مقالات

من الدين إلى التراث .. بعض الأفكار حول أعمال طلال أسد

نادية فاضل - ترجمة: محمّد الحاج سالم

كلمات دلاليّة: دين، تراث، إناسة الإسلام، استشراق، خطابة

تلقى أعمال عالم الإناسة طلال أسد في السنوات الأخيرة قبولاً متزايدًا في مجال العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة الناطقة بالفرنسيّة. ففي فترة زمنيّة قصيرة نسبيًّا، تمّ نشر العديد من المقالات والأعداد الخاصّة من المجلاّت العلميّة التي تناولت أعمال من وصفه البعض بأنه “أكثر علماء الإناسة الأحياء تأثيرًا” (Landry, 2016 : 77) ([1]). وقد سعت العديد من هذه المنشورات الحديثة إلى التعرّف على أسباب ما يُسمّى الاستقبال “البطيء نسبيًّا” في المجال الأكاديمي الناطق بالفرنسيّة (Marzouki, 2015). ذلك أنّ الترجمات الأولى لأعمال طلال أسد لم تظهر إلاّ بعد عشرين سنة من نشر أعماله الرئيسيّة حول الدين (Asad, 1993). وإذا ما كان صحيحًا أنّ استقبال أعمال أسد في المجال الأكاديمي الناطق بالفرنسيّة لم يتمّ إلاّ مؤخرًّا، إلاّ أنّه من المهمّ الإشارة إلى أنّ الاعتراف به أكاديميًّا في الحقل الأنكلوسكسوني كان متأخّرًا هو أيضًا نسبيًّا. فعمل طلال أسد لم يفرض نفسه في النقاش الأكاديمي الأنكلوسكسوني حول دراسة الظواهر الدينيّة إلاّ مع بداية القرن الحادي والعشرين، وكان ذلك بطريقة تتجاوز إلى حدّ كبير مجرّد التقيّد الصارم بالاختصاص ([2])، وخاصّة مع النشر المتزامن تقريبًا لكتاب تشكّلات العلماني (Formations of the Secular (2003 ودراستين في النياسيّة الوصفيّة: سياسة التقوى (Politics of Piety 2005)، والمشهد الصوتي الأخلاقي (Ethical Soundscapes 2006)، من قبل طالبيْه صبا محمود وتشارلز هيرشكيند (Charles Hirschkind). ومن أجل فهمه، يجب أن يُوضع استقبال عمله في السياق الجيوسياسي لهجمات 11 سبتمبر 2001 واندلاع “الحرب على الإرهاب” وما أثاره ذلك من مناقشات هامّة حول الإسلام في العالم المعاصر.

ومن وجهة نظرنا، يجب قراءة مختلف مقالات أسد في مجال الإناسة وعلم اجتماع الأديان كسلسلة من الأفكار النقديّة على خطى الخطّ الحاسم لشخص مثل والتر بنيامين (Walter Benjamin). وفيما تعرّضت المعالم البارزة لهذه المقاربة البراديغميّة (Kuhn, 1996)، وخاصة في دراسة الظواهر “الدينيّة” و”العلمانيّة” للتعليق من قبل آخرين (Landry، 2016)، فإنّنا سنبحث هنا باهتمام خاصّ مفهوم التُراث كما تقترحه أعمال أسد، وخاصة في كتابه إناسة الإسلام (Asad, 1986b). فعلى الرغم من الانتقادات التي تعرّضت لها الخطوط النظريّة والمنهجيّة التي اقترحها أسد (Bangstad, 2009; Schielke, 2010)، فإنّها ألهمت عددًا كبيرًا من علماء الإناسة وعلماء اجتماع الأديان (ومن بينهم صبا محمود الأكثر شهرة في المجال الفرنكوفوني). وكخطوة أولى، سوف نقدّم لمحة عامّة عن عمل أسد بما يسمح بوضع عمله في ضوء المناقشات التي نهتمّ بها هنا. وفي مرحلة ثانية، سوف نركز على مسألة الإسلام، لاسيّما على كيفيّة ارتباط الإناسة التي اقترحها أسد بالنقاش الموجود مسبقًا في المجال الأنكلوسكسوني. وثالثًا، سوف ندرس القيمة الاستكشافيّة لمفهوم “التُراث” الذي طرحه أسد.

طلال أسد: في سبيل أنطولوجيا نقديّة للحداثة

لفهم عمل أسد، من المهمّ تفحّص سيرته الذاتيّة المميّزة والرائعة باختصار. وُلد طلال لأب يهودي نمساوي اعتنق الإسلام (الدبلوماسي الشهير محمّد أسد، وكان اسمه السابق ليوبولد فايس Léopold Weiss) وأمّ سعوديّة، ونشأ في بيئة تعدديّة في الهند وباكستان حيث طبعت تطوّرات منعرج النصف الثاني من القرن العشرين مساره الشخصي ([3]). وبالفعل، فقد شقّ طلال أسد طريقه نحو العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة في خضمّ عالم يخوض غمار التخلّص من الاستعمار، بعد أن حاول دراسة الهندسة المعماريّة. وقد بدأ دراساته في الإناسة في جامعة أدنبرة، قبل أن يناقش في أكسفورد أطروحة دكتوراه حول قبيلة الكبابيش في السودان تحت إشراف إدوارد إيفانز بريتشارد (Edward Evans-Pritchard). وقد بدأ موقفه النقدي تجاه الإناسة الدوركايميّة، التي كانت سادت حينها في بريطانيا، يتّضح منذ تلك الفترة. ومع مشاركته في نقد مفهوم البنية الاجتماعيّة كما طوّرها رادكليف براون (Radcliffe-Brown) (Scott, 2006 : 246-247)، فقد ركّز في أطروحة الدكتوراه على البنى الاستعماريّة ودورها الرئيسي في الانتظام السياسي للقبائل المحليّة.

