في أحد أيام عام 1956 جمعَ الانتماءُ السياسيّ شابّين طموحين: عبد الرحمن منيف الذي أنهى دراسة الحقوق في بغداد والقاهرة، ومروان قصّاب باشي الذي يواصل دراسة الأدب العربيّ في دمشق. دار الزمن دوراتٍ كثيرة، تحطّمت فيها الأحلام السياسيّة وتراكمت الهزائم والخيبات، فتفرّغ كلٌّ منهما لحياته المهنيّة بعد اعتناق أحلام جديدة: أنهى الأول الدكتوراه في اقتصاديّات النفط في بلغراد، ليصبح د. منيف أحد أبرز الخبراء في مجاله، وتخلّى قصّاب باشي عن الأدب العربيّ وسافر إلى برلين لدراسة الفن وشقّ طريقه بالفرشاة. وحين جاء اللقاء الثاني في برلين عام 1990، كان كلّ شيء قد انقلب من جديد. تواصلت الخيبات والهزائم، ولكنّ جعبة الأحلام لم تنفد، وإنْ حوَّلَتْ وجهتها. سقطتْ الـ «دال نقطة» من اسم الأول، ليُمسي مُنيف بصمةً متفرّدةً بذاتها في الرواية هذه المرة، واختُصر اسم الثاني ليصبح مروان – أو «مارڨان» كما يُفضّل الألمان – بصمةً متفرّدةً أخرى في الفن التشكيليّ. عاش الأول بلا جنسيّة وأصبح عربيًا كما يشاء الواقع، واكتسب الثاني جنسيّة ألمانيّة ولكنّه فضَّل أن يُسمّى عربيًا في ألمانيا كما يشاء الحنين. بدأت رحلة الرسائل بين الصديقين لتعويض ما فات من الزمن، ولصقل جمرة الحنين قبل أن يُخمدها رماد المسافات، ولشحذ سهام الأحلام في الفن. تواصَلَ فيض الرسائل من صيف عام 1990 ولم ينقطع حتى مع رحيل منيف في شتاء عام 2004، إذ استمرّ مروان في مخاتلة الواقع وتدوين الرسائل إلى خريف عام 2016 حيث كان الرحيل الأخير.
كيف نقرأ كتاب «في أدب الصداقة» الذي يجمع رسائلهما منذ اللقاء الثاني حتى رحيل منيف؟ ستتنوّع القراءة بتنوّع القرّاء. يمكن للبعض قراءته بوصفه «أدب رسائل»، وهو جنسٌ أدبيٌّ كاد ينقرض عربيًا. ويمكن قراءته بوصفه «شهادة» من فنّانين كبيرين عاصرا أهمّ أحداث المشهد العربيّ سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. ويمكن قراءته بكونه تشريحًا لمختبر الكتابة والرسم عند اثنين من أعظم معلّمي الكتابة والرسم عربيًا. ويمكن قراءته – طبعًا – بوصفه بوحًا لصديقين باعدتْ بينهما المسافات وقرّبت بينهما الشّواغل الفنيّة، ووحّدتهما الأحلام. لكنْ ماذا لو طرحنا تأويلًا «مجنونًا» آخر: أن نقرأ الكتاب بوصفه روايةً مشتركة؟ سيكون هذا التأويل أقرب إلى لعبة جميلة، ونحن أمام اثنين من أهمّ مَنْ قدّروا اللعب حقّ قَدْره. أن تلعب ببراعة في الفن يعني تجريبًا متواصلًا على الدوام؛ يعني أن تقدّم نتاجًا مختلفًا، نتاجًا عصيًّا على التّصنيف. وهذه الرسائل تُتيح لنا هذا الخيار وإنْ خَفِيَ الأمر علينا للوهلة الأولى. لسنا أمام رسائل تقليديّة، ولسنا حتّى أمام رسائل متواترة الإيقاع أو حبيسة مبدأ الإرسال والاستقبال. قد يُرسل أحدهما رسالتين أو ثلاثًا من دون انتظار ردّ، وقد يردّ الآخر على رسالة قديمة ويُبادر في الرسالة نفسها بفتح حديثٍ آخر لا صلة له بموضوع الرسالة الأصليّ. في واقع الأمر، بدأت الرسائل بشيءٍ من الانتظام وتحوّلت لاحقًا إلى فيضٍ مختلطٍ من اليوميّات والملاحظات والذكريات، لتصل أحيانًا إلى مونولوغ طويل من أحدهما وكأنّه يحدّث نفسه. ولعلّ هذا هو مكمن جمال الفن: أن تترك أفكارك على سجيّتها بلا رقابة ذاتيّة، ولكنْ بشرط أن يبقى هذا البوح مضبوطًا ببراعة لا تنحدر إلى مستوى الثّرثرة التّافهة في أيّة رسالة من الرسائل. وسيتزايد إعجابنا بالرسائل لأنّها لم تُكتَب بغرض النّشر في الأصل، ولعلّ هذه الحريّة كانت في صالحنا كقرّاء أكثر من صالح كاتبيها.
تكشف الرسائل/الفصول عن دواخل البطلين بدرجة كبيرة تصل أحيانًا إلى كسر الصورة التي قد رسمناها أو تخيّلناها من قبل عن منيف ومروان. ربّما لا تتّضح الصورة كليًا في رسائل منيف الأولى التي كان فيها أقرب إلى التحفّظ وإلى التّعامل مع الرسائل بوصفها وسيلةً لغاية إنجاز الكتاب الذي كان يؤرّقه: أول كتاب باللغة العربيّة عن مروان. ولكن شيئًا فشيئًا يذوب هذا التحفّظ ويتقشّر قناع منيف البدويّ ويبدأ يكتب من أجل متعة الكتابة وحدها. يكتب كي يكسر رتابة حياته اليوميّة، إلى أن يصل إلى مرحلة بات يكتب فيها كي يهرب من الكتابة الروائيّة. أن يهرب روائيّ من الرواية يعني أنّه سيكتب شيئًا مختلفًا وإنْ لم يكن يدرك هذا منذ البداية. بات «يرسم» أحيانًا بشيءٍ من التردّد والخجل، ثم بات يُفكّر بالرواية من خلال الكتابة عنها، بحيث نجده أحيانًا يخلق أسئلة مفترّضة ليجيب عليها، ربّما هربًا من جحيم الأسئلة الببغائيّة التي كان يلقاها على الدوام في الحوارات. ومنيف أحد أكثر الكتّاب العرب الذين ظلمتهم الحوارات، إذ يظنّ القارئ أنّه يكرّر إجاباته، بل ويمكن لنا توقّعها سلفًا، لا لشيء إلا لأنّ الأسئلة حصرته في خانة واحدة وحكمت عليه بالتّكرار. أما مروان فكان يتدفّق منذ الرسالة الأولى، كَمَنْ وجد أخيرًا فرصةً للبوح الذي يكاد يخنقه. لم تكن رسائله وسيلةً لأيّة غاية، بل كان يهرب أحيانًا من الغاية التي قامت عليها الرسائل بادئ الأمر: كتاب منيف عنه. وما يفاجئنا حقًا هو أنّ أجمل الرسائل هي رسائل مروان لا رسائل منيف؛ وبأنّ الرسائل الأكثر تنسيقًا هي رسائل مروان أيضًا، إذ بدأ يكتب يومياته ويرسلها، بحيث نكاد نعرف أدقّ تفاصيل حياته وأفكاره.
متى بدأت «الرواية» المفترضة؟ بدأت – كالعادة – بتحريضٍ خفيٍّ من منيف لمروان كي يكتب، ونجد تلميحًا ساخرًا في إحدى الرسائل إلى إمكانيّة صدور كتاب من تأليف مروان ورسوم منيف. نكاد نفهم أنّ منيف قد بدأ بالرسم لا من أجل اكتشاف موهبةٍ دفينةٍ أو محاولة لتنويع أفق دوّامة الأفكار في رأسه بقدر ما كان تحريضًا لمروان كي يكتب من أجل مشروع مُتخيَّل. ما من تفاصيل كثيرة لدينا عن أسباب تأليف رواية منيف المشتركة الأولى «عالم بلا خرائط» مع جبرا إبراهيم جبرا، ولكن لدينا أسباب عديدة لافتراض أنّ الفكرة كانت من منيف أولًا. نعلم أنّها بدأت بوصفها مزحة أو لعبة: أن يكمل كلٌّ منهما الفصلَ الذي كتبه الآخر إلى أن «تورّط» الاثنان في اللعبة، وصار الهزل جدًا. لا بدّ من فهم «التّوريط» بوصفه عنصرًا جوهريًا في حياة منيف الإبداعيّة عنده وعند الآخرين؛ نجد الكلمة ذاتها حين يحكي لمروان فكرة كتاب مشترك يريد أن يورّط أديب غنم فيه: كتاب عن دمشق (أو «الشام» كما يفضّل منيف ويفضّل عشّاق الشام عمومًا). بقي الكتاب مجرّد فكرة، ولكنّ الورطة لم تفارق ذهن منيف، لنعلم لاحقًا من مروان بأنّهما كانا يخطّطان لكتاب بعنوان «بستان دمشق» (ورد الكتاب بعناوين عديدة: بستان مقام، بستان الشام، بستان دمشق، وأحيانًا «البستان» فقط). يمكن لنا تتبُّع تفاصيل هذا الكتاب (الرواية؟) في رسائل مروان الذي تورّط وانتهى الأمر. الفارق بين حالتنا هنا وحالة جبرا أنّ مروان لم يعد ينتظر ما يكتبه شريكه، بل صار يكتب ويرسم ويزخرف، إلى درجة أنّ منيف كاد يتحوّل إلى كومبارس في روايته. حين نتأمّل رسائل مروان برسوماتها، سنجد أنّنا أمام عمل جديد عربيًا، يُذكّرنا بقصائد وليم بليك ورسوماتها المرافقة. بدأ مروان التّجريب لكتابة نص جديد ينطلق من اليوميّات ولا يكتفي بها؛ نص ليس إلا بوحًا لرسّام استعاد طالب الأدب العربيّ القديم. مارڨان استعاد مروان قصّاب باشي القديم ليكتب لوحته، ويرسم روايته.
بمعزل عن الحالة الغرائبيّة التي يتحوّل فيها المؤلّف إلى شخصيّة عابرة في روايته بحيث يُكتَب على يد شريكه في الرواية نفسها، لسنا أمام عالم غريبٍ بالمطلق عن عالم منيف الروائيّ. منيف مُولَع بسباق التّتابع حيث تُسلّم الشخصيّة مسار السّرد لشخصيّة أخرى قبل أن تختفي وتبقى أصداؤها. هذا ما نجده على الأخص في «مدن الملح»، ولكن يمكن لنا اقتفاؤه منذ رواية «شرق المتوسّط». هنا أيضًا، سلّمتْ شخصيّة منيف مفاتيح السّرد والكتاب-الرواية بأكملها لمروان شخصيّة ومؤلّفًا. بمصادفة قاسيةٍ، ترافقتْ انطلاقة مروان في الكتابة مع غرق منيف في وعكات جسديّة ونفسيّة متلاحقة. انشغل منيف في ملحمته وروايته الأخيرة «أرض السواد»، عدا عن انغماسه المازوشيّ في السّياسة اليوميّة بفعل الأحداث المظلمة المتلاحقة منذ حرب الخليج الأولى وصولًا إلى غزو العراق. استُنزف منيف وكاد ينسى مشروعه الروائيّ، بل ونسي مشروعه مع مروان، وتركه متورّطًا وحده. يظهر منيف أحيانًا في أصداء عابرة من خلال تخطيطاته في رسائله التي حاول فيها التّماهي مع لوركا، ولكنّ مروان واصل مشروعه بأفق ملوّن غريب بالتّرافق مع الأحداث السّوداويّة المتلاحقة، وكأنّه بات يستلذّ بورطته الجديدة ليواصل رسائله ويوميّاته حتّى بعد رحيل منيف.
مع اقتراب رحيل منيف شحّت رسائله تواترًا وطولًا. بدا كما لو أنّه يرسل استغاثات متقطّعة قبل الغرق الأخير في الغياب، إلى درجة أنّها باتت بمثابة صوت الكورس الذي يتسلّل أحيانًا ليضبط دفق كلام البطل مروان الذي بدأ يقترب من احتلالٍ كاملٍ للخشبة. اللافت هنا هو أنّ تجريبيّة مروان انتقلت من دمج الكلمة بالرّسم إلى تجريبيّة الكلمة في ذاتها. بدأ ينوّع رسائله بين الفصحى والمحكيّة، وكأنّه يحاول الإجابة على سؤال منيف المتكرّر حيال لغة السّرد. ولكن لو دقّقنا في استخدام المحكيّة نكاد نحسّ أنّ مروان بات يشعر هو أيضًا بقرب رحيل شريكه، بحيث تحوّلت الورطة إلى لوعة أن تبقى وحيدًا في فضاءٍ غريبٍ عنك: فضاء الكتابة. ولذا – ربّما – لجأ مروان إلى المحكيّة لأنّها اللغة الأدفأ حين تبوح لنفسك، وحين تحسّ بوطأة العزلة التي ينبغي له أن يُخفّفها بزيادة البوح. أن يبوح عنه وعن شريكه الذي صمت. لعلّ هذا كلّه وهم، أو إفراط في التأويل، فالرسائل رسائل ليس إلا. ولكنّ المفارقة التي لا يمكن لنا إنكارها هي أنّ حضور منيف حتّى بعد غيابه بات مرتبطًا بمروان بدرجةٍ عصيّةٍ على الفصل: في أغلفة الروايات التي باتت بصمةً لمروان ولمنيف معًا، وفي پورتريه منيف الأشهر بريشة مروان؛ پورتريه يبدو كما لو أنّه حلَّ محلَّ الصور، إذ ما إنْ نستحضرْ اسم منيف، حتّى يحتلّ ذلك الپورتريه مخيّلتنا ليقلب الخيال واقعًا. سباقُ تتابعٍ آخر شارك منيف في كتابته حتّى بعد رحيله، غاب فيه ولم يغب.