مقالات

نظريات الأدب الماكرة: من الأدب السرداني إلى الأدب النسْوي – فريد الزاهي

كان ثمة وقت يعتبر فيه الناقد أديبًا من ضمن الأدباء، يكتب في السياسة والسيرة الذاتية، والفلسفة والصحافة، يتدخل في مصير عصره بحيث قد يسمونه عميدًا للأدب العربي، بقبول كبير من الكثير من الشعراء والأدباء والقصاصين والروائيين. يكفي أن نتذكر هنا طه حسين ومحمد مندور والعقاد وغيرهما. وكانت الصراعات والمواجهات في ما بينهم، وبينهم وبين غيرهم، بالرغم من بعض المزالق الذاتية المتصلة بعنجهية البعض والتلذذ بالسلطة الثقافية لدى البعض الآخر، عبارة عن حلبات تثري ولا تفقر، وتخصب ولا تعقم المجال الثقافي.

في المغرب كان محمد برادة ومحمد بنيس باختلافات نسبية قليلة، ومعهم أصوات خبا صيتها كإدريس الناقوري وإبراهيم الخطيب يمثلون، في السبعينيات، استمرارا لهذا الأنموذج من الناقد المثقف الأديب الفاعل في السياسة كما في الثقافة والأدب.

كارثة البنيوية وأخواتها

انزلق النقد بالمغرب كما بالبلاد العربية في أواسط السبعينيات وبداية الثمانينيات حثيثًا من البنيوية التكوينية التي ظلت منفتحة على الفكر والمجتمع، إلى بنيوية شكلية كانت وراء التحول من دراسة المعنى في الأدب إلى دراسة التقنيات الحكائية. وكان للسيميائيات السردية وبالأخص السرديات لدى غريماص وبارث، وبالأخص لدى تودوروف وجيرار جنيت ومن حذا حذوهم، سحرٌ كبير على التعليم بالمغرب ثم تدريجيًا بالعالم العربي من خلال كتابات سعيد يقطين وسيزا قاسم وغيرهما، بحيث تحولت سرديات وسيميائيات النص إلى بديل تحليلي أردى قتيلًا المنظور الاجتماعي والتاريخي و”المضموني”، بالرغم من أن السيميائيات السردية تحلل بشكل كبير معاني النص ودلالاته.

لم يأت “التحرر” إلا بشكل تدريجي، في وقت صار فيه النقاد أصحاب هذا التوجه سلطة في الجامعة المغربية والعربية والملاحق الثقافية والمجلات. هذا التحرر الجزئي جاء عبارة عن انزلاقات ساهم فيه أصحاب هذا التوجه نفسه، وكأنهم بذلك كانوا يعلنون عن التحولات التي تعيشها البنيوية والشكلانية. وظهرت أعمال المفكر الإيطالي أمبرتو إيكو في اللغة لتدعو إلى النص المفتوح وإلى ضرورة التأويل وحدوده.

في مجال اللسانيات انتقلت الدراسة من البنيوية المحايثة المنغلقة في دواخل اللغة إلى مجال التداوليات ودراسة التلفُّظ، وظهرت جمالية التلقي الألمانية، فصار الناقد الباحث المدرّس في ورطة من أمره: هل يتبنى هذا أم ذلك؟ في تلك المرحلة، أي في الثمانينات والتسعينيات، في الوقت الذي صارت فيه السرديات والسيميائيات مرجعية متنامية، للبحث كما للتدريس والكتابة النقدية، صرنا نحن القارئون مباشرة باللغة الفرنسية، نلفي رولان بارث يهرب منها بجلدته، ليدخل تجربة مغايرة أقرب إلى الرواية والسيرة الذاتية والتفكير الوجودي، وجيرار جنيت يتخلى نهائيًا عن بلاغته السردية للغوص في جماليات العمل الفني، وتزفيطان تودوروف يعود لحبيبته الأولى فلسفة الفكر… فيما ظل قطيع النقاد العرب يدفع بعربة التحليل النصي والبلاغي في أرضية كانت لا تزال متعطشة للتخلص من أدران التحليل الإيديولوجي والماركسي والتاريخي الوصفي للنصوص وتعسفاته.

لكن لم نكد نعِ هذه المفارقة التاريخية، التي تقدر بعشرين سنة، حتى جاءتنا موجة أخرى تسمى تحليل الخطاب وهي مزيج من السرديات والبلاغة صارت تعود لدراسة أنماط الخطاب النقدي والبلاغي لدى العرب، بغير القليل من الفعالية والجدة. بيد أن هذا الجديد النقدي، في مجمله وفي تراكمه، لم يبلغ شأو مقاربات متعددة المصادر والتخصصات، يتمازج فيها الفكري بالفلسفي بالتاريخ الأدبي، كما هو الأمر لدى عبد الفتاح كليطو، هذا المحارب المفكر المتوحد الذي أدرك، كما قال عنه الخطيبي، أن المنهج لا ينفصل عن النصوص وأن التفاعل المنهجي يلزم أن يندمج في الكتابة النقدية حتى يغدو من لحمتها.  والأكيد أن كتابات كليطو، وغيره ممن تحرروا من دهشة تلك المناهج مبكرًا، ستظل صامدة في الزمن حتى ولو لم تحصل على جوائز هنا وهناك، فيما سوف تتعرض للنسيان عاجلًا أم آجلًا فقاعات السرديات وتحليل الخطاب، إلا من استطاع منهم أن ينتج معرفة عربية جديدة بهذه المناهج وغيرها…

إن المفارقة التي نعيشها اليوم، تتمثل في أن أصحاب هذه المناهج صاروا فرسان الثقافة العربية. صارت الجوائز في المضمار الثقافي يحصدها “السردانيون” و”الخطابيون”، والدارسون للرحلة. بل إن البعض من الأجيال الجديدة صاروا يتتبعون نبض الجوائز فيؤلفون في ما يعتبرونه قيمة عامة لها، حتى ولو أدى بهم ذلك إلى التخلي عن تخصصهم وما أنتجوا سابقًا كي ينتحلوا لأنفسهم صفات جديدة محمودة هناك.

آفة “الكتابة النسوية”

بالمقابل، ولكي تجد الكثير من النساء الناقدات والكاتبات موطنًا لهن في هذا الخضم، صرن ينظّرن لما يعتبرنه كتابة نسوية. والحقيقة أن هذه الآفة نبعت في جامعاتنا منذ الثمانينات، حين صارت الطالبات يتوجهن، تحت وطأة هامشية حضورهن في الساحة الثقافية والجامعية، وبالنظر إلى وضعية المرأة الاجتماعية عمومًا، إلى دراسة صورة المرأة في هذا النص أو ذاك. بل إن هذه الآفة بلغت حتى العلوم الاجتماعية كالأنثربولوجيا وعلم النفس والسوسيولوجيا.

لقد صار هذا المنزع يتقوى، بحيث نحتْ الكثير من الكاتبات إلى التخصص في ذلك، بل إلى إنشاء رابطات وجمعيات خصوصية للكاتبات والباحثات. وبعد أن تمثلت الكثير من الباحثات والدارسات هذا التراكم التحليلي والبنيوي، صرن يطبقنه على بنات جنسهن بشكل أو بآخر، مستعينات بين الفينة والأخرى بالدراسات التاريخية والنفسانية، لتبرير دراستهن لأدب نسوي يسعين إلى الكشف عن خصائصه المميزة. لا يمكن للباحث المتفحص هنا إلا أن يفصح عن عدم اقتناعه بهذه المقولة التي تفصل في الكتابة بين الذكوري والأنوثي، مع أن مبرراتها النصية مشتركة بين الكاتب الذكر والكاتبة الأنثى: فالغنائية والحديث مثلا عن أمور حميمة خاصة بالجسد الأنوثي يمكن أن نجدها بعمق كاسر لدى كتاب ذكور….

والحال أن الكتابة خنثى أو أندروجينية، لا هي بالمذكر ولا هي بالمؤنث. فالمرأة التي تمارس الكتابة، لا يمكنها إلا أن تتماشى بشكل أو بآخر، مهما تنصلت من ذلك، مع المتخيل الذي يتصل بالكتابة، ومن ذلك قول ابن عربي: “كان بين القلم واللوح نكاح معنوي”. المرأة الكاتبة تحمل ذكورة القلم وأنوثة الورقة في ذاتها. وبمجرد ما تحلل أو تحكي، حتى وهي تحكي عن أنوثتها، تتجرد من أنويتها لتنكشف لنا (كما قال فرويد) مجمل قواها الباطنة التي يشكل الذكوري أحد مكوناتها. فلقد علمنا التحليل النفسي والأنثربولوجي أن الأمر أعقد من هذا الفصل وأكثر تركيبا وإشكالا. كما أن الخنثى المُشْكِل حيّر الفقهاء وأحكامهم. وذلك حكم الكتابة (من باب المجاز طبعا) !

هل لنا أن نعتبر كتابات رامبو المراهق كتابات مراهقة؟ وهل نعتبر كتابات أغاثا كريستي نسوية؟

إن فرضية كتابة نسوية لا علاقة لها بشكل مباشر بجسد المرأة ذي المظهر الأنوثي. فيكفي أن نقرأ كتابات الكثيرين من الكتاب الرجال (عبد الله الطايع مثلًا أو رشيد أو في الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية)، لنكتشف فيها حسًا أنوثيًا متصلًا بمثلية جنسية يتداخل فيها الأنوثي بالذكوري. ثم، ألم يكتب الكاتب الجزائري محمد بولسهول رواياته بالفرنسية باسم ياسمينة خضرا، تلاعبًا بتلقي الرجال والنسا ء معًا قبل أن يعلن عن اسمه الحقيقي؟ فهذا الجندي (والجندي يعتبر في عالمنا العربي رمزًا للذكورة والرجولة والفحولة) ظل متواريًا خلف اسم زوجته، التي تَسمى باسمها تعبيرًا منه حسب قوله على امتنانه وتقديره لها ولكل النساء.

ظل الرجل ينشر بالمؤنث بشكل رسمي لمدة ثماني سنوات، ترجمت خلالها رواياته إلى 12 لغة، قبل أن يهرب بجلدته من الجزائر إلى المكسيك ومنها إلى باريس. وأفترض أن الكتابات بالعربية أو الفرنسية التي تناولته بالتحليل والنقد قبل الإعلان عن اسمه الحقيقي، تبعًا لمفهوم “الأدب النسوي” سوف يكون أصحابها (وصواحباتها) في مأزق محرج لن يحسدهم (ن) عليه أحد !

إن هذا لا يعني أن كل من يشتغلن بهذا المفهوم لا ينتجن سوى معرفة مرآوية مكرورة، فالكثير من هذه الدراسات تتحرر داخليًا من سطوة هذا المفهوم.  بيد أن المرأة التي لا تستطيع أن تخرج من جلدتها لدراسة عوالم فسيحة لا يمكن إلا أن تعيد إنتاج مفاهيم نرجسية قد يأتي وقت ما لكي تُجاوزها مفاهيم ومقولات جديدة عليها. إن هذا الطابع المرآوي، ذا العمق الإيديولوجي المتصل بتنامي النزعة النسوية في السياسة كما في الثقافة، يحجب عن دراسة ما يسمى بالأدب النسوي كون الرجل والمرأة يشتركان في الصورة والجسد قبل أن يختلفا في المصير والتحديد النوعي.

لقد صار الاختلاف في النوع يضمحل مع الوقت، من خلال توحيد الأنموذج الجسدي، وتوحيد المظهر اللباسي (منذ أن أطلق إيف سان لوران في الستينيات، وهو بالمناسبة مثلي الجنس، موضة اللباس الرجولي للمرأة)، كما من خلال الزينة وقصة الشعر . فالعالم، حسب وتيرة التطورات الجسدية والمظهرية المتسارعة اليوم، صار يتطور بشكل حثيث نحو جنس وحيد متقارب. وهذا التطور في الأدب والثقافة والموضة والفن والديزاين والسينما والإشهار وشبكات التواصل الاجتماعي، هو ما يلزم اليوم دراسته لنكتشف أن الأنوثة والذكورة ليستا ثنائية قاصمة بقدر ما أن ما بينهما من فواصل صارت تضمحل بشكل صارخ بحيث لم تعد هذه الثنائية سمة المجتمع الحالي إلا في المجال الاجتماعي…

إنها ثنائية غامضة المعالم، بحيث أضحت صورة بلاغية تتلاعب بمنظور النساء قبل الرجال !

ثم إن مسألة النوع (الجندر) التي صارت موضوعة الساعة، إذا كانت تنطبق على الفوارق الاجتماعية والسياسية والحقوقية، قابلة أكثر للانطباق في المجال السوسيولوجي والسياسي والحقوقي أكثر من انطباقها على المجال الأدبي. بل حتى في المجال السوسيولوجي يتذكر الكثيرون أن عالمة اجتماع نسوية هي فاطمة المرنيسي تحدثت عن النساء ولم تتبنّ أبدًا مفهوم الجندر، في كافة دراساتها، مع أنها بنت الثقافة السوسيولوجية والفكرية الأمريكية (حيث حازت على الدكتوراه)، ومع أنها أكثر نسوية من الكثير من الجندريين والجندريات.  يدعونا هذا المفهوم، كما مفهوم ما بعد الكولونيالية إلى النظر بشكل نقدي صارم لطبيعته النظرية الهشة، انطلاقًا من مفاهيم أكثر تقعيدًا وخصوبة كالجنسانية (مشيل فوكو) أو الاختلاف (جاك دريدا)، أو غيرها…

من ثم يمكننا القول بأن مكر النظريات لا يصمد كثيرًا أمام التاريخ…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى