
في مثل هذه الأيام المضطربة والمعقّدة التي يتزامن معها وجود الكثير من الظلم والكُره والتعصب الذي يُهدد العالم، ألا نملك أمورًا كافية نركز عليها أكثر من مغامرات فتاة القطط «هالو كيتي»؟ أو «بوكيمون»، لعبة الفيديو ذات الامتياز التجاري التي ذاع صيتها مجددًا في سنة 2019 عندما عادت كفيلم ضخم من إنتاج الولايات المتحدة وبريطانيا بعنوان «بوكيمون المحقق بيكاتشو»، حيث تخطى إعلان الفيلم 65 مليون مشاهدة على اليوتيوب. ولماذا تتزايد الصور الرمزية (الإيموجي)؟ أو شعارات اللطافة («الكيوت») التي تُزين عددًا لا يحصى من المنتجات، بدايةً من الحاسوب والجوال والأسلحة والطعام وألعاب الأطفال ونهايةً بالتقويم السنوي والواقي الذكري والعدسات اللاصقة؟
الواضح هنا أن الرغبة المُلحة في تجميع الأمور اللطيفة ناتج عن اندفاع شديد للهروب من العالم المُفكك إلى بُستان البراءة حيث الصفات الطفولية هناك تثير العواطف المخفية وتضفي عليها الرضا والسلوان؛ إذ تتضمن الإشارات اللطيفة سلوكيات تُظهر العجز والسلم والجذب والإذعان، وخصائص تشريحية مثل الرؤوس ذات الأحجام الشاذة والجباه البارزة والأعين الشبيهة بصحن الشاي، وتراجع الذقن والمشية البلهاء.
وكما أشار «كونراد لورينس»، عالم سلوك الحيوان النمساوي، في عام 1943 إلى أننا تطوّرنا [بيولوجيًا] بحيث نستجيب لأنواع الإشارات هذه بحيث تحفّزنا لتقديم العناية الكافية والتربية التي يحتاجونها للنمو. وحسب لورينس، تستطيع الإشارات البصرية عند التعرض لها -سواءَ كان تعرضًا مكثفًا أو محدودًا- إثارتنا لتقديم رعاية مكثفة – بل وربما أكثر من ذلك- لحيوانات مثل الطيور والجِراء، بل حتى في نماذج وهمية، مثل الدمى والدببة.
واعتبر عالما النفس الاجتماعي «غاري شيرمان» و«جوناثان هايدت» من جامعة فرجينيا، الاستجابة اللطيفة عاطفةً أخلاقية بامتياز، إذ إنَّ المُحرر المباشر للسلوك الاجتماعي الإنساني يُحفزنا لتوسيع دائرة الاهتمام الإيثاري إلى حقلٍ اجتماعي أكبر.
لو كانت اللطافة مجرد سِحر وبراءة وعدم إيذاء، أو أن غريزة الحماية هي ما يحفزنا للانجذاب لها، والبحث عن الطفولة واللهو المطمئن للهرب من ضجيج العالم، أقول: لو كانت كذلك وحسب لما انتشرتْ بهذه السرعة. هذه الصفات أقرب إلى ما يُمكن أن نسميه الطرف «الظريف» في طيف اللطافة؛ وكلما تحركنا إلى الطرف المقابل من الطيف، الطرف «المريب»، سنجد أن الصفات الظريفة تتحول إلى صفات أكثر كآبة، وضبابيةً، وإيلامًا. أمر يشبه سلسلة بالونات الكلب لـ«جيف كونز» (1994-2000)، والتي تبدو قويةً (إذ صنعت من فولاذ مقاوم للصدأ) وضعيفةً (إذ هي جوفاء بلا وجهٍ أو فم أو أعين) في نفس الوقت؛ فهي تبدو ضخمة ولكنها ضعيفة، وتبدو مألوفة ولكنها غريبة، كما أنها بريئةٌ على نحوٍ مطمئن، ولكنها أيضًا تبدو خَطرة ومشوّهة ومُريبة؛ فهي تبث الطمأنينة في عالمٍ يثير الأعصاب ويبعث على الشك، وهي كذلك تمنح صوتًا لهذا العالم نفسه، ولكن -وهذا المهم- بنبرة لطيفة ومرحة.
هذه الخلخلة الخافتة للحدود الفاصلة بين المرونة والهشاشة، وبين السَّكينة والقلق، وبين البراءة والريبة، تُقدم في إطارٍ لطيف ومَرح، وبأسلوبٍ مُغرٍ، وهنا يكمن مركز شعبيتها الهائلة.
إنّ اللطفَ -قبل كل شيء- تعبيرٌ مُغرٍ عن الغموض، والريبة، والغرابة، والتقلّب المستمر (أو التحوّل والصيرورة) التي يستشعرها عصرنا في قلب الوجود الحي وغير الحي؛ فأساليب اللطافة ومصنوعاتها وأشيائها المتغيرة باستمرار لن تكون ما هي عليه إنْ لم تكن عابرة وتفتقر لأي أهميّة ودلالة ثابتة، كما أنها تستغل حالة عدم اليقين حين تزرح هذه الحالة تحت ضغط معين وتستحيل خطرًا، إذ تُقدّم اللطافة هذه الحالة تقديمًا جذابًا ودقيقًا؛ وهي تنجح في ذلك لأنها تفعله على نحو هامشي وجذاب وآمن.
تُعبّر اللطافة عن الحدس القائل بأن الحياة بلا أُسسٍ راسخة ومستمرة ومستقرة، وأن أساس الحياة الوحيد -كما أشار إلى ذلك الفيلسوف «هيدغر»- يكمن في تقبّل عدم وجود أساس لها. وعادةً ما تفعل اللطافة ذلك باستخدام «التصنّع والمُبالغة» والتي يُعبر عنها بسلوك «التخلص من الرصانة» أو تجنب الانغماس في جديتها، وقد نَسبت الناقدة الثقافية «سوزان سونتاغ» هذه الصفات في مقالة لها إلى ظاهرة الكامب (Camp).
هذه «اللاثباتية unpindownability -» كما يمكن أن نسميها، التي طغت في اللطافة –حيث اختفت الحدود بين ما كنّا نعدّه منفصلًا ومختلفًا، مثل مرحلة الطفولة والبلوغ- نراها أيضًا في الجنس غير المحدد للعديد من مصنوعات اللطافة، مثل «بالون الكلب» أو العديد من البوكيمونات، كما نراها أيضًا في التداخل بين الأشكال البشرية وغير البشرية، مثل الفتاة/القطة «هالو كيتي». ونرى ذلك أيضًا في الأعمار غير المحددة؛ فحتى لو كانت الأشياء اللطيفة تبدو طفولية، إلا أنه يصعب الجزم بذلك، كما في شخصية الفضائي إي.تي من فلم ستيفن سبيلبرغ ET، إذ لا نستطيع تحديد إن كان طفلاً أو بالغًا، بل أحيانًا -من وجهة نظر بشرية- يبدو كليهما.
بمثل هذه الطرق، انسجمت اللطافة مع عصر لم يَعُد متشبِّثًا بالثنائيات المقدسة كالذكورية والأنثوية، والجنسي واللاجنسي، والطفل والبالغ، والكَيْنُونة والصيرورة، والعابر والأزلي، والجسد والروح، والمطلق والعرضي، بل وحتى الخير والشر، فكل هذه الثنائيات كانت تُشكّل المُثل العليا، أما اليوم فتبدو أكثر سيولةً وذوبانًا.
وزيادةً على ما قيل، إنّ اللطافة، بوصفها إحساسًا، تتعارض مع توجه الطائفة (cult) الحديثة للإخلاص والأصالة، والتي يعود تاريخها للقرن الثامن عشر، والقائمة على أن لكل فرد مِنا ذات أصيلة داخلية، أو على الأقل، لدينا مجموعة من المعتقدات والمشاعر، والبواعث، والأذواق التي تُحدد كل فرد منّا تحديدًا مميزًا، والتي يمكننا أن ندركها بوضوح، ونعرف متى عبّرنا عنها تعبيرًا صادقًا. لا علاقة للطافة بإظهار لُبّ الأمور؛ إذ هي -في نمطها المريب على أقل تقدير- تتخلى كليًا عن إيماننا السائد بأننا قادرون على أن نعرف أنفسنا ونسيطر عليها عندما نكون صادقين وأصيلين معها.
مع أن الانجذاب للأشياء اللطيفة بلا أفواهٍ أو أصابع مثل «هالو كيتي» قد يُعبر عن الرغبة في السيطرة، إلا أن اللطافةُ -أيضًا- قد تُقوّض السلطة وتسخر منها باللعب بإحساس المشاهد في كونه تحت سلطة نفسه؛ ففي حين تجعله كمن يبدو مسيطرًا، وفي حين آخر تزرع الشك حول من المسيطر في واقع الأمر: اللاعب أم الملعوب به؛ إذ تجعله يدرك بأن استسلام الشيء اللطيف (مثل هالو كيتي) ما هي إلا طريقة لحبس المشاهد أو اللاعب؛ فهذا الشيء يطلب منه الرعاية والحماية.
لهذا السبب، تُعد اللطافة إحدى طُرق اختبار ما إذا كان يُمكن الخروج من أنموذج (بارادايم) السلطة، حتى وإنْ كانت طريقة تافهة ومؤقتة. في الواقع، هذا قد يفسر لماذا اقتحمت اللطافة الثقافة الرائجة في أنحاء مختلفة من العالم، ولا سيما الولايات المتحدة وأوروبا واليابان؛ منذ الحرب العالمية الثانية، حيث سعت اللطافة سعيًا مُتقطعًا يتخلله العديد من الانتكاسات لإضعاف دور السلطة في تحديد هيكل العلاقات الإنسانية وحتى العلاقات الدولية.
الكاتب: سيمون ماي، أستاذ فلسفة زائر في كلية الملك في لندن. آخر مؤلفاته: كتاب الحب: فهم جديد للشعور العتيق (2019) وكتاب قوة اللطافة (2019). تُرجمت أعماله لعشر لغات.