حينما قال فرانس كافكا: “الكتابة شكل من أشكال الصلاة”، لم يتجه بقوله نحو الروحانية التي قد تغشى الكاتب فحسب، بل تأخذه العبارة إلى المدى الأبعد والمكان الأقصى من التماسّ مع الوجود في أدقّ سكناته، ومع الحياة في أرقّ تجلياتها. إنه بهذا يجعل للكتابة صفةً قدسيةً تتيح لها الغوص في دقائق النفس البشرية، والنفاذ إلى أعماق الكون، ذلك أنها صلاة في شكلٍ ما، والصلاة مرتبة يتخلى فيها الإنسان عن كل شيء سواها. إنها نوع من الخشوع الذي يتسلل جليلًا أنيقًا إلى الذات، يجرّدها من كثير من أشكال العبودية الزائفة والقيود الرعناء، وينطلق بها إلى فضاءات واسعة من الحلم والخيال والألم والأمل والشوق والمحبّة.
ومع كل ما تحتمله عبارة كافكا من احتمالات نصية، وارتباطات سياقية؛ وبعيدًا عن حياته الشخصية الملأى بكل الاحتمالات والتأولات؛ إلا إنها -أي العبارة- تُنزل الكتابة محلًا ساميًا ومكانة رفيعة بلا شكّ، وهي تختلف عن الرؤى التي جعلت من الكتابة لبنة في البناء الاجتماعي، وأداةً أيدولوجية محضة، ومع كل تلك الرؤى الماركسية والواقعية التي تنحو بالفعل الكتابي إلى فعل الوسيلة الاجتماعية لتحقيق غاية ما.
وهي أيضًا تختلف عن تلك الرؤى ما بعد الحداثية التي توسّع هوّة الدالّ ومدلوله، وتعمّق الغربة بين النص وصاحبه، وترجئ المعنى وتعوِّم الدلالة. تلك التي تبتعد عن ذلك الجانب الذاتي الشفيف الغامض القريب البعيد الذي يتيحه فهم كافكا، وفهم أولئك المهمومين بالوجود قبله وبعده.
وعلى ما سبق نجد أن الكتابة فعل تصوّفي بالغ الرقة والخشوع، عميق الدلالة والأثر. لكنّ هذا لا يتأتى لكل أحد؛ لذلك آثرت هنا ألا أتحدث عن تجربة خاصة قد لا يكون لها وزنٌ في ميزان الحياة الكتابية، ولا أهمية في التاريخ الطويل الطويل للأسلاف والمعاصرين.لكني سأتحدث عن مقاربات لهموم الكتابة وآثارها في نفوس الكتاب والمتلقّين، عن حمأة وطيسها في نفوس الشعراء والروائيين، عن هذا الخشوع الأنيق الذي يشعر به كافكا، ونرجو أن نقترب منه في يوم ما. عن: معنى أن يكون الإنسان كاتبًا.
عند كتّاب وشعراء المدرسة الكلاسيكية تكون الكتابة مثالًا عاليًا يحاول الكاتب الوصول إليه ومحاكاته، وهي فعل تعبيريّ بالدرجة الأولى عند الرومانسيين وكل المنضوين تحت لواء نظرية التعبير. وهي فعل اجتماعي عند أصحاب النظريات الواقعية..وهي محوٌ لنفسها، وسيرورة من الدلالات اللا متناهية عند التفكيكيين.
إنها أشياء مختلفة. أشياء غير متجانسة، وكيف يكون الشيء الواحد أشياء متعددة؟ يكون ذلك كذلك لأنه في حقيقته ليس له حقيقة واحدة، بل حقائق مختلفة متعددة وأحيانًا متناقضة ومتصادمة. فكل هذه النظريات لها صحة بوجه ما، في أفق ما، في زاوية نظر معينة وفي لحظة تاريخية فارقة.
وعلى هذا ستكون الإجابات واسعة ومتنوعة للسؤال الخطير: لماذا أكتب؟ فثمة من يراها فعلًا اجتماعيًا تأثيريًا، ومن يراها تعبيرًا عن قلق داخلي ومشاعر خفية، ومن يراها محاولة للوصول للنموذج الأعلى والمثال الأسمى، ومن يراها وسيلة لإيجاد عالم أفضل.
وهناك من يراها – كعبارة كافكا – حالةً تصوفية، شكلًا من أشكال الخشوع والتوجّد، نمطًا من أنماط المعاناة اللذيذة والمقاساة المحبّبة والرجاء بانفراجة قريبة في الأفق.
هذه الحالة الوجودية الهائلة هي التي دعت شعراء مثل ابن الفارض والحلاج وغيرهما إلى اتخاذ لغة مغايرة عن الآخرين، لغة تستمدّ شعاعها من الاصطلام والغياب والخشوع والعشق الخاصّ، وعندهم تتحول الدوال بمدلولات جديدة ومغايرة عما في العرف اللغوي، تتحول إلى دلالات خاصة ومعجم جديد؛ إذ هي نوع من الانقطاع، نوع من العزلة، نوع من الانفراد بالمحبوب المطلق، وشيء لا يمكن وصفه والحيلولة إليه إلا بلغة بالغة الخطورة، بعيدة المجاز.
تنطلق التجربة هنا إلى قراءة الكون، إلى محاولة بدائية ولكنها هائلة لتفسير الوجود، إلى تذوق الجمال الكوني بكافة أبعاده وتجلياته وتمظهراته، إلى النظر في الأضداد والمتجانسات، والأشباه والنظائر، والتداخل والتخارج، إلى الصغير الذي لا يرى، والكبير الذي لا يرى أيضًا. إلى التماهي مع الوجود، إلى النظر في الدليل الذي يدلّل على نفسه، والموجود الذي يحاول تفسير وجوده، وإلى الكون والكائن، في الصور المتعددة والأبعاد المختلفة.
وهنا تصبح تجربة الكتابة تجربة حفيفةً بالمجهول، منطلقةً إلى فضاءات واسعة يتيحها التحام الذات بالآخر، والتحام الذات بالوجود، والتحام الذات بالذات.
ويكون في هذه التجربة كل شيء صالحًا أن يكون موضوعا للكتابة، كل شيء يمكن الكتابة عنه، مع اختلاف الزوايا، وتعدد الأوجه، وتغير النظرات والأساليب والإمكانات.
ويصبح هنا جواب: لماذا أكتب؟ هو: لأني أكتب، أو لأني أعيش.. أعيش لأكتب أو أكتب لأعيش، لا فرق كبير إلا فيما تحيله اللغة على اللغة، ويحمله الفضاء إلى الفضاء.
وإذا كانت هذه التجربة المحمومة للشعراء القدماء فإن تجارب آخرين تحيل إلى معانٍ أخرى، لا تبتعد عن هذا السياق: فهذا نزار في نصه الشهير المعنون بـ لماذا أكتب؟
يقول:
أكتب..
كي أفجر الأشياء، والكتابة انفجار
أكتب..
كي ينتصر الضوء على العتمة،
والقصيدة انتصار..
أكتب..
كي تقرأني سنابل القمح،
وكي تقرأني الأشجار
كي تفهمني الوردة، والنجمة، والعصفور،
والقطة، والأسماك، والأصداف، والمحار.
وبعد أن ينساق نزار بعد هذه السطور إلى الفعل الواقعي يعود إلى شغفه الوجودي الأول، ليقول: “لا شيء يحمينا من الموت، سوى المرأة.. والكتابة”. وبهذا تصبح الكتابة حياة للإنسان الكاتب، وجودًا له بعد أن يغيب وجوده الفيزيائي. تصير وطنًا له كما يعبر إدوارد سعيد، أو لنقل بالتعبير الشهير: تصبح الكتابة بديلًا له عن الحياة!
هذا في سؤال: لماذا أكتب؟ أما السؤال المهمّ الآخر: فهو: كيف أكتب؟
وهو سؤال يُفني فيه الكتاب والشعراء حياتهم وأعز أوقاتهم؛ إذ به يتحقق الفعل الكتابي ليصل إلى القيمة الأسمى في حضوره. وهذا السؤال المتعب جدًا يحتاج إلى سنوات من الجهد والعمل والتعب لكي يجيب الكاتب عنه، أقصد لكي يقدر الكاتب على معرفة الأدوات التي تمكنّه من الوصول إلى نصّه. إلى نصّه هو، نصّه المتفرد الخاص، وإلى التماهي مع هذا النصّ والالتحام به، تقول إيزابيل الليندي: “الكتابة مثل الشعوذة، لا يكفي أن أخرج الأرنب من القبعة، بل يجب عمل ذلك باحتراف ومتعة”.
وعلى هذا فالكاتب محتاج إلى أرضية كبيرة جدًا، من القراءات العالية، والمشاهدات الكثيرة، والتجارب الحقيقية التي يتكئ عليها، ثم يمضي حياته في محاولة تجاوزها والقفز فوقها بفرحة طفل ساذج، لكن فرحته لا تدوم إذ يكتشف بعد برهة من الانتصار المؤقت أن عليه أن يتجاوز نصّه الذي كتبه، نصّه السابق، أن عليه أن يكتب شيئًا جديدًا ومختلفًا ومغايرًا، وبهذا عليه أن يتجاوز نفسه.
يعود لتغذية ذاكرته بالقراءة والتجربة والنهم الحياتي والتأمل الوجودي مرة أخرى، ثم يحاول التجاوز. وهو إذن في دائرة لا تنفكّ، وفي بحث دائم عن الكيفية التي يصل بها إلى نصّه الهارب المجهول. وهنا تكمن لذّة الكتابة المطارَدة، أو بتعبير جبرا إبراهيم جبرا ومن قبله كازنتزاكيس : لذة معايشة النّمِرة! ومحاولة ترويضها والانتصار عليها.
ويهذا الدائرة، تصبح الكتابة مرضًا في صورة ما. مرضًا محبوبًا لا يريد الكاتب الشفاء منه، وكلما أحسّ بالمرض تداوى بالكتابة، وكما يقول المثل الأيرلندي: عندما تمتلك الإنسان حكّة الكتابة، لا يشفيه منها سوى كشطها بالقلم. ولكنها داء ودواء في الوقت نفسه! قرب وبعد، لذة ومقاساة، أو هي اقتراب واغتراب كما يرى درويش، أو هي الممكن واللا ممكن كما يعبّر أدونيس.
ولكن: أليست الكتابة وهمًا أحيانًا؟ بمعنى: ألا توهمنا الكتابة بالمعرفة! بامتلاك الحقيقة، توهمنا أننا وصلنا إلى الطريق، وفسّرنا ما يحتاج إلى تفسير. إذا وصلت الكتابة بصاحبها إلى هذا الطريق فإنها تفقد أجلَّ قِيمها، وأعز مكاسبها، ولذلك كان سقراط في وقت مبكر من تاريخ البشرية يحذر من الكتابة! لأنها سوف تُجهز على الذاكرة، وستدفع الناس للوثوق بحيازتهم للمعرفة!
وبعد؛ فإنّ معايشة هذه النَّمِرة، أمرٌ بقدر ما هو ممتع، فإنه مدعاة للقلق وإعادة النظر المتكرر. لا ندري. ربما يريد واحدنا أن يروّض النّمرة، فيكون فريسةً لها، قبل أن تنقذه الجغرافيا، ودون أن يعلم به التاريخ.