مراجعة ملحمة الإنيادة- محمد السعيد

مقدمة
التجأتُ إلى الأدب في تعريف الواقع. نظرتُ من خلال هوميروس في تأليهه للعالم والساكنين فيه، ثم نظرتُ من خلال فيرجل وعرفتُ أنه ينظر من خلال هوميروس مثلي؛ فأتاني شعورٌ غامر، لتعرفي على قارئٍ ممتاز لهوميروس سيهِب الأدب علامته الخاصة.
إنني دائمًا أتحرى الدقة عند قراءتي للملاحم الأدبية؛ فاخترتُ اللغة الإنگليزية لأقرأ فيها الإنيادة لكثرة ترجماتها. أما بالنسبة للترجمات العربية، فهناك عدّة ترجمات: أولاها ترجمة عبدالمعطي الشعراوي مع صفوة من المترجمين من الأصل اللاتيني وقد أعاد المركز القومي للترجمة طبعها، وثانيها ترجمة أخرى للكاتبة اللبنانية عنبرة سلام الخالدي من الإنگليزية. لقد تصرّف مَن ترجمت عنه الكاتبة عنبرة الإنيادة في النص تصرفًا يمسح أي أثر للملحميّة الشعريّة فيها، وثالثها ترجمة محمود علي الغول من الأصل اللاتيني أيضًا. لكنني لم أطّلع على أي منها لقلة توفرها. قرأتُ الملحمة بترجمة الشاعر الأمريكي آلن ماندلبوم الذي عُرف بترجماته العديدة، ومنها ملاحم هوميروس، وكوميديا دانتي الإلهية. لم أرى من هو أفضل منه في تقديم الإنيادة شعرًا وبوزن ڤيرجل المقصود ولباعه الطويل في ترجمة الأدب القديم.
ألّف ڤيرجل ملحمة الإنيادة طلبًا من الإمبراطور أغسطس بعد هزمِ مارك أنطوني في معركة أكتيوم. كانت هذه هي اللحظة التي نقلت روما إلى مهد الإمبراطورية فأراد أغسطس تخليدها بتعظيم نفسه ومدينته. لنتخيّل ما قاله أغسطس لڤيرجل: “انظم قصيدةً تنافس قصائد هوميروس”. أحسّ الشاعر باعتزاز عندما طُلب منه تأليف قصيدةٍ كقصائد معلّمه التي تشرّب منها في صغره. لكن هذه الملاحم تتشابه وتختلف كل الاختلاف في ذات الوقت. ففي ملحمة ڤيرجل فرقٌ جوهريٌ يفصل بينها وبين قصائد هوميروس.
بداية الإنيادة: ڤيرجل وهوميروس
نسخ الكتّاب الرومان آداب الإغريق لذا نلاحظ أنهم يتشاركون نفس الأساطير، ونفس الآلهة، ونفس الملاحم. ولأن قصائد هوميروس كانت حاضرة في العقل الجمعي الروماني وكانوا يعدّونه أب الشعر؛ تشرّب ڤيرجل قصائد هوميروس منذ كان طفلًا، شأنه شأن أي طفلٍ روماني آخر، إن سئل: ما هي قصة أوديسيوس؟ لأجاب بسهولة. كان ڤيرجل مولعًا بالإلياذة والأوديسة، فهو الذي عرّف بهما فيما بعد، حتى أن دانتي ألغييري لم يعرفهما إلا عن طريقه. كان ڤيرجل المتأثر الأول بهوميروس، قد نسخ الإلياذة والأوديسة في إنيادته وكتبها في اثني عشر نشيد، وقسمها إلى قسمين. نسخ القسم الأول، الأوديسة، ونسخ الثاني، الإلياذة. لا أعني بالنسخ هنا أنها هي ذات القصة بأسماء ومدن رومانية، بل على نمطها.
افتتح ڤيرجل الإنيادة بثلاثة كلمات اُشتهرت في العالم القديم حتى تم اكتشافها مكتوبةً على جدران بعض الكهوف. تخبرنا الكلمات الثلاث بقصة الإنيادة كاملةً: ” Arma virumque cano”. تعني الكلمة الأولى “الحرب”، وتشير إلى الإلياذة؛ وتعني الكلمة الثانية “رجل”، وتشير إلى الأوديسة.
يصور القسم الأول من الإنيادة خروج بطلها إينياس من مدينة طروادة للبحث عن موطن جديد، عكس ما فعله أوذيسيوس في أوذيسة هوميروس. أما القسم الآخر ففيه قيامة الحرب بعد أن وجد الطرواديين أرضًا يسكنوها، عكس ما حدث في حرب طروادة. أي أن الإنيادة قصيدةٌ معكوسة لقصائد هوميروس. نبدأ مع ڤيرجل في نهاية الحرب ودمار مدينة طروادة. انتهت ملحمة الإلياذة والحرب لم تنته، والإنيادة تُنهي هذه الحرب التي ذُكرت في الأوذيسة قليلًا، فما نقرأ في الأوذيسة سوى عن حربٍ انتهت وقصة الحصان الخشبي الشهيرة، ولكنّ ڤيرجل يصوّر لنا النهاية الفعليّة للحرب، خصوصًا بعدما رأى الآلهة يجعلون عاليَ طروادة سافلها. قبل هذا، يرى إينياس هكطور في المنام وهو يأتمنه على مصير الطرواديين، مبشرًا إياه بموطن جديد وطروادة جديدة. هنا يتغيّر شيء في نفس إينياس بعد أن كان بطلًا يريد الموت مثل هكطور إلى بطلٍ يريد وطنًا لأهله. تنتهي الإلياذة والأوذيسة بهالة سعادة تحيط بالشخصيات بعد معاناتهم ليصلوا لتلك الحالة. هذا ما يفعله ڤيرجل ولكننا نستطيع ملاحظة تغيّر في بطل الإنيادة عما كانت عليه أبطال الإلياذة والأوذيسة. فمن متى اؤتمن أوذيسس، أو أخيليوس على مصيرٍ غير مصائرهم الشخصية؟
البطل في الإنيادة
المقصود بالبطل الهومري هو الشخصيّة البارزة التي تفضّلها الآلهة -على حسب تفسير هوميروس- في عمليّات يكون فيها الفعل البطولي مطلوبًا. لا يرى هوميروس بأن البطل من يسعى إلى الخلود والمجد فحسب، بل يتجاوز هوميروس ذلك ويُشركُ الآلهة كنَسَبٍ ضمنيًا. على سبيل المثال: في الإلياذة، عندما يرجع هكطور إلى امرأته وطفله الرضيع، تحاول زوجته أن تحيده عن القتال، ولكنه في قرارة نفسه، يريده ويتمنّاه دفاعًا عن مكانته كأمير وبطل طروادي. يركز هوميروس أيضًا على قوّة البنية وسرعة الخطى ودقة الرماح وإصابة الأهداف بالسهام على أنها ضرورية في بطله. أما ما يهم ڤيرجل في تكوين البطل هو وعيه للآخرين وبالواجب تجاههم؛ لأن ڤيرجل يريد تمجيد روما وتعظيم البطل الواقعي أغسطس، فوجد أن ما يتميّز به البطل الروماني عن الهومري، تفضيل الآخرين على نفسه. دائمًا ما تصاحب صفة التقوى اسم إينياس، وليس المقصود بالتقوى الدين فقط، فهذه الصفة تتجاوز الدين باشتمالها المجتمع والآخرين. إن التقوى لدى الرومان تشتمل على أربع واجبات: واجب تجاه الآلهة، وواجب تجاه الدولة، وواجب تجاه العائلة والأخير تجاه الأقران من الناس. لا يوجد فيها واجبٌ مخصص للذات على عكس أبطال هوميروس الذين يهتمون في ذواتهم فقط. وليس هذا وحده ما يميّز إينياس كبطلٍ روماني، بل نجده يصلّي لروح أبيه، أو بالمعنى العام، يصلّي لأرواح من سبقوه. بالإضافة إلى أن إينياس لم يبدأ القتال، بل قاتل دفاعًا عن نفسه وشعبه، على عكسِ أبطال هوميروس في كونهم من يبدأ العداء، بغض النظر عن صلاحيّة أهدافهم من هذا القتال. لكن ما يجعل الإنيادة مميّزة عن ملاحم هوميروس هو ما يركّز عليه ڤيرجل في القسم الأول. لقد ركز على الحدث المأساوي في قصيدته، وهنا نرى الانفصال الأول لڤيرجل عن هوميروس، فدائمًا ما يمثل هوميروس عالمه بقوالب بطولية كتفوّق أخيليوس على هكطور، أو غلبة أوذيسيوس على السايكلوب بوليفيميس. لا توجد مثل الأشياء التي وُجدت في الأوذيسة كالحوريات والسايكلوب وغيرهم، بل هناك أحداث ركّزت على جانب البطل الإنساني أكثر من جانبه الإلهي. إن أم إينياس هي نفسها إلهة الحب فينوس ولكن دورها ليس مفصليًا كما كانت عليه أثينا بالنسبة لأوذيسس. كره الرومان المسرح لبغضهم الممثليين لأسباب ربما تُعزى إلى انتماءهم إلى العبيد والطبقة المهمشة في المجتمع. لكن ڤيرجل شذّ عن هذه القاعدة في ملحمته لعلمه بأهمية المسرح، فعند نزول إينياس قرطاجةً وسرد حكايته لملكتها، وقعت في حبه، فوجدا الزواج والراحة أنسًا لهما. بدا إينياس سعيدًا هنا، بل ربما هذه هي المرة الأولى والأخيرة الذي تظهر سعادة إينياس في لب الملحمة. خلق هذا الفصل جانبًا مأساويًا يتّسم به البطل.
هل يعتقد القارئ بأن إينياس بطل حقيقي كما صوّره ڤيرجل؟ من الواضح أنه فضّل نفسه على شعبه هنا. لا يجد ڤيرجل سوى تدخّل الآلهة كحل للمشكلة: أولًا لتذكير إينياس بأنه أب الرومان، وثانيًا لردّه إلى الصواب، والصواب هنا هي تقواه وواجباته تجاه غيره. يرحل إينياس من دون إخبار عروسه دايدو، التي لم تجد ما يطفئُ حرقة قلبها سوى حرق نفسها لاعنةً سلالة إينياس كاملةً. حتى أن المؤلف الموسيقي هنري برسل كتب أوبيرا بعنوان دايدو وإينياس، تتجلّى فيها مأساة العاشقة في آريا نحيب دايدو.
هل وجبَ على ڤيرجل أن يكتب مأساة كهذه في قلب ملحمته، خصوصًا في كونها تمسّ كرامة الرومان؟ هنا تتجلى لنا قوّة الشاعر، كصانعٍ وفيلسوف. يطرح ڤيرجل أسئلة ضمنية بين أسطر الإنيادة لا يستطيع أغسطس الإجابة عليها ولو عاش ألف سنة. منها: ما هي العلاقة بين الإنسان والموتى؟ سؤال ستجيب عليه المسيحية بعد ڤيرجل؛ على ماذا يُحاسب الإنسان بعد الموت؟ أجاب دانتي على هذا السؤال بالتفصيل في شعره؛ هل يبرّر الظلم؟ يشير ڤيرجل إصبع الاتهام نحو أغسطس؛ وغيرها من الأسئلة التي تطارحها الأدباء بعد عصر ڤيرجل.
نهاية الإنيادة وموضوعها الرئيسي
يقول الشاعر أليكساندر بوب مقولة أثارت في نفسي الحماسة لأقارن هوميروس بڤيرجل يومًا ما: «يجعل منا هوميروس مستمعين، بينما يتركنا ڤيرجل قارئين.» ولطالما تساءلت بعد انتهاءي من الإنيادة بما كان يعنيه بوب بـ”قارئين”؟ كانت الإجابة تكمن في الشعر. أعني بما يجعل الشاعر صاحب رؤيا معيّنة بتمثيل ما رآه أمام عينيه، أو ما شهده من التجربة التاريخيّة في عصره. كان يعرف ڤيرجل ما تعنيه صنعة الشعر الذي أخذها من شاعره الأعظم، بالإضافة إلى معرفته للفلسفة الإغريقية فجمع بين الاثنين. أينما وُجد هذا الفصل وهذه الرؤيا صارت لدينا قصيدتين. تمجّد الأولى أغسطس وإمبراطوريّته، وتعمل الثانية على نقده. يتساءل ڤيرجل عن الثمن التي دفعته روما لبناء هذا الصرح الحضاري، فكم من قرطاجة سحقتها، وكم من دايدو قتلتها. بل حتى أنه نقد أغسطس نفسه في بطله إينياس بوصفه ناقلًا لأهله وشعبه إلى حضارة بدأت من الصفر وقامت على زهق الأرواح بلا رادع. يتّضح هذا النقد في نهاية الإنيادة. لا أعرف إن أراد ڤيرجل إكمال قصيدته بعد نهاية النشيد الثاني عشر أم لا: نهاية القصيدة مهمة، ويتخلّلها ذلك الرعب المتجسد حول قراءة الشاعر للتاريخ الروماني. بعد أن قامت إلياذةُ ڤيرجل في إنيادته، يتوسل تُورنوس إينياس بالصفح عنه بعدم قتله فيتوقف إينياس لبرهة ثم يغضب فجأة، كغضب أخيليوس، وتنتهي القصيدة بتدحرج رأس تُورنوس على الأرض. الشيء الوحيد الذي يجعل منّا ممتنين إلى أغسطس هو حفاظه على مسودّة الإنيادة؛ لأن مؤلفها أراد حرقها. من المحتمل أنه خاف أغسطس من أن يكشفَ هذا النقد الضمني لروما ولإمبراطورها المتضمّن داخل نص الإنيادة. لكنّه كان خاطئًا، فما كان من الرومان إلا اعتبار الإنيادة نشيدًا وطنيًا لهم، ينافسون بها ما جمعه هوميروس.
خاتمة
ألّف ڤيرجل الإلياذة ليصف واقعًا تاريخيًا عايشه. جعل من الشعر مكانًا حرًا يضع فيه أفكاره حتى لو كان بأمر حاكمٍ ما. وضع إمبراطورها تحت المساءلة الإنسانية، وعرض مأساة الأقليّات المسحوقة التي تكون تحت حكمٍ جائر. كانت الإنيادة نقطة تغيّر في الأدب الغربي فمؤلفها هو الملهم الرئيسي لعدة شعراء مثل دانتي وميلتون وآخرين، بل حتى صرّح الشاعر توماس إيليوت بأنها ملحمة أوروبا جميعها، وبمركزيّة ڤيرجل بين الشعراء الكلاسكيين والذي لا يقدر أي شاعر على سلبها منه أو مشاركتها فيه. إن ما أسهم به ڤيرجل في الأدب هو تقديم تعريف جديد للبطل، فما جسده إينياس: بطلٌ لديه قضية يقاتل من أجلها.