هناك جدل قديم يدور حول كلمة الترجمة نفسها، انقسمت معه العرب إلى من يزعم بأنها مفردة دخيلة، عنيتُ مفردة ترجمة وما يشتقّ عنها من تصريفات، وأنها في الأصل كانت كلمة معربة عن أصل فارسي، ومن أبرز القائلين بهذا الصولي في شرحه لكتاب أدب الكاتب، يقول: ” أصلُ هذه اللفظة فارسية وكذا الترجمان، وقد تكلمت بها العرب بعد أن عرّبتها”. وهذا قولُ متهافتٌ لاعتبارات عدّة، والأدلة على بطلانه متعاضدة. ومنهم، ولعل هذا الأرجح، من غاص في المدونة العربيّة نفسها باحثًا عن أصل الكلمة. مستأنسًا، في البدء، بقوله تعالى: “رجمًا بالغيب”. وهذا وإن كان يوضح الجذر العربيّ للكلمة بما لا يترك مجالا للشكّ، إلا إنه يُدخلنا في متاهة أخرى، إذ أنهم أقرّوا بأن الترجمة هي تفسير لسانٍ بلسان آخر، ولكنّ هذا التفسير داخلٌ فيه الظن والحدس و “الرجم بالغيب”. إذن فمن جهة الجذر اللغوي هناك من يقول إنها طارئةٌ على المعجم العربي من اللسان الفارسي. ومنهم من ذهب إلى أنها نابعة من المعجم العربي ذاته. أما من جهة المدلول فهناك شبه إجماع على أن الترجمة تعني، كما مرّ معنا، “تفسير الكلام” أو شرحه وتوضيحه وهي مقررة بهذا المعنى عند أهل اللغة كالفيروزآبادي في القاموس المحيط، والزبيدي في تاج العروس، وغيرهم.
لكنّ شيئا من الهشاشة وعدم الوثوقية ظلّ مرافقا لفعل الترجمة، متصلاً بها ويتماشى معها. حتى الكلام المنقول إلى العربية (المُترجم) صار لصيقا بالظن والتخمين. وذلك على تقدير أن المترجم نفسه راجمًا بالمعنى، أي محاولاً الالتفاف عليه وإخضاعه للسان الآخر المنقول إليه. بمعنى، ظلّ المترجم بترجُّمهِ هذا يحاول إصابة معنى ما في لسانٍ آخر. وعندما يكون الحال كذلك، فالإضافة في الكلام واردة، وحذف غوامض المعاني ممكنةٌ جائزة. مما جعل فعل الترجمة مطبوعًا بالتخمين والتجوّز في الكلام.
تاليًا لهذا نقول، أنه وإن ساغ القول إن الترجمةَ اقترنت منذ البدء بالحدس والظنّ، فلم يكن لهذا الاقتران أن يجري على أمّة العرب التي أولَت الترجمة عنايةً شديدة. فقد أدرك النَقَلة المترجمين الأوائل من هذه الأمّة أن أمر الترجمة مشتبك ومُشكل لا على مستوى نقل الألفاظ وحسب، بل على مستوى التعاطي مع المعاني ذاتها. حتى قال شيخ الفصحاء عمرو بن بحر الجاحظ “والشِّعر لا يُستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حُوّل تقطع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حُسنه، وسقط موضع التعجب، لا كالكلام المنثور”.(١) ومن القول باستحالة الترجمة إلى القول بإمكانيتها، مع ما فيه هذه الإمكانية من نضوب لماء الرونق، وذهاب بالبهاء، و إخلال بالمعاني. نجد هذا التجوّز عند الفيلسوف محمد السجستاني في كتابه “صوان الحكمة” عندما تحدث عن شعر هوميروس. يقول : “وقد نقل اصطفن شيئا من أشعاره من اللغة اليونانية إلى العربيّة، ومعلومُ أن أكثر رونق الشِّعر يذهب عنه في النقل، و جلّ معانيه يتداخله الخلل عند تغيير ديباجتها”( ٢).
والآن، عندما نسأل سؤالاً: متى بدأت الترجمة، في أيّ عصر ومِصر بدأ النقل؟ فالجواب هو أنها بدأت وقام سوقها، على الأرجح، على يد علماء الكلام. وليس من شأننا الآن الفصل في ما إذا هل كانت حركة الترجمة بأمر من الدولة أم لا، أم أنها بسبب ازدهار بيت الحكمة و ذيوع صيته، أم لعلّهم نقلوا ما نقلوا لكي ينهضوا بواجب تنقيح ما يتعارض مع الشريعة قبل شيوعها بين العامة لئلا تفسد عقولهم، فليس هذا المقام مقام مساءلة تاريخية لتلك الأقوال بل يهمنا القول إنهم، أعني علماء الكلام ، قاموا بوضع المصطلح العربي في مقابل المصطلح اليوناني . ولعل أول من تنبّه إلى هذا الأمر هو أيضًا أبو عثمان الجاحظ، فذكر في كتابه البيان والتبيين : “وهم تخيّروا تلك الألفاظ ( يقصد بذلك الإصطلاحات التي لم تكن العرب على درايةٍ بها من ذي قبل ) لتلك المعاني ( يقصد المعاني الفلسفية المستحدثة الطارئة على الثقافة العربيّة)، وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية مالم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفًا لكل خلف، وقدوة لكل تابع. ولذلك قالوا: العرض والجوهر، وأيسَ وليس، وفرقوا بين البطلان والتلاشي، وذكروا الهذية والهوية والماهية وأشباه ذلك”( ٣).
نريد أن نلفت النظر إلى أن اهتمام العرب، ومنذ البداية، بأمر الترجمة بلغ شأنًا عظيمًا. وأبرز ملامح هذا الاهتمام هو ما صدر عن بعض أهل النظر من ردّ مسؤول وتقريع بيّن عندما شوهد من بعض المترجمين المحدثين الذين لم يكونوا في عِداد الأبيناء من خروج سافر على قواعد الترجمة المصطلح عليها، وهم بهذا الانحراف ليسوا إلا نتيجة لمترجمين أوائل قدامى استخدموا كلمات وحشيّة غريبة من اللسان اليوناني دون وضع المقابل لها في العربيّة. فهذا أبو الريحان البيروني يكتب محتجًا منتقدًا هؤلاء في كتابه “تحديد نهايات الأماكن”. يقول: “ونحن نراهم ( يرمي بذلك إلى المترجمين الجُدد) يستعملون في الجدل وأصول الكلام والفقه والمنطق طرقه، ولكن بألفاظهم المعتادة فلا يكرهونها. فإذا ذكر لهم إيساغوجي وقاطيغورياس وباري أرمينياس و أنولوطيقا رأيتهم يشمئزون وينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت. وحُق لهم، فالجناية من المترجمين إذ لو نقلت الأسامي إلى العربية فقيل كتاب المدخل، والمقولات، والعبارة والقياس والبرهان، لوجدوا متسارعين إلى قبولها غير معرضين عنها”.
الملمح الثاني لاهتمام العرب في شأن الترجمة، هو كثرة النَقَلة المجوّدين، فقد ذكر الشهرستاني في كتابه الذائع الصيت “الملل والنحل” (٤) وبعد أن أفرد فصولاً في ذكر حكماء يونان وحكماء العرب، ذكر بضعة عشر ناقلاً ومترجماً إلى العربيّة من لغات أخرى. وقد أورد إبن النديم في كتابه المشهور “الفهرست”(٥) ما يربو على السبعة والأربعين مترجمًا عن اليونانية، وبضعة عشر ناقلاً عن الفارسية وثلة آخرين ينقلون عن السنسكريتية. وهذا أمرٌ أن لم يكن منعدمًا في الأمم الأخرى، فلا نظن أنه بلغ هذا العدد من النَقَلة.
الملمح الثالث، وهو لطيف المأخذ ويدل على اهتمام بالغ، أنهم يتراشقون التواصف بالعبارات المؤيدة إذا كانت الترجمة حَسنة دقيقة، وبالعبارات الجارحة الهازئة في حال ظهرت الترجمة ضعيفة رديئة. فنحن مثلًا نرى كبير المترجمين في زمانه، حُنين بن إسحاق، يصف ترجمة سرجيس الرأس عيني بأنها “ترجمة غير محمودة ” بل هي أحيانًا “ترجمة رديئة” وفي مواطنَ أخرى يصفها بأنها “ترجمة سوء”. وقد أورد تلك الأوصاف في رسالته إلى علي بن يحيى في ذكر ما ترجم من كتب جالينوس. وفي مقابل ذلك، يفصحُ، حُنين هذا، عن مكنون الودّ والرضا عن ترجمات أخرى ليصفها بأنها ” ترجمة مُرضية ” أو يبدي رأيه عن مترجم فذّ آخر بأنه ” كان جليلاً في ترجمته” كابن زرعه مثلًا. ومن دلائل الحرص على الترجمة، هو تغلغل تقييم الترجمات المبثوثة في ذلك العصر حتى في أحاديث أسمارهم في مجالس الإمتاع والمؤانسة التي يرتادها النظّار من أهل العلم والفكر. ولا خلافَ أن أشهر كتاب عرفه العرب في ثقافتهم يدوّن أحاديث الأدب والسمر هو “الإمتاع والمؤانسة” للأديب المتفلسف أبو حيان التوحيدي. هوذا ينقل لنا في كتابه الرائد مسامرة ليلية كان مدارها الحديث عن ترجمة ابن زرعه، فقال “وأما ابن زرعه فهو حسن الترجمة، صحيح النقل، كثير الرجوع إلى الكتب، محمود النقل إلى العربيّة ” وامتدّ الحديث إلى أن تحدثوا عن عيسى بن علي فتقاولت الألسن بأنه “حجةُ في النقل والترجمة” (٦).
أما الملمح الرابع الذي يشير إلى الاهتمام بشأن الترجمة، هو أنهم قاموا بنقد وإعادة الترجمة لا لترجمات الآخرين وحسب، بل لترجماتهم هم أنفسهم. دونك هذا حُنين بن إسحاق يخبرك أنه صحّح ترجمات كان قد قام بها عندما كان في حداثة السنّ، ثمّ أبدى فيها وأعاد فأجاد عندما تقدم في العمر والتأمت له عدّة من العلم صالحة، يقول عن أحد الكتب التي ترجمها: “ترجمتهُ وأنا شاب من نسخة خطيّة مشوّهة، ثم لما بلغت الأربعين من عمري طلب إليّ تلميذي حبيش أن أصلحها، بعد أن كنت قد جمعت قدرًا من المخطوطات اليونانيّة، وعند ذلك رتبت هذه بحيث نسقت منها نسخة صحيحة قارنتها بالنصّ السرياني ثم صححتها. وتلك عادتي التي اتّبعها في كل ما ترجمته ( ٧ )”. لاحظ أنّه يخبر عن نفسه أنه يقوم بهذا العمل في كل عمل أقبل عليه وترجمته، وهذه دلالة بيّنة على بالغ العناية التي منحوها للنقل والترجمة.
ومن أوجه العناية أيضًا، أنهم وضعوا المعايير الصارمة للترجمة ولمن ينهض بهذا الواجب. منها، ابتداءً، الإتقان الكامل للغة المنقول إليها، وهي العربيّة في هذا المقام. هذا حُنين ابن إسحاق -وتقدم الكلام عليه بأنه أمين المترجمين وكبيرهم- يذكر عنه ابن صبيعة في مصنّفه “عيون الأنباء في طبقات الأطباء” : “تحكى عنه في تعلمه اللغة العربية وإتقانها لها الحكايات، وأنه صنّف في اللغة العربية تصانيف حسنة”(٨). وإلى جانب ذلك، ومن ضمن معاييرهم الواجبة، إتقان اللغة المنقول عنها، يونانيّة كانت أم سريانيّة أو غيرها. فهذا ابن صبيعة في طبقاته يكمل حديثه عن ابن إسحاق أنه “أحكم اللسان اليوناني بما لا مزيد عليه”. وليس هذا وحسب، بل مزيدًا عليه، وبعد المعرفة باللغة المنقول عنها وإليها، يلزم الإحاطة والإلمام بالثقافة المنقول عنها، أو عن المؤلف الذي يترجم أو ينقل عنه. هذا ابن صبيعة مجددًا في نقله لأخبار حُنين بن إسحاق يذكر أنه ترجم معظم كتب جالينوس الطبيّة، وذاك لمعرفته شبه التّامة بأفكار جالينوس، يقول: “كان مهتما بنقل الكتب الطبية وخصوصا كتب جاليتوس حتى أنه في غالب الأمر لا يوجد شيء من كتب جالينوس إلا وهي من بنقل حُنين أو بإصلاحه لما نقل غيره، وإنما ذلك لفصاحته وبلاغته، ولمعرفته أيضا بآراء جالينوس ولتمهره فيها”
هكذا أولت العرب المعرفة المنقولة إليها هذا الاهتمام فصار جزءًا مهمًّا من مكوّنها الثقافي التراثي. والمعرفة المنقولة عنها المترجمة إلى لغات أخرى أيضا لا تقلّ أهمية. ولا أدل على أهميّة المعرفة المنقولة عنها ما حدث للمفكر السوداني جعفر إدريس( ١٩٣١ م ) عندما كان طالبًا في لندن عند كارل بوبر (١٩٠٢م – ١٩٩٤م)، من أن هذا الأخير يتحدث عن نظرية يظنها لأول مرّة تطرح، فقال إدريس: لكنّها موجودة في مدوّنتنا التراثية منذ مئات السنين، ردّ الأستاذ: هل قمتم بترجمتها لنا؟ لا، إذن فلتصمت.
(١) – أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، كتاب الحيوان، عبدالسلام هارون، دار الجيل ١٩٩٦.
(٢) – محمد بن الطاهر السجستاني، صوان الحكمة، تحقق عبدالرحمن بدوي، طهران، دار انتشارات فرهنك ١٩٧٤.
(٣) – أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبدالسلام هارون، بيروت دار الفكر، ب.ت.
(٤) – أبو الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر الشهرستاني، الملل والنحل، ضبطه وعلّق عليه كِسرى صالح العلي، مؤسسة الرسالة ناشرون، الطبعة الأولى ٢٠١٣
(٥) – ابن النديم، الفهرست، دار المعرفة للطباعة والنشر، ب.ت
(٦) – أبو حيّان التوحيدي، الإمتاع والؤانسة، صحّحه وضبطه وشرح غريبه خليل المنصور، منشورات محمد بيضون دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ب.ت.
(٧) – حُنين بن إسحاق، كتاب العشر مقالات في العين، دار المعارف ١٩٨٩
(٨) ابن أبي صبيعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، بيروت، دار الكتب العلمية، ١٩٩٨.