تفهم المفاهيم الجديدة عن طريق الاستعانة بمفاهيم تمتلكها بالفعل. وبمجرد أن ندرك أن هذا يحدث، حريٌّ بنا أن نواصل المضي فيه إلى النهاية، والشعر هو اللعبة الجوهرية للتشبيهات.
في إحدى المقابلات قلت: “إننا نعيش داخل الزمن، غير أن الزمن هو مصدر فرحتنا وتعاستنا”، وأنت بهذا تشير إلى خوفنا من الموت. فهل هذا بالتبعية هو سبب هوسنا بالزمن؛ هل يرتبط بخوفنا من الموت، وأن الزمن طريقة لعد الفترات المتبقية تنازليًّا في حياتنا المحدودة؟
أعتقد ذلك. فأنا أرى أن الكثير من فضولنا بشأن الزمن والكثير من افتتاننا بالزمن مرتبط تحديدًا بحقيقة أن الزمن ليس محايدًا من الناحية الشعورية بالنسبة لنا؛ فالزمن مشحون من الناحية الشعورية. وسبب هذا هو أننا نموت، ونفقد كذلك الأشخاص الذين نحبهم، ونفقد الأشياء. فنحن نواصل اكتساب الأشياء في الحياة، ونواصل فقدانها، وهذا ما يطلق عليه البوذيون سرعة الزوال، ويقولون إن صعوبة تقبلها هي مصدر تعاستنا. لذا الزمن مشحون شعوريًّا. من ناحية، هذا الشعور يجعل الأشياء ضبابية؛ فعندما يرغب المرء في التحلي بالعقلانية، فإنه يرغب في تحرير نفسه من ارتباك المشاعر. لكن من ناحية أخرى، أعتقد أن هذا الشعور لا يمكن تنحيته جانبًا لأنني أرى أن إحساسنا بتدفق الزمن هو إحساس شعوري في جزء منه، وليس شيئًا يمكن قياسه بساعة. فهو شيء نشعر به. وبدرجة ما لا يصير ما يعنيه الزمن إلينا مبهمًا بسبب هذه المشاعر، بل إنه يتشكل تمامًا بواسطة هذه المشاعر، ولهذا السبب يشغل الزمن مكانًا محوريًّا في تفكيرنا وهو ما ينطبق أيضًا على نظرتنا للزمن، أي الطريقة التي ندركه بها، إذ إنها محورية للغاية بالنسبة إلى الطريقة التي نعيش بها الحياة؛ ما إذا كنا نعيش حياة طيبة أم سيئة، حياة عامرة بالسكينة أم حياة مليئة بالمعاناة.
هذا جزء من الزمن لا مفر منه؛ الزمن المحدود الذي يتبقى لنا كي نعيشه في حياتنا، سواء أكان عامين أم 102 عام. والآن، إن لك قراءات واسعة، من بينها أعمال الفلاسفة والشعراء القدامى، ومن الواضح أن الشاعر الروماني هوراس يعد من بينهم، إذ إن كل فصل تقريبًا من فصول كتابك يبدأ بعبارة مقتبسة منه. ما الذي يمكننا تعلمه من الشعراء والفلاسفة القدامى – سواء هوراس أو سينيكا أو أفلاطون – بشأن كيفية استخدام الوقت المتبقي في حياتنا بحكمة؟
أعتقد أن على كل شخص منا أن يعثر على ما يمكنه العثور عليه في هذه الكتابات. وقد وجدت في كتابات هوراس ولوكريتيوس وغيرهم من الشعراء القدامى شيئًا من القبول بتدفق الزمن، وليس التمرد عليه. هذا ما وجدته. ففي اللحظة التي ندرك فيها أن لا شيء دائم، بما في ذلك أنفسنا – فذواتنا ليست كيانات، بل نحن عمليات معقدة – يكون من الأسهل كثيرًا تقدير الطول الذي تتسم به حياتنا، بدلًا من الخوف من قصرها.
عندما تلتقط صورة شخص (أو شيء ما) فإنك تصبح شاهدًا على فناء وهشاشة وتبدل هذا الشخص… جميع الصور تشهد على هذا التبدد الذي لا يهدأ للزمن.
كارلو روفيلي، هو أستاذ للفيزياء في جامعة إيكس مرسيليا، ومؤلف لثماني كتب، وهو فيزيائي نظري وكاتب يتركز عمله بالأساس في مجال الجاذبية الكمية، ويعد أحد مؤسسي نظرية الجاذبية الكمية الحلقية فيه. كما أن له دراسات في تاريخ وفلسفة العلوم. وهو يتعاون مع الكثير من الصحف الإيطالية، وعلى وجه التحديد الملحقات الثقافية لصحيفة كوريري ديلا سيرا، وإل سول 24 أوري، وصحيفة لا ريبوبليكا. ومن بين الكتب التي ألَّفها روفيلي: Quantum Gravity، Covariant Loop Quantum Gravity، The Order of Time، Reality Is Not What It Seems، Seven Brief Lessons on Physics وThe First Scientist Anaximander. وقد تُرجم كتابه Seven Brief Lessons on Physics إلى 41 لغة وباع أكثر من مليون نسخة حول العالم. يشغل روفيلي منصب رئيس تحرير مجلة فاونديشنز أوف فيزيكس، ومحرر قسم بمجلة أنالز هنري بوانكاريه، وهو كذلك عضو بالمجلس الاستشاري لدورية نيتشر. كما أنه عضو بمجالس تحرير سلسلة كتب Einstein Studies وجورنال أوف ثيوريتيكال آند كومبيوتيشونال فيزيكس، وسيجما، وفاونديشن أوف فيزيكس، وجورنال أوف جيومتريك ميثودز إن مودرن فيزيكس، ونوفو سيمينتو بي، وذا جرافيتاشونال لينس. وقد حصل روفيلي على جوائز عديدة منها جائزة إنترناشونال زانثوبولوس، وجائزة ذا ميرك-سيرونو، وجائزة روزينيانو ساينس برايز، وجائزة جاليليو، وجائزة لارديريلو، وجائزة ألاسيا، وجائزة تيرينيال إنترناشونال برايز إن ريلاتيفيتي. وقد ألَّف روفيلي أكثر من 200 مقال علمي نُشرَت في دوريات دولية ويشغل مناصب فخرية في جامعة سان مارتن، وجامعة بكين للمعلمين، والمعهد الجامعي الفرنسي، والأكاديمية الدولية لفلسفة العلوم، وأكاديمية العلوم الزراعية والحروف في فيرونا، والأكاديمية الجاليلية، وجامعة بيتسبرج. كما أنه مواطن فخري في مدينة كونوفوري.
New Philosopher: Issue #22: time