- ثورة العالم المعاصر:
رحل عن عالم الفكر والفلسفة منذ أشهر قليلة، الأول من شهر يونيو 2019، الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي ميشيل سير Michel Serres عن عمر ناهز 88 سنة، بعدما ترك خلفه تركة فلسفية ضخمة؛ إذ ألّف ما يزيد عن 50 كتابًا تتنوع بين الفلسفة والفكر والأبستمولوجيا وتاريخ العلوم والنقد؛ ما جعل منه مفكرًا متعددًا.
وُلد ميشيل سير في الأول من شهر شتنبر 1930 بمدينة أجون Agen الفرنسية، وقد اشتغل عضوًا في الأكاديمية الفرنسية لسنوات، وأيضًا عضوًا في الأكاديمية الأوروبية للعلوم والفنون، بالإضافة إلى انشغاله بتأليف كتب تعنى بالفلسفة وتاريخ العلوم وعلم العلوم، واهتم بتحليل المجتمع المعاصر؛ حيث بدأت تهيمن الوسائل السيبرنطيقية على مختلف أوجه حياة البشر، وقاده اهتمامه هذا لتأليف أحد أهم مؤلفاته في الموضوع، كتاب “الإصبع الصغير” Petite Poucette (2012). إذ – حسب سير Serres، كما يطرح الأمر في كتابه – يعيش الجنس البشري اليوم ثورةً تقنية ومعلوماتية متحركة بسرعة تعادل “سرعة الإلكترون” ، ثورة رقمية تتخذ مداها على مستويات عدة ومختلفة، ثقافية واقتصادية ومعرفية وعلمية وحتى اجتماعية، إنها ثورة “الإصبع الصغير”، كما يسميها هذا الفيلسوف الموسوعي، إنها ثورة يلخصها بقوله في إحدى حواراته: “ينبغي لنا جميعًا إعادة النظر في أدوارنا! مهنتكم (أي الصحافة)، بهذا الصدد، شبيهة بمهنتي، حينما كان عمري 25 عامًا كنت إبستمولوجيًّا، كانت هذه الكلمة الكبيرة تعني “متخصص في العلم، يحاول تحليل المناهج والتنبؤ بالنتائج واستخلاص دروسها الإيثيقية”، لم نكن في العالم، خلال الخمسينيات سوى حفنة تمارس هذه المهنة. اليوم، في 2015، يمكن أن تتوجه بالسؤال لأي شخص في الشارع، وأن تكون متأكدًا من كونه يتوافر على معرفة أولية ورأي عن الكائنات المعدلة وراثيًّا، وعن التلوث أو التغير المناخي. هو أيضا إبستمولوجيٌّ؛ فقدت مهنتي إذن، وبالتأكيد، فالأمر نفسه يحصل بالنسبة للصحافة: إن التخصص منغمس في حمام جماعي، الكثير من المهن الوسيطة تعاني بسبب الدخلاء، وبإمكان كل واحد أن يصير ناقلًا بدوره”.
- مرحلة التأسيس:
اهتم ميشيل سير في المرحلة الأولى من كتاباته بفلسفة العلوم؛ إذ ركز بشكل كبير على الإشكالية الأخلاقية لتقدم العلم وآثاره. ما سيجد مداه –بعد عقود- بشكل أكثر حساسية في مؤلفه “الإصبع الصغير”؛ إذ إننا أمام ثورة “العالم الجديد” و”الإنسان الجديد”، ثورة لا تتوقف عن التطور والتقدم والتغير. ولا تفتأ تحسّن نفسها وتصلح أعطابها وتتجاوز ماضيها؛ بل لم يعد الماضي يقاس بالسنوات والعقود بقدر ما يقاس اليوم بالأيام والساعات، بل حتى الدقائق! أمام التراكم المهول للتقدم التكنولوجي والمعلوماتي.
ركزت كتابات سير الأولى اهتمامها بسؤال كيفية صناعة الأخلاق، بإرجاع النظر إلى “الأخلاقية” déontologie حينما يتحد العلم بالعنف، داحضة كل حتمية علمية. واستندت فلسفة ميشيل سير إلى مبدأ عدم اليقين (الفيزيائي) من فيرنر هايزنبرغ Werner Heisenberg باعتباره استعارة métaphore للحرية وغير المتوقع، وبعدما شارك في تأليف كتاب “دروس الفلسفة الإيجابية لأغوست كونت” سنة 1975، نشر سير أول مؤلفاته الفردية والذي كرس فيه اهتمامه بمبادئ حساب التكامل والتفاضل لدى العالم والفيلسوف ليبنتز Leibniz؛ مبرزًا بالتالي شغفه بالفلسفة والعلوم، وتعدد مشارب اهتمامه الفكري والعلمي. وقد شغل نفسه في تلك الفترة، متأثرًا بكلٍّ من الفيلسوفين سيمون فايل وهنري برغسون، بالإشكاليات الأخلاقية للعنف وظروف العمال.
- الانعطاف:
نشر سير سنة 1977 دراستين مهمتين في مساره بوصفه فيلسوفًا متفردًا: الأولى متعلقة بـ”ميلاد الفيزياء في نص لوكوريتيوس Lucrèce”؛ حيث قدَّم دراسة لتاريخ الفيزياء وفلسفتها التي ترجع إلى حدود منجز الفيلسوف الروماني لوكوريتيوس، وهو أطروحة عن طبيعة الأشياء De rerum natura، وقد تناول سير المنجزَ باعتباره عملًا علميًّا، على عكس قراءته المعتادة –من لدن المؤرخين- بوصفه قصيدة ميتافيزيقية، ملقيًا بالتالي الريبة على مفهوم القطيعة الإبستمولوجية (المعرفية). أما البحث الآخر، فيقدم فيه هذا الفيلسوف التجاوزَ الحادث في مجال صناعة التصنيع من خلال تأثير الاتصالات الناتجة والمتحولة عبر الاكتشافات العلمية. وقد عرض ميشيل سير في خامس مؤلفاته عن هيرميس Hermès (1977)، إله التجار والتواصل عند الإغريق، محاولةً تأويلية لتأثيرات العلم في العالم المعاصر، وقد استعانَ بأسطورة الملاك للدلالة على استعارة لدور الفيلسوف الذي يعلن ويظهر حالَ العالم المعاصر. إذ كما يذهب في مؤلفه “الإصبع الصغير” يعيش الإنسان المعاصر الحضارة وسط زخم التقنية بين عدة أجهزة وآلات مختلفة أنتجتها الثورة التكنولوجية؛ فانتظمت حياته أفرادًا وجماعات بانتظام ميادين الحياة كلها بانتظامها، فمن الميدان السياسي إلى الاقتصادي نجد المعدات والآلية تخترق الحياة البشرية حتى أضحت مألوفة لدى الناس ولا يستطيعون العيش بدونها.
- من أجل عقد طبيعي:
وقد برزت مواضيعه الفلسفية الكبرى في مجموعة من كتبه من بينها “الشر الخالص” (2008)، و”الحرب العالمية” (2008)، و”Biogée” (2010)، وهي مواضيع مرتبطة بمؤلفه “العقد الطبيعي” الصادر سنة 1990. وهي مؤلفات صدرت نتاجًا عن فشل مؤتمرٍ، جمعه رفقة حوالي 20 عالمًا ومفكرًا من جميع أنحاء العالم بمن فيهم جون دوسي الحائز نوبل في الطب، وفرونسوا غرو Gros الذي كان يدير معهد باستور… وهو الاجتماع الذي نُظم على هامش مؤتمر مجموعة السبعة G7 باليابان سنة 1979؛ ففشل هذا الاجتماع العلمي الفكري، الذي كان يهدف إلى التفكير في أسس أخلاقية علمية، سوف يدفع ميشيل سير إلى التشكيك في المسألة البيئية من خلال فلسفة القانون، مشيرًا إلى أن كل ما لم يكن منتميًا للجنس البشري قد استُبعد من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، ومن هنا جاءته فكرة وضع مبدأ جديد، لا يقتصر حصريًّا على النوع البشري، فكما يقول: “لا يوجد قانون طبيعي بدون عقد طبيعي”؛ إذ يجب أن تصبح الطبيعة خاضعة للقانون.
- تحرير المعرفة:
يتكئ ميشيل سير على فلسفة متفائلة، تؤمن بالأجيال القادمة وقدرتها على تغيير العالم؛ فنجده متفائلًا بهذا “الجيل الجديد” (جيل الإصبع الصغير) الذي يتمنى لو أنه كان في عمر الشباب وجزء منه، ليواكب تقدمه. الجيل الذي كرس له حياته كلها؛ ما دفع به إلى الانخراط في الصيرورة التربوية والبيداغوجية في “المجتمع المعلوماتي” société de l’information؛ حيث إنه جد متفائل بالتقدم الحاصل؛ ما جعله يدعم بقوة “أطفال الرقمنة” هؤلاء الذين يتمتعون بإمكانية الولوج بشكل فردي ومستقل إلى المعرفة. ويعتمد هذا الفيلسوف في كتاباته على معجم مختار بعناية، وأحيانًا يبدو صعبًا أو عامرًا بالاستعارات، وتعتمد على الرغبة في تغيير النظريات الرياضية أو الفيزيائية، التي تسمح بتحويل عالمنا وتنويره. وفي بحث عن إزالة الحواجز عن المعرفة، يلقي سير بجسوره لربط ضفتي المعرفة العلمية والأدبية للتوفيق بين ثقافتين يرى بأنهما ينتميان للوحدة نفسها.
وفي مؤلفه “جماليات كارباتشو” (1975) يتحدث ميشيل سير بلغة شاعرية مقدمًا فلسفته بوصفها سفرًا في هواجس هيرميس ومحنه من خلال كرطوغرافيا وطوبولوجيا وتماثلية جمالية عبر تحليل سيمائي للوحات الرسام الفينيسي الشهير فيتوري كارباتشيو Vittore Carpaccio؛ بالإضافة إلى تحليل الرموز المتعددة والمعقدة في اللوحات، فصاحب الكتاب يتحدث أيضًا عن الانعكاسات الفلسفية المشفرة في هذه الأعمال. ويبرز هذا الكتاب إلمام الفيلسوف الواضح بالفن وعلاقة هذا الأخير بالطرح الفلسفي، كاشفًا عن دور الفن في الفلسفة، وكيف نجدها مشفرة في مجموعة من الأعمال الفنية.
- طوبولوجيا الإنسان المعاصر:
غير أن الاهتمام الأكبر لهذا الفيلسوف ظل يصب في خانة العلوم وتاريخها وآثارها على الإنسان المعاصر، مراعيًا نقل المجال العلمي وإسقاطه وتحويله نحو المجال الأدبي، فلم يرَ بين المجالين أي حد فاصل ومانع لأن يلتقيا. وهو بذلك يتطور تفكيره حول طوبولوجيا الإنسان المعاصر، منذ منتصف القرن العشرين، أو ما يسميه بـ L’Hominescence (2001) – مصطلح يدل عما تعانيه الإنسانية منذ القرن الماضي، المتولد عن التغيير الكبير في علاقتنا بالوقت والموت… فالهومينسونس، عبر الاختلافات المتكررة، يجدد باستمرار الأنسنة. ووفقًا لأطروحته فموطننا يُحدّد طوبولوجيًّا بفضل شبكة الإنترنيت والهاتف المحمول؛ إذ تُخلط الرسالة بين الصوت والكتابة، وتضع نفسها في خدمة الصوت الديموقراطي من خلال طفرة أنثروبولوجية عميقة؛ وبالتالي نجد هناك امتدادًا للإبستمولوجيا الباشلارية عند سير؛ لكن هذا الأخير يبدو متفائلًا جدًّا وهو يكتب عن رؤيته أو يتحدث عنها؛ إذ إن الإبستمولوجيا مع سير serres تحولت إلى فعل تخصصي ينجزه العلماءُ أنفسهم، وتتحول فلسفة العلوم إلى إبستمولوجيا عامة أو خارجية لا تتحدث عن العلم مباشرة، وإنما تتناول نتائج الإبستمولوجيات الخاصة أو العلمية، أي أن الإبستمولوجيا الخاصة تتوسط العلاقة بين العلم والإبستمولوجيا الخارجية أو فلسفة العلوم، ووظيفتها رصد التبادلات والتفاعلات التي تتم بين العلوم. وينتشر التفاعل بوصفه فعلًا عبر الاتجاهات كلها في العلاقة بين العلوم، ولا تستثنى العلوم الإنسانية (بما فيها الأدب) من هذه العلاقة؛ إذ “قاده ذلك إلى الترجمة بين ميادين متغايرة ومتنافرة على ما يبدو في محاولة لإنشاء ممرات/ معابر بينها”. وقد كان هذا الفيلسوف حاضرًا بقوة طيلة العقدين الأخيرين في مختلف أوجه التفكير المعاصر.
- الإصبع الصغير:
الأمر الذي سيقوده إلى تأليف أشهر كتبه وأكثرها تفاؤلًا وشاعرية، مؤلف “الإصبع الصغير” هو عبارة عن محاضرة ألقاها ميشيل سير في الأول من شهر مارس 2011، في جلسة رسمية في الأكاديمية الفرنسية حول موضوع “التحديات الجديدة للتعليم”؛ إذ أشار في محاضرته إلى هذا الجيل المعاصر، الجيل الذي يعرف تغييرات عميقة وتحولات غير مسبوقة في التاريخ؛ إنه جيل لم يعد لديه جسم سابقيه نفسه، ولم يعد لديه متوسط العمر المتوقع نفسه، ولم يعد يعيش في الفضاء نفسه، ولم يعد يتواصل بالطريقة نفسها، ولم يعد يتصور العالم الخارجي، لقد وُلِدَ في عصر البرمجيات والولادة المبرمجة… فالإصبع الصغير لم يعد يمتلك رأس الأجيال السابقة نفسها، أو كما يقول ميشيل سير: فـ”رأس الإصبع الصغير المقطوعة تختلف عن الرؤوس القديمة، المصنوعة جيدًا والمملوءة جيدًا؛ ولأنها لم يعد لها أن تشتغل بقوة أكثر؛ لكي تتعلم المعرفة، ذلك لأن المعرفة أصبحت مطروحة”، فالإصبع الصغير يمشي اليوم حاملًا حاسوبه (رأسه المقطوعة) بين يديه صوب المستقبل؛ فالحاسوب قد عوض الرأس، إذ فيه تخزن المعلومة وفيه تحلل وفيه تركب وفيه توضع الكتب وتقرأ… فالمعرفة باتت مخزنة فيه، ما يمنح لعقل الإصبع الصغير أن يضطلع بمهام أخرى.
وتبقى الإشارة إلى أن منجز ميشيل سير يُصر على فكرة رئيسة وواحدة، ألا وهي “قوة التفكير”؛ إذ إن الفكرة قوة لأن الفكرة هي أم الابتكار، الابتكار كله، ونجده يطور هذه النظرية الفلسفية (قوة التفكير) في كتابه “داروين، بونابرت والسامري: فلسفة للتاريخ” الذي صدر سنة 2016… وبالتالي فقد رحل هذا الفيلسوف الشمولي بعدما كوّن فلسفة كبرى يتردد صداها داخل شتى الحقول والمجالات والميادين الأدبية والأخلاقية والرياضية والعلمية، بما فيها الفيزيائية والبيولوجية… ما جعل منه “فيلسوف الأدب والعلوم” بامتياز.