التسمية والإبلاغ
يُعدّ الكلام، إلى جانب الإيماءات والنظرة، إحدى الوسائل التي يستعملها الإنسان للخروج من نفسه واحتضان العالم الخارجي. لذلك اعتاد الناس منذ القدم التمييز بين شكلين من أشكال الاتصال: لقد ميزوا بين الفعل الذي يأتي عبره الإنسان إلى الأشياء، وبين ذاك الذي يقربه من نظرائه. فنحن نستعمل الكلمات من أجل تعيين الأشياء ومن أجل التواصل مع الآخر في الوقت ذاته.
في الحالة الأولى تلقى الإنسان كلامًا كان هو أداته في التسمية والتعيين، كما تشير إلى ذلك الحكايات المسيحية حول خلق العالم. إنه يسمي الأشياء التي تطمح إلى احتلال موقعٍ داخل الكون اللفظي لكي تصبح واقعية. ذلك أن الواقع هو كل ما هو قابل للتعيين. إن الكلمات تلتصق بالأشياء، وهي التي تكشف عن جوهرها، ولكن الأشياء هي الضامنة لسمك الكلمات أيضًا. وفي هذه الحالة نكون أمام استعمال عمودي للكلام.
إن الإنسان الذي يسمي الأشياء سيكون سيدًا للكون، إنه يروض الطبيعة باللسّان. ولكنه يستخدم هذا الكلام ذاته للاتصال بالآخر. وهذا مصدر فرضية أخرى حول أصل اللغة: فقد يكون مصدر الكلام هو بؤس وهشاشة أولئك الذين كانوا في حاجة للاستعانة بالآخرين حمايةً لأنفسهم. إن الأطفال يثيرون انتباه الراشدين بالصراخ. وبعدها يدركون أن التواصل أمر ضروري، ذلك أن التعرف على العالم يتحقق من خلال اللغة. فلكي نعيش ونضمن بقاءنا نحن في حاجة دائمة إلى التسلل إلى وجدان الآخر والتعرف عليه بواسطة الكلام. وبفضل هذا الكلام أيضا يتم الكشف عن أسرار النفس وأهوائها. فإلى جانب الاستعمال العمودي والجوهري للكلام هناك إذًا الاستعمال الأفقي والوجودي له.
حينها يُصبح الكلام، وهو مصدر عظمة من يقوم بالتعيين، علامة دالة على الضعف في حالات التواصل، أو على الأقل علامة تشير إلى قناعة الإنسان بأنه ليس قادرًا على العيش وحيدًا، وأن وجوده رهين وجود الآخرين.
فهل يقودنا هذا إلى خلق تعارض بين الفرضيتين الخاصتين بأصل اللغة؟ هناك بالتأكيد توتر محسوس في كل فعل لغوي بين الحاجة إلى تقديم صياغة جيدة لما نودّ قوله عن الأشياء، وبين الحاجة إلى أن يفهم الآخر ما نودَ قوله. فقد يعوق معجم تقني دقيق نجاح التواصل: فهل علينا أن نضحي بجزء من الدقة، إن لم نقل بالحقيقة كلها، لصالح فهم هرموني؟ وفي حالات أخرى نقوم بتقليص المعلومة الخاصة بالأشياء إلى حدودها الدنيا ونوجه كل مفرداتنا نحو تحقيق فهم أمثل، لأننا نرغب كثيرًا في استمالة محدثنا. يتعلق الأمر هنا باختيارات نابعة من ضرورات أخلاقية وبلاغية يلجأ إليها المتكلمون يوميًا.
إن الانتقال من التعيين إلى الإبلاغ يتضمن دائمًا توترًا، ذلك أننا نمزج، ونحن نتكلم، بين الفرضيتين المتناقضتين، إننا ونحن نسمي الشيء ننتزعه من مآله ومن سياقه الزمني لكي نحوله إلى جوهر قابل للتعميم (دائمًا وفي كل مكان)، أما في الإبلاغ، فإننا نروم إدراج شيء ثابت، ذلك الجوهر اللازمني، ضمن الدفق الزمني. لا يمكننا أن نتواصل حول العدم: فإيماءة بسيطة، وتنهيدة أو نظرة مواربة، تتضمن إحالة دنيا على ملكوت الأشياء الثابتة قبل أن تكشف عن دلالتها (المطلقة والهشة) في نفس المتلقي أو ذهنه. فمن مفارقات التواصل ما يلي: يجب استعمال الوسائل ذاتها التي يعتقد الإنسان أنه هو من خلقها من أجل تعيين ما لا يتغير وما يوجد خارجه.
ينتقي التعيين عادة اسمًا مسبوقًا بصيغ من مثل هو وهذا: ” إنها شجرة”، ” هذا منزل”. إن فعل الكينونة في كل الألسنة هو في الوقت ذاته أقوى الأفعال وأضعفها. إنه أقواها لأنه يمنح وجودًا للاسم الذي يرتبط به، وهو أضعفها لأنه لا يملك أية خاصية، إنه يمكن المتكلمين من نسيانه والتركيز كليًا على الاسم الذي يعينه. وبالمقابل، يقتضي فعل الإبلاغ بنيات لسانية أكثر تعقيدًا؛ فالموضوع، كل الأسماء في واقع الأمر، لا يتمتع بأي امتياز عن الأفعال.
فهل الصراع بين هذين الفعلين هو صراع بين الكلمات والجمل؟ إن الكلمة تعين، أما الجملة فتبلغ. إن إدراج الكلمة داخل الممتد الجملي، وهو ليس دائمًا خطيًا، ليس دائما بلا عواقب. إن الكلمة تفقد من سمكها، فجاراتها تؤثر فيها وتفصلها عن الشيء الذي تعتقد أنها مرتبطة به: فقد تصبح الكلمة، وهي تتسرب إلى فعل الإبلاغ، غامضة وتفقد شيئًا من وضوحها الذي يميز ارتباطها بالشيء الذي كانت موجهة ” في الأصل” إلى تعيينه.
بالتأكيد لا تقبل اللسانيات هذا التمييز التبسيطي. هناك كلمات تُبلغ، وهناك جمل تُسمي. ولكن التمييز الأول، ذاك الذي يقابل بين التعيين والإبلاغ، كان حاضرًا لفترة طويلة في تاريخ اللسانيات. فقد كان هذا التخصص ميالًا إلى تفضيل الجمل من مثل: للمنزل أربعة جدران” أو ” المجرمون يقتلون”، أي جملًا قد أسميها جوهرانية وتوتولوجية، وذلك لأن البعد المركبي فيها لا يغطي على الوضوح الأصلي للكلمات المستعملة، ولا تقوم الأفعال سوى بالكشف عما هو موجود قبلًا في تعريف الأسماء الذوات. إنها شبه جمل، وذلك لأنها لا تقوم سوى بالتعيين، ويجب استحضار سياقات خاصة لكي تقوم بوظيفة إبلاغية (سياق انفعالي، سخري).
إن التسمية هي ابتكار لخبرة وامتلاك لمعرفة. إن اللسان حامل للمعلومة، وقد كان للإجلال الأسطوري للمعرفة الذي تميز به العالم الغربي أثرٌ في الإعلاء من شأن تصور يجعل اللسان وسيلة من وسائل المعرفة. فبفضل اللسان استطاع الإنسان ترويض الطبيعة وابتكار الثقافة والعلوم.
ويجب أن نضيف أن اللسانيات اختارت لمدة طويلة اللسان المكتوب موضوعًا وحيدًا للدراسة، وقد يعود ذلك إلى أسباب متعددة منها سحر الكتابة والأولوية التي تمنح لكل ما هو ثابت، وتبجيل للسلطة والمعيار. والحال أن الغايات الإبلاغية هي أقل وضوحًا في الكتابي منها في الشفاهي. ففي الوضعية الشفاهية يكون الرابط بين الباثّ والمتلقي غير مؤكد وغامض: يجب أن يستعين الباثّ بكل شيء، الإيماءة والتكرار والتأكيد العَجِل ( أو بنزق) لكي يتم الاتصال. وفي المقابل، يكون المتلقي في حالة المكتوب منخرطًا جزئيًا في العملية: فهو الذي اختار الباث، وهو الذي توقف أمام اللوحة الإشهارية، وهو الذي أخذ الكتاب من الرف. وهكذا، فإن الطباعة تقوم في الكتابي بدور إبلاغي يضطر الشفاهي القيام به هو نفسه.
وهناك أبحاث إحصائية تؤكد التوازي الموجود بين المعلومة والتواصل من جهة، وهو توازي تقريبي بطبيعة الحال، وبين المكتوب والشفاهي من جهة ثانية: إن عدد الأفعال والضمائر والظروف أكبر في الخطاب الشفاهي منه في النص المكتوب، فهذا يفضل الأسماء والجمل الاسمية.
وهكذا تكون غاية النص المكتوب هي تبليغ معلومة في المقام الأول، ويمكن للسانيات البقاء في حدود رؤية جوهرانية، زادها في ذلك الأسطورة الغربية، ودليلنا في ذلك ما يقدمه نحو بور روايال أو غاينك. ومع ذلك، فما كان يزعج اللسانيين القدماء (ولسانيّي الأمس) أننا لا نعثر في حقيقة الكتب، أثناء قراءة النصوص، إلا في النادر، على جمل مستقلة “عمودية” يكون معناها تامًا، أي قابلًا للفهم الكلي دون الاستعانة بجمل أخرى سابقة عليها أو لاحقة لها. وقد عبرّ ب كالمان عن دهشته من ذلك وهو يبحث عن أمثلة في الأدب الرومانسي لكي يستعملها في النحو المدرسي، فقد اكتشف ندرة هذا النوع من الجمل، وهو ما قاده إلى الاهتمام بالجمل غير المستقلة وبالنحو، وليس بالكلمات أو الجمل، بل بالنصوص. فأغلب الجمل تشتغل في حقيقتها داخل نص بعينه.
إن هذا التقليص الذي تدعو إليه اللسانيات التقليدية غريب حقًا ويتطور بموازاة مع تخصص حاضر بقوة ويهتم فقط بالتواصل: البلاغة. إن تدريس البلاغة يكمل مبدئيًا تدريس النحو ويوجد في موقع بين المنطق وعلم النفس: كان على البلاغة أن تدمّر الأطر الضيقة للنحو الجملي.
يجب دراسة الإبلاغ على مستوى النص. إن التعيين لا يمكن أن يمتد إلى ما هو أبعد من الجملة. إن فعل التعيين سلطة، إنه فعل مباشر يكشف عن شيء لا يمكن مناقشته. فإذا كان في حاجة إلى إسناد من خلال الوصف والشرح والبرهنة، فإنه يتحول بالضرورة إلى إبلاغ، لأننا لا ندعم التعيين في علاقته بالمرجع، بل في علاقته بالمتلقي لكي ندفع به إلى قبوله لكي نقنعه بتبنيه، فنحن لا نكترث له إن كان تعيينًا صحيحًا أو خاطئًا، فهو لا يناقش على مستوى المعنى العمودي.
وبفضل ازدهار تخصصات جديدة من مثل اللسانيات الاجتماعية وتحليل الخطاب، أصبحت دراسة النص –المكتوب والشفاهي- محطّ اهتمام كبير، وتحتل موقعًا مفضّلًا ضمن مجموع الدراسات اللسانية. إن النصّ وسيلة للتواصل الإنساني. ومن أجل دراسته والكشف عن مكوناته وبنياته العامة يجب إسقاط فرضية كونه يتضمن غاية تواصلية. وهذا أمر ضروري، فالبنيات التي نكتشفها داخله هي ذاتها التي يدرك وجودها المتلقي. فكيف يمكننا معرفة معنى ما لا يتوجه إلى الإنسان، وكيف يمكن إدراك معنى لن يكون هو المعنى الذي يوده، باثًّا كان أو متلقيًا.
شكوك التواصل اللفظي
إن تبعات فرضيتنا الأولى كثيرة. فلنشر منذ الآن إلى إحداها، وذلك لكي نوضح حدود وصعوبات عملنا. فإذا كان النص وسيلة للتواصل، فهذا معناه أنه لا يمتلك سوى السمات والخصائص الضرورية للتواصل. وبالإضافة إلى ذلك، إنه إحدى وسائل التواصل، ولكنه ليس دائمًا عنصره الرئيس.
وهكذا، فإن النص لا يمتلك بالضرورة خاصية كونه تامًا وصريحًا، وهي الخاصية التي تجعل منه نموذجًا علميًا مثاليًا، ولكنه يؤدي لحظة الإبلاغ إلى تباطؤ وثقل حشوي، إن النص ناقص في الجهتين: إنه لا يقول ما يكفي، ولكنه قد يقول أكثر من اللازم، إنه استطرادي. إنه يسكت عن بعض الأشياء ويتركها في الظل، وبالمقابل يكرر أخرى حد التخمة.
ففي لحظة تلقي النص، أي اللحظة التي يستمع فيها شخص ما لنص أو يقرؤه، لا تكون لحظتا “الضعف” هاتين مرئيتين، إنهما تختفيان. وما يعمل على اختفائهما هو إدراج النص ضمن وضعية بعينها من جهة، ووجود وسائل غير لفظية يستعملها المتلقي بشكل أوتوماتيكي، من جهة ثانية.
يمكن لنص ما أن يكون ناقصًا في علاقته مثلًا بالفضاء الذي يُنتج داخله، أو عندما تقدم المؤهلات الثقافية للمتلقي معلومات إضافية غير مدرجة في النص. وهكذا، فإن وعظًا يُتلى في كنيسة يفترض حدًّا أدنى من المعرفة الإنجيلية عند السامعين؛ وفي الوقت ذاته، فإن هذا الوعظ يستفيد منذ البداية من مجموع القدرات غير اللفظية للمتلقي. فالخارج الفيزيقي والإيماءات والصوت والوجه والنظرة تساهم جميعها في القضاء على جوانب النقص فيه. إن وضع النص ضمن وضعية بعينها يقود إلى التغطية على المعلومات الناقصة، أما الوسائل غير اللفظية فتأتي بما هو ناقص في الإبلاغ.
فما هو حشوي في نص ما يعود في المقام الأول إلى الإبلاغ: فعندما يخشى الباثّ من الصدود أو عدم الفهم، فإنه يُكثر من العلامات التي يعتقد أنها تساعد على تمرير إرساليته أو العمل على خلق انسجام مع المتلقي. إن العناصر الحشوية عديدة، خاصة في النصوص الشفاهية: إنها تتمتع بقيمة تذكرية، إنها توهم بوجود ثبات داخل حشد من الكلمات التي لا تستقر على حال. ويمكن للنصوص المكتوبة الاستغناء عن هذه العلامات، ذلك أن الاستطراد-أي الضرورة المحتملة- تنتقل داخلها إلى جهة المتلقي، إنها جزء من اختياره الحر: يمكنه إعادة نفس الجملة أو نفس الفقرة مرات عديدة.
إن القضيتين المشار إليهما أعلاه حقيقيتان فعلًا، وذلك لأننا نقبل أن يكون النص وسيلة من وسائل الإبلاغ. ومع ذلك، هل يمكن إدراج كل النصوص ضمن هذه الفئة؟ تجدر الإشارة إلى حالتين خاصتين يصفها البعض بالحالات القصوى، ويسميها الآخرون صراحة حالات الاستثناء. لا أحد يمكن أن يشكّك في الوظيفة الإبلاغية لنصوص الحياة العملية، من قبيل طرق الاستعمال، والمطويات الإشهارية والمرافعات؛ وأيضا الحالات التي تدرج ضمن الأدب.
فإذا كان هناك اليوم من آثار صريحة لاستعمال عمودي للكلام في بعض النصوص العلمية أو في الموسوعات، وهي آثار ذات وظيفة تعيينية خالصة، فإن هذه الآثار يجب البحث عنها في الشعر الغنائي. فما يميز الغنائية منذ رامبو ومالارمي هو منح الكلمات معناها الأصلي وتخليصها من الطابع الخطابي المبتذل. إن الشاعر يقيم علاقة أخرى أساسية مع الأشياء هي غير تلك التي يعرفها الخطباء والسارِدون: إن العلاقة الثلاثية عند هؤلاء (باثّ، شيء ، متلقي) تحل محلها علاقة ثنائية ( باثّ، شيء) . ويمكن اعتبار أعمال ريفيردي وروني شار وبونج وبونوفوا مراحل داخل هذا المسار، داخل البحث عن جوهر مصفى من عرضية الخطابية ذات المنحى الإبلاغي. فكيف ندرس وظيفة النصوص الموجهة لإقامة علاقة تعيينية مباشرة بين الإنسان والأشياء؟ يتعلق الأمر بمشكلة كبيرة، ولكنها لا تتضمن سوى حل مبتذل: يتصرف قارئ الشعر كما لو أن هذه النصوص موجهة إليه، وذلك بمحاولة الإمساك بالمعنى لكي يحاكي الحركة التي تتضمنها وهي التي تلائمه.
ولكن اللغة الشعرية لا تشكل الاستثناء الوحيد. ذلك أن اعتبار النص أداة للإبلاغ معناه رفض الفرضية العكسية، أي النظام السيكولوجي القائل إن بعض النصوص الأدبية، إن لم تكن جميعها، أُنتِجت استنادًا إلى حاجة للتعبير الذاتي. ويمكن الإحالة على الكثير من الاعترافات السيرية والقصائد والكثير من النصوص الرومانسية من أجل تدعيم هذه الفرضية. هناك بالفعل الكثير من النصوص التي أُنتجت وفق هذه الحاجة. فالتعبير الذاتي يمكن أن يُقصي كل اعتبار اجتماعي، بل يمكن أن يصاغ باعتباره ممارسة منافية للمجتمع. ولكن التكوين، تلك الإرادة التي تتحكم في إنتاج نص ما، يعود في المقام الأول إلى السيكولوجيا والتاريخ، وهذا الجواب يصدق على الحالة القصوى الأولى؛ فوصف نص ما يصبح ممكنًا فقط انطلاقًا من اللحظة التي يدرج فيها ضمن عدد هائل من النصوص التي يتداولها عدد هائل من الباثّين والمتلقين، أي عندما يصبح جزءًا من شبكة إبلاغية. وفي هذا المستوى لا يصبح التعبير الذاتي فئة مستقلة من الإنتاج النصي، بل جزءٌ لا يتجزأ من نسق الإبلاغ، ذلك الجزء الذي تطلق عليه البلاغة الكلاسيكية الإيتوس: يتحول التعبير الذاتي إلى صورة للباثّ كما يتلقاها المتلقي، وهي صورة رائعة ومجاملة ومزعجة.
المصدر : A Kibedi Varga : Discours , Récit , Image éd Pierre Mardaga éditeur