أصدر القاص الأمريكي جورج ساندرز عمله الروائي الأول: لنكولن في الباردو عام 2017م، وسرعان ما أخذت مكانًا لها في الوسط الأدبي، حتى أعلن لاحقاً فوز الرواية بجائزة “مان بوكر” . من المثير للاهتمام أن جورج ساندرز لم يكتب رواية قبل عمله هذا. كان معروفاً في الوسط الأدبي بأنه كاتب قصص قصيرة، ولن تكون مبالغة إذا تم الإشارة إليه بأنه أحد الذين يجيدون كتابة القصة القصيرة ببراعة، وأنه أحد أسيادها. لكن، أن تكتب رواية – وهو فنٌّ لم تكن معروفاً به من قبل- ثم تحصد الرواية الاهتمام وتحقق نجاحات عدة، هنا تُطرح الأسئلة حول ماهية الرواية التي كتبها شخص لم يكن معروفاً في عالم الرواية. وما هي أسباب نجاح هذه الرواية وانتشارها.
جورج ساندرز قام بتوظيف كل طاقته في كتابة قصة القصيرة، ليصنع عملاً روائياً مكون من آلاف القصص القصيرة. لن يجد القارئ الذي يقرأ رواية لنكولن في الباردو الشكل الكلاسيكي في كتابة الرواية، بل سيجد نفسه أمام عمل روائي تجريبي من صناعة كاتب محترف يجيد فن القصة القصيرة. ليس هناك حوارات، ليس هناك أحداث، ليس هناك بداية ونهاية للعمل الروائي، بل أصوات. أصوات إنسانية تعبر عن عشقها وتعلقها بالحياة، لكنها الحياة التي لن يكون مُقدراً لهم أن يعودوا إليها من جديد.
قد يتبادر إلى الذهن لحظة قراءة العنوان أننا أمام عمل روائي، يتناول شخصية تاريخية لها حضور مركزي في الذاكرة السياسية والشعبية الأمريكية. أن تكتب عملاً تاريخياً روائياً، فهو يحتاج لجهد، وأن تجمع المعلومات لتبني مسار الرواية. والأهم من ذلك: كيف يمكن السيطرة على مسار الرواية التاريخي بوجود شخصية ليس لأنها أشبه بالأسطورة، بل لأنه تحمل تاريخ شعب بأكمله، وتحديداً فترة الحرب الأهلية الأمريكية. هناك آلاف المؤلفات تناولت هذه الشخصية، من كتب التاريخ إلى العالم الأدبي والروائي، وحتى عالم الأفلام السينمائية. هناك نماذج أمريكية حديثة كان لها النجاح في كتابة الرواية التاريخية، مثل جون ويليامز عبر رواية أغسطس، وهي عن الامبراطور الروماني أغسطس. وكذلك الروائي الأمريكي غور فيدال، الذي كتب ملحمة تاريخية من عدة روايات تقص التاريخ الأمريكي، ومن أشهر روايات هذه السلسلة رواية تحمل اسم لنكولن. لن يجد جورج ساندرز مهرباً من مقارنة عمله هذا بعمل غور فيدال، والذي يحمل قيمة فنية وأدبية مميزة.
جورج ساندرز قضى على كل المقارنات التي ستحدث بين عمله هذا وبين أي عمل روائي قد يتناول شخصية لنكولن. والسبب: أن عمله هذا ليس رواية كتبت على الطريقة الكلاسيكية، وليست رواية تاريخية، وغير مهتمة بكتابة التاريخ الذي قد يمتد لزمن روائي طويل. لم يتناول شخصية لنكولن إلا في إطارها الإنساني فقط، كأب، وكشخص حقيقي له حضور في الذاكرة البشرية، بإمكانه أن يربط ويوحّد عوالم الرواية الممتدة بأزمنة وفضاءات شاسعة، بلحظة زمنية واحدة، بل والأكثر قوة، أن تكون كل أحداث الرواية لا تتجاوز ليلة واحدة، أو بضع ساعات على وجه التحديد.
نحن هنا أمام عودة جديدة لتيار الوعي، ليخلق فضاءً روائياً يجوب الأزمنة والأمكنة ليعبر عن ليلة واحدة. لكن ساندرز يتخطى هذه العودة لتيار الوعي، ليبني عملاً روائياً تم بناؤه بالاستعانة بفكرة ثقافية من التراث البوذي. منطقة الباردو حسب هذا التراث هي منطقية فاصلة بين الموت والبعث من جديد، الموت والولادة الجديدة. جورج ساندرز أخذ يجوب هذا الفضاء الزمني بين الموت والبعث ليصنع أبطاله وشخصياته، ليعبروا عن طموحهم وآمالهم وعشقهم للحياة، وعدم اعترافهم- أو عدم يقينهم بأنهم أموات.
ما صلة لنكولن في هذا الفضاء الذي يبدو ضيقاً جداً، ولا يعرف القارئ عنه شيئاً إلا أنها منطقة فاصلة؟ لنكولن هو الذي سوف يقوم بالربط بين الحياة والموت عبر واحدة من لحظات حياته العائلية، وهو موت طفله ويلي، وهو حدثٌ حقيقي سُجل في طيات التاريخ. حين يكتب ساندرز عن موت ويلي لنكولن، نقرأ نصوصًا تاريخية حقيقية، ونصوصًا تاريخية مختلقة، وكأنها قصص قصيرة تتناول هذه اللحظة التاريخية. بل هي قصص قصيرة، أو مقطوعات تاريخية، كل مقطوعة لها صوتها المميز. لكن، ونحن نقرأ هذه القصص القصيرة عن لحظات معينة، وذات الصور المتعددة، من قال إن الحقيقية لها صورة واحدة في هذه القصص؟ لها عدة صور، وقد تبدو متناقضة تناقضاً صارخاً. فحين يصف أحد المصادر التاريخية القمر في ليلة موت ويلي بأنه موجودٌ وظاهر، مصدرٌ أخر ينفي وجوده، وآخر يشبّهه بلون آخر لا يمكن أن يكونه. هذه صورة مبسطة فقط، هناك صور أخرى تتعلق بالإنسان. فحين يصف مصدراً لنكولن بأنه وسيم، يصفه الآخر بالقبيح، وآخر بالدميم، وآخر بالأكثر حزناً. هذا التعدد في التعبير عن الحقيقية يعطي الرواية بعداً توثيقياً، رغم أنه ليس هدف الروائي الأساسي.
استمد جورج ساندرز الحدث الرئيسي في رواية لنكولن في الباردو من استماعه لأحد أقاربه قبل عدة أعوام، يخبره بأن بعض الصحف تحدثت عن زيارة قام بها أبراهام لنكولن لقبر ابنه ويلي، وأنه قام بإخراج طفله المتوفى حديثًا من تابوته وقام باحتضانه. وكأن هذا المشهد صورة مصغرة لتحفة مايكل انجلو: البيتا. هذا الحدث الصغير هو أساس الرواية وبنيانه الرئيسي: الموت.
الشخصية الروائية لا تفقد صوتها الروائي لحظة مغادرة الروح لجسدها. بل تمتد وتستمر في التعبير عن حضورها. لكنه استمرار منقطع، لا يوجد فيه أي نوع من التواصل الإنساني. الشخصيات الروائية تجتمع في المقبرة. لم يعد يملكون فضاءً جسدياً يعبر عن حضورهم، بل أرواح، تطوف في سلسلة من التغيرات والأفكار انتظاراً للحظة البعث من جديد. هل يعطي الروائي جورج ساندرز فرصة لشخصياته الروائية بأن يعودا ويولدوا من جديد؟ أم يقضي عليهم ويكشف لهم الحقيقة التي يتعامون عنها ويرفضون الاعتراف بها، أي أنهم أموات؟
فكرة النقطة الزمنية بين الموت والحياة هي الفضاء التي تعبر فيها الشخصيات الروائية عن امتداداتهم العائلية والتاريخية، وآمالهم وطموحهم ليقضوا وقتاً آخر في هذه الحياة. هذه أهم نقطة استغلها الروائي من التراث البوذي. ليس مهتماً بعودتهم وإعطاءهم أمل للعودة من الجديد، بقدر ما يترك لهم المساحة لتسمع أصواتهم. هذا هو العالم الآخر، عالم الأوراح المنسية التي فقدت أحبائها، وتشعر بالرغبة الشديدة لأن يتواصل معهم أحد من الكائنات الحية.
يزيد الروائي إثارة هذا الفضاء الروائي بزيارة أبراهم لنكولن لطفله المتوفى حديثاً. بتواصله الحي مع ابنه واحتضانه له. وكأن هذه الزيارة التي عنوانها حب الأب لطفله الصغير، قد قذفت عالم الأرواح الميتة إلى عالم آخر، أصبح فيه ممكناً أن يكون هناك تواصل مع الأحياء، أن يزور الأب أبناءه، وتزور الزوجة زوجها، ويزور الأبناء أباءهم وأمهاتهم. أية رغبة تلك تصل فيها الشخصية الروائية، عندما تجد أن هناك أمل للعودة من جديد، ليس لتصحيح مسار الحياة التاريخي، أو أن يكونوا شخصيات أفضل وأكثر رحمة أو شيء من هذا القبيل، بل أن تعيش وتتذوق طعم الحياة، الحياة فقط. هذه الميزة الرئيسية لوجود شخصية لنكولن في هذه الرواية: أن يكون نقطة اتصال بين الأرواح في المقبرة، ونقطة مركزية لأملهم للبعث من جديد.
من المميزات التي تتميز بها الأعمال الروائية، أنها لا تدور في اتجاهٍ واحد، أو مكتوبة على طراز معين. هناك تيارات متعددة وأشكال مختلفة. أن تخلق عملاً روائياً مميزاً، هذا أمر جيد وجميل. لكن أن تصنع شكلاً جديداً، وتحدد حدوده واتجاهاته والشخصيات التي تملأ هذا الشكل، وتتفرد به، هذه عبقرية، تحسب للروائي الذي أبدع في صياغتها، وللرواية التي تجد نفسها في حالة تجديد مستمر. والرواية تستطيع أن تعطي صورة أجمل وأفضل للأحداث التاريخية، بل وقد نجد أنفسنا أمام لحظة نقول إن هذا الحدث لا بد وأن يكون كما كتب في الرواية. هل نستطيع تخيل معركة بوردينو دون أن يكون تولستوي هو كاتب سيناريو المعركة في الحرب والسلام؟ وكذلك هي رواية لنكولن في الباردو. لم تتناول شخصية لنكولن بالتفصيل، ولا حتى كان لها الاهتمام به إلا باعتباره نقطة اتصال، ولكن كان هناك إشارات عدة من أصوات في الرواية عن الرجل الذي يقود حرب أهلية لا يُعرف كيف ستنتهي. وهذه الإشارات كانت عبر نصوص متعددة عن فقد الأب لطفله، رؤية الأب لما يحدث وهو سائر في المقبرة بين عالم الأموات، وعلى القرب منه، هناك ما لا يقلّ عن ثلاثة آلاف قتيل في معركة واحدة، كيف ستنتهي وما هو مصير الحياة. لا نقرأ لنكولن من الخارج، بل من الداخل. وما كان لهذا أن يتم في هذا العمل الروائي دون إجادة صناعة العمل الروائي الذي أبدع فيه جورد ساندرز بكل عبقرية.
الصور العديدة للأرواح التي تطوف في المقبرة، مهما كانت درجة وجودهم في النص الروائي، إلا أنهم بحاجة لنوع من السيطرة، يوجه هذه الأرواح. مثل دانتي في كوميدياه. في هذا النص كانت المركزية في ثلاث شخصيات: القس إيفرلي تومس، وهامز فولمن، وروجز بيفنز الثالث. هم الذين يقودون مسار الرواية – دون تخطيط أو وجود تأثير منهم، لتعبر الأرواح عن تطلعاتها ووجودها. كل شخصية حين تعبر عن ذاته، فهي تمتلك خاصية تعبيرية تميزها عن الأخرى. هناك نصوص شعرية، نصوص حزينة، نصوص ساخرة، كوميدية، نصوص لشخصيات لا تستطيع أن تتكلم بلغة سليمة. هذه التشكيلة من النصوص هي التي بمقدروها أن تصنع عالماً حقيقياً، لتعبر عن مجموعة هائلة من البشر.
أن تكون النصوص مجرد قصص قصيرة، قد تصبح المشاهد الفنية مبتورة، أو ناقصة، لا يستطيع الروائي أن يستغل المساحة الروائية في صناعة مشاهد تبقى في الذاكرة. في هذا النص الروائي، سطر أو واحد، أو عدة صفحات من حديث لإحدى الشخصيات كافية لتصنع مشاهد فنية مؤثرة. فحين يتحدث القس وهو يشاهد لينكولن يسير على غير هدى في المقبرة، يعطي صورة واحدة ليرسم مشهداً عن هذه الشخصية: ظهر القمر ساطعاً في السماء، فأمكننا أن ننظر جيداً إلى وجهه، يا لوجهه!
ما كان لقراءة هذه الرواية أن تكون جميلة، إلا عبر ترجمة المترجم العماني التميز أحمد المعيني الترجمة كانت في غاية الجمال، وتعريف القارئ ببعض الشخصيات التي كانت تتحدث دون طريقة جيدة أو تعبر عن مستوى تعليمي منخفض، كان مميزاً وفي غاية الجمال.
أتوقف هنا عن الحديث عن الرواية، وأترك الفرصة للقارئ ليأخذ فرصته لقراءة رواية ذات طابع تجريبي جديد، يجد فيها أشياء جديدة لم يتم التطرق لها من قبل. لكن، كيف يمكن أن توجد في الرواية شخصية مثل أبراهام لنكولن دون أن نتحدث عن الحرب الأهلية، والعمل الوثائقي العظيم لكين بيرنز “الحرب الأهلية” وعن شخصية أبراهام لنكولن.
بعد إقرار الدستور الأمريكي صيف 1787 في فيلادلفيا وانتخاب جورج واشنطن رئيساً للولايات المتحدة الجديدة، لم يطرأ أي حدث ذو تأثير ضخم يؤثر في مجرى الولايات المتحدة الجديدة. كانت دولة في طور التأسيس الاتحادي بعد الاستقلال ومتاعب الكونفدرالية الصعبة. جاء بعد جورج واشنطن ثلاثة رؤساء كلهم من جيل القادة المؤسسين: جون آدامز الذي كان أول نائب رئيس للولايات، وكان ممثل المؤتمر القاري أيام الثورة في بلاط الملك الفرنسي لويس. ثم جاء بعده توماس جيفرسون، وهو كاتب خطاب الاستقلال وممثل المؤتمر القاري في باريس أيام الثورة كذلك. كان هناك نوع من الخوف في الدخول في صدام مع فرنسا على زمن حكم آدامز، وكانت هناك مشاكل تتعلق بالاقتصاد والتجارة والعملات وسعر الفوائد. رغم حدة بعض هذه المشاكل إلا أنها مشاكل طبيعية تحدث في أي دولة كانت.
كان هناك من ينتظر أن تنطلق الشرارة حتى يتحرك ويشير إلى الخلل الأكبر واللعنة الكبرى في الدستور الأمريكي. إن دستوراً أشار أحد قادته المؤسسين أن كل الناس ولدوا متساويين، يجب أن تأخذ هذه الجملة مكانها الطبيعي على أرض الواقع، أي أن يكون الناس كلهم متساويين. لكن الدستور احتوى في بعض مواده – دون الإشارة صراحة إلى كلمة العبودية- إلى الاستمرار في الرق وحماية استمراريته، بل إن بعض أعضاء المؤتمر الأمريكي الذي حاربوا في سبيل تدعيم أسس الرق، تبجح بانتصاره وحمايته لتدفق المزيد من العبيد من أفريقيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية الجديدة. كان هناك معارضون لهذه المواد. لكن المساومات السياسية – ومن أجل إتمام دستور يجمع ويوحد – قادهم إلى إسقاط معارضتهم وتبني هذه المواد.
لكن إقرار الدستور والتصديق عليه لن يوقف انتشار الفكرة. كان الحوار بين أعضاء المؤتمر حول الدستور وكل مواده من قضاء وحكم وتشريع وحقوق وتجارة وانتخاب. كل هذه تم تسويتها والاتفاق عليها، بل إن بعضها استمر لزمن طويل ومر بعدة تعديلات، لكن المواد الخاصة بالعبودية تحتاج لعلاج من نوع خاص. إما أن يرتقي البشر لمصاف الكائنات المقدسة ويعلنون رفضهم لكل أشكال الظلم والقهر والعبودية، وهذا لن يحدث بالطبع، أو أن يُسفك الدم بين بني البشر، وهذا الحل هو الأقرب للواقعية.
لأكثر من ستين سنة احتفظ الدستور الأمريكي بفكرة الشرّ هذه حتى انطلقت شرارة الدم الأولى. لكن قبل أن تُطلق شرارة الدم: كيف كانت سيرة الرق والتحرير والعبودية؟ ظلت فكرة العبودية تدور بين رجال الدين الرافضين لهذا الشر، وبين بعض رجال الحقوق والمحاماة. تنتشر بين أرجاء الشعب لعدة عقود: في الصحافة والتجمعات الانتخابية. بعض رجال السياسة يغيرون رأيهم: خارج اللعبة السياسية رافضين تماماً، وداخل حلبة الصراع بين وبين. يرفضون لكن يسعون لإلغائه تدريجياً.
سيرة الفكرة تحتاج لتأريخ يضم النصوص الأدبية والقصائد والرسائل والخطابات والأحداث والمواقف وإحصائيات دقيقة ومعرفة لطريقة النظام القضائي والتشريعي في كل ولاية وعلاقته مع العبودية. قد يكون مثل هذا التأريخ مشروعاً ضخماً يؤرخ لجيل كامل. من الصعب تحت هذه الظروف الاطلاع بشكل كامل على تاريخ الفكرة لضخامة المادة. إن كنت سأكتب سيرة قصيرة لفكرة الرق والعبودية، فهي ستبدأ بالطبع بعد اثنين وعشرين سنة من إقرار الدستور الأمريكي، في ولاية كنتكي تحديداً، حيث ولد الصبي الذي سيغير معالم القارة الأمريكية: أبراهام لنكولن. هذا الاختيار بلا شك يعود إلى أن هذا الرجل كان رئيساً للولايات المتحدة في أشد سنوات وجودها حرجاً وموتاً، وحين وصلت العبودية إلى حدها الأقصى، فأصبحت مهددة للدستور ووحدة الدولة واتحادها القاري دفعة واحدة. ولكن قبل الدخول في معمعة الحرب الأهلية: من هو أبراهام لنكولن؟
لم يحصل أي رئيس أمريكي أو شخصية أمريكية على الاهتمام الأكبر مثل لنكولن. والمؤلفات التي كتبت عنه يصعب حصرها. هناك مقولة شهيرة تقول بأن جيفرسون عملة عالمية، ولنكولن عملة أمريكية محلية. وإني أرى الوصف الذي أطلق على جيفرسون صائباً إذ أنه مفكر أكثر منه رئيس، لكن لنكولن بمحليته أكبر من عالمية جيفرسون إذ أصبح متجاوزاً له. اهتم غالبية مؤرخي التاريخ الأمريكي بتاريخ عائلة لنكولن من جهة الأب والأم، لعلهم يعثرون على سبب نبوغ وعبقرية أحد أفراد هذه العائلة، والذي قاد البلاد في أحلك أيامها وتاريخها الحديث. غير أن ما تم اكتشافه لم يكن إلا الفقر، والانتقال من مكان لآخر حتى يتسنى لهم الحياة بكرامة. وصف لنكولن الحياة في أنديانا – وهو صبي-بالقول: هناك نموت. هل كان يتخيل –وهو الصبي الذي يعمل بزراعة الأرض مع أبيه، وفقد والدته وأخته الكبيرة في سن مبكرة من حياته-هل كان يتخيل أن مصير هذه الأرض التي ولد عليها سيتوقف عليه، هو الشاب الصغير الذي ولد مثل أي صبي في القارة الأمريكية؛ بلا جاه، بلا سلالة عريقة لها تاريخ وصدى، بلا ثروة، بلا تعليم؟ هل كان يتخيل أن اليدين التي كان تزرع الأرض، سيكون بمقدورها أن تخط قرار يقضي على مآسي العبودية في القارة، ويشعل الحروب ويعلن السلام؟
الطفل الذي يراد معرفة سرّ قوته وعبقريّته لم يدخل المدرسة يوماً، بل إن مجموع أيام دراسته في المدارس التي تعطي تعليماً أساسياً لا يتجاوز السنة الواحدة فقط. الحاجة إلى العمل وتغطية مستلزمات المنزل دفعه دفعاً للعمل بيديه في الحقول ونقل البضائع مع والده. يحكى أنه في كبره دخل أحد المدارس مع أصدقاءه. خرج الأصدقاء بعد إطلالة صغيرة على المدرسة وبقي هو وحيداً واقفاً يتأمل احتفال الصغار في المدارس. كان رد فعله أنه لأول مرة في حياته يشاهد مثل هذه الاحتفالات. يكبر الصبي وتكبر معه طموحات شاب مراهق وجد في القراءة نوع من الملاذ. العلوم التي لم يتعلمها في المدراس والجامعات وجدها في بطون الكتب. أراد أن يكون مساحاً للأراضي، فأنفق ليالٍ طوال يقرأ في الحساب وتخطيط الأراضي حتى أصبح مساعد مساح في المناطق الحديثة من الولايات. أراد أن يصبح محامي، لا يعتقد بأن الآوان قد فات. كل ما عليه أن يبقى في مكان عمله، ويجلس تحت ظل الأشجار يقرأ أدب شكسبير وكتب العهد القديم والجديد، وكتب القانون، وأن يحمل الرغبة بداخل قلبه بكل إصرار، وسيصل إلى ما يطمح إليه. سأله أحد الطلاب عن الطريقة الأفضل لدراسة المحاماة، أجابه بالقول: إن كنت قد عقدت العزم حقاً أن تصبح محامياً فقد انجزت نصف المهمة. وليس من المهم أن تدرس على يد أحد، فأنا لم أدرس على يد أحد. خذ الكتب واقرأها وادرسها جيداً إلى أن تستوعب أهم ما فيها، فذلك هو المهم. ولا يجدي عليك وأنت تدرس أن تكون في مدينة كبرى، لقد درست في نيوسالم ولم تتجاوز سكانها الثلاثمائة. ثم أن الكتب ومقدرتك على فهمها لا تختلف باختلاف المكان، واذكر دائماً أن تصميمك على النجاح أهم من أي اعتبار آخر.
كتب أحد القضاة المعاصرين للنكولن وصفاً عن لنكولن كمحام:
لا حاجة لننسب له صفات ومزايا ليست فيه. لم يكن حاذقاً بالعلوم الدراسية، واكتسب علم الحقوق بالدراسة المنفردة والممارسة. منحته الطبيعة حدة الذكاء وسلامة الإدراك مما جعله سديد الحكم في البواعث والدوافع لتصرفات البشر. كان صوته نابياً ومظهره زرياً لا ينم على تفوق في الذكاء، ولا يملك شيئاً من مميزات الخطيب المفوه، لكنه كان ذا عقل نشيط وإدراك دقيق، بحيث استوعب تعقيدات مهنته، وأصبح من أقدر المفكرين والخطباء في هذه الولاية، كما أصبح من أفضل المحامين بفضل عمق بصيرته ووضوح تعبيره وقوة حجته ولجوئه إلى ضرب الأمثال.
عندما كان لنكولن عضواً في مجلس تشريعي للولاية، ظهرت رؤية لنكولن للعبودية. وهي رؤية أولى، غير تامة، أي ليست نهائية. ومرحلة أولى ضمن مراحل وتغيرات انتهت بقرار التحرير. في تلك الفترة التي كان فيها عضواً تشريعياً اجتاحت الولايات الشرقية النقمة على الرق، وامتدت هذه النقمة إلى الغرب. تم إنشاء الجمعيات المُنادية بإلغاء العبودية وتحريمهاـ وتعرض بعض رواد هذه الجمعيات للاغتيال. قال أحد المؤرخين بأن لنكولن نظر إلى تلك البدعة الواردة من الشرق بحذر وارتياب، كان في أعماق نفسه يكره الرقّ ويعتبره شراً، لكنه ولد في كنتكي، وكان محاطاً بأناس يحبذون الرق ولا يرون فيه بأساً، فلم يتحمس للغيرة المتقدة التي أبداها أهل الولايات الشرقية. أول موقف معلن للنكولن حدث عندما أصدر أحد المجالس التي كان لنكولن عضواً فيها قراراً يندد بجمعيات إلغاء الرق والتعاليم التي تبنتها، ويصف امتلاك العبيد في الولايات التي تبيح ذلك بالحق المقدس، ولا يجوز حرمان الولايات من ذلك الحق. لم يوقع أحد على هذا الخطاب. وفي مقابل هذا الاستنكار، سجل التاريخ أول موقف للنكولن مع دان ستون، وفيه يحتجون على هذا الخطاب، ويعتقدون بأن الرق قائمٌ على أساس الظلم وخطل السياسة، بيد أن نشر تعاليم التحريم إنما يؤدي إلى تفاقم المشكلة لا إلى حلّها.
الرؤية الثانية جاءت بعد حرب المكسيك، عندما كان لنكولن عضواً في مجلس الشيوخ. نتائج هذه الحرب كانت أشبه بالمكسب لقطاع، وخسارة لقطاع آخر، إذ أن المستفيد الأكبر هم أنصار الرق. بعد الحصول على أراضي جديدة، بإمكانهم إنشاء ولايات جديدة وإعمال الرق في هذه الأراضي أسوة بالولايات التي تعمل بالرق. لم يكن لنكولن محبوباً من قطاع كبير من أعضاء المجلس. كان من حزب الأحرار، وانضم إلى الحزب في مهاجمة حرب المكسيك وتحدى الرئيس الأمريكي حينها بأن يثبت بأن حرب المكسيك كانت شرعية ولأسباب دفاعية، لا هجومية. في تلك الدورة التشريعية قدم لنكولن مشروع قانون سيؤدي إلى تحريم الرق في أية منطقة تؤخذ من المكسيك. وفشل المشروع رغم إدخال كم هائل من التعديلات.
الرؤية الثالثة تحمل مفارقة كبرى: إنها رؤية لم تحمل تطوراً كبيراً في مسيرة تاريخ الرق، لكنها قذفت بأبراهام لنكولن إلى عالم السياسة مجدداً بعد مغادرته إياها. وتم على إثر هذه الرؤية تأسيس الحزب الجمهوري، والذي كان أحد أعضاءه المؤسسين. لو لم يكن هناك نائب يدعى ستيفن دوغلاس لكان لنكولن شخصية مجهولة في التاريخ، لا يعرف عنه إلا أنه محام. كان دوغلاس رئيس لجنة الأقاليم في الكونغرس، وقدم مشروع بعنوان مشروع نبراسكا. هذا القانون يعطي الأهلية لسكان الشمال بالعودة لممارسة الرق مرة أخرى، ولن تكون للحكومة المركزية السلطة في المنع أو الموافقة، بل سيعود القرار إلى الشعب نفسه، أي أهالي الولاية. إذا أراد الأهالي أن يعود الرق، فلهم الحق في ذلك، وإذا أرادوا المنع، فلهم الحق كذلك. بعد خمسة أشهر من المداولات تم الموافقة على القانون ووقعه رئيس الجمهورية. وهنا عاد الهارب من عالم السياسة إلى مجاله الأرحب، ليصبح زعيماً شعبياً. اشتهر لنكولن حينها كخطيب يخطب في التجمعات ضد هذا القانون. يصف أحد المؤرخين تأثير خطابات لنكولن بأن البعض يخرج من القاعة وهو موقن بأن كارثة كبرى على وشك أن تحل على البلاد. وكتب أحد الحضور: كان يوماً شديد الغيظ، اعتلى لنكولن المنصة بدون سترته. بدأ خطابه بطيئاً متردداً، ولكن بدون أخطاء في اللغة أو التواريخ أو الحقائق، مما دلّ على معرفته بالموضوع وثقته بأنه على حق. كان صوته رفيعاً ولكن قوي النبرات بعيد المدى، وأخذ يندفع تدريجياً في حماسة، فتدفقت الكلمات سراعاً وأشرق وجهه بأشعة العبقرية، وتحرك جسمه منسجماً مع أفكاره، وهو يشير به وبرأسه لا بيديه. امتاز خطابه بالبساطة والوضوح الذي يستحوذ على العقول والقلوب معاً.
ماذا كانت رؤية لنكولن حينها؟ لم ينضم بعد إلى أنصار تحريم الرق، ولم يعدد الفظائع كما كان يفعل الرواد الرافضين للرق، بل يقتصر على النواحي القانونية من القضية. لا يدعو إلى إلغاء الرق دفعة واحدة. إن كان هناك من سبيل لإلغاء الرق فهو إلغاء قائم على التحييد والمحاصرة ثم الإلغاء التدريجي مع الزمن. لكن خطابات لنكولن لم تجعله ذلك المحامي الذي يعطي أولوية للقانون؛ بل أصبح نجم ذو جماهيرية عند أصحاب محاربي الرق، بل إن الكثير من أصحاب جمعيات محاربة الرق تنادت للاجتماع، لتكوين جبهة جديدة ينضم إليها خطيب مفوه يقدم الحجة والبراهين مثل لنكولن، لكنّ لنكولن تراجع. كان عارفاً بواقعه: يعلم بأنه لو انضم لهؤلاء الجماعات لسقط سقوطاً كاملاً ولن يصعد إلى تلك المكانة التي بدأت تظهر له من جديد. كانت الأحزاب في حالة جريان وتدفق، لم يكن الإنسان يعلم أين موقفه وإلى أين سينتهي.
هذه رسالة لأبراهام لنكولن إلى صديقه سبيد يعرض فيه حيرته وعقيدته السياسية، وهي توضح رؤية أبراهام لنكولن تجاه الرق قبل أن يكون رئيساً. جاء في الرسالة:
عزيزي سبيد.. تقول بأنك تختلف عني في الأعمال السياسية، ولعل ذلك صحيح ولكنه ليس إلى الحد الذي تظنه. إنك تعلم أني أمقت الرق كما تدرك بأنه شر أبدي. إلى هنا نحن متفقان، ولكنك تقول بأنك تفضل أن ترى انحلال الاتحاد على أن تتنازل عن حقك الشرعي في اقتناء العبيد، وأنا لا أشعر بأن أحداً يجبرك على التنازل عن ذلك الحق، كما أعترف لك بذلك الحق وبواجباتي الدستورية فيما يتعلق بعبيدك. إني أكره أن أرى تلك المخلوقات المسكينة تُطارد ويُقبض عليها وتُردّ قسراً إلى أعمال السخرة، ولكني أعض على شفتي وأصمت. لعلك تذكر رحلتنا معاً في عام 1841م على ظهر باخرة من لويسفل إلى سان لويس، وأننا رأينا في الباخرة أكثر من عشرة عبيد مصفدين بالأغلال. لا يزال ذلك المشهد يعذبني، ويجب عليك أن تدرك أن أهالي الشمال يكبتون مشاعرهم حرصاً على ولائهم للدستور والاتحاد. إني أقاوم انتشار الرق لأن ضميري يحكم ذلك، فإذا كان هذا محور الخلاف، فليكن! أما بشأن قانون نبراسكا فإني لا أعتبره قانوناً بل عملاً من أعمال العنف، فلقد ولد بالعنف، ويصان بالعنف، وينفذ بالعنف. قلت إنه وُلد بالعنف لأن القضاء على اتفاق ميسوري (قانون يمنع الرق) ليس إلا عنفاً، وأنه أقر بالعنف لأن الذين اقترعوا إلى جانبه خالفوا مشيئة ناخبيهم. وأنه ينفذ بالعنف لأن الانتخابات التالية دلت على وجوب إلغاءه ومع ذلك لم يلغ! إنكم كحزب تعتبرون مقتني العبيد وتجار الرقيق فئة صغيرة بغيضة محتقرة، ولكن تلك الفئة تملي عليكم إرادتها السياسية وتسيطر عليكم تماماً كما تسيطرون أنتم على العبيد. ثم تسألني عن موقفي وهذا أمر محير! فأنا لا أقول بأني من حزب الأحرار، بينما يقول الغير أنه لا يوجد أحرار وأني من أنصار التحريم. أنا في الحقيقة لا أعمل إلا على معارضة انتشار الرقّ، ولست من اللاأدريين. إن تقدمنا في الانحطاط يبدو لي سريعاً، فقد بدأنا كأمة بإعلان أن جميع البشر ولدوا متساوين ماعدا الزنوج. وإذا ملك اللاأدريون زمام الأمور فسيقرأ ا الإعلان كما يلي: إن جميع البشر ولدوا متساوين ماعدا الزنوج والأجانب والكاثوليكيين. ولئن حدث هذا فسأفضل الهجرة إلى بلد يدعي حب الحرية كروسيا: حيث يقبل الاستبداد صرفاً غير مشوب بالرياء!
الرؤية الرابعة للرق مختلفة عن المراحل السابقة. كأنها تحمل تبرؤه من أراءه السابقة! أنكر كثيراً مما كان يقوله حول الرق، ورفض مجرد التفكير بإعطائهم حق التصويت، وذكر بأنه يفضل أن تتم إعادة هؤلاء إلا أوطانهم الأصلية. كيف يمكن الجمع بين هذا الرأي مع الرؤى السابقة التي كانت تقوم فكرة انتشار الرق؟ يجب النظر إلى الزمن السياسي وفي أي سياق حدثت. هذه التصريحات حدثت في سباق انتخابي بين لنكولن ودوغلاس. كل شيء في الانتخابات مباح، القضايا متعددة من تجارة وحكم وغيرها من الأمور، غير أن كل القضايا لم يعد لها مكان في أجندة الناخبين، لم يكن إلا موضوع قانون كنساس والرقيق هو المسيطر على الساحة. ولشدّة الصراع ومحاولة كسب الأصوات حدثت هذه التصريحات. دوغلاس يفضل السيادة الشعبية في اتخاذ القرار. لنكولن يفضل قرار حكومياً بمنع الرق في الولايات الجديدة ومحاولة تحييد انتشاره. ونتيجة الانتخابات كانت خسارة لنكولن مقعده في الكونغرس الأمريكي.
الرؤية الخامسة حدثت في زمن مختلف، حيث أصبح لنكولن رئيساً. كان اختياره للرئاسة فيه من الدهشة والغرابة. وصف لورد إنجليزي معاصر للنكولن بأن اختياره للرئاسة كان مدهشاً، هناك مرشحين للرئاسة ولدوا في الفقر، ولكن ولا واحد منهم بدت عليه قروح الفقر والحرمان كما بدت على لنكولن. كيف ستكون رؤيته وهو في هذا المنصب؟ وكأنه يحاول أن يمسك العصى بين الشمال والجنوب، وأن يسير متأرجحاً محاولاً أن يضبط الايقاع ويوقف الانشقاق في البيت. لم يعد الأمر أمر تحرير الرق أو قانون لإعادة عمل تجارة العبيد في الولايات الجديدة، أصبح الخطر يهدد الكيان الاتحادي بأكمله. بعد أن كانت فكرة تحرير الرق لها الأولوية، أصبحت في مرتبة ثانية، بل مراتب بعيدة، ووحدة الأرض أهم من أي شيء آخر، حتى تحرير العبيد. ويمكن الاستشهاد عن هذه المرحلة برسالة لنكولن إلى محرر صحيفة نيويورك تريبون هوراس غريلي جاء فيها:
إن هدفي الأسمى في هذا الصراع هو انقاذ الاتحاد، لا إنقاذ الرقّ أو القضاء عليه. إذا استطعت إنقاذ الاتحاد دون تحرير أي رقيق فسوف أفعل ذلك، وإذا استطعت إنقاذه بتحرير كل الرقيق فسوف أفعل ذلك، وإذا استطعت إنقاذه بتحرير قسم من الرقيق وترك الآخرين فسوف أفعل ذلك.
الرؤية السادسة للنكولن هي التقاء المصالح: تحرير العبيد وانقاذ الاتحاد دفعة واحدة. في أيامه الأولى وقبل الحرب الأهلية أكد بأنه لن يتدخل نهائياً في عبيد الولايات الجنوبية، وهو حق لهم وسيحميه بموجب الدستور. لكن بعد أربع سنوات، لن يكون هذا هو الرأي المطروح. إذ بالإمكان انقاذ الوطن والاتحاد عبر تحرير العبيد، إذ أصبح تحرير العبيد ضرورة عسكرية. من قرأ يوماً رواية كوخ العم توم سيذكر إشارة لينكولن إلى المؤلفة بأنها الوقود الذي أشعل الحرب الأهلية الأمريكية. هذا التصريح ينم عن دهاء سياسي وليس عن حقيقة. الهدف الأول للحرب من منظار لينكولن هو الاتحاد وليس تحرير العبيد. إن استطاع أن يعود بالدولة إلى حالتها الاتحادية دون تحرير العبيد سيفعل، وإذا كان الاتحاد لن يتم إلا بالتحرير سوف يصدر قرار التحرير. هناك إشارة يستغلها المعارضين للينكولن حول تحرير العبيد، وهي بعض الولايات التي تحالفت مع الاتحاد الشمالي ولا زال يمارس فيها الرق. لم يفرض لينكولن رأيه حول هذه المسألة ولم يصدر قرار بتحريرهم. وحتى قبل انتهاء الحرب بفترة زمنية قام أحد الجنرالات بإصدار قرار بتحرير العبيد في إحدى الولايات. رفض لينكولن القرار وقام بإلغائه محتفظاً بحقه الشرعي بإصدار هذا القرار وحده وفي الوقت المناسب. مع الصعود الهائل والنجاح الذي يحققه قادة الاتحاد غرانت وشيرمان في جبهة الحرب، أخرج لنكولن ما كان يعتبره الحقيقة الكبرى: بإصدار لينكولن لقرار تحرير العبيد سيهز جيش الجنوب ويجتذبهم للشمال. أصدر لينكولن حينها ما يعرف بالإعلان التمهيدي لتحرير الرقيق، والذي ينص على أن كل العبيد الذين يعيشون في أراضي الكونفدرالية هم من لحظة إعلان القرار أحرار. وعلى الحكومة الاتحادية بما فيها من سلطات عسكرية وبحرية أن تعترف بحريتهم وتصونها. بموازاة قرار التحرير تم تضمين الإعلان دعوة لكل السود للانضمام لقوات الاتحاد والدخول في المعركة. من منطلق سياسي عسكري، يتحدث لينكولن عن هذه الحرب بأنها لا يمكن أن تتوقف دون أن يكون تحرير العبيد هدف وغاية أساسية. ومن الطبيعي أن يطرح لنكولن هذا المشروع مع وزراءه للتشاور حول هذا الأمر. وهو أمر لم يحدث. اجتمع بهم وطرح عليهم الموضوع، واراد الاستماع لرأيهم. حكومة لنكولن تختلف عن أي حكومة أخرى: كل واحد منهم جدير بأن يخلف لنكولن، والغريب أن غالبية هؤلاء الوزراء هم من منافسيه الرئيسيين في انتخابات سابقة، ومن أشد أعداءه السياسيين. كان رأي حكومته بأن ينتظر بأن يحقق ولو نصر عسكري بسيط حتى يعلن هذا القرار، وهذا ما حدث إذ بعد تأمين بنسلفانيا من خطر القوات الكونفدرالية أُعلن قرار تحرير العبيد.
الرؤية الثامنة والأخيرة تجلت في خطاب تنصيب لنكون الرئاسي بعد انتخابه للمرة الثانية. وهذا الخطاب وثيقة عظيمة، وآية من آيات البيان. يقول:
لم يتوقع أحد من الطرفين أن تبلغ الحرب هذا المدى من الاتساع والزمن. كان الجميع يقرأون الكتاب المقدس ويصلون إلى الله ذاته، وكل واحد منهم يطلب من الله العون على خصمه، ومن الغريب أن رجالاً يجرؤون على الطلب من إله عادل أن يقدم لهم معونته لهم من أجل أن يسلب لهم الخبز من عرق جباه رجال آخرين. لله مقاصده الخاصة، ولذلك لم تقبل دعوات الطرفين. إن الرب العظيم له أهداف: ويل للعالم من الإثم، فإنه لابد للإثم أن يحل، ولكن ويح للإنسان الذي على يديه يحل الإثم. إذا ما اعتقدنا بأن الرق إثم أحله الله بيننا، وشاء الآن أن يزيله بعد فرض هذه الحرب الهائلة على الشمال والجنوب كويل ناشئ عن مسببي ذلك الإثم، فهل نجد في ذلك ابتعاداً عن تلك الصفات الإلهية التي ينسبها المؤمنون إلى الله؟ إننا نصلي بحرارة ونلتمس أن تزول عنا هذه الضربة القاسية سريعاً، ولكن إذا أراد الله أن تدو هذه الحرب إلى أن تفنى الثروة التي جمعت من كدح الرقيق خلال 250 عاماً، وإلى أن تُدفع كل قطرة من الدماء نزفت بالسوط بقطرة أخرى تنزف بالسيف، فيجب أن يقال كما قيل قبل ثلاثة آلاف عام: أن أحكام الله عادلة وصادقة.
كنت أتطلع طوال الفترات الماضية لمشاهدة العمل الوثائقي الضخم للمخرج والمنتج الأمريكي كين بيرنز: الحرب الأهلية الأمريكية. غير أني كنت أفضّل مشاهدته وأنا على علم ببعض المعطيات والأسس والسياسات والفكرة التي قام عليها العمل الوثائقي. إن مشاهدة عمل وثائقي عن الحرب الأهلية يستلزم ذلك قراءة تاريخ أبراهام لنكولن. ولكي تعرف الفكرة التي تدور عليها الحرب الأهلية، يجب العودة إلى اللحظة التي أُقر فيها الدستور الأمريكي لمعرفة كيف كانت مسيرة الأفكار من مؤتمر فيلادلفيا حتى بداية الحرب الأهلية. اكتشفت أشياء كثيرة في رحلة القراءة هذه. قبل الاكتشاف كانت رحلة قراءة ثرية، قرأت عدة كتب عن التاريخ الأمريكي زمن الثورة والاستقلال، وقرأت مذكرات توماس جيفرسون وكتابين عن الدستور الأمريكي وعدة كتاب عن أبراهام لنكولن ومذكراته ورسائله. أضحى موضوع الحرب الأهلية بالنسبة لي واضحاً للعيان، لكن كيف ستظهر الحرب الأهلية في العمل الوثائقي؟
الحرب الأهلية للمخرج كين بيرنز عمل فريد من نوعه. احترافي من الطراز الرفيع. عمل ليس قائم على إعادة تمثيل المشاهد الحربية، وليس عمل يستند على سيطرة وجوه المؤرخين على الشاشة وسردهم أو تحليلهم للأحداث مع إضفاء بعض المناظر الطبيعية من أماكن الحدث.
إنه عمل فني أدبي بصري قائم على مجموعة ضخمة من الصور الأرشيفية. أكثر من مليون صورة من صور الحرب الأهلية. تشير هذه الصور إلى حالات متعددة: صور جنود، أفراد، مجموعات مسلحة، هجوم، دفاع، إطلاق مدفعية، قادة الحروب، صور مدنية، صور عسكرية، صور فيها من الحياة الكثير، وصور تكشف معنى الموت، لم تترك الكاميرا الفوتوغرافية أي شيء في ذلك الزمن إلا وتم تصويره. كين بيرنز أعاد هذه الصور للحياة وأضفى عليها تأثيره الخاص. الصورة لا تُعرض مرة واحدة بشكلها الكامل فقط. هناك عدة أساليب أو تأثيرات خطها المخرج في إخراجه للعمل. حتى تصبح الصورة أكثر إثارة ودرامية، تنتقل الكاميرا على الصورة الواحدة من الأسفل إلى الأعلى، أو على العكس، من الأعلى إلى الأسفل. بهدوء متوافقاً مع السرد، وتتوقف الصورة في لحظة التوقف عن السرد. وقد يحدث أن تركز الكاميرا على جزء بسيط من صورة تجسد أرض معركة، وحينها يقوم المخرج بالكشف التدريجي عن معالم الصورة حتى تظهر الصورة بشكلها الكامل. وأحياناً يكون التأثير بعرض الصور بشكل متتابع وهادئ متى ما توافق مع السرد، كأن يظهر صورة لقائد عسكري جنوبي متحدثاً عن آمال الجنوبيين، وتظهر صورة لاحقة لقائد شمالي يشتم فيها القرد-حسب وصفه-القابع في البيت الأبيض.
الخاصية الثانية التي يتميز بها هذا العمل أنه عمل أدبي قائم على النصوص التاريخية والمذكرات والخطب والاقتباسات والخواطر والقصائد لشخصيات متعددة لا يجمع بينها أي رابط. في لحظات يخاطبنا القائد العسكري الشمالي وليم شيرمان بصوت يتناسب مع شكله كما يظهر في شاشة العرض، ثم يخاطبنا جندي لا يعرفه أحد، لكن تم ذكر خواطره لأنها مثبتة ومنشورة. ليس شرطاً بأن يكون الشخص مشهور حتى تظهر أحاديثه في العمل الوثائقي. حتى أصغر جندي أو أي شخصية غير معروفة لها وجود في العمل، لأنها وثقت بقلمها مجريات الحرب الأهلية. السارد الرئيسي يقص معالم الحرب الأهلية متتبعاً خطواتها الأول. يتوقف كثيراً ليستريح معطياً المجال للقادة والشخصيات والجنود للحديث من مذكراتهم وخواطرهم. وكل شخص له صوت يميزه-بما أن الصورة تميزه كذلك. أصبح العمل الوثائقي أشبه برواية الحرب والسلام لتولستوي، لكن من أمريكا وبقلم شخصيات معروفة ومجهولة من التاريخ الأمريكي. قلت بأن هذا العمل أشبه رواية الحرب والسلام لتولستوي لوجود المتعة الأدبية في النصوص والمذكرات في السرد الوثائقي. حين استمع لمذكرات الجنرال شيرمان أرى جنونه، حين يعلن بأن الحرب مجرد جحيم، وحين تريد الانتهاء منها يجب أن تكون قاسياً بعنف حتى تتخطاها وتنتهي منها للأبد. حين استمع لصوت روبرت لي أجد شخصية أضحى أسطورة في الحرب الأهلية، غير أنه كان في الجانب الذي خسر. كل شخصية تقدم نوع من المتعة الأدبية. وفي اللحظات التي تطغى فيها الصور الأرشيفية يتحدث عدد محدود من المؤرخين لا يتجاوز الخمسة عن مجريات الأحداث. وبعض هؤلاء المؤرخين حين يتحدثون أشعر بأنهم يعلقون على الحدث وكأنه قائم بينهم الآن، ولعل أشهر هؤلاء المتحدثين هو شيلبي فوت. أروع القصص في هذا العمل عندما يظهر وجه شيلبي فوت وهو ينقل أحاديث هزلية أو مواقف تدور بين القادة والجنود في زمن الحرب، يقصها وكأنه كان بينهم. والمؤرخ إد بيرس حين يظهر تشعر بأنه ممثل مسرحي وليس مؤرخ، يتحدث وينقل الأحاديث والمشاعر وكأنه ممثل على خشبة المسرح يؤدي دور أحد الجنرالات.
أتذكر بأني بعد أن انتهيت من الحلقة السادسة-وتبقى حينها ثلاث حلقات-قلت بيني وبين نفسي بأن لنكولن شخصية كبيرة في الحرب الأهلية، غير أن موضوع الحرب الأهلية أكبر منه بكثير. قبل أن يكون رئيساً، كان هناك شخصيات أمريكية أسست حركات لتحرير العبيد. كان الصوت عالياً ولم يكن هادئاً. أحد المتعصبين هاجم مقر جريدة يديرها قس مناهض للعبودية. يخرج القس أليجا لوفجوي محاولاً الدفاع عن المطبعة، وكانت النتيجة مقتلة. تسبب هذا الحادث بصدمة. حتى الكثيرين الذين ظنوا ألّا شأن لهم بقضية العبودية، اكتشفوا الخطأ. أحد قادة الكنائس في عظة الأحد يتساءل: لم يعد السؤال هل نحرر العبيد، وإنما السؤال هل نحن أحرار أم عبيد في ظل قانون الغوغاء. حينها وقف أحد الرجال في مؤخرة الكنيسة ورفع يده اليمنى وقال: هنا أمام الله وفي حضرة هؤلاء الشهود أكرس حياتي لتدمير العبودية. كان قسمه قسم شهادة. كان ذلك الرجل هو جون براون. كان لديه حلم، يبدو رومانتيكياً، أن يحرر العبيد ويسلحهم ويقود حرباً ضروس ضد مضطهديهم. كان يؤمن بأنه مكلف برسالة يحملها: تحطيم العبودية. أمسك هو وأبناؤه بخمسة من أرباب العبودية، وقاموا بتقطيعهم حتى الموت. استولى على مخازن السلاح واحتجزوا رهائن، من بينهم حفيد جورج واشنطن. لم تنجح حركة براون، وتم قتل غالبية أعضاءها، واعتقل جون براون وتم تقديمه للمحاكمة. حكم عليه بالإعدام، بتهمة الخيانة ضد الدولة. الفيلسوف الأمريكي رالف أيمرسون وصف جون براون بالمسيح. الروائي الأمريكي ناثنيال هورثورن قال بأن الإعدام كان عادلاً، والروائي الأمريكي هيرمان ملفيل وصف براوان بشهاب الحرب، وكان ملفيل على حق. دوت كلمات براون عالياً وأشعل حريقاً وسبب حالة من التأزم. كان شعلة صغيرة بحجمها، كبيرة بتأثيرها، فجرت معالم القارة بأكملها وجعلت هذه الأرض جحيماً حقيقياً.
قد تحيل مفردة الأهلية إلى صراع بين جيش الدولة الرسمي وحركة تمرد أو ميليشيا. ما هو واقع في الولايات المتحدة أن الصراع كان بين جيوش منظمة حقيقية. لا وجود لأي أثر من آثار المليشيات. والقادة من الطرفين هم من القادة العسكريين الحقيقيين. قد يتم غض النظر عن الشمال لارتباطهم بالنظام الاتحادي الرسمي، لكن الولايات الكونفدرالية الجنوبية-التي أعلنت انفصالها-لا تقل قوة عن الشمال، ولديهم من القادة ما يجعلهم قادرين على إذلال الجيش الاتحادي إلى الحد الأقصى. وهل هناك من ينكر بأن قائد القوات الكونفدرالية روبرت لي كان قد طلبه لنكولن ليقود قوات الشمال الاتحادي، ورفض لي معللاً ذلك بأن ولايته فيرجينيا أحق بالدفاع عنها ضد جيش البوتوماك الشمالي. وشدة الحرب والصراع بين الشمال والجنوب دفع بالصناعة إلى نقطة لم تصلها الصناعة العسكرية. تم تسجيل ما لا يقل عن 250 براءة اختراع جديدة، عبارة عن أسلحة وتقنيات مساعدة في المجهود الحربي. ما يجعل موضوع الحرب الأهلية مثيراً وجحيماً إلى هذه الدرجة أن أوروبا حينها كانت قد تخلصت من نابليون عبر معركة واترلو. أما أمريكا فلقد بدأت بواترلو خاصة بها، معركة شيلوه، وكان عدد قتلى هذه المعركة يفوق معركة واترلو. يقول قائد القوات الشمالية-والرئيس في فترة لاحقة-يولييسس غرانت أن أرض شيلوه مغطاة بالموت، بإمكانك السير في أي اتجاه دون أن تقدر على أن تطأ الأرض، إن مشيت لن تطأ أقدامك إلا الجثث. غير أن هذه لم تكن سوى البداية. سيتبع هذه المعركة عدة معارك، بحيث تصبح واترلو نزهة قصيرة. ستقع الحرب الأهلية في أكثر من عشرة آلاف موقع. ستخلو المدن من الرجال وتصبح المرأة هي الفرد العامل لإعالة العائلة. أكثر من 620 ألف سيلقون حتفهم في مدة خمس سنوات جحيميّة، في خسارة لم تشهدها الولايات المتحدة مطلقاً.
النظر إلى الحرب الأهلية من زاوية بعيدة يجعل الصور رومانتيكية. لنكولن له دور قيادي في الحرب الأهلية، لكن رئيس الولايات الجنوبية ديفيس له دور قيادي موازي للنكولن بالتمام، لا أحد منهم يتخطى الآخر. الصوت السياسي من ناحية البحث عن حل للمسألة سلمياً لم يكن مطروحاً. كان الصوت الأعلى لقادة الحرب. على الجانب الشمالي عانى لنكولن من جنرالات لم يستطيعوا تحقيق أي انتصارات ذات أثر في تاريخ الحرب. قائد يتبعه قائد حتى تهور وقام بتعيين يولييسس اس غرانت. كانت هناك معارضة لتولي غرانت لقيادة الجيش. كيف يمكن تنصيبه قائداً للجيش وهو سكير؟ لا يهم-كما يقول لنكولن-، إنه يقاتل. ولو كان يعرف الصنف الذي يشربه لقام بشرائه وتوزيعه لكل القادة والعسكريين، لعلهم يصبحون مثل غرانت ويحققون انتصارات يمكن من خلالها إنهاء الحرب. أما الجنوب فلم يعاني من وجود قادة عسكريين أكفاء. كان روبرت لي قائداً عسكرياً، وأطلق على جيشه جيش شمال فيرجينيا، تأكيداً لولائه وهويته. ويساعد لي الجنرال ستون ويل جاكسون. جاكسون ولي: لو كانا في المعسكر الشمالي لكانت الحرب قد انتهت بعد فترة قصيرة. هذان الاثنان أذلا القوات الاتحادية بصورة هائلة. وقرارتهم كانت ارتجالية، بعيدة عن المنطق، وفيها من التهور والمخاطرة، غير أنهم يعتقدون بأن إيمانهم بقضيتهم يدفعهم لتحقيق النصر.
أعتقد بأن أي شخص يريد معرفة النظام الأمريكي أو الفكر الأمريكي أو السياسة الأمريكية أو التاريخ الأمريكي أو القانون الأمريكي، يجب أن يعرف ماذا حدث قبل قرنين، وما هي الأسباب التي أدت إلى هذه الحرب. هذه الخمس سنوات الممتلئة بالدماء كفيلة بالإجابة عن أسئلة تدور في زمننا هذا الممتلئ بالدماء.
من أكثر الأشياء التي لا يمكن نسيانها في فيلم الحرب الأهلية هو نغمة الكمان المتكررة، والمرتعدة، والتي أظهرت-كما يقول أحد النقاد-بشكل ما بصوتها المطرب النحيل الباعث على الحنين خلاصة مآسي الكفاح العظيم.