مقالات

ماذا لو كان سعيك للعظَمة هو ما يحول دون بلوغها؟

براد ستولبرغ - ترجمة: نورة آل طالب

تُعدُّ عبارة «الجيد عدوُّ العظيم» إحدى أكثر العبارات الشائعة في مجال تطوير الذات؛ إذ وردت في الجملة الأولى من كتاب تجاري عالمي ذائع الصيت بعنوان Good to Great، وجاءت عنوانًا لكتابٍ آخر في التنمية الذاتية، كما أنها شعارٌ استخدمه جاستين جيمس وات -نجم الدوري الوطني لكرة القدم الأمريكية- في مؤتمراته الصحفية. إنها تبدو جذابة وفصيحة، ولكنها -مع ذلك- قد تكون خاطئة تمامًا.

لقد قيل لنا إن السعي للعظمة والطموح اللامحدود أمران لازمان لمواجهة الضغوط المتزايدة والوتيرة المتسارعة التي يتسم بها عالمنا اليوم، وإن هذا هو الطريق الوحيد للنجاح. ولكن ما الداعي لكل هذا؟ ماذا يعني النجاح حتى؟ لقد تصاعدت معدلات القلق والاكتئاب المثبتة سريريًّا لتصبح أعلى من أي وقتٍ مضى. كما يعتقد بعض الخبراء أن الوحدة والعزلة الاجتماعية قد وصلت إلى نسب كبيرة للغاية. ويُبلّغ الموظفون بنسبة الثلثين عن شعورهم بالإرهاق الشديد أثناء العمل، وقطعًا هذا ليس النجاح الذي يسعى الجميعُ إليه.

يقول ثيت نات هانه زعيم طائفة الزِن إن النجاح الحقيقي يعني الرضا بمسار الحياة، إنه «العثور على السعادة في عملك وحياتك في اللحظة الحاضرة».

إن النجاح الذي يؤيده ثيت نات هانه لا يتعلق بالسعي الدائم إلى العظمة، بل بالرضا بموقعك الحالي وبقبول ما يكفي من الجودة. الأمر المثير للاهتمام هو أن الكفّ عن السعي الدائم للعظمة لا يجعلنا أكثر سعادةٍ فحسب، إنما أيضًا يُمهد لنا الطريق للتحسن.

تساهم طريقة التفكير هذه في تعزيز الثقة وتخفيف الضغوط، لأنها لا تشعرنا بالتقصير. كما أنها تُقلل من خطر التعرض للأضرار النفسية أو الجسدية، كونها لا تستدعي بذل جهود بطولية كل يوم. والنتيجة أداء أكثر اتساقًا يتراكم مع مرور الوقت. تُظهر الأبحاث أن التقدم المستدام في كل شيء، بدءًا من الحمية الغذائية واللياقة البدنية وصولًا إلى الإبداع، لا يعني أن تكون عظيمًا على نحوٍ ثابت بل أن تكون متسقًا وجيدًا بما فيه الكفاية مرةً بعد مرة.

من دراسات الحالة الرائعة هي تلك الخاصة بـإيليود كيبشوغ الذي حطَّم الرقم القياسي العالمي لسباق الماراثون، وهو بكل جدارة الأفضل في مجاله على الإطلاق. ومع ذلك، يقول إن التدريب المُفرط لم يكن سرَّ نجاحه، فهو ليس ممن يتعصَّب للسعي إلى بلوغ العظمة في كل حين. بل لديه التزامٌ ثابت بأن يكون جيدًا بما فيه الكفاية. صرَّح مؤخرًا لصحيفة نيويورك تايمز أنه نادرًا ما يتجاوز ما نسبته 80% إلى 90% من جهده الأقصى في التدريبات، وهذا يُتيح له التمرُّن بوتيرة ثابتة على مدى أسابيع، ويقول: «أريد أن أجري وأنا مرتاح البال».

لم يكن كيبشوغ مهووسًا بتحقيق أية علامة، على عكس الكثير من العدَّائين الآخرين الذي يسعوَن إلى تحطيم الرقم القياسي العالمي في سباق الماراثون ومع هذا يُخفقون. حينما سُئل عمَّا يدور في ذهنه قبل السباق الذي حقق فيه الرقم القياسي، قال للتايمز: «لأكون دقيقًا، سأحاول تحقيق أفضل أداء. لو انتهى السباق بتحقيق الرقم القياسي فسأكون ممتنًا لذلك، ولكني سأتعامل مع ذلك على أنه أفضل أداءٍ لي». إن كيبشوغ يضع الجريَ في مكانه الصحيح؛ فهو بالنسبة له يقع ضمن اللحظة الآنية، وليس ضمن التوقعات المرتفعة باستمرار. يقول: «ينتابني شعورٌ جيد عندما أجري، يرتاح ذهني وأنام نومًا هانئًا وأستمتع بالحياة».

ثمة مفارقة هنا؛ إذ إن العقلية الساعية إلى تحقيق مستوى جيد بما يكفي قد تكون هي السر في الوصول للعظمة والسعادة. كلما قلَّت رغبتك في السعادة، صرتَ أسعد. وكلما قلَّت حاجتك لتحقيق أداء أفضل، حققتَ ذلك الأداء. فكِّر في حياتك، هل كنت تُناضل أو تسعى خلف شيءٍ ما خلال اللحظات التي كنت فيها أكثر سعادة وحققت فيها أفضل أداء؟ أو كنت مثل كيبشوغ؛ ثابتًا، وهانئ البال، وراضيًا بما لديه؟ هذا لا يعني طبعًا أن تتخلى عن الرغبة في التحسين أو التغيير المثمر، بل على العكس تمامًا. إن تبنِّي المبادئ الأساسية الداعية إلى تحقيق ما هو جيد بما فيه الكفاية هو أفضل سبيلٍ إلى تحقيق السعادة والتطوير، رغم أنها قد تتعارض مع الكثير من المبادئ الحالية، وهي على النحو التالي:

تقبَّل وضعك الحالي

قال لي ريتش رول، الرياضي الأكثر قدرة على التحمل والمؤلف وأيقونة النمو الشخصي، ذات مرة «عليك أن تتدرب وفق مستواك الحالي، وليس وفق المستوى الذي تظن أنك تستطيع بلوغه أو الذي تريد الوصول إليه أو ذاك الذي اعتدت أن تكون عليه، إنما بحسب ما أنت عليه الآن».

إننا نعاني في أحيان كثيرة من التفكير الخيالي الذي نقنع أنفسنا من خلاله أننا في حالٍ أفضل مما نحن عليه، أو نتجاهل مشكلاتنا تمامًا؛ إما بالانفصال عن الواقع وبصرف انتباهنا عنه، أو بالسعي إلى تحسين الأمور دون الاعتراف مطلقًا بنقطة البداية الحقيقية. رغم أن هذه الأساليب قد تُجنِّبنا بعض الألم العابر، إلا أنها ليست حلًّا مناسبًا على المدى الطويل لأنها لا تستهدف المشكلة الحقيقية، سواء كانت ضعف اللياقة في الرياضة أو الشعور بالوحدة في علاقةٍ ما أو بالضغط الشديد في العمل. إن التقدم في أي شيء يستلزم مواجهة وضعك الحالي وقبوله، حينها، يمكنك فعل شيء حيال الأمر.

يكتب أستاذ التأمل جون كابات زين في كتابه الأبرز والأكثر مبيعًا Full Catastrophe Living: «إنّ التقبُّل لا يعني أبدًا الاستسلامَ التام، بل يعني قراءة الوضع الحالي وإدراكه وقبوله بشكل كاملٍ قدر الإمكان؛ مهما كان فظيعًا وصعبًا، والتسليم بالأمور كما هي بصرف النظر عن قبولنا أو رفضنا لها أو عن رغبتنا بتغييرها». عندها فقط، كما يقول زين، يمكننا اتخاذ الإجراء المناسب لتحسين ظروفنا. ويكتب: «إن رغبتنا في أن تكون الأمور بخلاف ما هي عليه ليست إلا ضربًا من التمني وليست وسيلة فعالة لإحداث تغيير حقيقي».

كُن صبورًا

يرغب معظم الناس بالنتائج الفورية، بيدَ أن تحقيق النتائج المرجوَّة لا يتُم عمومًا على هذا النحو. لنأخذ الحمية الغذائية مثالًا على ذلك. ينجذب الكثير من الأشخاص الذين يحاولون إنقاص أوزانهم إلى أحدث الأساليب وأكثرها رواجًا، فتراهم يتنقلون باستمرار بين التقليعات؛ بدءًا من الحمية قليلة الكربوهيدرات والغنية بالدهون أو الغنية بالدهون وقليلة الكربوهيدرات، مرورًا بحميات الشاطئ الجنوبي، وآتكينز، وداش وزون، وأورنيش، أو الصوم المتقطع، والقائمة تطول. إن التبديل المستمر بين الأساليب يضرُّ بعملية فقدان الوزن. قارنَت دراسة أُجريَت عام 2018 من جامعة ستانفورد الحميتين قليلة الدهون وقليلة الكربوهيدرات، وتتبعت المشاركين المعيَّنين عشوائيًّا لمدة عامٍ كامل.  وكان أفضل مؤشر على فقدان الوزن هو التزام المشاركين بالحمية وليس النوع الذي كُلِّفوا باتباعه. يوضِّح آرون كارول، الطبيب والباحث في كلية إنديانا للطب، في حديثه عن هذه النتائج في نيويورك تايمز: «إن الحميات الغذائية الناجحة على المدى الطويل هي على الأرجح تلك المنطوية على تغييرات بطيئة ومنتظمة».

المبدأ ذاته ينطبق على أي تغيير مستمر، سواء كان في السعادة أو الأداء أو كليهما. الاندفاع في عملية التغيير أو توقع نتائج فورية يسفر عن خيبات أمل لا تنتهي. حينما كنت أواجه تحديًّا هائلًا في حياتي الخاصة، نصحني طبيب بنصيحة قيِّمة، ألا وهي التحلي بالصبر؛ إذ قال لي حينها «إنها جولةٌ طويلة».

كُن حاضرًا

يُشيد مجتمعنا بالسعي نحو الأمثل، لذا من الطبيعي جدًّا أن نرغب في تحقيق الحالة المثلى، غير أن أدمغتنا لا تعمل كالحاسوب. تشير الدراسات إلى أن إنجاز المهام المتعددة يحفز الدماغ إما إلى التنقل المستمر بين المهام أو إلى تخصيص جزء من القدرة الإدراكية لمهمة محددة. وقد وجد باحثون في جامعة ميتشيغان أننا في الواقع لا ننجز سوى نصف العمل عند تعدد المهام رغم اعتقادنا بأننا ننجز الضعف.

إن التشوُّش لا يؤثر فقط على أدائنا، بل يُلقي بظلاله أيضًا على سعادتنا. وجدت دراسة من جامعة هارفارد أن الحضور التام في النشاط المُراد إنجازه يجعل الفرد أسعد مما لو كان يُفكر في شيءٍ آخر. ومع الأسف، أصبحنا في الوقت الحالي أكثر انشغالًا من ذي قبل، وأذهاننا دائمًا تسرح في شيءٍ آخر. قد نظن أننا إن لم نكن متصلين بالإنترنت على مدار الساعة، فسيفوتنا أمرٌ ما، لكن قد يكون العكس هو الصحيح؛ إذ سيفوتنا كل شيء لو اتصلنا بالإنترنت على مدار الساعة.

لا تكُن حصينًا

تكتظ وسائل التواصل الاجتماعي بأُناس يشاركون بمنشورات توحي بأن كل ما في حياتهم مثالي، وهذا وهمٌ مكلفٌ للغاية. ذكر باحثون من جامعة ستانفورد أن وسائل التواصل الاجتماعي ترسم صورة في غاية التفاؤل عن الحياة، ونتيجة لذلك، يعتقد كثير من الناس أنهم أكثر وحدة مما هم عليه بالفعل فيما يمرون به من صعوبات عاطفية، ومثل هذا التصور الخاطئ قد يؤدي إلى الاكتئاب. كما أن محاولة المطابقة بينك أنت وبين صورتك العامة -سواء أنت في الإنترنت أو في مكان العمل- تخلق ما يسميه علماء النفس التنافر الإدراكي؛ التضارب بين من تصورُّه لنفسك وما أنت عليه بالفعل. وغالبًا ما يرتبط هذا التضارب مع القلق.

توقف عن محاولة أن تكون منيعًا لا يُقهر وكُن أنت فحسب. يوضح بحث البروفيسور في جامعة هيوستن، برين براون، أنه كلما استطعنا توجيه كامل انتباهنا إلى كل ما نقوم به، الجيد والسيء والحزين والقبيح، صرنا في حالٍ أفضل. إذ يؤدي ذلك إلى القضاء على التنافر الإدراكي المُرهق عاطفيًّا، وإنشاء روابط أكثر واقعية مع الآخرين، وإتاحة المجال لتلقي الدعم حين الحاجة إليه. يكتب براون: «إن انكشاف مشاعرك لا تتولّد من الثقة، بل إن الثقة يولّدها انكشاف مشاعرك». وسبب ذلك يعود، حسبما تشير البيانات التجريبية الحديثة، إلى أن الجميع تقريبًا يكرهون في أعماقهم الاضطرار إلى الادعاء بأنهم يملكون زمام الأمور. عندما تتخلى عن حذرك وتكون على حقيقتك، فأنت في المقابل تُشعِر الآخرين بالارتياح وتمنحهم الثقة لفعل الشيء ذاته.

أنشئ مجتمعًا «واقعيًّا»

لعل من أكثر عواقب التقنية الحديثة ضررًا هي وهم التواصل. نظن أننا بخير إذا استطعنا التغريد أو النشر أو إرسال رسائل إلكترونية أو حتى الاتصال هاتفيًّا بشخصٍ ما. ففي النهاية، توفر علينا العلاقاتُ الرقمية الوقتَ وتنسيق الاجتماعات الشخصية، ما يتيح لنا أن نكون منتجين، لكن لعلّ ذلك مجرد خداع للنفس. الحقيقي هي: لا شيء يمكن أن يحل محل المجتمع الواقعي والمشاركة الشخصية، ومساعينا الفاشلة في فعل ذلك تكلفنا الكثير.

في كتابهما The Lonely American: Drifting Apart in The Twenty-One Century ، يصف أستاذا الطب النفسي بجامعة هارفرد جاكلين أولدز وريتشارد شوارتز تزايد الشعور بالوحدة وتدهور العلاقات القيِّمة. لقد أدى التركيز المتزايد على «الإنتاجية وثقافة الانشغال» إلى انخفاض حاد في المجتمعات الراسخة، وزيادة العزلة الاجتماعية، واضطرابات المزاج ذات الصلة. تُظهر الأبحاث الأخرى أن التلامس الجسدي بحدِّ ذاته أمرٌ بالغ الأهمية لتحقيق السعادة والراحة والانتماء. كما يؤثر الاجتماع الشخصي على مستوى الأداء. وتُظهر دراسات متعددة أن التقنيات الملبوسة (wearable technologies) لا تحاذي قوة الصداقات «الواقعية» فيما يخص اكتساب السلوكيات الإيجابية. وهذا صحيح على جميع المستويات. حيث عزَت شالان فلاناغان، بطلة ماراثون مدينة نيويورك، استمراريتها ونجاحها إلى مجتمعها التدريبي، وليس إلى متابعيها في إنستقرام؛ حيث تقول: «لا أعتقد أني كنت سأواصل الجري لولا شريكاتي في التدريب. أولئك النسوة يدعمنني في الرخاء والشدة».

خلاصة القول: الجهد الإضافي التي يتطلبه التواجد الدائم مع الآخرين في «الحياة الواقعية» يستحق كل هذا العناء.

 

 


المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى