
يتبوّأ الأدب موقعاً مميّزاً في الثقافة المعاصرة. ففي حين أنّ الإحصائيات توضّح أنّ مقدار الوقت الذء الذي تقضيه الناس في قراءة الأدب بشكل عامّ قد تدنّى بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة، إلّا أنّ الأدب قد نجحَ في إبقاء موقعه فيما يحبّ السوسيولوجيّون تسميته بـ‘‘الثقافة الجائزة‘‘، رغم الضغط الناجم عن أشكال عدّة من المتعة والثقافة الشعبيّة ووسائل التواصل الاجتماعيّ. حتّى إنّ هؤلاء الذين يقرأون الكتب من حين لحينٍ ما يزالون يقرّون بالقراءة كنشاط مهمّ، وحتى البعض يؤنّبه ضميره لأنّه لا يقرأ كفايةً. كما هناك مؤشّر آخر على قيمة الأدب المتجذّرة بعمقٍ في ثقافتنا يتمثّل في الناس الذين كثيراً ما يفسّرون أو حتى يقدمون أعذاراً عن سبب عدم قدرتهم على القراءة مزيداً. فعلى سبيل المثال، لا يثير الغياب عن الفيسبوك مشاعرَ أو استجاباتٍ متكافئة.
إنّ الصورة التي ترسمها سارة وولث لوضع القراءة المعاصر في الصفحات الافتتاحيّة من كتابها الراهن والمرحّب به بشدّة حول قيم القراءة، تحت عنوان دفاعاً عن القراءة، هي صورة كئيبة بعض الشيء. تشيرُ هي أيضاً إلى الأبحاث التي تفيد بأنّ الناس يقضون وقتاً أقلّ في قراءة الأدب. كما تلاحظ وورث أيضاً كيف أنّ حصص الأدب في المدارس، بالولايات المتحدة على الأقل، مُهددة بأن يحلّ محلّها ما يُعتبَر أنّها موضوعات أكثر نافعيّةً أو بأنواعٍ أخرى من القراءة التي تُعتبر أكثر إرشاديّة لحياة الطالب المستقبليّة. من منظور وورث، فإنّ هناك تهديداً آخر مهمّاً على قراءة الأدب معرّضاً للتهديد قد لاح في الأفق: ألا وهو وسائل التواصل الاجتماعيّ. وفي حين أنّها لا تسعى إلى شيطنة مختلف أنواع الثقافة الرقميّة بالكليّة، فإنّها مهمومة بأنّ اهتمام الناس سوف يُجذَب، بدرجة متزايدة، إلى الفيسبوك وسناب شات، وليس إلى القراءة. وهذا يُقلقها بشكل خاصّ لأنّها تؤمن بأنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ تدعو إلى نوع ضحلٍ من الاشتباك مقارنةً بالجهود المطلوبة لقراءة رواية معقدة.
يتركّز اهتمام وورث على قراءة الأدب السّرديّ (narrative literature) لأنّها تؤمن بأنّ له منافع معرفيّة هامّة. وتواصل، في هذا الصدد، خطّاً من التفكير متبوعاً بشخصيّات مثل مارثا نوسباوم وليونيل تريلينج وآخرين ممّن شدّدوا على الأهميّة العميقة التي يمكن للأدب أن يمنحها لتفكيرنا بشأن الإشكالات والمواقف الأخلاقيّة من حولنا. بيد أنّ وورث، مع ذلك، تجلبُ فروقات بسيطة وجوانب إلى هذا التقليد من التفكير. فعلى الرغم من مفاهيم التقامُص والمخيال الأخلاقيّ تحتلّ وزناً مهمّاً في تصوّرها، إلّا أنّ وورث تؤمن بأنّ قيمة القراءة تتجاوز حقل الإيتيقا، فهي تقوم بتحسين قدرتنا التنظيميّة المعرفيّة وقدرتنا على إعطاء معنى لخبراتنا الحياتيّة على نحوٍ أكثر عموميّةً. إنّ نظرة وورث المعمّقة في الأبحاث الإمبريقيّة، من علم النفس إلى علم الأعصاب، واستكشاف كيف نتعاطى نحن مع السرديّات، إنّما تجلبُ أيضاً تبصّرات جديدة في النقاشات الفلسفيّة حول قيمة الأدب. فمثلاً، تؤمن وورث، خلافاً لغريغوري كوري الذي أنكرَ أن هناك أيّ دليل إمبريقيّ قاطع على وجود منافع أخلاقيّة ومعرفيّة لقراءة الأدب، بأنّ وفرة الأبحاث الجديرة بالثقة هي متاحة في الواقع. وعلى الرغم من الاستشهاد بالعديد من الدراسات التي تشير إلى أنّ القراءة بمقدورها أن يكون لها قيمة، إلّا أن وورث تصرّ بصورة جوهريّة على أنّ قراءة الأدب أيضاً هي نفسها تملكُ جوانب من القيمة التي لا يمكن قياسها أو عدّها كميّاً.
والحال أنّ واحدةً من المزايا التي يتمتّع بها كتاب وورث هي أنّ الكتاب، عن طريق الاشتباك مع ظواهر مثل وسائل التواصل الرقميّة والثقافيّة والاجتماعيّة، يوفّر خلفيةً مُحدَّثة لفهم قيمة الأدب من ناحية فلسفيّة. ففي فلسفة الأدب، تمّت مقاربة مسألة القيمة المعرفيّة للأدب بالأساس من حيث سؤال الحقيقة في الخيال، أي؛ كيف يمكن لعملٍ أدبيّ تخيّليّ أن يقول شيئاً ما مهمّاً من ناحية إبستمولوجيّة بشأن العالَم الواقعيّ. تعتقدُ وورث بأنّ هذا السؤال السيمانطيقيّ يقدّم إطاراً ضيّقاً جداً لفهم قيمة القراءة. كما إنّها تُقيّم بعض الرؤى التي طُرحَت سلفاً في فلسفة الأدب باعتبارها رؤى اختزاليّة، محاججةً بأنّه بدلاً من التركيز على سيمانطيقيّات العمل الأدب، فإنّ الفلسفة عليها أن تركّز بالأحرى على فعل القراءة نفسه والتفاعل بين النصّ والقارئ الذي تحثّه الروايات.
من منظور رووث، فإنّ البنية السَّرديّة للأدب هي الموضع النهائيّ للأهميّة المعرفيّة التي تربطها وورث بالقراءة. إنّها تحشدُ وتحسّن قدرتنا على ‘التفكير السرديّ‘ (narrative reasoning). والحال أنّ هذا مختلفٌ عن التفكير المنطقيّ الذي ينطلقُ من المقدّمات إلى النتائج، حيث إنّه ينطوي على تشكيل كُلٍّ متماسك خارج العناصر الأخرى لسرديّة ما. إنّ فهم السرديّة، مثل قصة رواية، يعتمدُ على إقامة صِلات بين مختلف مواقفها والشخصيات، بالإضافة إلى القدرة على إعطاء معنى للأسباب التي جعلت الشخصيات تتصرّف بهذا الشكل الذي تقوم به. بالنسبة إلى وورث، فإنّ هذا نمطٌ من تشكيل الاستدلال. ومع ذلك، فإنّ الصّلات المختلفة للسّرد ليست بصريحة في النصّ نفسه، لذلك فإنّ على القارئ أن يسدّ الفجوات بين مختلف عناصرها وعواقبها. على هذا النحو، فإنّ المسرودات ملآنةٌ بالفجوات، التي يحتاج القارئ إلى ردمها. “يستدعي هذا‘‘، بدوره، ‘‘كتيبةً من السيرورات المعرفيّة‘‘ (ص١٤٧). تشرحُ وورث هذا على النحو التالي: ‘‘إنّنا، كقرّاء، نتخيّل غايات الشخصيات وعواطفها، ونصدر أحكاماً أخلاقيّة بشأن مواقف الشخصيات، ونستنتج استدلالات منطقيّة بشأن العلاقات بين الأحداث والأسباب، ونقيّم ونتثبّت من الحقائق السرديّة استناداً إلى معرفتنا وخبرتنا‘‘ (ص١٤٧). تحاجج وورث بأنّنا نستعملُ نوعاً مشابهاً من إعمال العقل لإعطاء معنى لخبراتنا مع العناصر السرديّة في السياقات اليوميّة أيضاً، وعليه فإنّ التفكير السرديّ المستوحى من الأعمال الأدبيّة يحسّن من تعاطينا مع العالَم على نحوٍ أكثر عموميّةً. وتعترفُ رووث بأنّه ما من كتابٍ واحد سيجعلنا محترفين فكرياً. ومع ذلك، فإنّ التفكير السرديّ يمكن حمله على أنّه ‘مهارة‘ يمكن تحسينها عن طريق الاشتباك مع المسرودات المعقدة، مثل تلك الموجودة في أعمال الأدب العظيمة (ص١٢٨).
إنّ أحد الإشكالات الذي تأخذه وورث بعين الاعتبار بصورة أكثر اتساعاً هو حالة ردّ فعلنا العاطفيّ على الأدب. هل الشفقة التي نشعرها حيال مصير آنا كارنينا هي عاطفة حقيقيّة، حتى رغم أنّنا نعلم علم اليقين بأنّها ليست شخصيّة حقيقيّة؟ أو هل ردود فعلٍ كهذهِ هي لا عقلانيّة ببعض النواحي؟ تلك هي المفارقة المشهورة للأدب. في الواقع، لا تقدّم وورث أيّ حلّ جديد لهذه المفارقة، لكنّها تريد بالأساس أن تفكّك النقاش بأكمله عن طريق الكشف عن بعض الافتراضات الأساسيّة الإشكاليّة المتضمّنة فيه. تحاجج وورث بأنّ الفلاسفة الذين يعالجون الإشكاليّة لم يولوا اهتماماً كافياً للطريقة التي يتعاطى بها القارئ مع البنية السرديّة للأدب التخيُّليّ. تكتبُ رووث: ‘‘تختزلُ مفارقة الخيال السرديّات الموسّعة إلى أكاذيب فرديّة‘‘ (ص٦٣). بمعنى آخر، إنّ استجاباتنا العاطفيّة للخيال لا تحدث في التجريديّ، كما كانت، وإنّما كحصيلة من السيرورة المعرفيّة التي تنطوي على حشدٍ من الاعتبارات الأخرى بغضّ النظر عن الطابع التخيّليّ/اللا-تخيّليّ للقصّة. وهذا هو السبب الذي يدعو وورث أن تقترح أنّ مقولة السرد، لا مقولة الخيال، يجب أن تكون بالأساس عندما نفكّر في ردود فعلنا العاطفيّة على الخيال. تخلص وورث إلى: ‘‘أنّ الأدب الفلسفيّ، حتى هذه المرحلة، قد جرَّدَ فكرة الخيال إلى أقصى درجةٍ مما جعلها مفصولة كليّةً عن سيرورة القراءة. الخيال لا يشيرُ حتّى إلى نصّ خاصّ بما هو كذلك، ولكن إلى فكرة مجرّدة عن شيء ما متخيّل ببساطة‘‘ (ص٦٦). بطبيعة الحال، قد يصرّ المُدافع عن معنى المفارقة على أنّ هناك إشكالات مماثلة تبزغ على مستوى السرد. لمَ ننخرطُ عاطفيّاً نعلم يقيناً أنّه لم يحدث؟ ربّما تكون الإجابةُ المناسبة هي أنّنا ليس بمقدورنا أن نساعد في ذلك. فالانفعال ببعض القصص أمرٌ مبنيّ داخل كينونتنا ببعض النواحي.
والحال أنّ هناك بعض الإشكالات الفلسفيّة التي كان من الممكن لوورث أن تأخذها بعين الاعتبار بصورة أكثر توسّعاً، مثل الإدراكيّة الاستطيقيّة (aesthetic cognitivism)، أي سؤال كيف ترتبطُ قيمة معرفيّة لعمل أدبيّ بقيمته كأدب. هل السّمات الأدبيّة التي تشكّل القيمة الأدبيّة تتداخل في بعض النواحي مع السّمات التي تفسّر المنافع المعرفيّة التي تعزوها وورث لقراءة الأدب؟ أيضاً، على الرغم من أنّ وورث تعترف بإيجازٍ بأنّ المسرودات يمكن أن تكون وسيلة فعّالة نحو غايات قابلة للتساؤول، مثل تشويه سمعة الأقليّات والمجموعات البشريّة المضطهدة، إلّا أن العواقب السلبيّة التي يمكن للمسرودات أن تمتلكها كانت بحاجة إلى اشتباك أكثر اتساعاً. يمكن الحجاج أيضاً بأنّ المسرودات أحياناً تكون عبارة عن محض بنيات استطيقيّة. ويمكن للمؤلفين أن يمضوا إثر نوع بعينه من البنية السرديّة لأعمالهم ببساطة لجعلها أكثر إمتاعاً من الناحية الإستطيقيّة. غير أنّه ليس من البيّن ما إذا كانت المسرودات الناجمة عن خيارات كهذه يمكن أن تحسّن التفكير السرديّ الذي نتوكّأ عليه لإعطاء معنى للمسرودات ولخبرتنا في الحياة اليوميّة بأيّ معنى مباشر.
بيد أنّ هذه نقاط ثانويّة، ولربّما اختارت وورث عن حكمةٍ ترك هذه الإشكالات الفلسفيّة لمناسبة أخرى قصد جعل هذا الكتاب أكثر وصولاً لغير المشتغل بالفلسفة. من المأمول أن يحظى كتاب وورث بقراءة واسعة خارج دوائر المشتغلين بعلم الاستطيقا المحترفين. فهو كتابٌ يقدّم دفاعاً ثريّاً ومصاغاً بعنايةٍ عن أهميّة القراءة. وهو بمثابة تذكير مناسب بمدى أهميّة التي يمكن أن تكون للخبرات المثمرة للتعاطي المعمّق مع الأدب، ومدى أهميّة هذه اللحظات من التركيز الصامت في عالمنا المتسارع في تكنولوجيّته حيث من المتوقّع أن نكون أونلاين على الدوام.
المصدر: Philosophy in Review XXXVIII (February 2018), no. 1