يواجه المستمع في بداية احتكاكه بالموسيقى الكلاسيكية مجموعة من العقبات التي تحول دون تذوقه لجماليات هذا الفن. وجانبٌ كبير من تلك العقبات يعود السبب فيه إلى جهل المتلقي بماهية تلك الموسيقى، وكيفية اختلافها عن الأنواع الأخرى، كالموسيقى القومية أو الشعبية، التي ينشأ المتلقي ويعيش في كنفها، وتتردد أصداؤها تقريبًا في كل مكان حوله، متخذةً بذلك أشكالًا مختلفة؛ وبمرور الوقت، تعتاد أذناه نوعًا عمّا عداه، وتصبح تصوراته عن طبيعة الموسيقى، كفن من الفنون، نسخة من تصورات المحيط الثقافي الأوسع الذي يعيش فيه. وتَطبُّع تصورات الفرد بطابع تصورات الجماعة ظاهرة عامة، يمكن ملاحظتها وتتبعها في مختلف الشعوب والمجتمعات. لا سيّما أن الموسيقى، مثلها كاللغة، مكوّنٌ ضروري في كل مجتمع إنساني. فلم يحدث طوال التاريخ أن وُجد على وجه الأرض اجتماع إنساني ليس له موسيقاه ولغته الخاصة.
لهذا، تظل الموسيقى الكلاسيكية فنًا مبهمًا بالنسبة للكثيرين ممن لا يألفون الاستماع إليها. وواقع الأمر أن كثير من المستمعين إلى أنواع أخرى من الموسيقى، كالشرقية مثلًا، عندما يحتكون بالكلاسيكية الغربية لا يألفوها، بل إن البعض قد يشعر بالنفور منها؛ ولهذا الأمر ما يبرره تمامًا، فانتفاء تعدد التصويت (البوليفونية) polyphony وما يستتبعه ذلك من غياب التكثيف النغمي (الهارموني والكونترابنط) في الموسيقى الشرقية الميلودية، التي تتميز باللحن/الصوت الواحد (المونوفونية monophony) واعتياد آذان المستمع على هذا النوع وحده من الموسيقى يسيران عكس جوهر ومطالب البناء في الموسيقى الكلاسيكية.
ثمة عقبة أخرى، تتمثل في تحرر الموسيقى الكلاسيكية من الكلمة؛ ذلك لأن مستمع الموسيقى الشرقية، في غالب الأمر، لا يعتاد سماع “موسيقى خالصة” بالمعنى السيمفوني الغربي، أي موسيقى تكون متحررةً من الكلام، موسيقى آلات وحسب. يرجع ذلك إلى طبيعة الموسيقى ذاتها التي يألفها المستمع، كالموسيقى العربية، من حيث ارتباطها الدائم بالكلمة. لذلك كانت “الأغنية” الشكل الموسيقيّ الشائع والأساسي بالنسبة للمستمع الشرقي، وهو لهذا لا يستسيغ قوالب وأشكال الموسيقى الكلاسيكية على تنوعها، ولا يألفها. هذه الأشكال التي لا بدّ من أن يتيسر لدى مستمع الموسيقى الكلاسيكية قدرًا بسيطًا من الإلمام بسياقاتها وجوانبها، كالصوناتات والسيفونيات والكونشرتوات والرباعيات الوترية، وغيرها من أشكال الموسيقى الكلاسيكية.
وانشغال ذلك المستمع بالقالب الغنائي وحده يجعلنا نتسائل: لم لا نقول على هذه القوالب الكلاسيكية أنها “أغاني”؟ كأن نقول على سيمفونية موتسارت الأربعين “أغنية موتسارت الأربعين”، أو نُطلق على سيمفونية بيتهوفن الخامسة مُسمى “أغنية بيتهوفن الخامسة”؟ فالمستمع غير المُلم بأشكال وقوالب الموسيقى الكلاسيكية، ومن ثم يتلقاها بالاصطلاح الشائع في أنواع الموسيقى الأخرى، كالشعبية والقومية، قد لا يتحرج أبدًا من هكذا خلط؛ وهو بذلك إنما يكون مرتكبًا خطأً فادحًا، إذ هو يُماثل بين قوالب موسيقية مختلفة جوهريًا شكلًا ومضمونًا، مختلفة أيضًا من حيث طبيعة التلقي. ومن المعروف أن الموسيقى الغربية قد تجاوزت الشكل التقليدي للأغنية منذ قرابة الثلاثة قرون، ومع ذلك ظلّت الأغنية شكلًا باقيًا وُضع فيه مؤلفات عدة هامة في مراحل تاريخية مختلفة، من العصور الوسطى حتى فترة الممارسة الشائعة.
يمكننا أن نضيف إلى تلك العقبات أيضًا عقبة تذوق الموسيقى المُجرَّدة أو الخالصة؛ أي غير المرتبطة بالكلمات الملحنة وغير المستندة إلى معان أدبية أو ذاتية، فإذا كانت موسيقى الآلات الكلاسيكية بصفة عامة فنًا مجردًا أصلًا من حيث أن طبيعة مادتها لا تشير إلى شيء أو معنى محدد، إلا أن داخل هذا الفن المُجرَّد هناك تفاوت من حيث التجريد، فالموسيقى الخالصة absolute music (كالسيمفونية الأربعين لموتسارت) أكثر تجردًا من الموسيقى الوصفية أو البروجرامية programme music (كالسيمفونية السادسة الباستورالية لبيتهوفن) وقد يكون الصنفان من الأعمال الأوركستراليةالخالصة؛ أي أعمال تخلو من الكلمات.
على أن أي شكل من أشكال المعرفة الموضوعية لهذا الفن ليس شرطًا من شروط التذوق الجماليّ له بقدر ما هو شرط للتوسع في فهمه وإدراكه. مثلما يكون الحال أيضًا مع الاستماع المقارن (كما في مقارنة الموسيقى الكلاسيكية بأنواع أخرى من الموسيقى مثلما سبق أن أشرنا، أو مقارنة أساليب الموسيقيين الكلاسيكيين في فترات وحقب مختلفة من تاريخ الموسيقى، أو مقارنة تطور أسلوب أعمال الفنان الواحد في فترات متباعدة من حياته) وواقع الأمر أن المستمع لا يحتاج إلى مطالعة مدخلًا، كهذا مثلًا، من أجل الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية وفهمها، فالاستماع —ودائمًا ما كان الاستماع— أمرًا جوهريًا، فما تكون الموسيقى سوى عملية استماع؟ وقد لا يلقى المستمع صعوبة حقيقية في تذوق جماليات الموسيقى الكلاسيكية على عكس ما أشرنا، ولكن لا شك أن هذه القدرة تتفاوت بين جموع الناس، ومن ثمَّ تظل هناك حاجة إلى شحذ قدرات التلقي لدى المستمع، وهذه القدرة تتأتى —كأي قدرة— عن طريق الممارسة المستمرة. ذلك أن الاستماع إلى الموسيقى يشبه الاستماع إلى اللغة، فبينما تكون أفضل طريقة لتعلم لغة جديدة هي ممارستها تطبيقًا بشكل متصل والإنصات إلى أصواتها والتعرف على مفرداتها، كذلك يكون الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية نشاطًا متصلًا وعملية لا تنتهي. فإن الموسيقى، على حد تعبير رحمانينوف “تكفي المرء مدى حياته، في حين أن حياة واحدة لا تكفي للموسيقى” . الواقع أن التدرب على استماع الموسيقى الكلاسيكية ليس بالأمر الصعب، كما أن تزويد المستمع بقدر يسير من المعرفة النظرية والتحليلية بالأعمال الكلاسيكية أمر يخدم الهدف الأساسي، وهو خوض تجربة جمالية أعمق، ما يزيد المتلقي متعة ليس لها مثيل.
ولهذا كله، فلا مناص من ضرورة الوقوف على أرضية راسخة تمثل الإلمام بالعناصر المميزة لهذا الفن (موضوع الفقرة الثانية) كذلك بشيء من التحليل الموسيقيّ (موضوع الفقرة الثالثة) كفهم المخطط الصوري، أو الصيغة المتبعة في العمل. يتأتى هذا كله، كما سوف نتبين، عبر إحداث نقلة نوعية في الاستماع، خطوة أساسية للولوج إلى عالم الموسيقى الكلاسيكية، ما يمكن أن نصفه بالتحول من الموسيقى اللحنية إلى الموسيقى الكلاسيكية. لا نبالغ إذا قلنا أن هذا تحول بمثابة ثورة كوبرنيكية على مستوى التلقي الموسيقيّ؛ من مركزية اللحن إلى مركزية النغم. ومن النغم، نتتبع تشكل ونمو المادة الموسيقية ككائن في العمل، وما يفيض عن الأخيرة من تفريعات ومشتقات وتنويعات وتحويرات يتفنن بها كل مؤلف ويتفرد بحسب قريحته، وموهبته الخاصة، وأسلوبه الفني والخصائص الأسلوبية السائدة في عصره. ينبري كذلك في العمل الكلاسيكي طابع الصيرورة الأصيل المميز للموسيقى أكثر من أي نوع آخر، وهي صيرورة لا تشمل تجربة التلقي والأداء فحسب، بل تنسحب كذلك على وجود العمل ذاته (ما سنتطرق إليه في الفقرة الرابعة).
جوهر الموسيقى الكلاسيكية
من أكثر العوائق التي تحول بين المستمع المبتدئ للموسيقى الكلاسيكية والتذوق الجماليّ لهذا الفنّ، كما فصلنا بعضها في مدخل هذا المقال، هو عدم إلمامه بجوهر هذه الموسيقى ومبادئها. ويمكن القول، بشكل مبدئي، أن ما يميز الموسيقى الكلاسيكية عما عداها استعمال الموسيقيين الكلاسيكيين الأساسي “للتكثيف النغميّ”، موضوع هذه الفقرة، ومن خلال ذلك التكثيف ينبجس مفهوم الإنماء، أو التفاعل/التطور developing الذي يقوم على تطوير وإنماء المادة الموسيقية، واشتقاق مواد موسيقية من مواد أخرى، من ذلك ما يُشعر المتلقى بوجود قوة حيوية دافعة ما محركة للعمل، وإحساسًا دائمًا بالحركة يندر أن نجده في أنواع أخرى من الموسيقى. ففي أنواع أخرى من الموسيقى يحل التكرار محل التفاعل والإنماء، أي يتكرر ظهور المادة الموسيقية ذاتها واستدعاؤها، مرة تلو الأخرى، بطريق قد يبعث على الملل والضجر في نفس المستمع، الأمر الذي لا يسد حاجة بعض المستمعين أو يرضي توقعاتهم. كذلك أهم ما يميز هذه الموسيقى ويجعلها في موضع مقابلة من الموسيقى الخفيفة والشعبية، هو ما يتفنن فيه الموسيقيون الكلاسيكيون من تنظيم المادة الموسيقية في أشكال وقوالب وصيغ محددة، لها تاريخها في سياق تطور الموسيقى والحضارة الغربية (موضوع الفقرة الثالثة).
التكثيف النغمي (الهارموني والكونترابنط)
يعني بالهارموني (أو التآلف) تزامن نغمتين أو أكثر، بطريق يؤدي إلى انتاج نغمات جديدة. أي إحداث نغمات جديدة من تآلف عدد من النغمات. يكون ذلك تبعًا لعلاقات التوافق والتنافر بين النغم، وهو ما يقع ضمن نطاق نظرية الهارموني؛ يقوم المؤلف في الموسيقى الهارمونية بالمزج بين أصوات الآلات المختلفة تبعًا لقواعد التركيب الهارموني، وهو بذلك يقوم باستحداث أصوات جديدة من تزامن نغمات هذه الآلات، حيث لا ترجع النغمات الجديدة لآلة منها. والهارموني هو تركيب النغمات في بناء رأسي، أي أن التزامن بين النغمات يكون من خلال التزامن في أداء سطور المُدَوَّنة الموسيقية، ولهذا كان الهارموني مختصًا أكثر بالمحور العمودي أو الرأسي vertical من المدونة، بينما يختص اللحن أو الميلودي melody بالمحور الأفقي horizontal وحده.
أما تَزامُن مجموعة آلات لأداء أكثر من لحن (لا أكثر من نغمة) هو ما يُسمى بالكونترابنط (التعارض اللحني)؛ إذن الكونترابنط هو تداخل أو تشابك —أو إن شئت فقل تضافر— عدد من الألحان وفقا لطريقة معينة. ويُعد أسلوب صياغة الفوجة fugue، أو التَفْويج، نموذج تطبيقي للكونترابنط. وفي صيغة الصوناتا، أهم الصيغ الموسيقية على الإطلاق، التي سوف نناقشها بشيء من التفصيل في الفقرة القادمة، يكون قسمها الأوسط “قسم التفاعل development” أكثر أقسام الصيغة استعمالًا للتكثيف النغمي، أي التآلف والتعارض اللحني.
ولذلك، ففي الموسيقى الكلاسيكية هناك حاجة إلى قائد الأوركسترا (المايسترو) من أجل أداء العمل الموسيقيّ كوحدة واحدة. فهو المُجمِّع والمُوحِّد لكل هذه الخطوط، الرأسي منها والأفقي، على عكس من أنواع أخرى من الموسيقى اللحنية، المعتمدة على اللحن، أي المحور الأفقي وحده كالموسيقى العربية، فهي لا تحتاج إلى قائد فرقة العزف؛ يكفيها وجود ضابط للإيقاع، الأمر الذي تكفله أسرة الآلات الإيقاعية المستعملة في هذه الموسيقى وخصوصًا الطبل.
ومن هنا، يرى فؤاد زكريا أن غياب عنصر كالتآلف (الهارموني) في الموسيقى الشرقية يرجع إلى بنية الألحان الشرقية عمومًا، بما هي تتصف —كما يصفها هو— بالتلاصق والتماثل. وتفصيل ذلك أن اللحن في هذه الموسيقى يمثل في حد ذاته وحدة بنائية، وبالتالي فإنه يُقدَّم للمتلقي دفعة واحدة، فلا يُبنى أو يتطور في ذهن المستمع، أو إن شئت فقل أننا لا نلمح عناصره البسيطة التي يتكون منها وطرائق تشكله، بل أن كل نغمة تتصل بما بعدها في شكل متصل ديمومي أقرب إلى السكون من الحركة. وإيجاز هذا أن الموسيقى العربية لا تعرف الهارموني، ذلك لأنها في الأساس موسيقى ميلودية.
وعلى الرغم من أن المقامات الشرقية تفوق المقامات الغربية عددًا، وتشغل رقعة جغرافية أوسع من تلك التي يشغلها السُلَّمان الغربيان، الكبير major والصغيرminor، إلا أن ثراء الموسيقى الشرقية هو ثراء لحني فحسب، ذلك أنها موسيقى تعتمد على اللحن بشكل أساسي، حيث ينتفي وجود العمل الموسيقيّ الشرقي بانتفاء عنصر اللحن فيه، وهذا ما لا نجده في الأعمال الكلاسيكية، حيث أن انتفاء اللحن في الأعمال الكلاسيكية لا يُغير من جوهر هذه الأعمال في شيء. نظرًا لأن اللحن أحد جوانب العمل الكلاسيكي، وليس مركزه، أو قاعدته الأولى والوحيدة. فهي موسيقى لا تولي الأهمية الكبرى والمطلقة إلى عنصر اللحن أو الميلودي. وقد شهد تاريخ الموسيقى الكلاسيكية اتجاهات ومشاريع تأليفية كبرى كان قوامها تغليب الجانب الصوري التركيبي على الجانب الميلودي المضموني، أو مشاريع تنزع حتى إلى إقصاء الجانب اللحنيّ بصفة تامة—أبرزها شوستاكوفيتش مثلا—فيما يُعرف بموت اللحن. لذلك يمكن القول أن ثراء الموسيقى الكلاسيكية ثراء نغمي (لا لحني). وإذا كانت المقامات الغربية محددة بسلمين فقط، الكبير والصغير، على عكس من تعدد المقامات الوفير في الموسيقى الشرقية، إلا أن التركيبات الرأسية، الهارمونية والكونترابنطية، يفتحان أمام هذه الموسيقى إمكانات لا حصر لها. لهذا يمكن القول أيضًا أن الموسيقى الكلاسيكية تستمد لانهائيتها من التكثيف النغمي، أي من هذين العنصرين، الهارموني والكونترابنط.
إن عدم وجود هذين العنصرين في الموسيقى الميلودية، وعدم إيلاف مستمعين هذه الموسيقى التكثيف النغمي، هو ما يجعل البعض غير قادر على تذوق جماليات فن الموسيقى الكلاسيكية. ويمكن تشبيه كم تعدد النغم وتكثفه في الموسيقى الكلاسيكية، من زاوية البصر، بما أن السمع يمثل للأذن ما يمثله النظر للعين، بالمكوث فترة طويلة في غرفة مظلمة، أو ذات إضاءة منخفضة، ثم الخروج فجأة إلى الشمس؛ إذ يعجز المرء بادئ الأمر عن رؤية وتمييز الأشياء من حوله، ذلك إلى أن يطرأ تحولًا فيسيولوجيًا معينًا في حدقة العين، ليستطيع أن يبصر الأشياء على نحو طبيعي. هكذا يمكن تشبيه بوليفونية (تعدد الأصوات) وتكثيفية النغم في الموسيقى الكلاسيكية؛ هو عائق يعود في المقام الأول إلى عدم اعتياد المتلقي على سماع هذه الموسيقى. يظهر هذا العائق بوضوح أثناء تلقي الأعمال الأوركسترالية الضخمة، حيث يتلقى المستمع فيضًا ضخمًا هائلًا من الأصوات والتآلفات في العمل الواحد، والذي قد يدوم، في الأعمال السيمفونية الضخمة، حتى أكثر من الساعة والنصف الساعة من موسيقى الآلات الخالصة، فيعجز المستمع بادئ الأمر، حسيًا ونفسيًا وذهنيًا، عن التعرف على النسيج الموسيقيّ لهذه الأعمال، وبالتالي يعجز أمام إدراك مكونات هذا النسيج وتتبع عناصره ودقائقه، واستنباط المخطط الشامل الذي يحكمه. أي أنه يكون بغير قدرةٍ على استنباط الوحدة من التنوع.
الوحدة والتنوع: التحليل الموسيقي
إن التسلسل المنطقي للعمل الموسيقيّ أشبه بتسلسل الفقرات في الرواية. وتحليل العمل الكلاسيكيّ غالبًا ما يكون جزءًا لا يتجزأ من تذوقه جماليًا. فما دمنا نستمع إلى موسيقى كلاسيكية فعلينا بقدرٍ من التحليل، ذلك أن التحليل لا ينفصم عن التلقي، بل هو مكون أساسي له. وتتفاوت القدرة التحليلية بين المستمعين، ولكن الأساس لتحليل بنية أي عمل كلاسيكي هو حفظ التيمة الأساسية له، أو ألحان العمل ومادته الموسيقية الأساسية. وقد يحدث أن تجمع الألحان الأساسية في بعض الأعمال بين البساطة والجمال، ما يجعلها تعلق في الذهن بسرعة، وييسر من حفظها. والتيمة الأساسية هي وحدة بنائية صغرى يتم تكرارها مرات عديدة في العمل الكلاسيكي، بحيث يتعرف عليها المتلقي كلما سمعها، وهي لذلك أساسية. لذا ينبغي على المستمع حفظ صورتها الأصلية، ذلك أنها ستعاود الظهور بطرق ملتوية، وأشكال مُنوَّعة؛ فتارة تعود مستترة تحت زخرف ما، أو بتنويع أو توزيع أوركسترالي مختلف، وتارة أخرى تُصاحبها تيمة فرعية.. إلخ؛ ينبغي كذلك تتبع الطرق التي تتشكل بها هذه التيمات الأساسية، أي ملاحظة وحداتها النغمية الأصغر، وأجزاء جسدها الخاص التي تمثل تكوينها الداخلي، وكل ما يفيض عن بنية هذه التيمة الرئيسة من تيمات أخرى فرعية مُتكثرة ومتنوعة، وعبارات، وأنصاف عبارات، ونماذج figures موسيقية، ما يبرهن على ثراء المادة الأساسية الأولى، وبراعة تصرف المؤلف فيها، حيث يمكن القول أن كل مادة العمل الكلاسيكي الموسيقية المُتكثرة تُرَّد في النهاية إلى البنية الأساسية الواحدة.
ووظيفة التحليل الموسيقيّ الأولى هي كشف منطق العمل، أن يرينا كيف يحقق المؤلف الوحدة من خلال التنوع، ثم نعود ونطلق على هذه الوحدة التي ألفناها مسمى؛ مثل أن نقول أن بيتهوفن استعمل صيغة أقرب إلى “صيغة الصوناتا” في الحركة الأولى من السيمفونية التاسعة، أو أن الحركة الثانية من السيمفونية نفسها وُضعت في “صيغة الاسكرتسو” (يأتي بيان هذه الصيغ في هذه الفقرة). في حين لا نجد أن للتحليل هذا الدور الهام أثناء تلقي أنواع أخرى من الموسيقى. فمثلا، يقتصر التحليل في الموسيقى العربية عادةً على معرفة جنس المقام (التتراكورد بالاصطلاح الغربي) ونوعه فحسب، وهو لذلك عملية غير أساسية، غالبًا ما تقتصر على المختص في هذا النوع من الموسيقى أو ذاك، ولهذا لا يشترطها الفهم والتذوق الجمالي للعمل.
ويحسن بنا أن نشير إلى أن التحليل الموسيقيّ لا يكتفي بالبرهنة على أن هذه الحركة أو تلك موضوعة في الصيغة كذا وكيت من الصيغ الكلاسيكية، فهذه فكرة سطحية، بل ينبغي أن يروم التحليل إلى إظهار كيف تكون هذه الحركة أو تلك موضوعة في هذه الصيغة بالذات، أو أي صيغة أخرى؛ كيف تلتئم وتنتظم ملامح العمل الموسيقيّ المتنوعة في خطة واحدة، أو كيف ترتبط الأجزاء في الكل، الذي هو وحدة عضوية جشطالتية على حد تعبير شوينبرج، وكأننا نُساير مراحل تكوين العمل في ذهن مؤلفه. كما أنه لا بد من مراعاة عدم الاستغراق في العلاقات المكانية بين المادة الموسيقية وبعضها، فالموسيقى فن الزمان قبل كل شيء، ولا ينبغي أن يصير تأطير العمل ووضعه في قالب أو صيغة معينة هدفًا في ذاته، وعوضًا عن ذلك ينبغي أن يكون فهم هذه العلاقات، كما قلنا، يصب في خدمة الهدف الأساس، وهو الخبرة الجمالية بالموسيقى.
صيغ الموسيقى الكلاسيكية وأشكالها
في حين أن الصيغة الكلاسيكية، كما سنرى، هي صورة العلاقات الكائنة بين المادة الموسيقية وبعضها داخل الحركة الواحدة، يمكن القول أن الشكل الكلاسيكي هو صورة العلاقات الكائنة بين الحركات وبعضها. ذلك أن الشكل الكلاسيكي عادةً ما يتألف من عدة حركات؛ تتألف السيمفونية في شكلها التقليدي من أربع حركات، والكونشرتو من ثلاث، يتخلل هذه الحركات فاصل صامت. والأشكال الكلاسيكية نظرا لتعدد حركاتها فهي تتضمن استعمال أكثر من صيغة في هذه الحركات. وقد ينزع المؤلف نحو الوحدة، كأن يصل بين حركتين كأنهما واحد، فينتفي وجود الفاصل الصامت في هذه الحالة، مثال ذلك الوصل بين الحركة الثانية والثالثة من خامسة بيتهوفن، واتصال الحركة الرابعة بالثالثة في ثانية سيبيليوس. أو ينزع نحو الوحدة الشاملة بين أجزاء العمل وتقديمه كأنما يتألف من حركة واحدة فقط مثل سابعة سيبليوس، وأغلب أعمال القصيد السيمفوني.
هناك كثير من الأشكال الموسيقية الكلاسيكية المتنوعة مثل: الافتتاحية والقصيد السيمفوني (الذي هو تطوير لشكل الافتتاحية) والقداس الجنائزي والأوبرا والباليه والتوكاتا والفوجة والنوكتيرن والبرليود والامبرومبتي والبالاد والسيرينادا والكانتاتا والبارتيتا وغيرها. وأشكال موسيقى الحجرة كالصوناتا والرباعي الوتري. كذلك كثير من الصيغ ما يضيق الحديث عنها هنا، ولكن سنتطرق إلى أهمها، ومواضعها من الأشكال الكلاسيكية التي تعتبر أساسية لا غنى عنها لأي مستمع، كالسيمفونيات والكونشرتوات والصوناتات.
صيغة الصوناتا
الصوناتا أو الصوناتا-أليجرو هي من أهم الصيغ في الموسيقى الكلاسيكية إطلاقًا، وهي صيغة حديثة نسبيًا مقارنة بصيغ أخرى عريقة تعود إلى العصور الوسطى من تاريخ الموسيقى. تبلورت صيغة الصوناتا كصيغة أساسية توضع فيها أعمال موسيقية هامة على يد هايدن، مؤسس شكل السيمفونية، لهذا يُشار إليه في تاريخ الموسيقى بـ”أبو السيمفونية”. وبرغم من أن الصوناتا بوصفها “صيغة”، والصوناتا بوصفها “شكل” (أي المؤلفة لآلة صولو، أو لآلة صولو بمصاحبة آلة أخرى) يتشاركان الاسم نفسه، وهو أمر ربما يرجع إلى عوامل تاريخية، إلا أن الصوناتا من حيث كونها “صيغة” ترتبط أكثر ما ترتبط بشكل السيمفونية أكثر من شكل الصوناتا. تكونت هذه الصيغة في الحقبة الكلاسيكية من تاريخ الموسيقى، فقد كان تشكلها الحدث الأهم والرئيسي في خلال هذه المرحلة، وهي الحقبة التي ضمت الكلاسيكيين الثلاثة العظام، هايدن وموتسارت وبيتهوفن المبكر.
استخدم هايدن صيغة الصوناتا في الحركات الأولى من سيمفونياته التي بلغ عددها 104 سيمفونية. خطى موتسارت بصيغة الصوناتا خطوات أبعد من سلفه، إذ بلغت على يديه حدًا لا بأس به من التعقيد. وجاءت لمسات بيتهوفن السحرية بعد ذلك على هذه الصيغة لتضفي إليها تجددًا، وتفتح أمامها إمكانات لا حصر لها من التعبير الموسيقيّ، وصارت الصوناتا في يد بيتهوفن وسيلة تعبيرية مكتملة لا مثيل لها.
تتألف صيغة الصوناتا من ثلاثة أقسام رئيسية: عرض-تفاعل-إعادة عرض. بالإضافة إلى قسمين اختياريين —حسب رغبة المؤلف— هما: مقدمة (وتأتي قبل بداية العرض) وكودا (وهي تعني ختام أو تذييل caudae، (وتقع بُعَيد إعادة العرض). ولكل قسم من هذه الأقسام تكوينه الداخلي الخاص.
في قسم العرض exposition يعرض المؤلف مادته الموسيقية، مثلما يقدم الروائيّ أبطال روايته في الفصول الأولى. تتألف مادة العرض عادةً من موضوعين subjects، نشير إليهما بالموضوع الأول “أ”، والموضوع الثاني “ب”. وقد قلنا أن صيغة الصوناتا تتميز بأنها صيغة درامية، لذا فكان لا بد على الموضوعين أن يكونا متقابلين متضادين، ذلك حتى يتحقق العنصر الدرامي المنشود. لهذا يلجأ المؤلف إلى وضع موضوعه الأول “أ” في مقامٍ، وموضوعه الثاني “ب” في مقامٍ آخر، مما يؤثر في نفس المستمع ويشعره بوجود ضدية ما، أو ازدواجية بين المجموعة “أ” والمجموعة “ب”. وغالبًا ما يتم تقديم مادة العرض مرتين، أي أن قسم العرض يُعاد مرة ثانية قبل القسم التالي، ذلك من أجل تنبيه المستمع إلى مادة العرض وحتى ترتسم حدوده في ذهن المتلقي، لكي تسهل عليه متابعة مادة العرض في الأقسام التالية، كما في الحركة الأولى من خامسة بيتهوفن. وقد يحدث أن يكون العرض أطول من أن يُعاد مرة ثانية، فينتقل المؤلف إلى التفاعل مباشرةً كما في الحركة الأولى من تاسعة بيتهوفن. ولا يُعاد العرض مرة أخرى قبل التفاعل في حركات الصوناتا في شكل الكونشرتو.
يأتي قسم التفاعل development الأوسط، وهو ما يناظر الصراع/المشكلة في العمل الأدبي أو المسرحي، ولهذا هو القسم الأكثر درامية، هو توسع لمادة العرض وكشف لإمكاناتها. وفيه يصطدم الموضوعين بعضهما ببعض، تصارع شأنه أن يولد عناصر وتيمات فرعية أخرى. والتفاعل هو القسم الأكثر تكثيفًا نغميًا (هارمونيًا وكونترابنطيًا)، وهو يتسم بعدم الاستقرار المقاميّ بحسب طبيعته، فلا يستقر المؤلف في مقامٍ واحد، ولا في أحد مقامي الموضوعين “أ” و”ب”، بل نراه يتنقل بين السلالم، مستعملًا تحويلات مقامية شتى وقد يستقر المؤلف في أحد المقامات إلا أن ذلك يكون عابرًا، فإنه لا يلبث أن ينصرف عنه، وهذا أساسي لاستيفاء العنصر الدرامي، ومن أجل الإيحاء بالتطور والإنماء، أي بالتفاعل، فانعدام الاستقرار المقاميّ والنفسيّ هو ما يجعل التفاعل تفاعلًا بحق. وتتعاظم أهمية التفاعل في تاريخ الموسيقى بدءًا من بيتهوفن، فهو للمقطوعة بمثابة القلب للكائن الحي.
في إعادة العرض recapitulation يعيد المؤلف مادته الموسيقية التي بسطها في العرض بعد حل العقدة بينها، التي تكونت في التفاعل، ولا يُعرض القسم الأول كاملًا كما هو، بل بشيء من التخفف أو الإيجاز أقرب إلى تلخيص مادة العرض، أو بحذف أجزاء من مادة العرض حسب رؤية المؤلف. بعد ذلك تأتي الكودا أو الختام وهي اختيارية، وليست من أقسام الصيغة الأساسية، فوجودها من عدمه أمر متروك إلى المؤلف، كما أن في حال وجود الكودا ليس هناك قواعد شكلية معينة تضبطها، فهي تذييل يضيفه المؤلف ليختم الحركة —ومثل كل الذيول، قد تكون طويلة أو قصيرة، فمثلا كانت الكودا عند موتسارت (إذا استخدمها في بعض أعماله) قصيرة، في حين أن بيتهوفن يميل إلى كودا أطول.
إن صيغة الصوناتا تختلف، بتقسيمها الثلاثي ذاك، عن الصيغ الأقدم منها، مثل الصيغ الثنائية الغنائية والسردية، وحتى الصيغ الثلاثية المقفلة التي ذاعت في مراحل ما قبل الكلاسيكية، والتي استعملت بكثرة داخل الكنيسة؛ وتقسيمها الثلاثيّ المفتوح المركب، ولا سيما طبيعة قسمها الأوسط “التفاعل” يجعل منها صيغة درامية بامتياز، وأعظم الوسائط التعبيرية عن الأفكار الموسيقية.
تساعدنا صيغة الصوناتا على تتبع ما سيقوم به المؤلف بمادته الموسيقية، ولكنها أشبه بخطة مجردة أو نموذج معياري لما يمكننا توقعه. ومن الطبيعي ألا تلتزم كل الأعمال التي كتبت في هذه الصيغة بما تفرضه من مبادئ شكلية، بل إنها كانت تختلف في واحد أو أكثر من التفاصيل، لا سيّما في الأعمال التي وضعت في صيغة الصوناتا في مراحل ما بعد الكلاسيكية. ولا سيّما إذا كانت الصيغة المتبعة في العمل ليست صوناتا مكتملة، بل أحد مشتقات الصوناتا، أو صوناتا مهجنة من إبداع المؤلف لتلائم معاني وحاجات العمل النفسية وأجوائه الدرامية. وتزخر الفترات الرومانسية بهذه الصيغ المُهجنة استيفاءًا لمقتضيات المعنى.
وقد تكون أقسام الصيغة كلها مبنية على المادة الموسيقية نفسها، أي تُشتق مواد الأقسام الرئيسة كلها من بعضها، أو من مادة أساسية أوليّة، أو موتيفة جرثومية germ motive أو حيوية تدخل في بناء العمل كله، وتتخلل حركاته كافة، كما نجد في أعمال بيتهوفن. ومن ثم يصعب على المستمع في البدء تحديد أقسام الصيغة بعناية. مثال ذلك مستهلّ السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، وهي موتيفة، أو جملة موسيقية تتألف من أربعة ضربات أو أربع نغمات، مع مط وإطالة النغمة الرابعة، وهي ما تُعرف بموتيفة القدر fate motive (بغض النظر عن الدلالات الدرامية التي تحملها) فهي نموذج مثالي لجملة موسيقية لا تعتبر لحنًا في حد ذاتها. والواقع أن الحركة الأولى من خامسة بيتهوفن من أكمل النماذج وأقوى الأمثلة على صيغة الصوناتا والاستعمال الاشتقاقيّ للمادة الموسيقية وإنمائها، فكل ما في هذه الحركة (أو كل ما في السيمفونية كما يبرهن البعض) يُرّد إلى هذه النغمات الأربع التي استعملها بيتهوفن —واستعملها وحدها— طوال الحركة، وهي أساس اشتقاق الموضوعين أو التيمتين، التيمة الأولى “أ” في السلم الصغير، والتيمة الثانية “ب” في السلم الكبير. حتى إن التحويلات المقامية بين تينك الموضوعين، والتغيرات الإيقاعية كان أساسها يرجع إلى هذه النغمات الأربع لا غير. ترجع بساطة هذه الحركة إلى وحداتها البنائية الأولى التي تبلغ من البساطة حدًا أن أي شخص آخر يمكن أن يضع هذه الضربات الأربع، وهي في الآن نفسه سرّ استحالتها، فرغم ذلك لم يؤلفها أحد سوى بيتهوفن، واستطاع بعقليته التركيبية أن يُقيم من خلالها صرحًا أسطوريًا بلغ من التماسك والتعقيد أن أثار ذهول وحيرة الموسيقيين في كل العصور اللاحقة.
الصيغة الحرة أو التنويعات على لحن
التنويع هو تصرف المؤلف في وحدة من وحدات المادة الموسيقية، سواء كانت عبارة أو فقرة أو لحنًا وتغيير تفاصيلها مع الإبقاء على معالمها الرئيسية ما يسمح للمتلقي بتمييز صورتها الأصلية والصور المنوعة لها. وصيغة التنويعات عادة ما تكتب فيها الحركة الثانية من الأشكال الموسيقية الكلاسيكية ولكن قد يحدث أن تستعمل في بعض الأعمال في مواضع مختلفة، مثل أن تكون الحركة الثالثة بدلا من الثانية كما في تاسعة بيتهوفن، أو الحركة الأخيرة كما في رابعة برامز. وقد تكون التنويعات على هيئة مجموعة مستقلة، مثل مجموعة تنويعات ديابلي لبيتهوفن، وتنويعات إيرويكا لبيتهوفن (التي استعمل بيتهوفن أحد تنويعات لحنها الرئيس في الحركة الأخيرة من سيمفونيته الثالثة إيرويكا). ومن أمثلة التنويعات الشهيرة أيضًا تنويعات فيفالدي على لحن لافوليا (وهي الصوناتا الثلاثية رقم 12)، تنويعات جولدبرج لباخ، وتنويعات برامز على لحن لهايدن، وتنويعات رحمانينوف في رابسوديته على ألحان لباجانيني، وتنويعات إنجما لإدوارد إلجار، والتنويعات السيمفونية لدفورجاك.
صيغة المينويت أو الاسكرتسو
المينويت-تريو، أو الأسكرتسو هي الصيغة الأساسية للرقصات. وهي الصيغة الأكثر سيمترية وتناظرًا بين أجزائها، صورتها الأساسية: (أ، ب، أ) أو سريع-هادئ-سريع، هذا هو البناء التقليدي للفالس أو الرقصة. يناظر فيها القسمان الأول والثالث قسمين العرض وإعادة العرض في صيغة الصوناتا، في حين أن القسم الأوسط منها، ما يناظر التفاعل، هو قسم “التريو trio” الذي عادة ما يكون مختلفًا في اللحن والإيقاع عن القسمين الآخرين. وليس هناك ما هو أبسط وأوضح من هذا التركيب، وهي لهذا تستعمل في أعمال خفيفة مقارنة بالصيغ الأكثر عمقًا وجدية مثل الصوناتا والروندو. وعادة ما توضع الحركة الثالثة من تركيب السيمفونية في هذه الصيغة. وقد يحدث أن تشغل موقع الحركة الثانية، وهو ما جرى عليه الحال في كثير من الأعمال بعد تاسعة بيتهوفن، مثال ذلك خامسة مندلسون، وثامنة بروكنر وتاسعته، والسيمفونية الأولى “التيتان” لجوستاف مالر ورابعته وسادسته، وثانية رحمانينوف، وعاشرة شوستاكوفيتش.
وقد يحدث أن تكون هذه الصيغة ملائمة لأغراض معينة لدى المؤلف فيستعملها من أجل صوغ حركات أخرى، كالمارش الجنائزي، مثال ذلك الحركة الثانية من ثالثة بيتهوفن، مع أنها أقرب إلى صيغة الروندو البسيط، والحركة الثالثة من سادسة تشايكوفسكي “الباتيتيتك” التي تمزج بين الرقصة والمارش. كما أن هناك أيضًا استثناءات أو تحويرات للصورة العامة لهذه الصيغة، مثل تناوب التريو مع الاسكرتسو مرتين في صورة: (أ، ب، أَ، بَ، أََ)، وهو ما نجده مثلا في الحركة الثالثة من سابعة بيتهوفن.
صيغة الروندو
إن مبدأ الروندو الأساس هو الإعادة المتكررة للحن الرئيسي في المقام الأساسي. ولهذا يختلف الروندو عن التنويعات، فهو لا يقوم على مبدأ التنويع على لحن أساسي بحيث يصبح كل تنويع بمثابة لحنًا جديدًا بحد ذاته، بل يعتمد أكثر ما يعتمد على بنية وتركيب اللحن الأساسي في مقامه الأساسي، ومصاحبة ذلك اللحن لألحان أخرى مصاحبة كل مرة يعاد فيها. وبذلك تكون صيغة الروندو كالتالي: (أ، ب، أ، ج، أ.. إلخ). ويمكن ملاحظة أن صيغة الروندو تطورت في الأصل عن صيغ أخرى أقدم مثل صيغة المينويت ذو قسمين تريو minuet with two trios، مثل الحركة الثالثة من سابعة بيتهوفن التي ذكرناها في حديثنا عن صيغ الرقصات. ويعود استعمال الروندو كصيغة مقصودة لذاتها إلى القرن السابع عشر في عديد من الأعمال، وفيها جميعًا يعاد اللحن الرئيسي في المقام الأساسي، وتكون الفقرات الأخرى الاستطرادية في مقامات أخرى قريبة منه. وخرجت من هذه الصيغة بعد ذلك في المرحلة الكلاسيكية صيغة الصوناتا-روندو وهي أحد الصيغ المهجنة.
ومثل صيغة الصوناتا، يصعب حصر كل الأعمال التي كتبت في صيغة الروندو، بأنواعها ومشتقاتها والتحويرات الشكلية عليها، ذلك لأن مبدأ الروندو كمبدأ الصوناتا له إمكانيات شتى واسعة، لكن العنصر الأساس الحاسم في الروندو كما قلنا، هو الإعادة المتكررة للحن الأساسي في المقام الأساسي. فإذا تبين المستمع العناصر الأساسية لكل مبدأ صيغة استطاع بسهولة تعيين صيغة الحركة أو العمل وفهم العلاقات الداخلة فيها فهمًا أشمل.
تدخل حركات الروندو عادةً في أشكال موسيقية أكبر كالسيمفونيات والكونشرتوات والصوناتات، وعادة ما تكون الحركة الأخيرة من هذه الأشكال في صيغة الروندو. لكن هذه ليست بالقاعدة الثابتة، فقد يحدث أن تكون الحركة الأخيرة في صيغة الصوناتا مثلها مثل الحركة الأولى. ومن أهم الأمثلة على صيغة الروندو: الروندو الغجري من ثلاثية البيانو رقم 1 في مقام صول الكبير لهايدن، والمارش التركي الشهير لموتسارت، والحركة الأخيرة من سادسة بيتهوفن، والحركة الأخيرة من صوناتا فالدشتاين لبيتهوفن مصنف 53، والحركة الأخيرة من صوناتا البيانو لبيتهوفن “المؤثرة pathétique” مصنف 13.
ومن روندوات القرن العشرين: روندو الحركة الخامسة الأخيرة من خامسة جوستاف مالر، والحركة الخامسة من سابعته، والحركة الثالثة “البارليسك” من تاسعته، والحركة الثانية “الآداجيو” من سادسة دفورجاك.
وحركة الروندو قد تكون بطيئة، مثال ذلك الحركة البطيئة من صوناتا البيانو في مقام دو الصغير لموتسارت مصنف كوشل 457، والحركة الثانية (المارش الجنائزي) من ثالثة بيتهوفن، والحركة الثالثة (الآندانتي) من سادسة جوستاف مالر.
صيرورة العمل الكلاسيكيّ: إنَّك لا تسمع العمل نفسه مرَّتَين
إن الموسيقى ليست فن الزمان، بمعنى أن مادتها – وهي النغم أو الصوت الموسيقيّ- تتحرك وتُدرك في تتابع زمني وحسب، بل أن هذه السيرورة الزمنية تسري أيضًا على أداء ووجود العمل ذاته، وليس على الطريقة التي يتم تناوله وتذوقه بواسطتها وحدها. إنك لا تسمع العمل نفسه مرتين، هذه حقيقة تتضح في العمل الكلاسيكي، لا سّيما إذا كان العمل ثريًا خصبًا مكثفًا من النواحي الهارمونية والكونترابنطية، وهو ما يحلو للبعض أن يسموه بـ”بطانة” العمل، أي كلما كانت هذه “البطانة” أكثر سماكةً. ففي كل مرة ومع كل استماع جديد ستظفر بشيء جديد. وفيه حين أنه يمكن، بل ينبغي، حفظ الألحان مثلا كشرط أساسي لتلقي العمل فإنه لا يمكن حفظ العمل كاملًا- خصوصًا الأعمال المُركَّبة- عن ظهر قلب، حتى ولو كان المرء ذا قدرة إعجازية موتسارتية وحفظ المدونة الموسيقية بأكملها، وهو أمر ممكن، بيد أنه غير مرجح الوقوع، إلا أنه سيظل هناك حقيقة أن حتى الأوركسترا الواحد، وقائد الأوركسترا الواحد، لا يؤديان العمل نفسه مرتين، حتى دون أن يطرأ عليه أبسط التغييرات، فلا بد أن يختلف العمل في كل مرة، سواء كان ذلك على مستوى الأداء أو مستوى التلقي. هذا يعني أن كل استدعاء للعمل ذو فرادة ما، وفي هذا تقترب الموسيقى من التاريخ، مثل اقترابها من الرياضيات واللغة.
ومن المعروف أن أداء قائد الأوركسترا وجماعة العازفين لعمل موسيقيّ ما لا يُسمى أداءً لهذا العمل أو ذاك فحسب، بل يُسمى “تأويلًا” أو “تفسيرًا ” interpretation، هذا يقطع الصلة اليقينية بين ما يؤدى داخل قاعة الكونسير وماهية العمل كشيء في ذاته، حيث تصبح كل التسجيلات وكل الأداءات لنفس المقطوعة عبارة عن تأويلات من منظور العازفين أو القائد ورؤاهم للعمل، وما ينطوي عليه ذلك المنظور من تفصيلات كخبرات خاصة للعازفين، واحترافية قائد الأوركسترا، وحمولة كل منهم المعرفية والتحليلية للعمل الذين هم بصدد أدائه، وتجاربهم الذاتية معه.. إلخ، من عوامل شديدة التشابك والتعقيد. ووسط ذلك كله يظل العمل الموسيقيّ محتفظًا بطابعه المتعالي، فهو هذه الأعمال كلها، وليس واحدًا منها في الآن ذاته.
ويكفي أن نستمع إلى تأويل كبار قادة الأوركسترا كهربرت فون كارايان وليونارد برنستاين لتاسعة بيتهوفن على سبيل المثال، لنلاحظ الفروقات الواضحة في أداء كليهما للعمل نفسه، وهي اختلافات تتراوح بين التيمبو (سرعة الأداء) مثلا في الحركة الأولى —أداء كارايان للمدونة أسرع— وبين الإطالة في وقفات الحركة الثانية، وكل يجسد في الحركة الرابعة بطريقته الخاصة التحول من العمل الأوركسترالي إلى الكورالي، من حالة التأمل المجرد إلى رسالة شيللر المحددة المتمثلة في نشيد الفرح Ode to Joy.
هذه أبسط الفروقات الملحوظة والأكثر وضوحًا بصدد أدائين فحسب لسيمفونية واحدة. تنجلي هذه الاختلافات أكثر فأكثر كلما تلقينا تأويلات (تسجيلات) مختلفة للعمل لقادة أوركسترا مختلفين. ويسهل على المختص والمستمع المتمرس القبض على هذه الاختلافات من أول مرة، لهذا ليس من الغريب أن يحتفظ مستمع الموسيقى الكلاسيكية بأكثر من تسجيل أو أكثر من أسطوانة (بلغة الجراموفون) للعمل نفسه، ويُحبذ إحداها عن دونها في وقت أو حال دون غيره. واستماع العمل نفسه بأكثر من قيادة أوركسترالية هو نشاط يندرج ضمن الاستماع المقارن. ويتفنن قائد الأوركسترا المحترف في إظهار إمكانات العمل الكامنة فيه، بحسب رؤيته كما أشرنا، وقد يتعمد إظهار ما أغفله قادة آخرون؛ فقد يتعمد إظهار تآلفًا معينًا كان مستترًا أو غير ظاهر بحيث يكون لظهوره طغيان على تآلفات أخرى، كل ذلك من ِشأنه أن يغير من طبيعة العمل وتلقيه. وكما في النصوص، يؤكد كل ذلك على ثراء العمل الكلاسيكي، واتساع أفق التأويلات الممكنة له.
المصادر:
فؤاد زكريا، التعبير الموسيقيّ، مكتبة مصر.
Davie, Thorpe. Musical Structure and Design. London: Denis Dobson, 1953.
Donald, Tovey. The Forms of Music. Musical Articles from the Encyclopaedia Britannica. The World Publishing Company. 1956.
Donald, Tovey. Essays in Musical Analysis (in 6 Volumes). Oxford University Press. 1966.