وقد لعب هذا الاهتمام بالمسألة الاستعماريّة والطريقة التي تبني بها العلاقات الاجتماعيّة في الأقاليم المستعمرة دوراً حاسماً في مساره الفكري. فقد صُدم طلال أسد بعدم اهتمام علماء الإناسة في بريطانيا بالمسألة الاستعماريّة (Scott, 2006 : 259-260). وحسب رأيه، فإنّ عدم الاهتمام هذا هو أحد أعراض النقص في الفكر الوظيفي المهيمن، خاصة فيما يتعلق بمسائل السلطة. وبعد نشر أطروحته (Asad, 1970)، عاد بشكل أكثر منهجيّة لتناول هذه المسألة في كتابه الإناسة واللقاء الاستعماري (Anthropology and the Colonial Encounter,  1973). ومن المهمّ أن نلاحظ أنّ الأمر عند أسد، لم يكن يتعلّق بموقف أخلاقي أو استنكاري تجاه الإناسة، بل برغبة في التركيز على كيفيّة انخراط الشبكات المفاهيميّة لدراسة المجتمعات “الأخرى” في مصفوفة استعماريّة. لذا فهو يصرّ على أنّ معظم علماء الإناسة كانت لهم دومًا على المستوى الفردي، نظرة نقديّة تجاه المشروع الاستعماري، وأنّه من المهمّ بشكل خاصّ فهم العلاقة بين “المعرفة” و”السلطة” داخل حقل الإناسة (انظر أيضًا: Landry, 2016)، ومن هنا اهتمامه بالخطابات والأجهزة في السياق الذي اختطّه ميشيل فوكو (Michel Foucault). ويقطع أسد مع نوع من النياسة الوصفيّة يقتصر على وصف أو إعادة بناء مقولات “محليّة” (مقولات تأويليّة emic categories). وبانخراطه بصورة أكثر تحديداً في التقاليد الماركسيّة والفيتغنشتينيّة والفوكويّة، فإنّه فهم التصوّرات السائدة على أنها خطابات منخرطة في علاقات القوى التي تبني الواقع الاجتماعي. ومن هنا، فإنّ مهمّة عالم الإناسة هي فهم كيف تغدو مفاهيم الحقائق الاجتماعيّة وتأويلاتها مؤثّرة وشرعيّة. وهذه مشروع يتطلّب، كما نعرف، تقصّيًا كاملاً لنسابة المفاهيم وخطاطات التأويل التي تتبلور في العديد من الممارسات والمؤسسات ([4]). هذا ما يُسمّيه أسد “الخطاب الرسمي”، وهو مفهوم سيكون في صلب مشروعه النقدي (Asad, 1979). وفي هذا المنظور، تُعتبر الإناسة بمثابة دراسة حالة بحدّ ذاتها. وبالفعل، فإنّ الكثير من أعمال أسد مكرّس لمساءلة بعض المفاهيم الإناسيّة، خاصّة داخل التقاليد التأويليّة والرمزيّة. ويُوجد عنصران يُحرّكان هذا الموقف النظري والمعرفي. الأوّل يحمل نقدًا للطابع الثقافوي الذي يحدّد مسبقًا هذا الموقف النظري، أي القول بوجود مجال رمزي يُؤثّر بشكل مستقلّ على الواقع الاجتماعي. والثاني هو الدور المتميز الممنوح لعالم الإناسة، والذي يُصوَّر بأنّه مفكّك رموز (Asad, 1986a). فطلال أسد يتمايز عن إناسة يُمكن أن تكون قادرة على تصنيف و”اكتشاف” بنى و/أو حقائق اجتماعيّة يكون الفاعلون فيها غير واعين بها. إنّه يرفض فكرة “لاوعي” ثقافي أو رمزي ويتبنّى قراءة أفقيّة تُحاول فهم كيف تنخرط علاقتنا بالواقع في لعبة المعرفة/السلطة. وهو أيضًا أحد علماء الإناسة الذين أدخلوا الانعطاف الانعكاسي (reflexivity turn) إلى الإناسة الأمريكيّة من خلال المساهمة في الكتاب الشهير ثقافة الكتابة (Writing Culture) (Clifford, Marcus 1986)، والذي يُسائل بشكل نقدي فكرة التمثّل الإثنوغرافي وسلطته. فبالنسبة لأسد، فإنّ الهدف لا يقتصر على تحليل موقف عالم الإناسة، بل كذلك فهم أنّ مقولاته مثل الدين أو الطقوس أو الجسديّة (corporéité) هي سليلة إطار خطابي مخصوص. ولعلّ المثال الأكثر شهرة لهذا الموقف النقدي هو التفكيك الذي اقترحه لمقولة “الدين” في مقالته الشهيرة “بناء الدين باعتباره مقولة إناسيّة” (The construction of religion as an anthropological category) (Asad, 1993 – انظر أدناه) ([5]).

وبمجرّد إقرار هذه المنهجيّة، عمل أسد على تطبيقها بشكل تجريبي، وتجدر الإشارة إلى أن الواقع “التجريبي” الذي درسه أسد لا يقتصر على الممارسات اليوميّة للرجال والنساء كما يفعل علماء الإناسة عادةً، بل هو يركّز أيضًا (وخاصّة) على الإنتاج الفكري. وبالترابط مع موقفه النقدي، يُعاود أسد التساؤل عن الفرق بين “الملاحظة” أو “الوصف” من ناحية و”النظريّة” من ناحية أخرى. ورغم أهميّة الإناسة الوصفيّة في نظر أسد، إلاّ أنها تظلّ عنده أداة لفهم الطريقة التي يتمّ بها دومًا تحريك الممارسات اليوميّة – حتى أكثرها لاوعيًا وآليّة – و”إشباعها” بمواقف نظريّة (Berthod, 2007).

أهميّة الإسلام بوصفه “موضوعًا” إناسيًّا أو اجتماعيًّا

دعونا أولاً نذكر السياق الذي كُتب فيه المقال الشهير “فكرة من أجل إناسة الإسلام” (The Idea of an Anthropology of Islam) (1986) ([6]) وما أعقبه من مناقشات حول “الهمّ المعرفي” الذي يُشكّله الإسلام. لقد كان تناول الإسلام كموضوع تفكير أخلاقي وابستمولوجي وسياسي في المجتمعات الغربيّة ثمرة منشورات عديدة قد تكون دراسة الاستشراق (Orientalism) لإدوارد سعيد (1978) أكثرها شهرة. وفي هذا المنظور نفسه، حاول العديد من الباحثين بيان كيف يظهر الإسلام كمقولة “أخرى” لـ”الغرب” في التمثّلات الثقافيّة والفكريّة (Amiraux, 2012; Anidjar, 2003; Hajjat, Mohammed, 2013; Said, 1997)، لاسيّما من خلال مساءلة نظريّات العلمنة (Babès, 1997; Dassetto, 1996; Roy, 2002; Amiraux, 2002; Bracke, Fadil, 2008). ففي كتابه عن علاقة ماكس فيبر (Max Weber) بالإسلام، يشير عالم الاجتماع برايان تيرنر (Bryan Turner 1974) إلى أنّ فيبر وإن كان اهتمّ بشكل متسرّع بالإسلام، فإنّ ذلك كان بالأخصّ من أجل “ختبار” صلاحيّة الإسلام وشموليّة نظريّاته حول الحداثة والعلمنة. ذلك أنّ فيبر يرى أنّ عمليّات التحديث والعلمنة ترتبط بالفعل ارتباطًا وثيقًا بالأخلاق البروتستانتيّة (Weber, 2001) التي تسمح بإضفاء طابع فردي على روح الأخلاق وإضفاء قيمة على العلاقة النشطة بالعالم (الحياة الدنيا).

وفي حين تتعرّض هذه القراءة الاستشراقيّة لكثير من الانتقادات، إلاّ أنّ “الهمّ المعرفي” الذي يُشكّله الإسلام ما يزال يجد أصداءً في العلوم الاجتماعيّة. فمسألة ما هي شروط الحديث عن علم اجتماع الإسلام وما إذا كانت المقولات الغربيّة للعلمنة والفردنة متوافقة معه (Babès, 2000 ; Charnay, 1995 ; Dassetto, 1996 ; Hamès, 1999  – وانظر مساهمات أخرى في هذا العدد من المجلّة) ما تزال حيّة. وفي العالم الأنكلوسكسوني، يتركّز السؤال في الإناسة على مسألة ما إذا كان ينبغي اعتبار الإسلام موضوعًا مستقلًّا بذاته في التحليل الاجتماعي ([7]). ويُعتبر صدور كتاب الإسلام ملاحظًا (Islam Observed) لكليفورد غيرتز (Clifford Geertz) في عام 1968 خطوة مهمّة في سبيل هذه الرؤية. ويتساءل عالم إناسة إندونيسيا والمغرب عن خصوصيّة المجتمعات الإسلاميّة، ويُفسّرها بوجود “قوة باطنيّة” (mystical power) يمكن ممارستها بشكل مختلف وفقًا للسياقات (Geertz 1968 : 24). وبطرحه النقاش بهذه المصطلحات الدقيقة، يعتبر غيرتز الإسلام نظامًا رمزيًّا يُعطي معنى خاصًا للسلوكيّات الاجتماعيّة. وسيؤثّر تحليله على باحثين آخرين تابعوه في الاهتمام بكيفيّة ممارسة هذه القوة الباطنيّة (من خلال شخصيات الصلحاء أو الأولياء الصالحين) ممّا يسمح بظهور قوّة (مضادّة) في التعبئة الاجتماعيّة (Eickelman, 1976 ; Gilsenan, 1982). ويُمثّل كتاب المجتمعات المسلمة (Muslim Societies) لإرنست غيلنر (Ernest Gellner) الصادر في عام 2000 مثالاً آخر على دراسةٍ تُحاول الإحاطة بـ”خصوصيّة إسلاميّة”، ولكن بطريقة أكثر حتميّة. ففي نظر غيلنر، تتميّز المجتمعات الإسلاميّة بتجانس خصوصي ناتج عن بنية اجتماعيّة متميّزة تعتمد على توازن ثلاثة عناصر أساسيّة: “الأمّة” و”السلطة الكتابيّة” (أي الكتب المقدّسة)، وفكرة “الإمام” و”النَّسَب”. (Gellner, 2000 : 195).

وسيكون هذا المنهج في طرح المسألة، وخاصّة االقول بوجود خصوصيّة مسلمة، موضوع العديد من التعليقات. وفي حين كان البعد الجوهراني الناشئ عن هذا الموقف في صميم مختلف الانتقادات (El-Zein, 1977; Varisco, 2005; Zubaida, 2006)، طرح البعض أيضًا إشكاليّة السلطة التي يدّعيها علماء الإناسة لتعريف ما يمكن فهمه على أنّه “الإسلام الحقيقي”. ويُمثّل المقال الذي كتبه عالم الإناسة عبد الحميد الزين (El-Zein 1977)، وهو أحد أكثر النصوص شهرة وتبنّاه طلال أسد لاحقًا بكلّ وضوح، مثالاً على ذلك. ففي مناقشة الزين للأدبيّات الموجودة، يُشير إلى أنّ الأعمال الإناسيّة غالباً ما تتميّز بتوجّه مستمرّ نحو التمييز بين الإسلام “الحقيقي” (والذي يُماهى غالباً مع الإسلام الشعبي) والإسلام “المغلوط” (والذي ما يُفهم غالبًا على أنه إسلام النخبة). وبهذا، تضع الإناسة نفسها في نفس مستوى اللاهوت من خلال ادّعائها القدرة على تحديد ما هو الإسلام (El-Zein 1977 : 248-249). ورغم التنوّع المتزايد في مجال الوصف النياسي، فإنّ مختلف التحليلات تميل إلى تجميع هذه الظواهر الواسعة تحت قاسم مشترك (الإسلام) والتأكيد على الخصائص المشتركة. وهذا ما يقود الزين إلى طرح السؤال التالي: “في ضوء هذا التنوّع في المعاني، هل يمكننا الحديث عن إسلام واحد حقيقي؟” (1977 : 249 El-Zein). يعترف الزين بكلّ وضوح بوجود مرجع رمزي إسلامي يشترك فيه مختلف االفاعلين الاجتماعيّين: ويهدف استدلاله بشكل أساسي إلى التشكيك في فكرة وجود كيان إسلامي متجانس يمكن أن يكون موضوع تحليل اجتماعي (انظر أيضا: Anjum, 2007) صالح لجميع المجتمعات المعنيّة.

وفي ضوء هذا السؤال، يتّخذ أسد موقفه في النقاش الأكاديمي الأنكلوسكسوني، وذلك باقتراح قراءة على مرحلتين. الأولى هي الدحض بشدّة – لاسيّما من خلال نقاش نقدي لعمل غيلنر – لوجود ما يُزعم أنّه بنية اجتماعيّة “مسلمة” من خلال الإشارة إلى العديد من التناقضات في هذه الفرضيّة الجوهرانيّة ([8]). ذلك أنّ المجتمعات المسلمة، كما يُوضّح، تتخلّلها تشكيلات تاريخيّة متمايزة (مثل الرأسماليّة أو الاستعمار) لا تقتصر على الشرق الأوسط (Asad, 1986b : 15). وإذ يُشير إلى أهميّة التاريخ والسلطة، يدعونا أسد إلى فهم الظواهر الاجتماعيّة (على سبيل المثال، البنية القَبَليّة) بوصفها نتاج اقتصاد سياسي معيّن لا يمكن إسقاطه على “الإسلام” برمّته. ومع ذلك، فهو لا يتخلّى عن فكرة أنّ الإسلام يمكن أن يكون موضوعًا للتحليل، وهو ما يقودنا إلى البعد الثاني من نصّه. ففي نظر أسد، يحتفظ الإسلام ببعض الوجاهة باعتباره “تمثّلاً خطابيًّا” (Asad, 1986b : 16) يُحقّق تماسك بعض السلوكيّات الاجتماعيّة، كما يصوغه الفاعلون أنفسهم. ولذلك من الضروري فهم الطريقة التي يبدو بها “الإسلام” قادرًا على أن يُوجد سوسيولوجيًّا، دون أن نجعل منه بالضرورة ماهيّة بوصفه ظاهرة اجتماعيّة متمّيزة (Asad, 1986b : 19-20). ومن خلال فكرة “التُراث الخطابي” هذه، سيُحاول أسد تقديم عناصر إجابة على هذا السؤال.

الإسلام بوصفه “تُراثا خطابيًّا”

لفهم اقتراح طلال أسد، من المهمّ وضع مشروعه في إطار محاولة أشمل لـ”أقلمة” (Chakrabarty, 2000) شبكات القراءات الإناسيّة (*). ويُعدّ نقده الرئيسي لمقولة “الدين” من خلال تفكيك التعريف الذي اقترحه كليفورد غيرتز (Asad, 1993)، هو المثال الأكثر شهرة (انظر أيضًا: Fiorentini, Rebucini, 2015 ; Scott, Hirschkind, 2006). ومن خلال مهاجمة تعريف غيرتز، فإنّ أسد لا يهاجم فقط أحد أكثر التعريفات نفوذاً في تلك الحقبة، بل يُهاجم أيضًا مقاربة رمزيّة كانت سائدة في أدبيّات ذاك العصر. ذلك أنّ إناسة الفعل البشري هذه هي التي تقوم عليها نظريّة غيرتز للدّين بوصفه نظامًا رمزيًّا. وفكرة وجود مجال رمزي من شأنه أن يكون مستقلاًّ ويمكن أن يُؤثّر في الفعل الإنساني، هي فكرة خاطئة عند أسد لأنّها تتجاهل التجسّد المادّي الذي يسمح بفعاليّة “الرموز”. فبعض التمثّلات لا تتجسّد ولا يمكنها أن تُوجّه العمل الإنساني إلاّ من خلال ممارسة (أو صناعة).

ومع ذلك، فإنّ المشكلة الأساسيّة […] تكمن في افتراض مستويْين منفصليْن – ثقافي من جهة أولى (يتكوّن من رموز) واجتماعي ونفسي من ناحية أخرى – يتفاعلان […]. وبتبنّي مثل هذا التعريف، يبتعد غيرتز عن منظور يتضمّن الرموز بوصفها ضروريّة لممارسات المعنى والتنظيم (لكي يقترب من) فكرة الرموز التي تُفهم على أنها تحمل معانٍ خارجة عن الشروط اجتماعيّة وعن الحالة الذاتيّة” (Asad, 1983 : 118).

ومن خلال انتقاداته، يُحاول أسد إبراز حقيقة أنّ هذه القراءة الرمزيّة لها تاريخانيّة خاصّة بها. وهي يرى أنّ فكرة أن يكون الدين نظام اعتقاد مستقلّ عن “الظروف الماديّة” هي نتاج قراءة حداثويّة تعمل من خلال سلسلة من التمايزات والتعارضات بين “الرمزي” و”المادّي”، أو بين “البنية التحتيّة” و”البنية الفوقيّة “(انظر أيضًا: Latour, 1993). وهنا بالذّات نُدرك النقد الأساسي الذي يُوجّهه إلى مقولة “الدين”. وإذا ما كان منتقدًا للتعريف الذي اقترحه غيرتز، فهذا ليس (فقط) بسبب تمركزه العرقي ([9])، بل بشكل خاصّ لأنّ فكرة “الدين” ذاتها هي ثمرة تاريخانيّة خصوصيّة.

لكن هذا الفصل بين الدين والسلطة هو معيار غربي حديث، ونتاج فريد لتاريخ ما بعد الإصلاح. […] وحجّتي في ذلك أنّه لا يمكن أن يكون هناك تعريف شامل للدّين، ليس لأنّ هذه العناصر التأسيسيّة محدّدة تاريخيًّا، بل لأنّ التعريف نفسه هو نتاج مسار خطابي” (Asad, 1993 : 116).

كل هذا يعيدنا إلى نقطة مركزيّة في الإناسة الدينيّة عند أسد والتي طورّها بشكل أكثر دقّة في كتابه تشكّلات العلمانيّة (Formations of the Secular 2003)، ونقصد فكرة أنّ مفهوم “الدين” يجب أن يُفهم باعتباره نتاج مسار خطابي حديث. ففي نظر أسد، فإنّ السياق الحديث والعلماني هو الذي يُنتج “المسألة الدينيّة” والفصل بين “المجالات” (انظر أيضًا Agrama 2012، Anidjar 2008، Fernando 2014). وهذا الموقف البنائي ليس جديدًا تمامًا: فهو موجود في المناقشات السوسيولوجيّة خلال السبعينيّات المشكّكة في نموذج العلمنة (Lauwers, 1974 ; Martin, 1969) أو في الكتابات حول العولمة (Beyer, 1994). وما يميّز عمل أسد هو رغبته، متابعًا في ذلك خطّ فوكو، في إضفاء طابع تاريخي على ظهور هذه المقولات وتسليط الضوء على عملها في علاقة بالسلطة والمعرفة ([10]).

وإذا ما ظهر مفهوم “الدين” بشكل أساسي كمقولة تاريخيّة في فكر أسد، فإنّه يقترح من خلال فكرة “التُراث الخطابي”، أداة استكشافيّة لدراسة ظواهر مثل الإسلام. “ما هي إناسة الإسلام؟“. على هذا السؤال يجيب أسد بما يلي:

على من يُريد أن يكتب إناسة الإسلام أن يبدأ، كما يفعل المسلمون، من مفهوم التراث الخطابي الذي يتضمّن النّصوص التأسيسيّة للقرآن والحديث ويربط نفسه بها. فالإسلام ليس بنية اجتماعيّة مميّزة ولا مجموعة متنافرة من المعتقدات والفنون والعادات والأخلاق. إنّه تُراث” (Asad, 1986b : 14).

يدعم أسد متخيّلاً إسلاميَّا مهيمنًا يعتبر القرآن والسنّة عمادتين أساسيّتين للتراث. كما يُصرّ أيضًا على تاريخانيّة المفاهيم والممارسات والمناقشات التي تُسند هذا التُراث (Asad, 1986b : 14). وفي هذه المرحلة، يُعارض أولئك الذين يريدون أن يكون الإسلام “بنية اجتماعيّة مميّزة” أو “مجموعة غير متجانسة من المعتقدات والفنون والعادات والأخلاق“. هذا النفي المزدوج يُذكّرنا بالموقف الوسيط الذي يرغب أسد في تبنّيه من خلال مفهومه للتُراث الذي يجب أن يمكّننا من التعامل مع الإسلام بجديّة كموضوع للتحليل دون تشييئه (انظر أعلاه). فأسد يرفض بعبارات واضحة فكرة التراث بوصفه “حيلة” (1986b : 15) أو “اختراعًا” (Hobsbawn and Ranger 1983). والأمر يتعلّق بالأحرى باستيعاب التراث في تناسقه وطابعه الإنشائي، ومن هنا جاءت فكرة “التُراث الخطابي”. ويستأنف هذا الوصف، الذي اقترضه جزئيًّا من آليسداير ماكنتاير (Alisdair MacIntyre 1984 [1981])، الفكرة الأرسطيّة القائلة بأنّ كل سلوك أخلاقي (الفضيلة) يجب أن يُنظر إليه كممارسة تنخرط في سرديّة أوسع (ما يُسمّيه “التُراث الاجتماعي”). وقد سعى ماكنتاير إلى تطوير فلسفة أخلاقيّة تتمايز عن الفلسفة الأخلاقيّة لعصر الأنوار التي اعتبرها مغلوطة لقيامها على أساس فرداني وعاطفي. وكان لاقتراحه استكشاف المسألة الأخلاقيّة من خلال سلسلة من الممارسات تأثير كبير على عمل أسد. ولنلاحظ أيضًا تأثير فوكو الذي يُتيح قراءة غير جوهرانيّة للإسلام مع مراعاة فكرة اتّساق داخلي وفق مبدأ التقييد الدلالي (Foucault, 1969) ([11]).

إنّ فهم الإسلام باعتباره “تُراثا خطابيًّا” هو أيضًا طريقة لفهم كيف يُشكّل الناس أنفسهم بوصفهم ذواتً أخلاقيّة (انظر أيضًا: Fassin, 2015 ; Foucault, 1984 ; Keane, 2016 ; Laidlaw, 2014 ; Lambek, 2010). لذلك من المهمّ التأكيد على أنّ فهم الإسلام كتُراث خطابي يفترض مسبقًا التمييز بين المسلمين والإسلام وإعادة تعريف واضحة جدًّا لما يمكن أن يكون موضوع تحليل في إناسة الإسلام: إنّه ليس المسلمون بل العلاقة التي يُقيمونها مع الإسلام. ويشرح أسد بالفعل أنّ “كلّ ما يقوله ويفعله المسلمون ليس جزءًا من التُراث الخطابي الإسلامي” (Asad, 1986b : 14). وبطرح هذا التمييز، فإنّ أسد لا يقدم تمييزًا منهجيًّا يتمايز فحسب عن دراسات ما يُسمّى المجتمعات “المسلمة”، بل يُذكّرنا أيضًا بأن موضوع “الإسلام” لا يغدو ذا وجاهة إلاّ حين يُستحضر بوضوح بوصفه طرفًا فاعلاً في ممارسة يقوم بها المسلمون أنفسهم (انظر أيضًا: Mahmood, 2015). ذلك أنّ الممارسة كما يُوضّح أسد “تغدو إسلاميّة لأنّها مقبولة من التراث الخطابي للإسلام ولأنّها تُعلّم للمسلمين” (Asad, 1986b : 15). ومن المهمّ التأكيد هنا على أنّ الأمر لا يتعلّق بمجرّد اختيار شخص ربط ممارسة مّا بالتراث الإسلامي، إذ يقتضي اعتبارها إسلاميّة أيضًا الاعتراف بها اجتماعيًّا جزءًا من التُراث. لذا، فنحن بعيدون هنا عن المنهج الفردانيّ الذي يعتبر الفاعل هو من يُضفي المعاني. بل إنّ الفرد بدلاً من ذلك، هو من ينخرط في إطار خطابي مخصوص هو ما يُهيكل سلوكه الاجتماعي. ومن هنا، فإنّ التحدّي يتمثّل في فهم مختلف المناقشات التي تُصاحب عرض بعض الممارسات أو الأفكار أو إدراجها على أنها “مسلمة”.

ويقودنا هذا العنصر إلى جانب هامّ أخير في تصوّر مفهوم “التُراث الخطابي” في عمل أسد، وهو مفهوم الأرثوذكسيّة. ورغم أنّ أسد يفهم التراث الإسلامي على أنه مجموعة من التأويلات غير المتجانسة، إلاّ أنّه يصرّ على أنّ مختلف المنظورات أو الآراء التي تتضمّنها لا تحظى بنفس الوزن أو الدور المهيكِل – وهذا ما يربطه بالسلطة (1986b : 15). فمن المهمّ أن نفهم أنّ فكرة الأرثوذكسيّة عند أسد لا تتمثّل في سلسلة من العقائد أو الحقائق التي يُنظر إليها على أنّها ثابتة، بل في لعبة علاقات قوّة تُبنى من خلالها مسألة الحقيقة. لذلك، يُعدّ النزاع والنقاش جزءًا لا يتجزّأ من التراث، لأنّه من خلال ذلك يتمّ توليد السؤال حول ما يمكن اعتباره الحقيقة. ففي نظر أسد، فإنّ مختلف المجادلات التي تُحيط بتفسير القرآن أو ببعض الأساليب التأويليّة لا تقوم دليلاً على وجود “أزمة” في الإسلام، بل دليلاً على وجود تُراث “حيّ” (Asad, 1986b : 23). ومن خلال فكرة التراث هذه، تتجلّى مقاربة تنأى بنفسها عن الانتقادات المعادية للجوهرانيّة عن طريق تناول “الإسلام” (لا المسلمين فحسب) موضوعًا للدراسة، ويتمّ من خلالها فهم الإسلام بشكل خاصّ بطريقة معقّدة بوصفه جهازًا أو تُراثًا، هو ما يغدو موضوعًا للدراسة السوسيولوجيّة والإناسيّة منذ اللحظة التي يستدعيه فيها المسلمون في ممارساتهم اليوميّة.

في سبيل إناسة/علم اجتماع لـ”الدنيوي” ولـ”التراث”؟

تستدعي إناسة طلال أسد، وبشكل خاصّ مفهومه عن “التراث”، سلسلة من “الانزياحات” النظريّة (Fiorentini, Rebucini 2015) تجاه موضوع الدراسة، وخاصّة في طريقة العلوم الاجتماعيّة في معالجة الظواهر المسمّاة “دينيّة”. ولا يُعتبر التشكيك في الأهميّة التحليليّة لمقولة “الدين” مثيراً للجدل فحسب (Anidjar, 2008). ففي نظر أسد، فإنّ التحدي يكمن في تطوير منهجيّة تعمل في نفس الوقت على تحويل زاوية التحليل نحو دراسة المسارات الخطابيّة الحديثة، والتي يُعدّ الدين نتاجها. وستسعى هذه المنهجيّة إلى فهم كيف تطرح الحداثة (وعمليّات العلمنة) “الدين” كمسألة معرفيّة وسياسيّة وأخلاقيّة، ممّا يعني أيضًا إعادة تشكيل التراثات القائمة، مثل الإسلام. وتمثّل دراسة حسين علي عجرمة، “مُساءلة العلمانيّة” (Questioning Secularism 2012) (*)، مثالاً جيّدًا على ذلك، إذ يقترح تحليلاً إناسيًّا للتحوّلات الماديّة والخطابيّة للشريعة في مصر المعاصرة. ويقع مفهوم الشريعة في قلب التراث الإسلامي ويُشير إلى مجموعة واسعة من الوصايا والرؤى حول السلوك الأخلاقي المسلم المناسب في مختلف مدارس الفكر السّني والشيعي. ويهتمّ عجرمة من ناحية أولى بالطريقة التي تستتبع بها مسارات التحديث إعادة تشكيل الشريعة، ومن ناحية أخرى، بالتطورات الجزئيّة التي تعرفها هذه الأخيرة وهي تُواجه المبادئ الحديثة لـ”عقل الدولة” و”النظام العام” و”المواطنة”. وفي نظره، فإنّ هذه الديناميكيّة تؤدّي إلى تحوّل لا يمسّ الطبيعة العمليّة للشريعة فحسب بتحوّلها إلى “قانون” (انظر أيضًا: Messick, 1993)، بل يطال أيضًا العلاقة القائمة بين الذات الأخلاقيّة والأحكام الإسلاميّة. ولعلّ إحدى أكثر الحالات رمزيّة التي درسها هي حُكم الردّة الذي طال نصر حامد أبو زيد من قبل السلطات المصريّة بسبب كتاباته عن القرآن، قبل أن يُقال من منصبه في جامعة القاهرة نتيجةً لذلك ويُلغى زواجه.

ويوضّح هذا المثال، وفقًا لعجرمة، كيف يقوم مفهوم قرآني (الحسبة) حين يُقرن بالمبادئ الحديثة لـ “عقل الدولة”، بتحديد “نظام عامّ” إسلامي ذي طابع قسري وقمعي ([12]). ويرى عجرمة أنّ هذا النوع من القضايا لا يعني رفض التحديث بقدر ما هو تحديدًا نتيجة التحديث. وكمثال آخر لدراسة تحاول أن تفهم كيف تُعيد الأطر الخطابيّة الحديثة تشكيل الإسلام، نُشير إلى عمل مايانتي فرناندو (Mayanthi Fernando) (Fernando, 2014) الذي يتناول الإسلام والعلمانيّة في فرنسا، ويقترح تحليلًا معقّدًا لمختلف مواقع تدخّل العلمانيّة في ضبط الإسلام ولمختلف التناقضات التي تشقّه، مع التركيز على البعد السياسي والمواطني لهذه التحوّلات وكيفيّة عمل خطاب “الحياد” بوصفه خطابًا ضابطًا للإسلام في فرنسا (انظر أيضًا Amir-Moazami 2007، Bowen 2008، Scott 2007). إنّ مختلف التدابير التقييديّة المطبّقة – وأشهرها هو قانون ستازي (Stasi) المعروف باسم “قانون مكافحة الحجاب” لعام 2004 – تُثير بالفعل حالة من الضيق تجاه إظهار العلامات الدينيّة (وخاصّة الإسلاميّة) في الأماكن العامّة (انظر أيضًا: Bracke, 2013 ; Fadil, 2014). لكن بدلاً من افتراض التناسق في تطبيقه، يحاول فرناندو إظهار أنّ التطبيق كان أبعد عن أن يكون واحدًا في جميع الحالات. ومن خلال التناقضات في الموقف تجاه المسيحيّة، كما يتّضح من نموذج منطقة الألزاس موسيل (Alsace Moselle)، حيث تعترف الدولة بمدارسها الدينيّة (انظر أيضًا: Asad, 2006)، والموقف تجاه الرعايا المسلمين الذين يُطالَبون بحصر استخدام العلامات “الظاهريّة” لدينهم (مثل الحجاب) على  الفضاء الخاصّ مع الإشارة إليهم دومًا بوصفهم “مسلمين”؛ يُوضّح فرناندو أنّ النموذج العلماني تخترقه سلسلة من التناقضات في داخله، وهي تناقضات تدور دائمًا حول مسألة العلاقة بين “الديني” و”الدولة”. وتُعدّ دراستا عجرمة (Agrama 2012) وفرناندو (Fernando 2014) مجرّد مثالين على البحث الذي يحاول فهم كيفيّة اشتغال عمليّات التحديث العلماني من خلال الضبط المستمرّ للمسألة “الدينيّة”. وقد حظيت إعادة الصياغة النظريّة والمنهجيّة هذه بعديد من الدراسات (لم تكن جميعها مرتبطة بالإسلام) التي تقترح إناسة وعلم اجتماع حقيقيّين لـ”العلمانيّة” (Cannell, 2010) سواء تعلّق الأمر بطريقة ضبط الدين من خلال المؤسّسات مثل النظام القانوني (Mahmood, 2016 ; Sullivan, 2009)، أو بالمجال العلمي (Johansen, Spielhaus, 2012; Schepelern Johansen, 2013) أو مجال العلاقات الدوليّة (Hurd, 2007).

ويتمثّل الانزياح المنهجي الثاني الناتج عن مفهوم “التراث الخطابي” في اقتراح إناسة لا تهتمّ بالمعتقدات أو العناصر العقائديّة لنظام الاعتقاد قدر الاهتمام بالطريقة التي يتم بها التفاوض حول التراث وتجسيده في الحياة اليوميّة. ويتعلّق الأمر هنا بفهم كيف تتشابك توجّهات أخلاقيّة من خلال انخراط نشط (أي خطابي وجسدي) مع سلسلة من تساؤلات خاصّة بالتراث. وبالتالي، فإنّ فهم التُراث يعني دراسته وهو “قيد الفعل” (Latour، 1987) وفهم كيف تتشكّل الأخلاقيات من سلسلة تساؤلات هي أيضًا ذات بعد “عملي” و”نفعي” ([13]). ومن الدراسات الرائدة (وغير المعروفة إلاّ قليلاً في العالم الناطق بالفرنسيّة) التي استكشفت هذه المسألة بالتفصيل، دراسة جون بوين (John Bowen) بعنوان المسلمون من خلال الخطاب (Muslims through Discourse, 1993). ففي هذه الدراسة، ومن خلال قراءة الجوانب المختلفة للحياة اليوميّة لشعب الغايو (Gayo)، وهم من سكّان جبال سومطرة في إندونيسيا، يحاول بوين أن يُوضّح كيف أن هذه “الثقافات المحليّة” مُشْرَبَة بعناصر تجد أساسها في التراث الإسلامي، مع اعتبار الإسلام هنا – على غرار ما يقترحه طلال أسد – تُراثًا خطابيًّا يُصاحب الممارسات المحليّة (مثل السحر، والطبابة). ويُعطي بوين بالخصوص مثالاً على استخدام سور القرآن أو أدعيته في التنفيس على المؤمنين، حيثُ تُعتبر هذه الرُّقى والتعاويذ ذات طابع إنجازي. ومع ذلك، يلاحظ وجود اختلاف كبير في كيفيّة فهم هذا التأثير “النافع” وتطبيقه من قبل المؤمنين. ففي حين يعزو أكثرهم تقليديّة لهذه الأدعية تأثيرًا فوريًّا، إلاّ أنّ هذا المنظور يُنتقد بوصفه شكلاً من أشكال “السحر” أو الاعتقاد الخاطئ من قبل الإصلاحيّين المسلمين (Bowen 1993 : 80). ومع ذلك فإنّنا نجد في كلتا الحالتين استخدامًا قويًّا للتُراث الإسلامي وللقرآن هو ما يُوجّه هذه الممارسات. وفيما يُوضّح بوين الانخراط النشط والخطابي في التقاليد الإسلاميّة لشعب معزول مثل شعب الغايو، تهتمّ دراسات أخرى أكثر بجماليّات الذات المصاغة في إطار هذه العلاقة بالتراث.

ولعلّ العمل الأكثر شهرة والذي يستكشف هذه المسألة بطريقة دقيقة ومفصّلة هو الدراسة الشهيرة “سياسة التقوى” (Politics of Piety 2005) لصبا محمود. وبنشرها هذا الكتاب بعد سنوات قليلة من هجمات 11 سبتمبر، وفي سياق ثار فيه النقاش حول الإسلام، قدّمت صبا محمود نظرة مبتكرة للحركات التي اعتبرت في كثير من الأحيان “خطراً”. وقد سمح كتابها الإثنوغرافي حول النساء المسلمات المتديّنات في القاهرة بقراءة غير مسبوقة لمشاركة هؤلاء النساء في ما يسمى الحركات “الأصوليّة” من خلال وضعها في مناقشات مفاهيميّة أوسع حول فكرة الوكالة (agency) (Bracke, 2008 ; Fiorentini, Rebucini, 2015; Marzouki, 2011). وتُحاول صبا محمود أن تفهم كيف تنطوي العلاقة بالتراث الإسلامي على جماليّة ذاتيّة تضع إدراج المعايير الإسلاميّة في قلب الممارسات اليوميّة (Fauré, 2015). وقد كان الشاغل الرئيسي للنّساء اللواتي قابلتهنّ الباحثة، هو الاقتراب قدر الإمكان من النموذج النبوي من خلال تطبيق سلسلة من التعاليم الدينيّة في الحياة اليوميّة: قواعد اللباس، والالتزام الدقيق بالصلوات، والتحكّم في عواطفهنّ (مثل الغضب)، إلخ… وقد كانت جميع هذه المسائل العمليّة التي تبدو في الظاهر “دنيويّة” (Osella, Soares 2010)، مسائل أخلاقيّة عند هؤلاء النساء في نفس الوقت. فهنّ يفهمن الأخلاق على أنها سلسلة من الممارسات التي تتطلّب في ما تتطلّب علاقة خطابيّة بالتراث وأنّها تهدف إلى إعادة تشكيل الذات في ضوء التعاليم الدينيّة. ومن خلال إدخال عنصر نشط في عمليّة تحويل الذات هذه، تضع صبا محمود ممارسات هؤلاء النساء في خطّ أرسطي يعتبر المسألة الأخلاقيّة في المقام الأوّل تطويراً لبعض العادات (الملكات = habitus) المؤدّية إلى الفضيلة (Mahmood, 2005 : 136-137). وقد كان لهذه الدراسة في مجالات الإناسة والدراسات الجندريّة وعلم الاجتماع تأثير لا يمكن إنكاره. فقد منح النموذج الفوكوي في “الانهمام بالذّات” (souci de soi) دفعًا لاعتماد مقاربة نموذجيّة جديدة في دراسة الإسلام (Fadil, 2011 ; Jouili, 2015 ; Jouili, Amir-Moazami, 2006) وما بعده (Avishai, 2008 ; Bracke, 2008).

ولذلك، فإن اقتراح طلال أسد التعامل مع الإسلام كتُراث خطابي كان له تأثير كبير على إناسة الإسلام. وبالفعل، فقد قامت العديد من الدراسات التي تهتمّ بالحركات الاجتماعيّة ومختلف التطورّات في العالم الإسلامي وكذلك في الشتات بتبنّى هذا المنظور بشكل صريح (Amir-Moazami, Salvatore, 2003 ; Caeiro, 2006 ; Deeb, 2006 ; Hirschkind, 2006 ; Jacobsen, 2011 ; Mittermaier, 2011). وقد كان عنصر النقد الذي غالبًا ما يُثار حول مفهوم التراث هذا، يتعلّق بالدور الغالب الذي يُمنح فيه للإسلام وعدم مراعاة أنظمة القيم الأخرى (Schielke, 2010). وقد كانت هذه المسألة التي تستحقّ الطرح (انظر أيضًا: Fadil, Fernando, 2015) في صلب العديد من الدراسات التي تناولت الإسلام بوصفه تُراثًا خطابيًّا. ومن الأمثلة على ذلك، الدراسة النياسيّة الوصفيّة مسألة الأحلام (Dreams That Matter) لأميرة ميترماير (Amira Mittermaier 2011)، والتي اهتمّت بدور الأحلام في الجغرافيا الأخلاقيّة المتشظّية في المناطق الحضريّة في مصر. وقد أبرزت أنّ للأحلام دور خاصّ في التراث الإسلامي، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى حقيقة أنّها تُعتبر أحيانًا إلهامًا إلهيًّا (خاصّة عند الصوفيّة). وقد حاولت ميتماير أن تفهم كيف يندمج هذا التصوّر التقليدي للأحلام مع الرؤى الحداثيّة والإصلاحيّة التي تتعامل مع الأحلام بنوع من الريبة (مثل السلفيّة)، أو المنظورات التحليليّة النفسيّة التي ترى الأحلام بوصفها من تجلّيات اللاوعي. وكمثال آخر، نُشير إلى دراسة تشارلز هيرشكيند Charles Hirschkind 2006)) التي تبحث في تداول الخطب الإسلاميّة من خلال أشرطة الكاسيت في المشهد الحضري في القاهرة. وقد تمثّل التحدّي الذي واجهه هيرشكيند في فهم كيفيّة مساهمة الاستماع إلى هذه الأشرطة في تطوير “فسيولوجيا أخلاقيّة” (Hirschkind 2006 : 70)، أي السجايا العاطفيّة والجسديّة التي تُشكّل جزءًا من الأخلاق الإسلاميّة (مثل الخوف، التبجيل، الندم، إلخ). ومع ذلك، يؤكّد هيرشكيند على أن هذه الممارسات تُوجّهها أنظمة سمعيّة مختلفة (السمع)، حيث يضع النوع الأول من السمع مسألة الاستماع في صميم التطوّر الفردي ويعتبره “نشطًا” من خلال لعبة تفاعل بين الرسالة والباثّ من جهة والمستقبل من جهة أخرى (من خلال التعليقات والتفاعل النشط مع الوسيط). فيما يعتبر المنظور الثاني، وهو الأكثر “حداثة”، الاستماع أمرًا سلبيًّا وثانويًّا، ويُعطي الأولويّة لنظام بصري (يُعطي الأهميّة للنصّ والصورة أكثر ممّا يُعطيها للاستماع). وقد كان فهم هذه الأنظمة السمعيّة المختلفة والتوترات الناتجة عنها، في صلب تحليل حركة الدعوة الإسلاميّة المعاصرة (Hirschkind, 2006 : 91).

ولم يقتصر تأثير اقتراح أسد دراسة “التراث” بدل الأديان على مجال الدراسات الإسلاميّة، بل ألهم أيضًا الباحثين المهتمّين بالمسيحيّة. وبشكل خاصّ، فقد كان للأهميّة التي يعلّقها أسد على الجسد والذاتيّة ودور الخطاب في الطقوس الرهبانيّة المسيحيّة في كتابه نِسَابَات الدين (Genealogies of Religion 1993)، وكذلك في مقالته عن الإسلام عام 1986، تأثير كبير في الحقل الأنكلوسكسوني، وبروز سؤال: “ما إناسة المسيحيّة؟“. وسينظر العديد من الباحثين أيضًا في هذه المسألة (Cannell 2006، Garriott O’Neill 2008، Robbins 2003)، ممّا كان يدلّ أنّ مثل هذا العمل لن يكون تافهاً. ذلك أنّ المسيحيّة تُمثّل تحديًّا خاصًّا للإناسة بسبب قربها الثقافي والمعرفي (Robbins, 2003 : 192)، وبسبب الرغبة المستمرّة في تمييز نفسها عن اللاهوت. وبدلاً من الظهور كأنها “آخر”، تُمثّل المسيحيّة في المقام الأوّل “مكبوت” الإناسة العلمانيّة (Cannell, 2006 : 4)، وهو ما يُسبّب شعوراً بعدم الأمان والقلق الدائم تجاه (صلاحيّة) هذا الموضوع المعرفي (Anidjar, 2008 ; Harding, 2000 ; Marshall, 2014). لكن على الرغم من هذا الإحجام، فقد اقترحت مجموعة واسعة من الدراسات الاهتمام بالمسيحيّين من خلال تبنّي “التُراث الخطابي” على النحو الذي حدّده أسد بوصفه أداة استكشافيّة (Garriott، O’Neill 2008، Keane، 2007، Reinhardt، 2015).

خاتمة

لقد حاولنا أن نوضّح من جهة أولى كيف تنخرط المقاربة “الأسديّة” ضمن تفكير أوسع حول التأثيرات الإنجازيّة لمقولات معرفيّة حديثة ويحتلّ فيها مفهوم الدين مكانة بارزة. كما حاولنا أيضًا أن نبيّن يسمح اقتراح دراسة الإسلام (والمسيحيّة) لا كدين، بل كتُراث، بقراءة مركّزة تضع بعض الممارسات في سياق مدوّنة خطابيّة. وهذا ما يُساعد على فهم كيف تجد بعض المفاهيم الإسلاميّة نقاط ارتكاز جديدة داخل سياقات تاريخيّة واجتماعيّة متمايزة. ورغم تميّز المقاربة الأسديّة برفع مستوى التفكير في مقاربة ما يُسمّى بالظواهر “الدينيّة” أو “العلمانيّة”، ورغم أنّها سمحت بوضع تعريف للأخلاقيّات بوصفها تطويرًا لبعض السجايا، فإنّ العديد من القضايا تظلّ مفتوحة فيما يتعلّق بتطبيق الأدوات الاستكشافيّة التي اقترحها أسد.

وتتعلّق الأولى بمسألة “حدّ” تُراث مّا. ذلك أنّ مفهوم “التُراث الخطابي” يفترض وجود صلة مباشرة بين الخطاب والجسد والذاتيّة. وبعبارة أخرى، فإنّ الانخراط في تُراث يتمّ من خلال سلسلة من التساؤلات المحدّدة ذات الأهميّة الحيويّة في المسار الأخلاقي. ومع ذلك، نلاحظ في كثير من الحالات – وخاصة في حالة الإسلام في أوروبا – أنّ الفاعلين المشاركين في تشكيل معالم هذا التُراث هم في الغالب من غير المسلمين. وسواء تعلّق الأمر بتدريب القادة الدينيّين الذين تقترحهم الهيئات الجامعيّة أو السلطات الحكوميّة في فرنسا أو بلجيكا أو ألمانيا، أو تعلّق بالتخصّصات الأكاديميّة مثل الاستشراق أو الإسلاميّات، أو بالمناقشات المثيرة للجدل حول الإسلام الأوروبي، فإنّ هذه التدخّلات المختلفة تُسهم في تشكيل التراث وفي التساؤلات التي تمسّ المسلمين وغير المسلمين. وقد كانت مسألة البناء المعرفي غير المتكافئ الذي ينظّم مثل هذه التدخلات في قلب النقد الأكاديمي منذ إدوارد سعيد (Amir-Moazami, 2011 ; Peter, 2012 ; Said, 1995 [1978]). ومع ذلك، تكشف هذه التدخّلات مساميّة التراث وحقيقة كونه أيضًا نتاج مساهمات “خارجيّة” (أي فاعلين لا يتماهون معه، ولكنّهم يُشاركون في إعادة تشكيله). ومن هنا، فإنّ من بين العناصر المهمة التي يجب دراستها هو فهم كيفي يتشكّل التراث من خلال تدخّلات خارجيّة، مع إبراز لعبة القوّة التي تحدث من خلالها تلك التدخّلات.

ويتمثّل العنصر الثاني الذي يتعلّق بمسألة “حدود” التُراث، بالطابع غير الخطابي والمندرج ضمن هذا التُراث. فبالنسبة لأسد، فإن البعد الخطابي والاندراجي للتُراث – أي الطريقة التي يتم بها تشابك المناقشات والأسئلة التي يقوم عليها التراث (والتي لها تاريخانيّة خاصّة بها) مع ممارسة شائعة – أمر أساسي كما يوضّحه قوله: “التُراث يعني التعلّم النقدي والجسدي أكثر منه التنظير المجرّد” (Asad, 2015 : 166). ومع ذلك، وفي حين كانت الجوانب الخطابيّة للتُراث موضوع تحليلات متعدّدة، فإنّ دراسة البعد الجسدي لم تتمّ في المقام الأوّل إلاّ في ما يتعلق بالتربويّات النشطة لاستدماج توجّهات أخلاقيّة معيّنة، كما هو الحال عند المتديّنين (Hirschkind, 2006; Mahmood, 2005). وتحيلنا هذه الملاحظات، على سبيل المثال، إلى مسألة الأشخاص الذين قد لا ينخرطون “خطابيًّا” في التراث، ولكنّهم يُدرجون بعض ما ورثوه منه في ممارساتهم اليوميّة وفي أجسادهم. وهذا هو الحال بالنسبة للأشخاص الموسومين بأنّهم “علمانيّون” أو “مسلمون ثقافيًّا”، والذين تتمثّل علاقتهم بالتراث في علاقة عاطفيّة وحدسيّة أكثر منها خطابيّة (انظر بخصوص الإسلام: Fadil, 2009 ; 2015). فهل يمكن أن نقول إنّ استمراريّة التُراث وحيويّته لا تكمن فقط في النقاشات والمجادلات، ولكن أيضًا في الحساسيّات التي تكمن وراءها؟ وما هو وضع أولئك الذين يتمايزون عنها خطابيًّا، لكنهم ما زالوا متأثّرين بها؟ تُظهر هذه الأسئلة المختلفة أنّ عمل طلال أسد، بعيدًا عن كونه نظريّة مكتملة، يجب فهمه في المقام الأوّل على أنّه دعوة للتفكير في دور المفاهيم والتاريخ وأثرهما في قدرتنا على الوجود بوصفنا ذوات أخلاقيّة.

 


*  – المقال الأصلي:

Fadil (Nadia), « De la religion aux traditions: Quelques réflexions sur l’œuvre de Talal Asad », Archives de sciences sociales des religions, n° 180, 2017 (4), pp. 99-116.

[1] – نُشير إلى أنّه تمّ في عام 2015، نشر عدد خاصّ من مجلّة مسارات (Tracés) بعنوان “الترجمة والإدراج” (Traduire et introduire) وتخصيصه لأعمال صبا محمود وطلال أسد، وعدد خاصّ من مجلّة جُمُوع (Multitudes) بتنسيق من محمّد عامر مزيان، فضلاً عن نشر الترجمة الفرنسيّة لكتاب هل النقد علماني؟ لطلال أسد وآخرين، 2009، عن مطابع جامعة ليون الفرنسيّة (Asad et al., 2009, Presses Universitaires de Lyon).

[2] – سيُشكِّل نشر طلال أسد كتابه “التفجير الانتحاري” (On Suicide Bombing) في عام 2007 بداية اهتمام متزايد بأعماله في مجالي العلوم السياسيّة والفلسفة.

[3] – لمعرفة مسار رحلته الشخصيّة، راجع المقابلات مع ديفيد سكوت (David Scott 2006) ومارك أنطوان بيرثود (Marc‑Antoine Berthod 2006).

[4] – يمكننا وضعه بالتوازي مع فكرة العقيدة (doxa)كما استخدمها بيير بورديو (Pierre Bourdieu). لكن في حين يكون بناء الهيمنة عند بورديو ثمرة لعبة سلطة لبعض الفاعلين في مجال معيّن، ينخرط أسد في المنظور الفوكوي الذي يضع بناء العقيدة ضمن نظام خطاب.

[5]  – للاطلاع على مناقشة تفصيلية لتفكيكه هذا التعريف، انظر:

Landry, 2007 et Canton, 2016.

[6] – وهو نصّ كلاسيكي نقترح ترجمته الفرنسية في هذا العدد من المجلّة (التحرير).

[7] – سوف يظهر نقاش آخر، على غرار الجدل الفرنسي، حول مسألة ما يُسمّى الأطر “الغربيّة” للتحليل ومدى كفايتها لتحديد ما يُسمّى الظاهرة الإسلاميّة (2006). وسيظهر هذا النقاش بصفة خاصّة في مجال العلوم الإسلاميّة والدينيّة. انظر في هذا الصدد الجدل الذي دار بين سبيكارد وعبازة وستاوت (Spickard, 2001 & Abaza, Stauth, 1988 ; Stauth, 1991).

[8] – من ذلك مثلاً الصورة المرآويّة التي وضعها بين الغرب والشرق في استدماج السلطة في أنظمة تفكيره، وهي مجرّد تلفيق أيديولوجي غير تجريبي (1986b : 5)، أو استخدام تعريفات للّدين متباينة أشدّ التباين مع افتراض وجود اتّساق إسلامي (1986b : 19).

* – ملاحظة من المترجم: استخدمنا مصطلح “أقلمة” مقابل (provincialiser) بالفرنسيّة أو (Provincializing) بالانكليزيّة، وهو مصطلح استخدمه دبيش شاكراباتي (Dipesha Chakrabarty) في كتابه الشهير أقلمة أوروبّا بمعنى تحويل أوروبّا إلى أقاليم (Provincializing Europe).

[9] – مسألة تعريف الدين هي بالفعل أحد أقدم التساؤلات في اجتماعيّات الأديان (Zaidi, 2011).

[10] – وهو يشرح كيف سيتطوّر مفهوم الدين في ضوء تطوّرين تاريخيّين: الاستعمار والإصلاح اللذين سيؤدّيان إلى سعي معرفي نحو مفهوم كوني يسمح بالتفكير في الشرط الإنساني (وروحيّته) بشكل مُتّسق (Asad, 1993).

[11] – يقترح فوكو فكرة التكرار لفهم كيف تحصل مقدّمات متباينة على بعض التماسك. ومن هنا اهتمامه بمختلف المبادئ المهيكِلة مثل المؤلّف، والمجال المعرفي…

*توضيح من المترجم:

صدرت ترجمة عربيّة لهذا الكتاب، انظر:

عجرمة (حسين عليّ)، مساءلة العلمانية؛ الإسلام والسيادة وحكم القانون في مصر الحديثة، ترجمة وتحقيق: مصطفى عبد الظاهر، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، 2017.

[12] – يُشير مبدأ الحسبة إلى فكرة أنّ سلوك كلّ شخص في الإسلام هو مسؤوليّة مشتركة – وهو ما ينعكس أيضًا في الصيغة الشهيرة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. وبينما يتجلّى هذا المبدأ بشكل فردي وجماعي، فإنّ عجرمة يّوضّح كيف يغدو مشكلة قانونيّة في دولة حديثة.

[13] – تجدر الإشارة إلى أنّ الإناسة الدينيّة الأنكلوسكسونيّة تعرف ما أطلق عليه البعض اسم “التحوّل الأخلاقي” (ethical turn)، خاصّة بعد نشر أعمال طلال أسد وصبا محمود، اللذين وضعا هذا السؤال في قلب النقاش الإناسي (انظر حول هذا الموضوع: Dobbelaere, Lauwers, 1973 ; Hervieu-Léger, 1987).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى