مراجعات

مراجعة كتاب المادية لتيري إيغلتون – حسين إسماعيل

 

المادية، ٢٠١٦. تيري إيغلتون. Yale University Press. ١٧٦ صفحة. 

 

يبدو مصطلح المادية اليوم أحد بقايا العصور السابقة، العصور التي كان الصراع بين تيارات المادية والمثالية عنوانًا رئيسيًا في الجدالات الفلسفية، وهي أيضًا ذات العصور التي يبدو وأن الزمن عفى عليها وعلى تياراتها؛ لذا قد يبدو القول بمحورية المادية في الجدالات الفلسفية والعلمية والثقافية المعاصرة ادعاءً غريبًا، أو محاولةً بائسةً لوصف واقعٍ حاضرٍ وفق مناظير لم تعد صالحةً للاستخدام، أو لعله في أحسن الأحوال مجرد إعادة إحياء لخيرة ما أثارته تلك التيارات في السابق. لكن هذا الادعاء تحديدًا هو ما يطرحه تيري إيغلتون في كتابه المادية.

كعادة كتبه المفاهيمية، لا يكتفي إيغلتون ببحث المفاهيم الدارجة أو الشائعة وحسب، بل يُعيد صياغة المادية جوهريًا. يمكن ملاحظة هذا الأمر مع مطلع الفصل الأول المعنون بـ “الماديات”، وهو الأول من خمسة فصول، حيث يشير إيغلتون إلى أنه سيقتصر على شكلٍ محددٍ من المادية برغم انتشار المصطلح واستخداماته المتعددة. هذه الأشكال “هي “بشكلٍ عام [الأشكال] الاجتماعية أو السياسية”. تتعلق هذه الأشكال بما أسماه إيغلتون في مقدمة الكتاب بأنماط الوجود الإنساني المخلوقاتيّ إن صح التعبير، أي الوجود المرتبط بالجسد البشريّ الذي يتشاركه جميع الناس “بصرف النظر مثلًا عن الجندر والإثنيّة”. في هذا السياق، يتحدد موضوع الكتاب في الفلسفة المادية الجسدانية، وهي بشكلٍ عام انعكاسٌ لوجود البشر الجسديّ وكل ما ينتج عنه من تفاعلات مع الواقع، أي أنها تعبيرٌ عن “حيونة [البشر] ونشاطهم العمليّ وتكوينهم الجسدي” بمعزلٍ عن التعيينيّات التي تضفي على هذه الجوانب معانٍ اجتماعية محددة.

في سبيل توضيح هذه المادية الجسدانية (somatic materialism)، يستعرض إيغلتون مختلف الماديات الرائجة بشكلٍ وجيز. من ضمن الماديات التي يستعرضها المادية الأخلاقية والديالكتيكية والتاريخية والثقافية والسيميائية والتأملية (أو الفلسفية) وغيرها. لا يهدف إيغلتون من استعراضه تعقيد مفهوم المادية بقدر ما يهدف لتسليط الضوء على أمرٍ رئيسي: القاسم الجوهريّ المشترك بين كل هذه الماديات، ألا وهو المادية الجسدانية التي أسسّ لها من البداية، المادية التي تبين ارتباط مختلف أنواع الماديات بفكرة الجسد كما يطرحها هو. هذا يعني أن ماديته الجسدانية مقاربةٌ أنطولوجية، أي أنها تبحث في الواقع وكيفية فهمنا له.

يطرح إيغلتون في الفصل الثاني من الكتاب إشكال الروح، أو ازدواجية الجسد-الروح التي لا مناص من التساؤل حولها كلما طُرح مفهوم المادة أو الفوارق بين البشر وغيرهم من الحيوانات. يؤكد إيغلتون أولًا على أننا متمايزون فعلًا عن غيرنا من الكائنات والموجودات المادية، بمعنى أنه لا يصح اختزال كل أبعاد العالم في ماديته، لكنه يشير لكون هذا التمايز جزءًا من ماديتنا؛ نحن في المقام الأول والأخير كتل مادية، وكل ما يمكن تسميته بالعقل أو الروح أو المشاعر امتدادٌ لهذه المادية وجزءٌ لا يتجزأ من تكويننا الفسيولوجي. بعبارةٍ أخرى، كل ما نعتقد أنه يمايزنا عن بقية الموجودات والمخلوقاتِ ليس إلا جزءًا من خصائصنا المادية. فاتحاد الجسد والروح، كما يشير اقتباس ميرلو-بونتي في نفس الفصل، واقعٌ في كل لحظةٍ من حركة الوجود بحد ذاتها، أي أنها جزءٌ من طبيعة كوننا بشرًا وأحد خصائصها. وفيما لا يمكن الادعاء بأن إيغلتون أول من نادى بهذه الفكرة، من الضروري فهمها وفق طرحه لأنها مدخلٌ لما يليها.

في كلٍّ من الفصول الثلاثة اللاحقة، يتناول إيغلتون نوعًا معينًا من المادية الجسدانية وفق منظور فيلسوفٍ معين، أي أنه يتخذ فلسفةً ما نقطة انطلاقٍ ليبين أولًا أن جوهرها مادي-جسداني، ومن ثم يضعها ثانيًا في سياقات فلسفية أكبر. فالفصل الثالث مثلًا يدور حول كارل ماركس وذوتتة الحواس إن صح التعبير، أي مفهوم ماركس للمادية بوصفها إعادةَ الفاعل الذاتي في إدراك العالم من حولنا. يتمحور طرح هذا الفصل حول الفكرة الماركسية القائلة إن قدرتنا على الإحساس بالعالم ليست وليدة كوننا كائنات حية وحسب، بل إنها هي الأخرى وليدة تفاعلٍ بين الذوات والعالم. في هذا السياق، يصبح للحواس تاريخها الخاص، فهي “تتطور مذ تباشر البشريّة عملها على العالم المادي، مُحوِّلةً تكوينها الحسي الخاص أثناء هذه العملية”. هذا يعني، بحسب تعبير إيغلتون، أن قدرتنا على الإحساس بالعالم المادي والمؤسسات الاجتماعية وجهان لعملة واحدة، أي أن كلًا منهما يتطور بمرافقة الآخر.

كما يوضح إيغلتون ارتباط فلسفة ماركس حول المادية بالنظام الرأسمالي الذي يتسبب في تهميش كل الحواس البشرية لمصلحة حس التملك وحسب. يقف هذا الاختزال على النقيض من جوهر النشاط البشري الحقيقي عند ماركس، ألا وهو النشاط الحر، النشاط الذي يمتلك الفرد عبره ما يُنتجه، النشاط الذي يُمكّن الفرد من إدراك حاجياته الجسدانية والروحانية بوصفها غاياتٍ في حد ذاتها. أما الوضع الحالي فهو على العكس من ذلك تمامًا؛ “تحت الظروف الرأسمالية […] يبدو كلًا من النشاط الحياتي والحياة الإنتاجية وسيلة لإشباع حاجةٍ، وهي الحاجة لحفظ الوجود الجسدي”. بعبارةٍ أخرى، باختزال البُعد المادي البشري في الجسد وحسب، يفقد الإنسانُ جزءًا مهمًا من وجوده. لا يقتصر استعراض الارتباط بين المادية الجسدانية والرأسمالية على هذا الفصل، بل يتطرق إليها إيغلتون بشكلٍ أو بآخر في بقية الفصول.

أما الفصل الرابع فيدور حول نيتشه والميتافيزيقيات بشكلٍ عام. ليس من الصعب إدراك محورية نيتشه فيما يطرحه إيغلتون، خصوصًا على ضوء فلسفته حول إرادة القوة أو هجومه الحاد على المفاهيم “البديهية” المختلفة كالحقيقة والمنطق والدين والفلسفة والموضوعية وغيرها. بل لعل من البداهة إدراك محورية نيتشه على وجه الخصوص في إعلائه لشأن الجسد وتحقيره من شأن العقل والفكر والروح. فهو الذي يتساءل مثلًا في العقل المرح عما إذا كانت الفلسفة مجرد إساءة فهمٍ للجسد (وهذا أحد أسباب احتقار الفلاسفة التقلييدين للجسد والرغبات الجسدية كما يشير نيتشه) أو عما إذا كان العقل يعدو كونه منتجًا للرغبات الجسدانية، إذ يصبح العقل وسيلةً لتبسيط تعقيد العالم وإعانةً للفرد على تلبية احتياجاته بحسب المعطيات. في هذا السياق، يصبح العقل خاضعًا للجسد ومتحركًا من خلاله، وليس العكس.

الفصل الخامس –والأخير- من الكتاب متعلقٌ هو الآخر بأحد الأبعاد المشتركة التي تميزنا نحن البشر عن غيرنا من المخلوقات: اللغة. فيلسوف هذا الفصل هو فيتغنشتاين، والفكرة المفتاحية فيه هي أن “طرائقنا المتعددة في الكلام مرتبطةٌ بأشكال حياتنا العملية”، بحيث لا يمكن لهذا الكلام أن يكون منطقيًا أو ذا معنى إلا ضمن سياقات هذه الأشكال. يستنتج إيغلتون أن هذا الارتباط بين اللغة والحياة العملية يعني أن للغة دورًا ماديًا مزدوجًا. فهي وسطٌ محسوسٌ يمكن من خلاله إدراك العالم أولًا، ووسيلةٌ للتعبير عما يختلج دواخلنا ثانيًا. هذا يعني أن “اللغة أكثر من كونها لغة”، وأن “امتلاكُها يعني [القدرة على] الولوج إلى عالم ما”. بعبارةٍ أخرى، لا يمكن اختزال اللغة في دورها التواصلي ولا في توسطها بيننا والعالم، بل لا بد من إعادة الاعتبار للفاعل البشري الذي لا توجد اللغة إلا عبره من أجل إدراك كون اللغة بحد ذاتها وسيلةً للتفاعل مع هذا العالم. يختتم إيغلتون هذا الفصل بتناول علاقة فلسفة فيتنغشتاين حول اللغة بالمادية الجسدانية، إذ لا يربط إيغلتون بين اللغة والاحتياجات الجسدانية وحسب، بل يتجاوز الفكرة للربط بين الاحتياجات الجسدانية والمعرفة عمومًا، أو بين المعرفة والغرائز/الاستجابات الجسدانية.

برغم صغر حجم الكتاب نسبيًا مقارنة بموضوعه إلا أنه ضخمٌ معرفيًا. لا يكتفي إيغلتون باستعراض المفاهيم المختلفة للمادية ولا بتناول فلسفة ماركس ونيتشه وفيتغنشتاين حولها، بل يتعدى ذلك لتحليلها تحليلًا مقارنًا قبل توضيح نقاط ضعفها وقوتها على ضوء فلسفته الخاصة. بالإضافة لكل ذلك، على ضوء زعمه بمحورية المادية الجسدانية في أيامنا، يحاول إيغلتون تقديم قراءةٍ معاصرةٍ لمفهوم المادية وما تعنيه وما تقتضيه، خصوصًا فيما يتعلق بدورها في إعادة فهم العالم من حولنا وبذلك العمل على تغييره.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى