عندما نشر آرثر شوبنهاور كتابه الرئيسي: “العالم إرادة وتمثلاً”، كان متلهفاً لسماع أصداء مؤلفه كأي كاتب يسعى للنجاح والانتشار في عالم الفلسفة والأدب، وكان يتوقع لهذا المبحث الفلسفي النجاح والصيت الكبير وأن يتلقفه الجمهور، غير أن النتيجة كانت مختلفة تمامًا، إذ لم يلحظ أحدٌ هذا الكتاب ولم تتداوله الأحاديث، حتى أن أوراقه قد استعملت كمادةٍ للتغليف.
اتجه شوبنهاور للتدريس الجامعي وإلقاء المحاضرات، لعل هذا الطريق يفتح له المسار بصورة أكبر ومن خلاله ينشر ما لديه من أفكار، ولكن كيف يتمكن شوبنهاور من النجاح في التدريس وإلقاء المحاضرات الجامعية وتأليف الكتب، والحياة الفلسفية آنذاك كانت شبه خاضعة للقطب الأشهر في الفلسفة: هيجل؟ أن تلقي محاضرة في نفس الوقت الذي يلقي فيه هيجل محاضراته الفلسفية فهذه علامة تحدٍ وثقة مطلقة بالنفس، إذ كيف للجمهور أن يتخلى عن صاحب الروح المطلق إلى الغريب القادم؟
لقد امتلأت قاعة محاضرة هيجل، ولم يحضر لشوبنهاور إلا عدد قليل من الأشخاص. ومع ذلك بدأ هذا الغريب محاضرته بالقول:
ما إن كاد كانط يختفي في غيابة القبر، حتى قامت قائمة السفسطائيين الذين أنهكوا الفكر في زمانهم بما أحدثوه من ضجيج أجوف. إن أمثال هيجل يجب أن يمنعوا منعًا من مزاولة الفلسفة، كما حرم العشارون من مزاولة التجارة داخل المعبد وطردوا منه. إن أصدق وصف للغو الذي يتشدق به هيجل هو قول شكسبير: تلك الأقوال التي تلوكها أفواه المجانين ولا تعيها عقولهم…
فما لبثت أن تلاشت تلك الصفوف القليلة تدريجياً وأضحت القاعة فارغة، لا يسمع فيها إلا صوت المحاضر: شوبنهاور.
إن أردنا التحدث عن شوبنهاور، قد ينحو الحديث نحو كيفية ذيوع ذكره في الآفاق كفيلسوف للتشاؤم، وتأثيره على الجيل اللاحق من الفلاسفة، ومؤلفه الرئيس “العالم إرادة وتمثلاً “، وقد يتجه الحديث إلى سيرة حياته التي كانت مثيرة للدهشة، إلى درجة أنها تصلح لأن تكون مادة روائية؛ منذ نشأته في كنف أسرة ثرية لم تعرف العوز والفقر، حتى صراعه الحادّ مع بعض أفراد عائلته المقربين وانقطاع الوشائج بينهم، غير أن الحديث الرئيس هاهنا هو نظرة شوبنهاور عن الفن والأدب.
نشر شوبنهاور عدة مقالات عن الفن والأسلوب والعبقرية والتفكير والقراءة في عدة كتب متفرقة. من بين هذه المقالات ما نشر بترجمة عربية بعنوان: فن الأدب، مختارات من شوبنهاور. …… ونظرة شوبنهاور للأدب والفن لا تصلح فقط لأن تطرح من جديد ويدور حولها النقاش، بل هي المفتاح الرئيسي لأي عمل فني أو أدبي، إذ ما قيمة العمل إن لم يحمل مقومات وجوده؟
حسب تصور شوبنهاور هناك ثلاثة من الكتّاب: الأول مثل الشهاب الساطع، يحدث ضجيجًا ويثير الجدل، ثم لا يلبث أن يختفي للأبد وبشكل سريع، دون أن يحدث أثرًا بين القراء. والثاني مثل الكوكب السيّار، يشع ضياؤه ويطول بقاؤه، لكن- طبقاً لحركته الدائمة غير المتوقفة – لا يلبث أن يرحل تاركًا مكانه لكواكبٍ سيّارة أُخر؛ بل إن ضياءه محدود بمداره ومساره الحافل بالحركة والتغير المحدود ببضعة سنين. أما النجم الثابت؛ وهو الكاتب الثالث الأثير لدى شوبنهاور؛ فهو الكاتب الخالد، ذو الموضع الراسخ ضمن منظومته الشمسية، يشع بضوءٍ أصيلٍ نابع من جوهر وجوده. ورغم بُعد هذا النجم الثابت عن الأرض إلا أن ضوءه سيصل، ويبقى خالداً. وكذلك هي الشهرة، ليس لأن القراء لم يستوعبوا عبقرية الكاتب، أو أن الساحة أصبحت فارغة لهذا المؤلف الذي قد يحوز مجداً، بل لأن وجوده وبنيانه قائمٌ على أساس ذاتي، فهو محكم البنيان ومتقن الصنعة.
لم يجنح شوبنهاور إلى تفاصيل العمل الأدبي والفني، بل اتجه إلى الأساس، وكأن العمل أشبه بهندسة العمارة، لا يمكن النظر إلى الجماليات المعمارية دون أن يكون حاملُ هذه الجماليات متيناً وقوياً، والبنية الأساسية في نظرته للعمل الفني والأدبي، بل هو الأساس لكل كتابة، أن يكون للمؤلف شيئاً يريد قوله، موضوعٌ يريد طرحه للجمهور، ولا تظهر هذه الرغبة في قول شيء ما أو الكتابة عنه إلا عندما تظهر الفكرة التي استغرق المؤلف بالتفكير فيها بعقله واختمرت في ذهنه.
لكن ما هي الفكرة أو الأفكار التي يجب أن تطرح وتكون قابلة لأن تعيش وتحدث أثرها؟ كل كتابة تتناول فكرة ما، هل يعني ذلك أن كل المؤلفات صادرة من عقل مفكر؟ أم أن هذه الأفكار عبارة عن إعادة جمع وتحليل ونظرة جديدة؟
لا يوجد كاتب إلا وهو يكتب موضوعًا يريد أن يتناوله، لكنه هنا يفرّع الكتاب إلى ثلاثة: الأول: يكتب دون أن يحيط بالمادة المكتوبة، إنه يكتب مما استطاعت الذاكرة أن تحفظ وجمعته من القراءات والاطلاعات ومن كتب المؤلفين الآخرين. الثاني: لا يفكر إلا حين يمسك بالقلم، ينتظر الإلهام والفكرة حتى يكتب. والثالث: هو الاستثناء والقاعدة؛ لا يتناول موضوعه بالكتابة دون أن تكون الفكرة قد اكتملت في ذهنه تماماً.
إن رغبة المؤلف في تقديم عمل أدبي أو صناعة عمل فني أو كتابة عمل فلسفي، لا تحمل مقومات وجودها وأصالتها ما لم تكن صادرة من شخص يُعمل عقله في هذا العمل، ويفكر بالموضوع من كل الجهات التي يريد الحديث والتعبير عنها، ومتى ما كانت الفكرة جاهزة لأن تخرج، يصبح المجال حينئذٍ متاحاً لأن يتم تداولها عبر العمل الأدبي أو الفني. إن الفكر ليس مادة أساسية وحسب، بل هو يمهد لكل المسارات التالية حتى يكتمل العمل، فالكاتب سوف يجد الكلمات تتدفق من بين يديه؛ لأن الفكرة أصبحت واضحة ويُراد التعبير عنها.
وإذا كان على المرء أن يفكر كعبقري كبير وفق استطاعته، كما يقول شوبنهاور، إلا أنه يتعين عليه أن يتكلم اللغة التي يتكلمها سائر البشر، كواجب وليس كخيار، فيستعمل الكلمات العادية ليقول أشياء غير عادية، لا أن يستعمل أسلوب التورية حتى يظهر عبقريته، ولا يدفع الأفكار في لحظة واحدة أو يختزل الفكرة بكلمات يصعب فهمها، فهذه ليست نتيجة منطقية للذكاء، بل هي أشبه بالاختباء وراء الكلمات لإخفاء ضحالة الفكر وعدم اكتمالها. كما أن محاكاة الكاتب لأسلوب غيره أشبه بارتداء قناع لا حياة فيه. وكل كاتب عظيم يحاول أن يعبر عن أفكاره بقدر من النقاء والوضوح بلا تورية أو خداع، ولديه قدرة على التحديد والايجاز.
إن الأسلوب هو تفصيل للذهن وملامحه، وهو يكتسب جماله من الفكر الذي يعبر عنه، هو تابعٌ له، منقادٌ إليه، أما أن يكون الفكر تابعاً للأسلوب فلا يعني ذلك أكثر من ذهنٍ لا يحمل أصالة الفكر، لأن الأسلوب لا يعدو أن يكون ظلاً جانبيًا للفكر. كما أن محاكاة الكاتب لأسلوب غيره أشبه بارتداء قناع لا حياة فيه. وكل كاتبٍ عظيم، وفق شوبنهاور، يحاول أن يعبر عن أفكاره بقدرٍ من النقاء والوضوح بلا تورية أو خداع، ولديه قدرة على التحديد والايجاز. ولكن كيف يمكن للأسلوب أن يكون موجزاً ومحدداً وحافلاً بالمعنى؟ وفق شوبنهاور الفكر هو الخطوة الرئيسية لذلك، الفكر النابع من عقل الإنسان ذاته. غير أن غنى الفكرة وحيويتها لا تتأتى دفعة واحدة، قد تأخذ وقتها، قد يتوقف العقل لحظة، ينطلق في الفكرة إلى عقول الآخرين من خلال القراءة، فالتفكير من خلال قراءة كتب الآخرين هو تفكير آخر، لكنه ثانوي وليس رئيسي، يحمل قوة تدفع الفكر لأن ينطلق، حينها يصبح للفكر غنى وقيمة، ومتى ما كانت الفكرة مهمة وجديرة بالملاحظة، فستجد لنفسها المادة والمضمون، ويجد الكاتب ما يملأ الجمل التي تعبر عن الأفكار بكل حيوية. لكن تدفق الأفكار لا يجوز أن يكون دفعة واحدة، كأن يعبر المؤلف عن ستة أفكار بجملة واحدة، ويترك لقارئه حرية الفهم من عدمه، بل أن تتدفق خطوة بخطوة. المؤلف يريد من القارئ أن يشاركه وأن يستحوذ عليه العمل حتى لا يتركه. إنه يتخاطب مع قارئه، ويخلق نوعًا من المشاركة الفكرية.
بالعودة إلى الأعمال الفنية والأدبية ذاتها، نجد إن نظرة شوبنهاور إلى الفن نابعة من صميم فلسفته التشاؤمية، فهو حين يتحدث عن المسرح، لا يضعه في سلة واحدة، بل يفرق بين عدد من الدراميات ومستوى التمثيل والطرح الفني. والمسرح عنده بمثابة تمثيل للوجود الإنساني، ولا يصل إلى قمته إلا في حالة المأساة، وهي الحالة الأكثر صعوبة وصدقاً. إنها تضع الجمهور وجهًا لوجه مع عواصف الوجود وأحزانه، التي هي أكمل انعكاس للوجود الإنساني.
أما الرواية، فمن اللافت للانتباه أنه أعطى مكانة كبيرة للحركة الداخلية في العمل الروائي، أكثر من الحركة الخارجية رغم أهميتها للعمل الروائي؛ فأحداث الرواية المتتابعة والكثيرة ليس لها هدف إلا الحديث فقط، دون أن ترتهن بها القيمة الحقيقية للحركة والتأثيرات الداخلية للأبطال، فلا تكون متحكمة فيها إلا بقدر إعطاء تفاصيل أكثر ومدى التغيير الذي تحدثه في الحالة الداخلية لشخصيات العمل الفني أو الأدبي.
وهو يرى أن على القارئ عند استقباله للعمل الأدبي أن ينظر إليه هو بمعزل عن مؤلفه، فلا يُفضَّل طرح الأسئلة حول المؤلف، وكيف استطاع كتابة العمل الأدبي ، وهل أحداث العمل أو شخصياته مستقاة من حياة المؤلف الشخصية أم لا، لأن الفنان الخالد إنما يستعمل نماذج حية من الناس، هو يأخذ أساس الوجوه من الحياة ثم يضفي عليها مسحةً مثاليةً من الجمال والتعبير.
كتب شوبنهاور مقالة عن القراءة كذلك، لكنه كتبها من زاوية الفكر والتفكير، واعتبرها بمثابة تفكير من خلال عقول الآخرين، لكنها يجب ألا تكون بمعزل – حسب تصوره – عن التفكير الذي هو الأساس. بل إنه يدين صراحة الإفراط في القراءة لأنه يسلب الذهن مرونته ويجرده منها، فالقراءة لا تزيد عن كونها بديلاً عن الفكر الأصيل النابع من الذهن. وأساس رأيه هذا أن المرء ينبغي له ألا يقرأ إلا عندما تستقر أفكاره ويصيبها الركود. وهو ما قد يحدث لأفضل العقول، أما متى تناول الإنسان كتب الغير فقط لتشتيت أفكاره النابعة من نفسه، فهي أشبه بالخطيئة ضد الروح، وكأنه يهرب من روعة وجلال الطبيعة الحية ليتطلع في متحف للنباتات الجافة.
لقد صدرت في القرن العشرين عدة مؤلفات عن الفن والأدب والكتابة والقراءة، بل وحتى تعلم الكتابة والكتابة الروائية، ولو أردنا تسليط الضوء قليلاً على هذه الكتب أو المحاضرات، سنجد من أهمها محاضرات الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو حول متاهة الغابة السردية، ومحاضرات وكتب الإيطالي إيتالو كالفينو حول الكلاسيكيات والوصايا عن الرواية في الألفية الجديدة. هذه المحاضرات والكتب من الروائع التي تناولت الأدب، لكن من الملاحظ أنها اتجهت إلى شكل العمل الأدبي والفني وتفرعاته وما يواجه القارئ في رحلة السرد، وتناول شتى المؤلفين سواءً من الجيل الحديث أو من الكلاسيكيين. لكن جديرٌ بمن يقرأ في الأدب والنقد والقراءة أن يطلع على مقالات شوبنهاور وأسلوب الكتابة الأصيل لديه. إنه يمتلك نظرة تحيط بالعمل الأدبي، وإن كانت نقطة انطلاقه أولاً وأخيراً هو الفكر الذي يعتبره أساس لكل عمل أدبي أو فني، إلا أنه في ذات الوقت قد نافح عن الرؤية الجمالية حتى ضد من يعارضها في الفكر والفلسفة. فهو حين يتحدث عن جمال الأسلوب وسلاسة الفكر يعطي تمثيلاً لهيجل وغيره من الفلاسفة الألمان – باستثناء كانط فهو لا يشير إليه إلا بكل جلال – ويعتبرهم ممن أفسد اللغة والفكر، فهم يطرحون كل أفكارهم في جملة واحدة أو حتى كلمة واحدة ويطلبون من القراء فهم نظرتهم عبر هذه الجمل أو الكلمة التي قد تكون صعبة التأويل وغير مفهومة. وحتى في الأدب الألماني، فهو يفضل النثر الفرنسي ويعتبره أروع من النثر الألماني، لأنه يقدم كل جميلٍ وجليلٍ عبر دفعات، لا دفعة واحدة.
لكن كيف يمكن فهم هذا الرأي في الوقت الذي كان الشاعر الألماني غوته والشاعر الألماني شيللر يبسطان قوة أدبهم في ذلك العصر؟ بل إن شوبنهاور يعرف غوته والتقى به عدة مرات ويعتبره من عظماء الأدب في ألمانيا ويقدر أدبه وفنه، هذا مما يصعب تفسيره !