في نهايات القرن التاسع عشر كتب الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه (1844- 1900) في كتابه العلم المرح Die fröhliche Wissenschaft (1882 “خلف سطح الحياة الحديثة المغلف بالعلم والعقلانية تكمن قوى دافعة بربرية لا أثر فيها للرحمة”. يشير نيتشه في عبارته إلى إنسان العصر الحديث وما بعده، ذلك الانسان الذي لا يمل ولا يكل عن إظهار تحضره في كافة السياقات، لكن خلف قناع هذا التحضر يوجد ذلك القاتل بشكل أو بآخر؛ توجد تلك القوى الهمجية التي يحدثنا عنها نيتشه، والتي صرح بها من قبله الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز في عبارته الخالدة “الإنسان ذئب للإنسان”. وفقًا لنيتشه ليس ثمة تعاطف أو شفقة في عالم الإنسان، وإن كان فإنه لا يظهر إلا مع ما ينتمي إليه فقط (كانت هذه الفكرة أساس النقد العنيف الذي وجهه بعض المفكرين للمركزية الأوروبية). يؤكد نيتشه أن الإنسان لديه ذلك الاستعداد الفطري في طبيعته للإجرام والعنف، فقط باسم الحضاره يخفي كميه العنف التي بداخله.
هذا التصور الذي قدمه نيتشه للطبيعة الإنسانية يقابله تصور آخر قدمه من قبل فيلسوف التنوير جان جاك روسو ويتشابه بصورة عامة مع التصورات اللاهوتية للطبيعة الإنسانية. كان روسو من المؤمنين بأن الإنسان يُولد طيًبا ولكن المجتمع بمؤسساته هو الذي يحول طبائع البشر إلى الشر ويُبرز كوامنه الموجودة فيهم. كان يعتقد أن الناس ليسوا مخلوقات اجتماعية بطبيعتهم، معلنًا أن من يعيشون منهم على الفطرة معزولين عن المجتمع، يكونون رقيقي القلب، خالين من أية بواعث أو قوى تدفعهم إلى إيذاء بعضهم بعضًا. ولكنهم ما إن يعيشوا معًا في مجتمع واحد حتى يصيروا أشرارًا. فالمجتمع يُفسد الأفراد من خلال إبراز ما لديهم من ميل إلى العدوان والأنانية. قام روسو بانتقاد المجتمع في رسائل عديدة. ففي رسالته تحت عنوان: “بحث في منشأ وأسس عدم المساواة” (1755م)، هاجم المجتمع والملكية الخاصة باعتبارهما من أسباب الظلم وعدم المساواة. ينتقد روسو افترااض هوبز السابق بأن الإنسان كان شريرًا بطبعه، ويفسر انتقاده له لأن هوبز أدخل مجموعة من الأهواء التي أنشأها المجتمع في حالة الطبيعة.
ربما تكون هذه المقدمة مدخلًا مناسبًا لمقاربة العمل الثاني المتميز الذي قدمه المخرج غوردان بيل تحت عنوان “نحن- US” والذي تم عرضه على الشاشات السينمائية في 22 مارس 2019. فما بين المقاربتين السابقتين يقدم بيل فلسفته الخاصة عن الطبيعة الإنسانية، فلسفة مغلفة بنظرة تشاؤمية، أو لنقل تحذيرية، عن مستقبل وشيك ظهرت بوادره وتشكلت تحت ركام الحياة الحديثة.
تكرار أم اختلاف
في فيلمه الأول “أخرج من هنا” (2017)Get Out ، أعلن بيل نفسه كمخرج أفلام رعب مواصلًا بذلك التقاليد التي رسخها جورج روميرو ولاري كوهين وستانلي كوبريك، الذين استخدموا هذا الشكل السينمائي لاستحضار القضايا الاجتماعية الأمريكية واستجوابها. كان الفيلم مُقبضًا بدرجة كبيرة، ولكن عبقرية بيل جاءت في خلطته الساحرة بين الخوف والسخرية، بنوع من التوازن المدهش الذي لا يطغى فيه جانب على الآخر. استدعى الفيلم الأول لبيل المخاوف المشتركة بين مجموعات الأقليات المختلفة حول السيطرة عليهم من قبل الثقافة البيضاء المهيمنة. كان العمل يعزف على تيمة لا تستحضر الرعب كموضوع مباشر بل توحي به بطريقة تتشابه إلى حد كبير مع عوالم ستانلي كوبريك، خاصة في فيلمه إشراق The Shining، وقد أعلن غورادن بيل غير مرة تأثره بهذا الفيلم على وجه التحديد. جاء فيلم “أخرج من هنا” في العام 2017 في وقت بدأت تتعالي فيه الأصوات اليمينية المتشددة هنا وهناك ضد الآخر المختلف، وضد ثقافة التعددية والتسامح والعيش المشترك. وقد رأى النقاد، الذي احتفوا بالفيلم، أنه أشبه بصرخة تحذيرية ضد العنصرية القائمة على اللون، وربما ضد كل أشكال العنصرية والتطرف. هذه الرسالة الإنسانية العميقة متقنة الصنع سينمائيًا توجت بالفوز، رغم كونها التجربة الروائية الأولى لبيل، بجائزة الأوسكار 2018 عن أفضل سيناريو أصلي.
من نفس عوالم “أخرج من هنا” يأتي العمل الثاني لغوردان بيل متجاوزا في رأيي، من حيث حرفية صناعته، عمله الأول ومتفوقًا عليه في رسالته وتقنياته السينمائية. يأتي العمل الجديد من نفس عالم “أخرج من هنا” فيوحي بدرجة كبيرة من التشابه معه، وفي الوقت ذاته يخلق مساحات واسعة من الاختلاف عنه.
ربما يعود التشابه بين الفيلمين إلى أن كلاهما يبدأ بتسلسل متقن للغاية، لكنه لا يكشف عن تفاصيله أو علاقة الأحداث ببعضها إلا بعد مرور مجموعة كبيرة من الأحداث. كلاهما يبدأ بأغنية لا تُشعر المشاهد بالارتياح رغم براءة كلماتها. كما يؤدي الطريق في كليهما دورًا محوريًا، إضافة إلى روح السخرية التي تغلف العملين رغم جدية موضوعهما. لكن هذا التشابه لا يفضي بنا إلى القول بأننا أمام صانع أفلام يسعى لاستنساخ عوامل نجاح تجربته الأولى.
بداية
يختار بيل عنوانا ملتبسًا لعمله يزيد من حيرة المشاهدين، هل المقصود بـ”نحن” Us الإشارة إلى الجنس البشري نفسه أم المقصود الولايات المتحدة؛ اختصار لـ United Stats. (ثمة مسرحية أعدتها فرقة RSC عن فيتنام في عام 1966 من إخراج بيتر بروك لها نفس عنوان الفيلم ونفس المعنى ذو الحدين).
لوبيتا نيونغو تلك الممثلة الرائعة التي اختصرت، بدورها في هذا العمل، مسافات طويلة في عالم التمثيل رغم حداثة عهدها في الظهور على الشاشة. تأتي نيونغو في دور آديلايد التي تقرر مع زوجها اللطيف غابي (وينستون ديوك) الأطفال لقضاء عطلة الصيف في منزلهم على البحيرة الذي يقع على ساحل كاليفورنيا. يستغل بيل علاقة أفراد العائلة لبناء التوتر الدرامي الذي يتصاعد بشكل مميز خلال السرد الفيلمي، بالإضافة إلى المشهد الافتتاحي الذي يرجع بالزمن إلى حادثة تختفي فيها طفلة عن والديها. داخل مكان مجهول تتجول الطفلة وحيدة في ممرات المكان حيث الكثير من المرايا، حتى نصل معها إلى حقيقة وجود طفلة مطابقة لها. وقبل أن نعرف معنى أو نتيجة هذا اللقاء الغامض نعود إلى الزمن الحالي حيث نكتشف أن هذه الذكرى هي من طفولة آدليلايد (لوبيتا نيونغو) التي تبدو غير مرحبة تمامًا بفكرة الذهاب إلى هذه الرحلة برفقة زوجها وأولادها. ويُترجم هذا القلق بشكل مباشر، ورمزي أيضًا، في مشاهد مثل وصول العائلة إلى الشاطئ واللقطات المثيرة للاهتمام الغنية بصريًا، مثل لقطة الظلال الطويلة لأفراد العائلة أثناء سيرهم على الرمال وما ترمز إليه من اقترابهم نحو مرحلة سيطرة أشباههم عليهم (وهو ما سيتضح بعد قليل). شيئًا فشيئًا تتجه هذه الرحلة العائلية العادية لتؤكد مخاوف آدليلايد غير المفهومة نحوها وتحديدًا عند إدراك هذه العائلة التشابه بينها وبين العائلة الأخرى التي تقتحم منزلهم. لا ينحصر الخوف الذي نستشعره في حقيقة أن حياة هذه الأسرة أصبحت مُهددة، بل يأخذ منحنى فلسفي عميق، حيث أن الخطر يتجسد في إدراك إلى أي مدى تبدو هذه الوجوه الغريبة مألوفة، وإلى أي درجة يكون فيها هذا التشابه مفزعًا ومنفرًا.
شر يقترب
يقدم الفيلم نقدًا حادًا لمفهوم الطبقات الاجتماعية وكيف يتم الدفاع عن فكرة التمييز الطبقي من خلال نشر بعض الأكاذيب التي تؤكد على أن الأفضلية في الأساس بيولوجية أو معرفية أو ثقافية، في حين أن التمييز في الحقيقة هو تمييز يتعلق بالمظاهر والقدرات المادية. هذا الانقسام الحاد بين الطبقات قابل للانفجار في أي وقت، ولا حل له سوى ترسيخ فكرة العيش المشترك.
قدم بيل فى نحن Us عالمين يعيشان بالتوازى، الأول هم البشر فوق الأرض يحيون حياة طبيعية، والثانى هم مجموعة القرناء بملابسهم الحمراء، الذين يخرجون من تحت الأرض ويقومون بثورة لقتل البشر والاستيلاء على أماكنهم والتمتع بخيرات الأرض، بعد أن عاشوا معزولين تحت الأرض يأكلون الأرانب النيئة، مجبرين على الالتزام بقواعد وضعتها مجموعة مجهولة من البشر تلزمهم بتقليد البشر الأصليين على الأرض، والتزاوج مع من يختارهم البشر، بل وإنجاب قرناء مشابهين تمامًا لأبنائهم.
في إحدى لقطات الفيلم نجد رجل غريب المنظر يقف على الرصيف يحمل لافتة مكتوب عليها عبارة مقتبسة من سفر إرميا الإصحاح الحادي عشر “هكذا قال الرب هأنذا جالب عليهم شرًا لا يستطيعون ان يخرجوا منه ويصرخون فلا أسمع لهم- (إرميا 11:11). هذا الاقتباس الذي ينذر بالخطر يعيد بيل توظيف أرقامه مرة أخرى (11:11)، عندما تلاحظ آدليلايد الوقت على الساعة الرقمية في حجرة ابنها جيسون وتشير إليها بنبرة تلمح أنها مصادفة مقلقة وهو على ما يبدو مؤشر يرمز إلى التطابق الذي يدل على نفس المعنى في الأرقام، فمهما قمنا بتغيير اتجاهات الأرقام والحالة التي تُقرأ فيها، حتى عند الانعكاس، تعطي بنفس النتيجة. هل كان بيل يريد أن يقول لنا هنا أن مجابهة الخطر (الذي تم التلويح به في الاقتباس الأول من سفر إرميا) يتمثل في المساواة، خاصة أن دلالة الأرقام تعكس هذا المعنى؟
على النقيض من تصور نيتشه، الذي بدأنا به هذا المقال، يقدم لنا بيل تصوره عن تشابه طبيعتنا الإنسانية وتساويها. ليس ثمة اختلاف بين البشر، فالكل متساو في طبيعته، والصفات المتعلقة بالخير والشر هي محض مكتسبات يكتسبها المرء من المجتمع ومن ظروفه وطبقته. لم يكشف بيل عن عملية التبادل التي حدثت بين النسخة والأصل إلا في المشهد الأخير من الفيلم (وهي نقطة أخذها البعض عليه) ليقول لنا أن لا خير ولا شر في المطلق، بل الأمر يتوقف فقط على طريقة العيش، وموقع الفرد في المجتمع. لقد حدث التبادل في البداية بين طفلة تنتمي لطبقة من طبقات المجتمع العليا مع نسختها التي تعيش تحت الأرض، فخرجت الأخرى وحلت محلها وتأقلمت مع طبقتها الجديدة وتزوجت من رجل ثري…إلخ، وحدث الأمر ذاته مع الطفلة الأولى حيث تأقلمت هي الأخرى مع طبقتها الجديدة تحت الأرض لتخرج بعد ذلك بنية الانتقام من غريمتها. الشر إذن، كما الخير، صناعة اجتماعية ولا علاقة له بلون أو جنس، لهذا السبب جاءت رسالة بيل هنا أكثر شمولاً من رسالته الأولى في “أخرج من هنا”، التي انصبت بصورة رئيسة على نقد مركزية الإنسان الأبيض وعلى العنصرية الموجهة ضد السود. يقول بيل “وجود أبطال سمر البشرة لا يعني أن الفيلمين متشابهان، فالأول يتحدث عن قرناء يهاجمون البشر، أما الثاني فيتحدث عن العنصرية بشكل أساسي والطريق الطويل الذي لا بد أن تقطعه أمريكا قبل أن تتخلص من هذه القضية الشائكة”.
أن يلقى المرء نفسه!
لا يلقي المرء نفسه كل يوم، لهذا يجب اعتبارها حادثة غير عادية، حادثة يجب التوقف عندها كثيرًا، فقد تتصرف هذه النفس بكامل حريتها، دون رقابة، وهذا قد يكون خطرًا، خطرًا أكثر مما نظن. صراعات مروعة قد تنجم عن هذا اللقاء إذا حدث.
إن المرء لا يلقي نفسه كل يوم، وهذا من حسن حظه.
في اللوحة التي رسمها فنان السريالية العظيم رينيه ماغريت عام 1937، التي حملت عنوان انعكاس ممتنع La Reproduction Interdite، نجد هذا الشخص الذي يقف أمام المرآة فلا يجد انعكاسه، بل يجد المرآة تعيد إنتاج صورته بنفس وضعية وقوفه. هذه اللوحة، التي تم توظيفها في سياقات عديدة، تشير ضمن ما تشير إلى أن الإنسان، في كثير من الأوقات، لا يستطيع أن يرى نفسه أو يتعرف عليها أو هو في الواقع يتهرب منها على نحو مستمر. ماذا لو وجد الإنسان نسخته، من غير أن تكرره، بل كانت هي النقيض له في كل شيء؟ وماذا لو سعت تلك النسخة إلى أن تحل محله وتستحوذ على عالمه، ومن ثم تفتك به من أجل أن تبقى هي؟ الفكرة مرعبة بالفعل وتستدعي هواجس لا حصر له. لكن غوردان بيل يتجاوز في معالجته أطر الرعب التقليدية ليحمل هذه الفكرة أبعادًا اجتماعية لا حصر لها. فالنسخة الأخرى ما هي إلا الوجه الآخر لنا، الوجه الذي نحاول طمسه وتشويهه طوال الوقت، كما جيسون الطفل (النسخة) صاحب الوجه المشوه في الفيلم.
في الواقع يمكن قراءة رسالة بيل من ناحيتين: النسخ الأخرى هي الطبقات المهمشة والمحرومة التي يتوجب على المجتمع الانتباه إليها، وخلق مساحات من العيش المشترك تستوعب الجميع، وإذا تم تجاهل الأمر، سيكون الوضع قابل للانفجار في أي لحظة. من ناحية أخرى قد تكون تلك النسخ ذواتنا المشوهة التي نهرب منها ولا نريد أن نلقاها أبدًا. وعندما نلقاها يحدث هذا الصراع المروع بين الظاهر والباطن، صراع كارثي في معركة صفرية لن تنتهي إلا بقضاء طرف على الطرف الآخر.
من الأحداث المهمة التي يوظفها بيل داخل سياق سرده ذلك الحدث المهم الذي عرف باسم “الأيدي عبر أمريكا” Hands Across America. ففي يوم الأحد 25 مايو 1986 (وهو التاريخ الذي يبدأ به بيل أحداث فيلمه) أمسك حوالي 6.5 مليون شخص ينتمون إلى طبقات مختلفة بأيدي بعضهم البعض عبر سلسلة بشرية لمدة خمسة عشر دقيقة على طول طريق عبر الولايات المتحدة المتجاورة. وقد قام معظم من شاركوا في هذا الحدث بدفع عشرة دولارات لحجز مكانهم في هذا الحدث؛ تم التبرع بالعائدات للجمعيات الخيرية المحلية لمكافحة الجوع والتشرد ومساعدة أولئك الذين يعيشون في فقر. كان الهدف من الدعوة لهذه الحركة كما أكد كين كراجن الُمنظم لها، التأكيد على تماسك أفراد المجتمع الأمريكي ونبذ العنف والتمييز العنصري، دعوة للوحدة والمساواة بين طبقات الشعب المختلفة.
متلازمة إمبوستور (أو متلازمة المحتال) Impostor syndrome، حالة تصيب الأشخاص الذين شقوا طريقهم وتغلبوا على المصاعب والعقبات فوصلوا إلى مكانة بعيدة، بينما لم يتمكنوا أبدًا من قمع شعور لديهم بأنهم لا يستحقون ذلك، وأنهم مجرد محتالون، يشغلون المساحة التي يجب أن يشغلها شخص آخر أكثر جدارة منهم. هل أراد بيل قول هذا في نقده للمجتمع الأمريكي، إذا اعتمدنا التفسير الطبقي للفيلم؟ أمة بأكملها لدى كل فرد منها شعور بالعار من تاريخ دموي مقيت، شعور كما الخطيئة التي لم تمحيها محاولات التكفير عنها. في مشهد من مشاهد الفيلم التي تحمل رسالة صريحة ومباشرة تسأل الأم نسختها “من أنتم؟” فترد “نحن أمريكيون”!. هم أمريكيون قادمون من الأسفل ليستولوا على حياة من هم في الأعلى. هل الخطر يكمن في الأسفل؟ أسفل السطح البراق كما حدثنا نيتشه، أو أسفل الطبقات كما وعدنا ماركس في حراك الطبقات المهمشة؟ أم أن الإشارة إلى الأسفل هنا جغرافية؟ فالأسفل الجغرافي بالنسبة للولايات المتحدة هو المكسيك. في ذروة الرعب والفوضى، يناقش غابي وآديلايد على نحو سريع إمكانية الفرار إلى المكسيك، قبل أن يقررا أنهما أفضل حالًا في مكانهما. وربما لو كانت الولايات المتحدة في نزاع مع كندا، لتعرض الأميركيون للهجوم من الأعلى! لكن في الواقع كل الاحتمالات السابقة واردة. وقد نجح بيل في أن يمنح كل احتمال جانب من الوجاهة والتبرير.
في فيلم يتم فيه استخدام المقصات والمضارب وأدوات تذكية النار كأسلحة، لا بد من إراقة بعض الدماء. لكن بيل لا يطلق العنان للدموية، ويختار بدلاً من ذلك بناء العنف بشكل تصاعدي. يضيف أسلوب بيل شعورًا بالتشويق والتوتر لأن المشاهد لن يكون متأكدا تمامًا متى سيشهد اللقطات الدموية التالية، فأحياناً يقوم بإبعاد الكاميرا ويترك أصوات الطعن والضرب لتكون المؤشر الوحيد على ما يحدث، في حين يترك الكاميرا في مرات أخرى تركز على الفوضى التي تجعل المشاهد متشبثًا بكرسيه.
موسيقى ماورائية
أحد أبرز الجوانب المهمة في الفيلم، يتمثل في توظيف بيل للموسيقى التصويرية. في الواقع لن تستطيع أن تتخلص من تأثر الموسيقى ولا حضورها في أذنك بعد تجربة المشاهدة، ستعاود البحث عنها وسماعها مرات ومرات. موسيقى قادمة من عوالم الميتافيزيقا ومما وراء النجوم، حيث يمتزج الجمال بالجلال، وحيث يأتي اللحن مشحونًا بتلك الطاقة الكونية العجيبة فتشعرك بتوتر وجودي لا تعرف كنهه ولا تستطيع التخلص منه. موسيقى مايكل آيبلز Micheal Abels التي تفوقت من حيث تأثيرها على ما قدمه في “أخرج من هنا”. كذلك نجح بيل في توظيف الأغاني داخل عمله. ثمة اهتمام واضح منه بأغاني ملك البوب مايكل جاكسون، حيث تظهر أغانية أكثر من مرة في سياقات مختلفة. لكن المشاهد سيتعرف على جاكسون مختلف، حيث ستغلف أغانيه بسحابة من التوتر والرهبة والترقب (اختيار مايكل جاكسون يحمل دلالته الخاصة بالتأكيد، المغني العالمي ذو الأصول الأفريقية المنتمي إلى أسرة من الطبقة العاملة التي كانت تعيش في حي فقير داخل مدينة غاري بولاية إنديانا). كما يستخدم الفيلم، خلال بعض اللحظات الكوميدية، مزيجًا من بعض الأغاني المميزة مثل “F*** the Police” لفرقة NWA، لكن عندما يريد أن يضفي شعورًا بالخوف، فإن الموسيقى التصويرية الأصلية للملحن مايكل آيبلز تعود لتتخلل شريط الصوت مرة أخرى. ثمة توظيف قام به بيل أيضًا للنسخة المعزوفة بالآلات الموسيقية من أغنية I Got Five on It لمغني الراب “لونيز” التي تتحدث عن المخدرات. وعلى الرغم من أن المشاهد يظن في البداية ألا علاقة للأغنية بأحداث الفيلم، لكنه يدرك في الحقيقة أن الاثنين يتطرقان إلى غياب العدالة والطبقات المطحونة سيئة الحظ التي تنال الحد الأدنى من حقوقها الإنسانية. نجح الفيلم في تحويل أغنية الراب التي ظهرت في التسعينيات إلى موسيقى جنائزية مليئة بالترقب، مستعينًا بالموسيقي مايكل مارشال الذي قام ببعض التعديلات على اللحن الأصلي للأغنية، محولًا إياها إلى واحدة من أقوى مواطن الإثارة والترقب في الفيلم. هذا التنوع العجيب والمزج غير المسبوق للموسيقى والأغاني داخل العمل يضفي عليه قيمة إضافية لا يمكن تجاهلها.
اللأمالوف من المألوف
كان ماغريت يقول “عندما نلوي تفكيرنا ونحرفه عن مساره فإننا نميل إلى تحويل ما هو غريب إلى مألوف. وأنا أريد أن أعيد للمألوف غرابته”. شيء قريب من هذا فعله بيل في عمله، حيث نجده يعيد توظيف بعض الأشياء العادية في حياتنا اليومية وتحويلها إلى مصادر للخوف والتوتر. قد يندهش البعض من وجود الأرانب، تلك الكائنات اللطيفة البيضاء، إلا أن بيل ينجح في تغيير الصورة الذهنية المحببة عن الأرانب لدى الجمهور، إذ استخدمها في فيلمه كوسيلة التغذية الوحيدة لأقران البشر الذين يعيشون تحت الأرض، ويحظون بوجبة واحدة في عزلتهم هذه وهي الأرانب النيئة. بالمثل يلجأ بيل إلى تحويل أداة عادية موجودة في كل منزل مثل المقصات، إلى سلاح فتاك يستخدمه لتحقيق غرضه الأساسي؛ القتل. فالمقصات كانت السلاح الأساسي الذي استخدمه الأشباه في صراعهم ضد البشر الحقيقيين. كما نجد بيل يحول التصفير من كونه أحد وسائل التعبير عن السعادة أو وسيلة لجذب الانتباه، إلى كونه وسيلة استغاثة من الشبيهة لقومها بعد محاولات قتلها. أجاد بيل استغلال الهالة المرعبة التي تحيط بمتاهة المرايا ضمن أحداثه، ففي بداية الفيلم تدخل البطلة هذه الغرفة، وترى انعكاسها طفلة تشبهها تمامًا، إلا أنها ليست مجرد انعكاس بل هي قرينتها التي تخطفها، وتحل محلها في العالم الحقيقي، وتتركها حبيسة تحت الأرض تخطط للانتقام وقيادة ثورة الأشباه ضد البشر الحقيقيين.
ربما تتمثل السلبية الوحيدة التي يمكن أن يلمسها المشاهد في أن السخرية التي حاول أن يستحضرها بيل في “نحن”، كطريقة لكسر حدة المشاعر العنيفة، لا تلمس في بعض الأحيان الوتر الصحيح لها، فيتم توظيفها في المكان الخاطئ وتفشل في تحقيق المراد منها. هذا على العكس مما حدث في تجربته الأولى، حيث كانت السخرية في موضعها تمامًا.
أخيرًا كل حياة، كما قال شوبنهاور، تعيش وتحيا على حساب حياة أخرى تمتصها وتستحوذ عليها، وهذه العملية هي التي تشكل جوهر الصراع في عالمنا المعاش. الأزمة الحقيقية التي تهدد عالمنا الراهن، كما يقول بيل في فيلمه، وتنذر بخطر حقيقي هي أزمة ذواتنا التي تقتاد في وجودها على الحيوات الأخرى فتلغيها أو تقهرها، لكن ما تخلفه وراءها أشبه بالقنابل الموقوتة التي قد تنفجر في أي لحظة. والحل الذي يقدمه “نحن”، دون أن يقوله لنا بلغة وعظية أو مباشرة، يكمن في العيش المشترك والإيمان بالتعددية وحق الاختلاف، وهي القيم التي لن تستقيم الحياة بدونها.