في وقتٍ ما في القرن الثاني الميلادي، كتب المؤلف الآشوري اليوناني لوقيانوس السميساطيLucian of Samosata، ما يُعدّ على نطاقٍ واسع أول رواية خيال علمي. كان لوقيانوس هجّاءً لاذعًا، وكان هدفه من نشر عمله “قصص حقيقية” نقد الأعمال الكلاسيكية وإظهار مثالبها، وشجب رواة القصص، مثل هوميروس، لتقديمهم أحداثًا خيالية كما لو كانت واقعيّة. وفي الكتاب الذي يحمل عنوانه مفارقة كبيرة، يحكي لوقيانوس عن رحلاته إلى جزر غريبة بها أنهار من النبيذ، وشجرة مجسمة على صورة امرأة، ساخرا من مآثر هرقل وأوديسيوس.
وفيها، تُغيّر الأحداث لتبدو سخيفة، لكن الأحداث الافتتاحية تكون ملائمة تمامًا لبطل يشتعل حماسة. لكن بعد ذلك، وفي سرد لوقيانوس، يحدث شيء لم يسبق له مثيل في الخيال البشري حتى تلك اللحظة: يجد المسافرون أنفسهم محاصرون في إعصار، ورحلة إلى القمر.
إنها حتى الآن أقدم قصة معروفة تتضمن أشياء مثل السفر بين الكواكب، والمخلوقات الغريبة، وحرب الفضاء. وكما هو الحال معظم الوقت عبر تاريخ الفن والفلسفة والأدب وحتى العلم (يجب أن نتذكر جميعا أن شرودنغر كان يحاول أن يسخر، بقطته التي في الصندوق، من نظرية الكم، لا أن يشرحها) فإنّ الاندفاع للمبالغة بغرض الهجاء قد حفّز وثبات من الخيال والإيمان التي غيرّت في النسيج الفعلي للتجربة الإنسانية. وبفضل لوسيان الذي كان مُستفيقًا ومستبصرًا بقدر ما كان مُضحكًا، فقد اخترِع السفر عبر الفضاء.
ويسكن قمر لوقيانوس كائنات تنذر بالخطر، وجيوش من أشكال الحياة الهجينة، تنخرط في حروب استعماريّة بين الكواكب. وعلى الرغم من كونها بيئة لا ترحم، إلا أن لوقيانوس كان متفرّدًا في وقته بتخيّل القمر كـ “وِجهَة”. وبشكلٍ عام، وحتى أحدث المراحل من تاريخ البشرية، كان القمر رمزًا أصيلًا للمجهول الذي لا يمكن بلوغه، وسيّد الليل ورسوله، أي مرادف البرد والظلام والخطر، ونذيرا بالفناء، في غياهب النوم الهادئ.
وفي الفنّ الغربي، تطوّر القمر، بصفته رمزًا تطورًا مثيرًا للاهتمام. ففي القرن الثامن عشر، اعتبرَه فنانٌ مثل غويا الضوء المُرشد لـ “الآخر”؛ السقف السماوي الذي تشكّلت تحته، وازدهرت، عناصر خارقة للطبيعة. وتصوّر لوحته سبت السَّحَرة (1798) عنزة شيطانية بقرنين عظيمين، على رأسها إكليلٌ من الغار، وقد استدعتها طائفةٌ من السّحرة. ولعلّ إحدى الشخصيات تقدّم رضيعا من أجل التضحية به. سربٌ من الخفافيش يحوم تحت الضوء الذابل للهلال.
ومع ذلك، وبالنسبة لفنان نقل لنا الرعب في مواضع أخرى بشكل مباشر وقسريّ (انظر، بالطبع، لوحة زحل يلتهم ابنه (1819-1823)) فإنّ غويا -وعلى نحوٍ يثير الاستغراب- لم يصدر أحكامًا مُسبقة في هذه الصورة. وفي الواقع، رُسمت الصورة المرعبة لزحل إلى جانب لوحة أخرى من اللوحات السوداء، والتي تظهر موضوعًا مشابهًا لموضوع لوحة سبت السحرة؛ معزة بقرنين وحشد من الأتباع. تظهر اللوحة الأخيرة شؤمًا وتعقيدًا أكبر؛ الشيطان وقد أدار ظهره لنا، والوجوه غير مرئيّة. أما اللوحة السابقة فكان يخيّم عليها جاذبية غريبة، وذلك تحديدًا لأنها تتضمن شيئًا لا تتضمنه اللوحة السوداء: القمر.
وفي تصويره اللاحق والأكثر نجاحا للرعب الطوائفي cultish horror والاضطرابات الداخلية البشرية التي يمكن له أن يمثّلها، أدرك غويا أن عليه إزالة القمر. فحتى وهو يشغل دور رمزٍ للظلمة؛ يبدو ان القمر لا يسعه إلا أن يبعث جوًّا من التّوق والعجب.
في برلين عام 1975، وقف الكاتب المسرحي الأيرلندي صمويل بيكيت أمام لوحة كبيرة. إلى جانبه كانت الناقدة المسرحية روبي كون Ruby Cohn. وبعد تأمل الشخصيتين في اللوحة الفنية لفترة، قال بيكيت، في إشارة منه إلى مسرحيته الشهيرة عام 1953 “أتعلمين، لقد كانت هذه مصدر في انتظار جودو.”
ووفقًا لكون، فقد كانت تلك لوحة كاسبار ديفيد فريدريك رجل وامرأة يتأملان في القمر (حوالي عام 1824). من المرجح أن تكون اللوحة الأسبق؛ رجلان يتأملان في القمر (1819-1820)، وإما أن كون قد خانتها الذاكرة، أو أنها اختارت النسخة التي تُظهر الرجل والمرأة، نظرا للصدى المرئي الذي أوقعته في نفسيهما، عندما كانت هي وبيكت يتأملان المتأمّلَين.
تصوّر سلسلة فريدريك (رسم لوحة ثالثة بذات الموضوع بين 1825 و1830) القمر كباعثٍ على التساؤلات الفلسفية. كانت المسافات والأحجام المُتَضمّنة في عملية تأمل القمر بعيدة بما فيه الكفاية عن التجربة الإنسانية الطبيعية، لجذب العقل خارج حدود ذاته وحدود محيطه المباشر.
كان فريدريك يتبنى منظورًا رومانطيقيًا “للتسامي”. وبالنسبة للرومانطيقيين، فقد كان من الضروري التغلب على المنطق والعقل من خلال تجربةٍ ما تتجاوز الفهم البشري كي يبلغ العقل أسمى درجاته من المعرفة. وفي موضعٍ آخر، أظهر فريديرك متجولًا فوق بحر من الضباب في لوحته الشهيرة (1818)، لإيصال هذا الشعور بالتسامي. لم يكن ليتخيل قط أنه بعد مرور 150 عاما على رسمه للقمر، فإن الناس سيتجولون قرب بحر السكون[1]، مطلّين لا على الغيوم فحسب، بل على الكرة الأرضية نفسها.
وفي وقت لاحق من القرن التاسع عشر، وبين يدي رجل إنجليزي مُخلص بدلاً من يدي ألماني رومانطيقي مثاليّ؛ اتخذ القمر مغزى مُختلفا. ففي لوحة جي. ام. دبليو. تيرنر J.M.W Turner الشهيرةThe Fighting Temeraire (1938)، يرتفع القمر عند يسار اللوحة غير المتوازنة عن عمد، ويشير صعوده إلى وفاة السفينة الحربية العظيمة، والتي سُحبت إلى الميناء لتفكيكها. تنعكس شظيّة القمر على البحر في أسفل يسار إطار الصورة، مما يعني أن الجانب الأيسر (أو الأعسر) بأكمله يُصبح مجالًا قمريًا. يعكس الضوء الأثيريّ اللؤلؤي للهلال الرقيق التكوينَ الباهتَ للقاربِ الكبير؛ ملائكيًا و/أو شبحيًّا في رحلته الأخيرة.
وعلى النقيض من ذلك، فإن نار زورق القطر المسخَّم ودخانه المندفعان عاليًا ينسجمان مع أشعّة شمس الغروب. إنّ قمر تيرنر مصدرٌ للضوء، إنّه حدثٌ لَوني. إنّه أبعد من أن يُمشى عليه كبُعد البحر الذي ينعكس عليه. وفي حركاته المتنقلة بين أطوار التزايد والتضاؤل، وضوءه المُقدّر والمنعكس، يكون القمر بمثابة أداة ضبطٍ للمزاج، ورمزًا لطيف ألوان تيرنر، وبالكاد يكون “شيئًا/موضوعًا” على الإطلاق.
شهدت نهاية القرن التاسع عشر وفجر القرن العشرين مواقف مُتّخذة إزاء تبدّل العديد من الأمور. لقد كانت لحظة تغيّر كبير في الوعي الإنساني. أحد تغيّرات المنظور تلك شملت الليل.
وينبغي ألّا نغفل هنا عن ذكر لوحة فان جوخ الليلية المليئة بدوّامات النجوم. لم تصبح لوحة ليلة النجوم (1889) واحدة من أشهر اللوحات وأكثرها شعبية في التاريخ من فراغ. لقد أدهشت هذه اللوحة، بأنماطها الجارفة وألوانها الجريئة، أجيالًا، باعتبارها ارتباطًا ملائمًا ودقيقًا بحركات عقلٍ مضطرب.
لكن فان جوخ يعتبر حالةً شاذة. هنالك مقياس أفضل يوضح مدى تغير الليل والقمر في مطلع القرن الحالي، نجده في لوحات الليلة الهادئة Nocturneter لويسلر، وقد كتبنا عنها بإسهاب في مجلة MutualArt، لذا يكفينا قول إن موقفها المزدوج بالتنافر repulsion والإكراه compulsion قد استحوذ على عقلية أمريكا والغرب في فجر العصر الحديث.
وخلال ذلك الوقت تقريبًا، كانت الكهرباء قد أصبحت سلعة عمليّة في المنازل والمراكز الحضرية في أمريكا وأوروبا. حينها أصبح الليل، وبالتالي القمر، أماكن يستطيع البشر أن يتخيّلوا أنفسهم يسكنون فيها. في عقلية نهاية القرن Fin de Siècle، مثِّل القمر فرصة جديدة غريبة، وقد تجلّى ذلك في الفنون المرئية في ذلك الوقت. أصبح فيلم جورج ميليس لعام 1902، رحلة إلى القمر A Trip to the Moon، مثالا بارزا، بعد حوالي 1800 عام من تخيل لوقيانوس لنفس الرحلة.
وبعد ذلك بالطبع، أتى أول هبوط على سطح القمر. أصبح نيل أرمسترونغ وبوز ألدرين أول من يمشي على سطح جسم سماوي غير الأرض. ومع خطواتهم الصغيرة، أتت موجة مُوحّدة من العواطف. ما أعطى الهبوط على القمر أهمية عظيمة لم يكن فكرة مبهمة ما عن “التقدم” البشري؛ فالاحتمالات الاستعمارية أو النفعية ضئيلة نسبيًا. كان ذلك الإنجاز مهمّا لأنه مثّل ذروة اندفاع خلاّق بلغ عمره الآف الأعوام. وكعمل من أعمال التعبير عن الذات، فقد وحّد شعوب العالم في لحظة من الانبهار المُتحقّق. لقد كان، في حد ذاته، عملًا فنّيًا.
وبين عام 1969 و1973، سار ما مجموعه 12 شخصًا على سطح القمر. ومنذ ذلك الحين، تحوّل تصوّرنا له في ثقافتنا مرة أخرى. إنّ الحديث عن القمر الآن فعل توّاق بقدر ما كانت دعواته الأولى، لكن من دون “غيريّة otherness”. وبدلًا من ذلك، صار نوعًا من الحنين إلى الماضي، عندما تغلّب البشر على الغيريّة ذاتها، محوّلين المجهول المخيف إلى معلوم، وكان الجنس البشري مُتّحدًا في المشاهدة.
تعد أغنية البوب لمولي نيلسون “مرحبًا أيها القمر! Hey Moon” (والتي أعاد جون موس توزيعها ببراعة عام 2011) أغنية حب لقمر الأرض الوحيد، شخصية الجرم السماوي الوحيدة، تستجدي دعوة حنان يمكنها التغلب على الاختلاف والمسافة: “مرحبًاــ أيها القمر، لا أحد سوانا الليلة.”
وفي الفن المعاصر، بدأ تدوين هذا المزج الغريب من الحنين والتقدم في لغة قمرية رمزية جديدة. ففي أواخر شهر يناير من هذا العام، استضاف متحف لويزيانا للفن الحديث Louisiana Museum of Modern Art معرضًا بعنوان “القمر: من العوالم الداخلية إلى الفضاء الخارجي The Moon: From Inner Worlds to Outer Space“مستكشفًا ما يعنيه القمر بالنسبة لنا “هناك” و”هنا”.
وقد حطمت أعمال لفنانين مثل كاتي إم باترسون Katie M. Paterson، وربما على وجه الخصوص عمل تركيب الواقع الافتراضي Virtual Reality installation لكل من لوري أندرسون Laurie Anderson وهسين تشيان هوانغ Hsin-Chien Huang (إلى القمر To the Moon (2018)) حدودًا مادية جديدة، مع عودتها في نفس الوقت إلى الانبهار الموحّد والغموض الذي كان يمثله القمر ذات يوم.
في الفصل الأول من مسرحية بكيت، أحد شخصيتيه المتفلسفتين “إستراغون” “ينهض من مكانه ويتجه نحو فلاديمير، بفردة حذاء في كل يد. يضعهما على حافة المسرح، ويعتدل ويتأمل القمر”.
يقول، مقتبسا الشاعر شيلي Shelley: “شاحب من التعب، من تسلق السماء والنظر إلى أمثالنا.” يتخيل نيلسون علاقة تفاعلية أكثر تحنانًا بين القمر والإنسان: “أكره أن تبقى معلقًا هناك، وحيدًا، طوال الليل. /وأودّ أن أمضي الليلة بأكملها في النظر إليك فحسب.”
ولكن سواء كان ذلك إثارة نفسية جنسية حول السحرة، أو تأمل ساميًا، أو مزحة على حساب سخافتنا، أو توقًا للقرن الواحد والعشرين إلى التغلب على الشعور بالوحدة في عصرنا المسبب للشقاق، فلطالما كان القمر رمزًا لأيٍ كان ما نشعر به موجود بعيدًا عن متناولنا. “أيها القمر،” يغنّي نيلسون في نهاية أغنيته، “فلتعُد إلينا قريبًا”.
[1] بحر من بحار القمر. (المترجمة).