لاشكّ أن الذكاء الاصطناعي أخذ يهيمن بشكلٍ كبير على الساحة الإنسانية بجميع مجالاتها المتعددة، حيث أصبح يشغل مساحة كبيرة من تعاملات الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والتربوية، وخصوصًا حين أصبح الإنسان منذ أمد ليس ببعيد يركز على الآلة كوسيلة خارجية تكمل الجانبين العضوي والعقلي له، بل والأكثر من ذلك أصبح التفكير في امتداد داخلي بالاعتماد على الجزيئات الدقيقة في جسم الإنسان، هذا كله أدى بدوره إلى التفكير في سبل أخرى أكثر دقة تُبرز طموح الإنسان في جعل الحياة والعلم أكثر سهولة، وأكثر تحكمًا، من خلال إدماج الذكاء الاصطناعي في اختيارات الإنسان المتعددة وجعل الآلة تحاكي العقل البشري، بل وتتفوق عليه في بعض الجوانب، حيث ينظر العلماء اليوم إلى هذا العلم باعتباره نوعًا من السلوك والخصائص المعينة التي تتسم بها البرامج الحاسوبية والتي تجعلها تحاكي القدرات الذهنية البشرية وأنماط عملها، ومن أهم هذه الخاصيات القدرة على التعلم والاستنتاج وردّ الفعل، وكذا إصدار التوقعات، والبرهنة الصحيحة… إلى غير ذلك من العمليات الذهنية التي قد تحاكيها الآلة الحاسوبية المعلوماتية عبر خوارزميات وبرامج يضعها متخصصو المجال.
لقد أصبح التجريب في مجال الذكاء الاصطناعي متاحًا في جميع المجالات، وليس مقتصرًا فقط على المجال العلمي والتكنولوجي، فإذا كانت التكنولوجيا هي التطبيق المنهج والعملي للعلوم الحقة من كمياء، وفيزياء، ورياضيات، فإن ذلك تعدّى ليصل إلى التربية والتدريس، والعلوم الإنسانية كلها، بل الأكثر من ذلك أصبحت المجالات الأخرى كالرياضة بالخصوص، تستقطب علماء ومتخصصي علوم الحاسوب من أجل توظيف الذكاء الاصطناعي في التقنيات الرياضية، ومادامت كرة القدم اللعبة الأكثر شعبية قي العالم، فإنها حظيت باهتمام كبير من طرف علماء الحاسوب، لما لها من وقعٍ سياسي واقتصادي واجتماعي على الشعوب والدول، ولما أصبحت تجنيه من ربح مادي ومعنوي، جعل مسؤولوا هذه الرياضة يستنجدون بالذكاء الاصطناعي من أجل تسيير أنجع لنواديهم، ومن أجل تحقيق أمجاد تاريخية كروية، وأرباح مادية و أداء أفضل. ومن بين هذه التجارب نستحضر تجربة نادي ليفربول في توظيف الذكاء الاصطناعي في مختلف أنشطة النادي من حيث التسيير الإداري، واللعب الرياضي، ونشاط اللاعبين، وكيفية استقطابهم، وتمييز آداءهم، وتوقعات النتائج والأهداف إلى غير ذلك.
لقد عمل النادي بالاستناد إلى إمكانيات الذكاء الاصطناعي على التفكير في بوصلة معلوماتية يقيّم من خلالها أداء لاعبيه، حيث أقر “إيان غراهام” رئيس قسم البحث في نادي ليفربول، في حديثه إلى بودكاست (Freakonomics)، أن النادي يستعمل مقياسًا يُسمى: احتمال تسجيل الهدف لتقييم اللاعبين. وأضاف أنه وفريقه المكون من أربعة علماء بيانات، يستخدمون خوارزمياتٍ خاصة ومفصّلة، لتحويل الإحصائيات المحصل عليها من مباريات الدوري الإنجليزي الممتاز، إلى معطياتٍ ذات معنى تساهم بشكل مباشر في قرارات النادي.يعتمد هذا المقياس على تسجيل كل حركة يقوم بها اللاعب داخل الملعب سواء أكانت إعاقة، أو تمريرة، أو تسديدة، كما يركز على كل اللاعبين في الفريق مهما كان مركزهم بالملعب: حارس مرمى، مدافع، مهاجم…، من أجل معطيات أكثر على جميع تفاصيل اللعب في الفريق، ومن أجل احتمالات وفرضيات تعطي نتائج أكثر دقة. وتهدف هذه العملية الذكية، وتنحو إلى الإجابة على سؤالين اثنين: ما هي فرص التسجيل التي حظي بها الفريق قبل أن يتخذ اللاعب تلك الخطوة، وما هي فرص الفريق في التسجيل بعد أن اتخذ اللاعب هذا القرار؟
أسئلةٌ إشكالية من قبيل ما يطرحه رئيس البحث في النادي، تُفضي بنا إلى مدى محاولة الإنسان التحكم في المجال الذي يشتغل فيه، وتُفضي أيضًا إلى كيف أصبح الذكاء الاصطناعي إلى جانب عقل الإنسان الصانع، يحاولان الوصول إلى تحكمٍ أكثر في العمل من خلال إيجاد منطقية عملية ثابتة، تستثمر المعطيات المركزية وتفاصيلها الهاشمية التي قد لا يعيرها العقل التقليدي أي اهتمام، والتي يعتبرها في المقابل هذا الذكاء الاصطناعي، الجانب المهم في إدراك العملية المنطقية للأشياء، وللعب واللاعبين، وحركات الكرة والنتائج، إذا نحن ركزنا على كرة القدم كرياضة أصبح فيها الذكاء الاصطناعي لا يجعل مبارياته قائمة على حظوظٍ وفقط.
يُضيف رئيس قسم الأبحاث في نادي ليفربول أن الشيء الأكثر هوسًا بالنسبة لفريق البحث هو محاولة التقليل من نسبة التمريرات الخاطئة لدى اللاعبين، لتتماشى والمنطقيات الذكائية المفرزة، والتي تُفضي حسب رأيه إلى أن نوعية التمريرات المفضلة، والأكثر فعالية هي تلك التي تُلعب خلف مدافعي الفريق الخصم، فهي تمريرة تقصي في آن واحد أربعة أو خمسة لاعبين، مضيفًا أيضًا أن هذه النوعية من التمريرات صعبة جدًا فهي تحتاج الجودة والتوقيت الصحيح، إضافة إلا الدقة في التنفيذ، وبالتالي فاللاعب المتوفر على هاته الشروط يُعتبر لاعبًا عالميًا من الدرجة الأولى.
لقد استطاع الفريق العلمي لنادي ليفربول من خلال توظيفه للذكاء الاصطناعي أن يحصل على بيانات كل لمسة كرة يقوم بها اللاعب، وأن يسجّل تموقعه في الملعب وحركاته داخل رقعته، كل هذا يتم باستعمال تقنية التتبع البصري، وهي نفس التكنولوجيا المستعملة في تتبع الصواريخ الجوية. وهذا بالطبع ما يؤكد الانتقال الذي تكلمنا عنه سالفًا من مجال العلوم الحقة، إلى المجالات الأخرى، وبالخصوص مجال الرياضة، حيث مكّن هذا الانتقال من توظيف علم البيانات في مساعدة النادي الأحمر – حسب قول غراهام- باختيار اللاعبين الممكن إضافتهم للفريق، بما يضمن الاستفادة القصوى من إمكانياتهم بحكم العدد الكبير من اللاعبين المتوفرين في سوق الانتقالات، وبحكم أيضًا، أن سوق الانتقالات أصبح مجالًا للمافيات واللوبيات التي هدفها الربح المادي فقط، لذلك أصبح لزامًا على النادي بحصر لائحة من اللاعبين الذين يخدمون مصلحة الفريق، وإذا توافرت الشروط وكان ثمن اللاعب يتماشى مع ميزانية الصفقات فالنادي آنذاك يقوم بشرائه.
لقد كان لعلوم البيانات الدور الكبير في اختيار “كلوب” كمدرب لليفربول، فبعد مواسم رائعة قضاها مع دورتموند قدّم فيها تكتيكًا جيدًا بكرة جميلة، وباختيار ذكي لتشكيلة من اللاعبين اليافعين قارع بها العملاق البافاري المدجج بكتيبة من نجوم الصف الأول، وبميزانية تمكّنه من شراء أي لاعب. هذه المعطيات جعلت قسم البحث لدى نادي ليفربول يثق في المعطيات الإحصائية التي بينت أنه رغم الموسم الأخير الكارثي لكلوب مع أسود الفيستفال، و الذي تحدثت عنه الصحافة الألمانية بشكل قاسي على الفريق فلم ترحم المدرب، ناسين كل ما حققه دورتموند في عهده: كالبطولة الألمانية مرتين، ونهائي دوري أبطال أوربا، فعلى عكس التوقعات، وبعد تحليل دقيق للبيانات الخاصة بفرق الدوري الألماني من طرف قسم البحث العلمي لنادي ليفربول، تبين أن دورتموند كان ثاني أحسن فريق رغم سوء النتائج، فبعد دراسة لبيانات الدوري الألماني لمدة عشر سنوات احتل دورتموند المركز الثاني كأقل فريق حظًا في المسابقة. وهذا يُبين طبعًا نتائج البحث العلمي والذكاء الاصطناعي في إظهار الحقائق التابثة بالأرقام والإحصائيات، والدليل على نجاعة هذا الاختيار ما يحققه المدرب كلوب الآن من إنجازات مع الفريق الأحمر، سواء على مستوى التدريب، أو على مستوى التواصل مع فريق البحث، فحسب رأي هذا الأخير فقد ساهم في هاته الإنجازات أيضًا عقلية المدرب الذي يبدي تفهمًا، فاتحًا قناة تواصلية لفريق الأبحاث لشرح أفكارهم، ولإمكانية استعمالها في خططه وتكتيكاته، وهي ميزة غير متوفرة عند غالبية المدربين الذين يؤمنون بالطرق التقليدية فقط.
يمكن التكلم هنا على إحدى إشكالات التضارب بين الاختيار الذكي الاصطناعي، واختيارات الإنسان الذي يخلط بين المنطق العقلي والجانب الحسي والعاطفي، والتي قد تجعل عملية اختيار اللاعبين أمرًا ذا جدل لدى المتتبع العادي، فهناك من اللاعبين من لديهم إحصاءات بيانية متميزة لكنهم في نظر المتتبع العادي، لاعبون عاديون وبالتالي فهم عادة ما يُقصَون من اختيارات كشافي النوادي، وكمثال على ذلك، يذكر اللاعب الأسكتلندي “أندي روبرتسون” من بين أفضل ظهير أيسر في أوربا، فقد كان لاعبًا مغمورًا في نادي هال سيتي، انتقل إليه وهو بسن 20 قادمًا من داندي يونايتد بمبلغ 2.85 مليون جنيه إسترليني، قبل أن ينتقل إلى ليفربول صيف 2017 بصفقة قُدّرت بثمانية ملايين فقط، لقد كان أندي أفضل ظهير أيسر شاب في إنجلترا حيث تميز بمساهماته الغزيرة في الهجوم رغم ضعف المستوى الفني لفريقه والذي أدى إلا نزولهم لدوري الدرجة الأولى.
كل هاته المعطيات المحصل عليها باستعمال علوم البيانات تبقى غير كافية بالنسبة للاعب والفريق، إذا نحن ركزنا فقط على الاختيار الاصطناعي الذكي، وبالتالي فعملية انتداب اللاعبين تحتاج إلى خبرة الكشافين وحاجيات المدربين وخطة المدراء والشركاء في النوادي، لتضاف إلى التفكير المنطقي الاصطناعي مجالات اختيارية حسية إنسانية، لأهمية هذه المهارات الحسية الحركية، حيث يحاول البحث في مجال الشبكات العصبية اليوم، محاكاة الهياكل داخل مخ الإنسان والحيوان التي تؤدي إلى ظهور هذا النوع من المهارة في حل المشاكل الأكثر تعقيدًا، والمرتكزة في مجال كرة القدم على خبرة المدربين والكشافين وحدسهم.