مقالات

هل كان ميلاد القارئ رهينًا بموت المؤلف؟ – بدر الدين مصطفى

من الأمور الشائعة في عملية التلقي الجمالي للأعمال الفنية، على مختلف أنواعها، التساؤل باستمرار عن قصدية المؤلف من وراء عمله؛ ماذا يريد أن يقول لنا؟ ما هي رسالته وما مبتغاه؟ وهل نجحنا، نحن كمتلقين للعمل، في فهم مراده؟. أتذكر جيدًا ذلك السؤال الذي كان يطاردنا في كل اختبارات اللغة العربية في سنوات الدراسة ما قبل الجامعية “ماذا يقصد الشاعر من قوله/ أو بيته/ أو قصيدته؟”. وقتها كنا نجيب عن السؤال بما فهمه مؤلف الكتاب المدرسي من النص، لا بما فهمناه نحن. بعدما تجاوزنا تلك المرحلة فهمنا أن مقصد الشاعر يخصه هو بمفرده، وأن معنى النص لا يوجد ولا يستقر على حال بل يدخل فضاءً آخر بمجرد انتقاله من عالم مؤلفه إلى عالم القارئ. أدركنا أيضًا أنه كان من الأولى سؤالنا عما فهمناه نحن من النص وما أدركناه من علاقات بداخله، إذ كيف لنا أن نعرف مقصد الشاعر، الذي يستقر المعنى بداخله، حتى لو حاول أن يعبر عنه بوسيط اللغة؟

كان الفضل، في هذا الفهم المتأخر زمنيًا، لعلاقة المؤلف بعمله، يعود إلى الناقد الأدبي وعالم الاجتماع البنيوي رولان بارت، الذي نشر في العام 1967 مقالته “موت المؤلف” La Mort De L’auteur ليقلب بها حال النظرية الأدبية المعاصرة رأسًا على عقب، وليضع بذلك واحدة من المقولات البارزة والمؤثرة في فلسفة الجمال والنقد الفني المعاصر. لقد قال بارت “إن النص من الآن فصاعدًا على كافة مستوياته وبجميع أدواته، منذ صناعته وحتى قراءته، يظهر بشكل يغيب فيه المؤلف غيابًا كاملاً”[1]. كما دعى بارت إلى أن نحذف من قاموسنا كلمة “مؤلف” لنحل محلها “الكاتب” Le Scripteur، الذي لا يمتلك “عواطف” بداخله  ولا “أمزجة”  ولا “مشاعر”  ولا “انطباعات” يتوجب الوصول إليها، ولا يوجد لديه إلا ذلك القاموس الضخم الذي يستمد منه كتابة “نشاطًا لفظيًا” لا يمكن أن ينفد أبدًا “فالحياة لا تعرف شيئًا سوى أن تحاكي الكتب وما الكتب ذاتها إلا مجرد أشياء مصنوعة من العلامات”[2].

لكن ما مبرر هذا الانقلاب الذي قام به بارت على المؤلف ليطيح به من علياء عرشه الذي طالما استوى عليه؟ حتى تكون الإجابة ممكنة عن هذا السؤال لابد من وضع مقولة بارت في سياقها التاريخي؛ أعني بالسياق هنا حال المناهج النقدية السابقة عليه.

كانت المناهج النقدية في مراحلها الأولى، إبان القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، منصبة في الأساس على الفنان، كعنصر من عناصر ثلاثة تشكل الخبرة الجمالية (إضافة إلى العمل الفني والمتلقي)، لما له من أهمية قصوى في تفسير العمل الفني. كيف لا وهو المنتج الرئيس للعمل وخالقه؟. من هنا شكلت عملية تفسير العمل من خلال شخصية الكاتب وحياته، أقدم مناهج الدراسة الأدبية وأكثرها رسوخًا. وهكذا كان قطب المؤلف هو نقطة تقاطع مجموعة من الدراسات النقدية المتمثلة في المناهج التاريخية والنفسية والاجتماعية، والمنبثقة أساسًا من روح الفلسفة الوضعية والفرويدية والماركسية. فقد اعتبر جورج لوكاش (1885- 1971)، على سبيل المثال، أن الأدب انعكاس للحياة أو الواقع في إطار السياق الاجتماعي والتاريخي[3].

وتفاعلًا مع هذا المسعى البيوغرافي، وتقاطعًا مع مرجعية المؤلف الوحيدة نظرت تلك الدراسات النقدية إلى النص الأدبي بوصفه “مرآة” تعكس حياة المؤلف وسياقه التاريخي العام، أو السياق اللاشعوري الخاص الذي أفرزه، بحيث جاءت تلك الدراسات محملة في جانب كبير منها بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية والنفسية التي أنتج النص في ظلها، لدرجة تحول النص من خلالها إلى مجرد وثيقة، وتحول الناقد معها إلى مؤرخ أو عالم للاجتماع أو للنفس، إلخ.

وبالمثل كان التحليل النفسي كما صاغه سيغموند فرويد(1856- 1939)، يهدف بالأساس إلى تحليل الظاهرة الأدبية من خلال علاقتها بالعقد النفسية للمؤلف، حيث “إن صورة الأدب التي يمكن أن نجدها في الثقافة المتداولة تتمركز أساسًا، حول المؤلف وشخصه وتاريخه وأذواقه وأهوائه، ومازال النقد يردد، في معظم الأحوال، بأن أعمال بودلير، وليدة فشل بودلير الواقعي، وأن أعمال فان جوغ وليدة جنونه، وأعمال تشايكوفسكي وليدة نقائصه: وهكذا يبحث عن تفسير للعمل من جهة من أنتجه، كما لو أن وراء ما يرمز إليه النص، صوت شخص وحيد هو المؤلف الذي يبوح بـ”أسراره” من وحي لا شعوره[4].

وإذا كانت المقاربة السيكولوجية تنطلق في تفسيرها للعمل الأدبي من الأوضاع النفسية للكتاب، فإن المقاربة السوسيولوجية تعمد هي الأخرى إلى المعطى الخارجي، ولكن من منظور يتجاوز الفردية ليعانق الطبقة أو الإطار الاجتماعي العام، كما هو الحال في التحليل الماركسي للعمل الفني.

لقد ظلت تلك النظرة إلى العمل الفني على أنه ابن شرعي لمؤلفه، وانعكاس لحياته، وثقافته، وعالمه النفسي، وواقعه الاجتماعي، هي المسيطرة على التوجه العام للنقد الفني حتى منتصف القرن العشرين. لهذا كانت مؤلفات النقد الفني السائدة إبان تلك الفترة تبدأ دائمًا بمقدمة عن حياة الفنان وعالمه الخاص وأهم الأحداث التي صادفها في حياته. وكانت بالمثل تقدم النصيحة للمتلقي بأنه إذا أراد أن يمتلك رأيًا سليمًا وفهمًا دقيقًا لعمل الفنان فعلية قبل أن يشرع في التعامل مع العمل أن يكون على دراية بتلك المعطيات، حتى تمد له يد العون في مقاربة أفكار الفنان وتجربته الشعورية، ومن ثم القدرة على التعامل مع أعماله وفهمها. ويتوقف نجاح عملية التلقي الجمالي للعمل الفني على مدى استطاعة المتلقي بلوغ تفسير مُرضي للعمل الفني يعتمد في المقام الأول على تلمس أبرز الأحداث الفاعلة في حياة الفنان، والتي يمكن اكتشافها وتتبعها داخل عمله.

على أن تلك المقاربة التي فرضت ذاتها على حركة النقد الفني آنذاك تعرضت إلى نقد كبير على يد النزعة الشكلانية[5]. فقد هاجم الشكلانيون الرأي القائل بأن الأدب فيض من روح المؤلف أو وثيقة تاريخية اجتماعية أو تجلي لمنظومة فلسفية ما، وبهذه الطريقة كان توجههم النظري مماثلًا للحساسية الجمالية في الفن الحداثي التي نحت نحو التجريد. كان الجانب الذي وجد ما يقابله في الشاعرية الشكلية الروسية، هو تركيز الفن الحداثي آنذاك على التأثير من خلال الابتعاد عن تمثيل موضوعات الواقع والطبيعة بصورة مباشرة “فقد مثلت المدرسة الشكلانية نقلة هائلة، بعيدًا عن نظرية الفن السائدة السابقة عليها، وهي تلك النظرية التي كانت قائمة على المحاكاة”[6]. ثم اقتربت الشكلانية من البنيوية عندما ازدهرت مدرسة براغ على يد رومان ياكبسون الذي دعا إلى تحليل النصوص من خلال بنيتها اللغوية والتنظيم الصوتي المستقل لدوالها من خلال العلامات الدالة.

بناء على ما سبق، كانت المناهج السابقة على دعوة بارت، تمشيًا مع احتفائها بسلطة المؤلف وهيمنة السياق، تلجأ إلى فهم العمل الأدبي وفق شروط خارجة عن فلكه. فتفسر العمل الفني بالتجارب الماضوية للفنان، وتبحث عن علامات تلك التجارب داخل العمل الفني، وبالتالي يصبح العمل الفني أثيرًا للماضي ورد فعل عليه من قبل الفنان. ليس ثمة جديد إذن، ومن أين يأتى الجديد وقد أُغلق العمل الفني من خلال ربط كافة تفاصيل أحداثه بتفاصيل حياة مؤلفه؟!.

فإذا افترضنا مع فرويد ان العمل الفني ما هو إلا انعكاس لحياة الفنان وتجاربه النفسية وحياته الشخصية، فإن هذا الافتراض يلغي تعددية العمل الفني ويجهض إمكاناته التأويلية، لأنه في تلك الحالة سيكون ثمة معنى واحد ووحيد للعمل الفني، وسيفقد العمل الفني قيمته وديمومته الزمنية. سيفقد هالته التي لا تنضب وبريقه الذي لا يخفت مع الزمن، بل يزداد لمعانًا وتوهجًا. إذا اعتمدنا وجهة نظر فرويد، يكفينا إذن في تلك الحالة أن نعرف الدلالات السيكولوجية للعمل الفني وعلاقتها بحياة الفنان، ليترسخ لدينا في نهاية الأمر شعور بأننا أحطنا بالعمل الفني في مجمله وأننا لسنا في حاجة إلى العودة إليه، فقد استنفد غرضه. هكذا فعل فرويد في تحليله لتجربة دافنشي، فمن منا بعد قراءة تحليل فرويد لأعمال دافنشي بوصفها انعكاس لرغبات طفولية وعقد نفسية نتيجة علاقته بأمه وأصدقائه، يرغب في العودة إلى مشاهدة أعماله، فالمعنى قد تكشف، وما كان محتجبًا بالنسبة إلينا غدا الآن جليًا.

هذا هو السياق الذي وضع فيه بارت مقالته “موت المؤلف”، التي نادى فيها بقطع الصلة بين المنتج (المؤلف) ومنتجه (العمل الفني). فالفنان ما أن ينتهي من عمله الفني، تنقطع علاقته أيضًا به، وليس من حقه التدخل في عملية قراءته أو تلقيه بأي صورة من الصور، لأن العمل في هذه الحالة يكون قد انتقل من مدار المؤلف إلى أفق القراءة والتلقي، وبين الاثنين ليس ثمة علاقة.  ينتهي دور المؤلف بكتابة النص، والعبء يقع بعد ذلك على القارئ في عملية القراءة؛ عبء اقتناص المعنى في تعدديته واختلافه، وهذا ما يجعله مشاركًا في عملية إنتاج النص. فدور القارئ لا يقل أهمية عن دور المؤلف، ولا يمكن فصل عملية القراءة عن الكتابة، إذ هُما متلازمتان. والقارئ هو الذي يقرر معنى النص من خلال استرشاده بالعلامات التي يستخدمها المؤلف، لكنه لا يتقيد بها، ويمكنه أن ينتصر، من خلال النص، للمعنى الذي تستحضره العلامات في ذهنه، والذي يمكن أن يتغير من يوم لآخر ومن قارئ لآخر.

لقد رأى بارت أننا في حال اعتمدنا المنظور الكلاسيكي للنقد الأدبي، الذي يربط مواقف الفنان الشخصية من القضايا العامة بأعماله، مدخلًا لقراءة العمل الفني، سيجد القارئ نفسه، عوضًا عن الاستغراق في الحالة الجمالية التي تفرضها النصوص والتي هي في الأساس هدف الفنان، منهمكًا بكل حماس في البحث عما يؤيد وجهة نظره وموقفه النفسي والأيديولوجي من المؤلف. وتلك لن تكون سوى قراءة مختزلة للعمل تفقده مستوياته الدلالية وتحوله إلى بنية منغلقة تفتقد تعددية القراءة وانفتاحها.

لننظر معًا في هذا المثال الكاشف الذي يعبر عنه خبر فوز الأديب النمساوي بيتر هاندكه بجائزة نوبل في الأدب عام 2019، يقول الخبر “حصل الروائي النمساوى بيتر هاندكه على جائزة نوبل فى الأدب، الثلاثاء، وسط انتقادات له في السويد وفي الخارج لتبريره جرائم الحرب الصربية في تسعينيات القرن الماضي، وقد تسلم هاندكه الجائزة التي تبلغ 9 ملايين كرونر (948 ألف دولار) من الملك كارل السادس عشر جوستاف، في حفل أقيم فى ستوكهولم مع الفائزين بجائزة نوبل الأخرى باستثناء جائزة السلام التي تم تقديمها فى أوسلو. كان هاندكه مؤيدًا قويًا للصرب، ونفى أن تكون مذبحة 8000 مسلم بوسني في بلدة سريبرينيتسا إبادة جماعية، لذا قاطع ممثلو 7 دول حفل توزيع الجوائز احتجاجًا على ذلك، كما فعل أحد أعضاء الأكاديمية السويدية الذي اختار الفائز بجائزة الأدب، بينما استقال عضو فى اللجنة التي رشحت المرشحين للجائزة من منصبه. قاطعت ألبانيا والبوسنة وكوسوفو وكرواتيا ومقدونيا الشمالية وتركيا وأفغانستان، حفل توزيع الجوائز وشجب بعض قادة تلك البلاد الجائزة، فيما قال رئيس كوسوفو هاشم تقى، إن “العدالة ستسود، لا الأكاذيب والحرمان وتزوير جوائز نوبل”، وذلك حسب ما نشرته شبكة “سكاي نيوز” الإخبارية”[7].

إلى هنا ينتهي الخبر الذي يستعرض ردود الأفعال الغاضبة على فوز هاندكه بالجائزة الأرفع عالميًا نتيجة مواقفه السياسية. ورغم أن هذا الموقف المنتقد من الممكن تفهمه إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية مسؤولية الفنان بوصفه شخصية عامة مؤثرة جماهيريًا وأن مواقفه المعلنة لابد أن تصب في النهاية في صالح القيم التي تشكل المشترك الإنساني العميق، إلا أن هذا النقد لا علاقة له على الإطلاق بالفوز المستحق لهاندكه بوصفه روائيًا مميزًا. إذ ما علاقة الموقف السياسي الذي تبناه المؤلف وبين القيمة الجمالية والفنية لأعماله؟

مثال آخر قد يكون مفيدًا في هذا الصدد؛ فربما نشعر بالإعجاب تجاه مجموعة من الكتب التي تحتوي على قيم أخلاقية نبيلة كالشجاعة والوفاء والإخلاص، لكننا نكتشف بعد ذلك أن من كتبها لا يتمتع بأي صفة منها، فهل يجوز لنا الخلط بين العالمين؟ ربما صاغ بارت مقالته عن موت المؤلف للإجابة عن هذا السؤال تحديدًا. فالتعارض بين العالمين لا يمكن أن يقلل من أحدهما، فلنا أن ننتقد مواقف المؤلف الواقعية، لكن هذا النقد لا ينبغي أن ينسحب على مؤلفاته أو يكون مدخلًا لقراءتها. حقًا أن الحياة الخاصة للمؤلف من الممكن أن تكون ذات جاذبية حكائية كبيرة جدًا، ويمكن أن تفسر كيف ولماذا ظهرت الكتب إلى حيز الوجود؛ وغالبًا ما تفعل ذلك. لكنها ليست ذات أهمية بالنسبة للقيمة الأدبية لما كتبه، أو لمعناه، مثلما أن الحياة الشخصية لعالم الفيزياء ليس لها قيمة بالنسبة لقبول أفكاره أو رفضها عن نظرية الكم أو بنية الذرة.

لقد وجد بارت “أن ميلاد القارئ رهينًا بإعلان موت المؤلف”،[8] وللقارئ الحرية الكاملة في تأويل النصوص حتى لو جاوز البنية الدلالية الواضحة للنص. ولذلك فإن وظيفة القارئ قراءة النص دون ذات المؤلف، وانفتاحه على موضوعه وفضائه الدلالي. لقد عبر فلوبير  Flaubert (1821- 1880)عن هذا قائلًا: “كل ما أريد أن أفعله هو أن أنتج كتاباً جميلًا حول لاشيء وغير مترابط إلا مع نفسه وليس مع عوالم خارجية”[9].

على أن الكاتب- في رأي بارت- لابد أن يساهم في جعل عملية القراءة مثمرة، ويكون ذلك عن طريقين: الأول؛ ألا يقدم نصًا مغلقًا محملاً بالأحكام القاطعة، ذاخرًا بالنتائج النهائية، والتي عادة ما تقوم على وهم مبناه أن المؤلف يمتلك اليقين، ويعرف الحقيقة المطلقة. وأن يقوم على العكس من ذلك بتقديم نصًا مفتوحًا. ومعيار انفتاح النص عند بارت هو الغموض والالتباس والإيحاء بالمعنى دون تحديده، لهذا يتحدث بارت عن حالة يطلق عليها اللامقروئية illisibilité، ولا يعني هذا المصطلح عنده استحالة القراءة بمعناها الحرفي، بل هي حالة تصف النصوص التي لا تقبل قراءة واحدة؛ أي النصوص المنفتحة دلاليًا “إنني لأتصور أن القصة المقروءة هي تلك التي نعلن بعد قراءتنا لها أنها لا تقرأ”[10]. والطريق الثاني، لا يتدخل الكاتب في عملية القراءة بأي صورة من الصور كأن يؤيد وجهة نظر على أخرى أو معنى على معنى آخر أو يقول “لست أقصد هذا بالضبط” أو “لقد أسأتم فهم مقصدي..” إلخ. هذا التدخل كفيل بإفساد عملية القراءة وتحويل مسارها التعددي. يقول إمبرتو إيكو U. Eco (1932- 2016) معبرًا بوضوح عن هذا المعنى”…ففي نص لكانط لا يمكن القول إنه استخدم كلمة ما ليوحي بفكرة ما. فهو يفرض فكرة واحدة وفكرة واحدة لا غير. أما بخصوص النص الأدبي، كنصوص بروست على سبيل المثال، فإننا إذا بحثنا عن الهدف وراء استخدام النص لكلمة ما، وتوصلنا لاستنتاج محدد، ثم سألنا الأديب عن صحة استنتاجنا هذا، لكان جوابه، إذا ما كان أمينًا: ربما، أنا لا أدري، قد يكون الأمر صحيحًا أو خاطئًا لكن التأويلين صحيحين…إن غاية كل فيلسوف الوصول إلى صياغات شبه رياضية. وبعكس ذلك، إن حلم الأديب هو أن يحيط الكلمات بهالة من الغموض، ليس ذلك جريًا وراء الغموض، بل لأن دوره يتمثل في تصوير كيف أن كل عاطفة وكل حالة هي متناقضة وغامضة. فإذا ما قرأنا الخلاصة اللاهوتية للقديس توما الأكويني وجدنا أن الله خير والشيطان شرير وانتهى الأمر. لكن لنقرأ الفردوس المفقود لملتون ولنطرح السؤال: هل الشيطان شرير؟ ليس هذا أكيدًا، يجب التعمق في المسألة. وإذا ما طلبنا من ملتون مزيدًا من التوضيح سيجيبنا: لتقرؤوا الخلاصة اللاهوتية”[11].

يفرق إيكو هنا بن أسلوبين للكتابة، الأسلوب الفلسفي الذي يتخذ من الصياغات الرياضية هدفًا له، أسلوب ينشد الوضوح والتميز، يخاطب العقل، يسعى لتحديد المعنى وحصره في أضيق حدود ممكنة. وهذا الأسلوب هو المتبع في الكتابة الفلسفية على مختلف العصور، فهو ذاته الأسلوب الذي عبر به ديكارت وكانط وهيجل ومن قبلهم أفلاطون وأرسطو. هناك بالطبع استثناءات لبعض الفلاسفة الذين حاولوا التعبير بأسلوب مختلف يقع على التخوم بين الأسلوب الفلسفي والأدبي، غير أن هذه المحاولات ليست سوى محاولات فردية ويظل الغلبة في النهاية لأسلوب التعبير الصارم الذي ينشد الدقة ويهدف إلى الوضوح والتميز. أما الأسلوب الثاني فهو الأسلوب الفني الذي يعمد الالتباس والغموض، ولا يقدم المعاني الجاهزة المباشرة، بل يستفز ملكة التأويل لدى المتلقي ويشحذ قدراته النقدية.

كان لمقولة بارت تأثير كبير على الجماليات بوجه عام وعلى حركة النقد الأدبي على وجه التحديد، خاصة فيما أصبح معروفًا بعده بجماليات التلقي. ولعل أهم النتائج التي ترتبت على إعلان بارت موت المؤلف تمثلت في تحرير الفكر النقدي من سلطة الذات ومرجعيتها، وجعل العمل الفني هو المرجعية الوحيدة للناقد، هو المتحدث الأول والأخير. لم يعد العمل موضعًا لتسجيل الحدث أو مجالًا للتعبير أو انعكاًسا وجدانيًا. لقد أصبح التعبير الجمالي حالة من حالات التمثل الخالص للمتلقي. وهنا يمكن القول إن نظرية المحاكاة الكلاسيكية قد ذهبت بلا رجعة. فالفن ليس مرآة تعكس ما هو موجود في الحياة سلفًا، كما لم يعد الفن انعكاسًا لحياة الفنان وتجاربه. لقد غدا العمل الفني متحررًا من كل مرجعية سوى مرجعية ذاته.

وعليه، فقد صار العمل الفني ميدانًا للعلامات التي تتفجر إلى ما هو أبعد من المعاني الثابتة، إلى المعاني اللانهائية التي تتحرك منتشرة فوق العمل مخترقة كل الحواجز؛ وهذا ما كان يعنيه بارت بالانتشار Dissemination. فليس المعنى هو ذلك المعنى الجاهز المختبئ داخل العمل الفني، بل هو ذلك الذي ينشأ نتيجة للتفاعل بين العمل والمتلقي؛ أي بوصفه عمل يمكن ممارسته واكتشافه من جديد، وليس موضوعًا يمكن تحديده والتقيد به. وبناء على ذلك، فإن قراءة العمل الفني لا تمثل إعادة وتكرارًا للقراءات السابقة، بل تحتضنها وتتجاوزها إلى قراءة إبداعية مغايرة وبديلة.

وبالمثل لا تعيش الأعمال الفنية منعزلة عن بعضها البعض، بل تمتلك عالمها الافتراضي الذي تتقاطع بداخله وتتداخل في علاقات منتجة. إن عالم الفن هو عالم التكرار والاختلاف، وميدانًا للعود الأبدي، عودة المختلف. فالحبكات التي يتحرك فيها الفن هي في النهاية محدودة، وكذا موضوعاته، لكن التناصّ الذي يحدث بين الأعمال الفنية، هو الذي ينتج أعمالًا لا نهائية.

وعلى مستوى حركة النقد الفني، استثمرت النتائج السابقة لمقولة موت المؤلف في صياغة نظرية أكثر تطورًا على يد أمبرطو إيكو في نظريته عن العلامات وتطبيقاته على فني الأدب والتصوير، ومن بعده مدرسة كونستانس Konstanz على يد رائديها هانز روبير ياوس H. Robert Jauss (1921- 1997) وفولفجانج إيزر W. Izer (1926- 2007)، اللذين قاما بالتقريب بين الفينومينولوجيا، وخاصة فينومينولوجيا رومان إنجاردن R. Ingarden (1893- 1970)، ونظرية القراءة، ليكون نتاج ذلك ما أطلقوا عليه جماليات التلقي. وقد فتحت جماليات التلقي أفقًا جديدة في الممارسة الفنية النقدية، بحيث حاولت أن تتخفف من مركزية النص وسلطته، التي رسخها بارت ومن بعده التفكيكيين، لتؤكد على أن عملية القراءة تسير في اتجاهين متبادلين من النص إلى القارئ، ومن القارئ إلى النص في إطار علاقة تفاعلية.

ومع ذلك فقد تعرضت مقولة بارت لانتقادات عديدة، فالبعض رأى[12] أنها استبدلت سلطة النص بسلطة المؤلف؛ مركزًا بمركز آخر. وقد دفعه هذا الاحتفاء إلى نوع من التقديس الميتافيزيقي للنص “ليس وراء النص فاعل أو مسند إليه (كاتب) وليس أمام النص مفعول به (قارئ)؛ لا فاعل ولا مفعول به، النص يجعل المواقع النحوية غير ذات صلاحية…”.[13] كما رأى البعض الآخر أن إعلان بارت به نوع من الافتعال غير المبرر، وأنه لا يمكن بحال تجاوز المؤلف، كما لا يمكن إلغاء السياق الثقافي والاجتماعي الذي يدور النص في فلكه. كما أن بارت في تحليلاته اللغوية كانت تسيطر عليه، في بعض الأحيان، نزعة صوفية واضحة تجاه النص، جعلت الكثير من تلك التحليلات يبدو غير مفهومًا، ومواقفه تبدو متناقضة في الكثير من الأحيان[14].

وعلى الرغم من أن تحليلات بارت بالفعل كان لها الأثر الأهم في أن تخطو الجماليات خطوات متقدمة في نهايات القرن العشرين، خاصة في مجال النقد الأدبي، إلا أن إعلان بارت موت المؤلف لم يكن مقنعا بالدرجة الكافية، وأسقط النقد الأدبي فيما أطلق عليه بارت حتمية الشكل، والذي ترتب عليه الاهتمام المفرط بالعلامات والدوال المستخدمة، وما تبع ذلك من الإغراق في التجريد، وافتقاد الشاعرية في التحليل، وصعوبة اللغة المستخدمة. إن من مقتضيات تمام العملية الإبداعية أن تكون هناك صلة نفسية ومعرفية بين أطرافها: المؤلف، النص، القارئ وذلك يتيح “حرية للقارئ في إعادة بناء النص، وإذا انتفت المسافة النفسية افتقد القارئ القدرة على ممارسة خبرة الإبداع في تذوق العمل الفني، وأضحى العمل الفني نوعًا من التغييب للقارئ، بينما تتيح المسافة النفسية أن يكون حضور القارئ مساويًا لحضور المؤلف لكي يدير حوارًا معه”[15]، فكيف يحدث ذلك إذا افترضنا موت أحد أطراف عملية الإبداع وهو المؤلف.

لقد ألغى إعلان بارت تأثير الذات الإنسانية الفاعلة، والتي هي حصيلة التفاعل العام والشامل مع الوجود، وبذلك أصبح المنظور البنيوي للوجود لا علاقة له بكينونة الإنسان التاريخية والاجتماعية، بل بالعلاقات اللغوية الشكلية التي تعتمد المنهج الجمالي المجرد للأشياء التي تتشكل دلالاتها ذاتياً دون فعل الإنسان[16].

 

 


[1] Barthes, Roland. Image-Music-Text, p. 42.

[2] فيليب ثودي، بارت، ص 116.

[3] رامان سلدن، النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة جابر عصفور (القاهرة: الهيئة المصرية لقصور الثقافة، 1996) ص 67.

[4] Barthes, Image, Music, Text, p. 25.

[5] يرجع بارت أصول مقولته عن موت المؤلف إلى النزعة الشكلانية الروسية التي ازدهرت بقوة في الفترة ما بين (1920- 1930)، وقد قام كلا من تزفيتان وتودروف بنقل بعض أعمالها إلى اللغة الفرنسية راجع:

Barthes, Image, Music, Text, p.  78

وراجع أيضا ما كتبه بارت عن المدرسة الشكلانية وإسهامها في تقديم قراءة مختلفة للنص الأدبي في

رولان بارت وجيرار جينيت، من البنيوية إلى الشعرية، ترجمة غسان السيد (دمشق: دار نينوي للنشر، 2001) ص 18 وما بعدها.

[6] بيتر شتاينر، المدرسة الشكلانية الروسية، ترجمة خيري دومة، ضمن موسوعة كمبريدج في النقد الأدبي، ج 8 (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2006) ص 33.

[7]  https://www.youm7.com/story/2019/12/11/%D8%A8%D9%8A%D8%AA%D8%B1-D9%87%D8%A7%D9%86%D8%AF%D9%83%D9%87-%D9%8A%D8%AA%D8%B3%D9%84%D9%85-%D8%AC%D8%A7%D8%A6%D8%B2%D8%A9-%D9%86%D9%88%D8%A8%D9%84-%D9%84%D9%84%D8%A3%D8%AF%D8%A8-%D9%88%D8%B3%D8%B7-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%AF%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D8%B3%D8%B9%D8%A9-%D9%887/4540707

[8] رولان بارت، النقد والحقيقة، ص: 87.

[9] مالكولم برادبري وجيمس ماكفلرن، الحداثة 1860- 1930، ترجمة مؤيد حسن فوزي (بغداد: دار المأمون للترجمة والنشر، 1987) ص: 25.

[10]  رولان بارت، هسهسة اللغة، ترجمة: منذر عياشي (بيروت: مركز الإنماء الحضاري، 1999) ص: 42.

[11] جزء من حوار مع أمبرتو إيكو نشر ضمن كتاب مسارات فلسفية، ترجمة محمد ميلاد (سوريا: دار الحوار، 2004) ص: 113-114.

[12]  كان هذا هو النقد الرئيس الذي بنى عليه عبد العزيز حمودة كتابه الخروج من التيه: دراسة في سلطة النص (2003).

[13]  رولان بارت، شذرات في خطاب عاشق، ترجمة إلهام سليم (الكويت: المجلس الوطني للنشر،2000) ص: 6.

[14] “في كتابيه لذة النص وخطاب عاشق يدخل بارت مرحلة العشق الصوفي للنص وتنشأ بينه وبين النص علاقة انتشاء ومتعة متولهة” عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، ص 63. أما المواقف الملتبسة التي تبدو متناقضة فعلى سبيل المثال؛ تفرقته بين العمل والأثر واستخدامه بعد ذلك للمفهومين بمعنى واحد، مواقفه المتباينة من حضور القارئ في العمل الأدبي، تردده بين التحليل البنيوي والتفكيك، وخلطه بين مهمة القارئ والناقد للعمل الأدبي.

[15] رمضان بسطاويسي محمد، الجميل ونظريات الفنون (الرياض: مركز الرياض للمعلومات، 1996) ص: 346.

[16] روجيه جارودي، البنيوية فلسفة موت الإنسان، ترجمة جورج طرابيشي (بيروت: دار الطليعة، 1985) ص: 83.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى