الفيلسوف الجديدمقالات

هل نحنُ مُجرّد حِكايات؟ – باتريك ستوكس

ترجمة: بشاير عبد الرحمن

بدأتْ في مستهلّ الثمانينات فِكرةٌ جَديدةٌ تَشقُّ طريقِها من فلسفةِ التاريخ إلى الجَدلِ المُحتَدِم حولَ الهويةِ الشخصيّةِ: ماذا لو كانتْ الذوات قِصصًا؟

حتى ذلك الحين، كانَ الفلاسفةُ الذيّن يحاولون فَهمَ ماهية الذات واستمراريتها عبر الزمن يبحثون عن صِلَةٍ تربُط الحالات النفسيّة المُتباينةِ في الأوقاتِ المُختلفة؛ على سبيلِ المثالِ، عيشُ تجربةٍ معينة يومَ الأثنينِ وتَذَكُّر هذه التجربة يوم الثلاثاء، فلو كانت التجربةُ والذكرى المُتعلّقةِ بها مُتصلتينِ بطريقةٍ سليمة؛ فإنّ هذا يُتيحُ لنا -بحسب هذه الرؤية- إعادةَ تعيينِ الشخصِ نفسه في مواضع زمنيةٍ مُختلفة.

لكنّ هذه المقاربة لا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بما يهُمنا ويعنينا في الهويةِ الشخصية. فعِدّةُ فلاسفةٍ متباينون فكريًا تباينًا شاسعًا مثل ألسدير ماكنتاير، وبول ريكور، وماريا شيكتمان، وحتى دانييل دينيت، ناقشوا بأننا لا نُعيدُ تعيين أنفُسِنا فحسب، بل نُؤولها، ونحاولُ فهمَها على ضوءِ قصّةٍ أكبر؛ قصّة حولَ مَن نحنُ وما الذي نحاول فِعله.

ولكي أقدّم مثالًا توضيحيًا أقول: تخيّل شخصًا في يوم زِفافه. إنّ الزواجَ ارتباطٌ بين شخصين، لكنّ ذلك يتجلّى فقط إنْ كانَ كُلّ شخصٍ مُرتِبطًا مع ذاتِه عبرَ الزمن: إذ إنّ العريس هُنا قد تحوّلَ لتنفيذِ الوعدِ الذي قَطعُه سابقًا في اليوم الذي تَقدّم فيه، والذي بدورهِ كانَ تتويجًا لسلسلةٍ من الأحداثِ التي كان نِتاجُها هذه الخُطوبة. وفي خطوةِ الزواج، يُورِدُ أيضًا مجموعةً مِن الالتزامات والنوايا المُستقبلية، ويترُكها على عاتقِ ذواتِه المُستقبليةِ إنْ صحَّ التعبير. بعبارةٍ أخرى، يُمكننا فقط إدراكُ معنى الزواجِ باعتبارهِ جُزءًا من قِصّة؛ قِصّة حُبٍّ، ولكنْ قد تكونَ أيضًا قصّة من نوعٍ آخر، فبعضُ الثقافاتِ المُختلفةِ قد تسرِدُها في قوالبٍ مختلفة.

ويزعمُ السرديون (narrativists) أنّ هذه الرؤية لا تقتصر على الأحداثُ الكُبرى كالزواج، وإنّما على كلّ لحظاتِ حياتك. إنّ الذاتَ هي لحمة حكايتها وسداها؛ فهي الراوي والبطل في آنٍ واحد. وما أنتَ عليه- حاليًا- هو يُسمّيه دينيت «مركزُ الثقلِ السرديّ»؛ النقطةُ التي تَتقاطعُ فيها كُلّ قِصصك.

مع ذلك فإنّ النهج السردي هذا يستدعي عَددًا من المُشكلات؛ وأوّلها: كيف تكون راوٍ بينما القصصُ تُحكى عنك؟ ألا يجعلكَ الأمر وكأنّكَ قِصةٌ تروي قِصةً عن قصّة؟

علاوة على ذلك، فإنّ أشكالَ السردِ التي نعرفها مُنظّمةٌ ومُختصرةٌ للغاية. فكما أدلى الطبيب والكاتب المسرحي الروسي أنطون تشيخوف بمقولته الشهيرة أنّه: إذا كان هُناك بُندقيةٌ على خشبةِ المسرح في بداية المسرحية، فيجب إطلاق النارِ منها في المشهدِ قبل الأخير*. فشاهِد مثلًا مُسلسلًا تلفزيونيًا يدورُ حولَ شرطيٍّ ولاحظ كيف أنّ الهاتف يرنّ فقط للإشارةِ إلى وصول تطوراتٍ جديدةٍ مُهمة في القضية. في القصصِ الخيالية ليس هناكَ تَكّدُسٌ لتفاصيلٍ زائدةٍ لا لزومَ لها.

على خِلافِ ذلك، فحياةُ الإنسانِ ليست بهذه الطريقة؛ بل إنّها فوضويّة. تتزاحمُ فيها التفاصيلُ العَرضيّة غير المُترابطة. فحين تروي أيّ قِصّةٍ عن حياتكَ ستضطرُ إلى تجاهلِ بعض التفاصيل؛ فكلما دَقّتْ الحكاية، قَلّ السرد.

تُقدّم السيرُ الذاتيةُ إمكانيةً لوصفِ الحياة الإنسانيّة بطريقةٍ سرديّةٍ مُحكَمة، لكنْ حتى ذلك لا يُفلح إلا حين تُسرَد القصة مِن مسافةٍ مُعيّنة، مما يؤدي إلى تَجاهُلِ كَمٍ كبير مِنْ التفاصيلِ اليوميّة. لو أخذتَ نظرةً عن كَثبٍ، ستشعُر بأنّ حياةَ الإنسان «قِصّة» لم تُكتب كِتابةً مُحكمة؛ إذ إنها محشوةٌ بالقصصِ الفرعيّةِ والتفاصيلِ التي لا تُفيد شيئًا، ولا تُوصِل إلى أي مكان.

لا تجِيء حياتنا غالبًا مُفصّلَةً في بناءٍ مُحكَمٍ مِن خمسةِ أجزاء. فكما أشارَ فيلسوف القرن السابع عشر الفرنسي بليز باسكال إلى أنّ الحدثَ الأخير دائمًا ما يكونُ قاسيًّا، ومُفاجِئًا؛ إذ هو انقطاعٌ حادٌ يقطعُ تماسكَ حياتنا السرديّ، وليسَ خاتمةً مُتقنَة. وحتى لو كانت حيواتنا قِصصًا، فلن نكون حاضرينَ لمُشاهدةِ نهايتها.

وهذه مُعضِلَةٌ تواجِه السرديين، إذ إنّ معنى القِصة يستندُ بشكلٍ أساسيّ على نهايتها.  إنّ نسخةً بديلةً من روميو وجولييت ينجو فيها البَطلان ليستْ نفس القصة بنهايةٍ مُختلفة؛ بل هي قِصةٌ مُختلفةٌ تمامًا. فتبيّن لنا إذن أنّ المعنى السرديّ لكلّ شيءٍ في الحكاية يقود إلى النهاية سيتخلف اختلافًا كُليًّا؛ بناءً على طبيعة هذه النهاية.

تتخذ القِصص أشكالًا سرديّة، ولا تكتسب الأشياء شكلًا إلا إنْ كانت ذاتَ حدودٍ معيّنة. فإنّ بدايةَ القِصة ونهايتها أجزاءٌ لا تتجزأ مِن معنى السردِ ومساره، لكننا لا نملِكُ أيّ فكرةٍ عن الكيفية التي ستنتهي حياتنا بها، بل على الأرجح لن نعيّ نهايتها. وطالما يحدثُ ذلك، فلن نتمكن مُطلقًا من الوصولِ إلى المعنى السرديّ الأخير لحياتنا، لنْ نعرِفَ أبدًا ما إذا كانت قِصّةَ حُبٍّ تراجيديةٍ تحتَ سَطوةِ الظروف، أم قِصّةَ انتصارٍ عظيم. فكأننا نُشاهِد فيلمًا نتمتّع فيه بنوعٍ مِن التحكّم المُباشِر على الحبكة، لكننا نُدرِكُ بأننا لنْ نعرف أبدًا كيفَ سينتهي الفلم.

ومع ذلك، حتى إنْ لم يكن السَرد القَصصيّ هو الفكرةُ الكاملةُ عنْ الذاتِ، إلا أنه جُزءٌ مهمٌ من إدراكِنا لأنفسنا وفهمنا لحياتنا؛ فقد لا نكون مَحضّ قِصصٍ، ولكنْ لعلّ قِصصنا الشخصيّة جُزءٌ مُهم من الحِكاية.

 

 


بندقية تشيخوف: هي قاعدة أدبية دراميّة تنُص على أنّ كلّ العناصر في القصّة يجب أن يكون وجودها ضروريًّا ويتم استخدامها أو إزالتها في حال كانت لا تُقدّم شيئًا للقصة.

 

New Philosopher: Issue #06: progress

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى