لطالما نوقشت مسألة تأثير اللّسان على الفكر البشريّ منذ أيّام الفقيه اللّغويّ الألمانيّ «همبولت» «W. Von Humboldt»، ودعمت هذا الطّرح الدّراسات اللّسانيّة الحديثة في القرن العشرين وأشهرها «فرضيّة سابير-ورف» «Sapir-Whorf hypothesis». وخلاصة تلك الفرضيّة أنّ الأنماط اللّسانيّة تحدّد أنماط تفكيرنا، أو أنّ اللّغة تؤثّر على إدراكنا، ممّا يعيق الفرد الذي يتكلّم لسانًا معيّنًا (عربيًّا، فرنسيًّا، إنكليزيًّا…) أنْ يخرج عن الإطار الفكريّ الذي وضعته له لغته الأمّ. لكنْ، إذا سلّمنا بهذه الفرضيّة، ألا نستطيع أنْ نقلبها، ونحصل على النّتيجة نفسها؟ أي إذا تُأطّر اللّغة الفكر البشريّ فهل بإمكان الفكر البشريّ بدوره أنْ يؤطّر اللّغة؟ أي هل يمكن التّلاعب باللّغة لتوجيه المتكلّمين سياسيًّا تبعًا لغاياتٍ أيديولوجيةٍ محضةٍ؟ وإذا أمكن ذلك فماذا سيبقى من اعتباطيّة العلامة التي نادى بها اللّسانيّ السّويسريّ «دو سوسّور» «F. De Saussure»؟
اللّغة والمنظور والسّياسة
قد لاحظ «روسّو» «J. J. Rousseau» في «Essai sur l’origine des langues» «مقالٌ في أصل الألسن» أنّ اللّغة هي «أوّل مؤسّسةٍ اجتماعيّةٍ» «first social institution»، حيث تكون غايتها التّواصل وإيصال المشاعر والأفكار (Orwin, 1997, p. 28-29). وذلك لأنّ اللّسان يختزل معتقدات، قيم، سلوكيّات، وأساليب حياة الجماعة، وفيه نعثر على «المعياريّة» «normativity» القائمة في المجتمعات (Kirk, 2009, p. 119). «فالمورفيمات» «morphemes» و«الفونيمات» «phonemes» هي بذاتها نتاجٌ اجتماعيّ، أي إنّها وليدة جماعةٍ، وهذا ما يناقض تمامًا النّظريّات اللّسانيّة منذ أيّام «دو سوسّور» وصولاً لـ«تشومسكي»، والقائمة على تجريد اللّسان من سياقه الاجتماعيّ، وتركيب متكلّمٍ كلّيّ، تمامًا كما تفعل العلوم الأخرى، أي معاملة اللّغة على أنّها موضوع معرفة، وهو الأمر الذي يفترض وجود «ذاكرةٍ لسانيّةٍ مجرّدةٍ» «abstract linguistic memory». (Port, 2010, p. 304-309).
لذا عندما يموت لسانٌ لا يعني ذلك موت بنى تركيبيّةٍ أو صوتيّةٍ… أي العناصر اللّسانيّة الخاصّة بذلك اللّسان، بل يعني موت ثقافةٍ ورؤيةٍ خاصّةٍ للعالم مثّلتها تلك اللّغة. ويشير إلى تلك المسألة وخطورتها اللّسانيّ الإنكليزيّ «ديفيد كريستل» «D. Crystal» في «موت اللّغة» «Language death»، كما يقدّم حلولاً عمليّةً لمساعدة اللّغات المهدّدة. إذ يصرّح «كريستل» في كتابه أنّ موت اللّهجة «Dialect» هو أيضًا ضربٌ من موت اللّغة ويقول:
«في الحالتين نحن أمام مسألة التّمايز الثّقافيّ «cultural distinctiveness»، وأمام شخصيّة الجماعة «community’s character»، بمقدار ما ينقلها اللّسان.» (Crystal, 2014, p. 50)
ولأنّ اختفاء الألسن يعني اندثار منظور متكلّميها للعالم، فإنّ اندثار ذلك المنظور الخاصّ هو شكلٌ من أشكال التّطهير الإثنيّ (طبعًا إذا ما كان مقصودًا).
وفي هذا السّياق تبدو لي أنّ «ظاهرة اللّغة» «phénomène du langage» التي قال بها «ميرلو بونتي» «M. Merleau-Ponty» هي أكثر الطّروحات عمليّةً، حيث يؤكّد في كتابه «علامات» «Signes» أنّه علينا أنْ ننظر إلى اللّغة على أنّها «أمرًا واقعًا» «fait accompli»، أي بغضّ النّظر عن بُعدها العقلانيّ أو الفيزيائيّ أو النّفسيّ. فمنذ ولادتنا نصطدم بالموجودات، واللّغة تساعدنا على التّعبير عن تلك الموجودات وكذلك تمكّننا من فهمها. لذا نرى «ميرلو بونتي» يقدّم الملاحظة الآتية:
“Elle n’est plus le résultat d’un passé chaotique de faits linguistiques indépendants, mais un système dont tous les éléments concourent à un effort d’expression unique tourné vers le présent ou l’avenir, et donc gouverné par un logique actuelle.”
(Merleau-Ponty, 1960, p. 107)
«لم تَعُدْ [اللّغة] نتيجة ماضٍ فوضويّ لوقائعَ لسانيّةٍ مستقلّةٍ، بل إنّها نسقٌ حيث تتشارك عناصره كلّها في محاولة تعبيرٍ فريدةٍ تتّجه نحو الحاضر أو المستقبل، وتاليًا يحكمها منطقٌ حاليٌّ.»
بطبيعة الحال إنّ اللّغة نسقٌ، لكنْ من المسؤول عن هذا النّسق؟ أليس الإنسان من يضع الأنظمة؟ فلماذا الأنظمة اللّسانيّة تختلف بالعرف الاعتباطيّ؟ على هذا السّؤال يجيب «بيار بورديو» «P. Bourdieu» ويربط اللّغة بالقوّة والمقام الاجتماعيّ للمتكلّم. وتبعًا لـ«بورديو» إنّ القوى المهيمنة في المجتمعات هي المسؤولة عن وضع الأنساق اللّسانيّة، لأنّ الجماعات اللّسانيّة هي بذاتها وليدة هيمنةٍ سياسيّةٍ (Bourdieu, 1991, p. 46). هكذا تخلق اللّغة بحسب «بورديو» «حسّ الحدود» «sense of limits»، فمن خلال وضعها للمعايير تحدّ الأفراد والجماعات وتعطيهم خصائصَ اجتماعيّةً محوّلةً إيّاها إلى خصائصَ طبيعيّةٍ يتقيّدون بها، فتحرمهم حتّى من الشّعور بالحرمان (Bourdieu, 1991, p. 123)، وهذه هي القوّة الرّمزيّة.
وتشير «ماري كيرك» «M. Kirk» في سياق كلامها عن حرّيّة التّعبير أنّ هذه الغاية المنشودة، أي حريّة التّعبير عن الرّأي، تنفي واقعة أنّ معتقداتنا وكلماتنا أساسًا ليست حرّةً عندما قمنا باختيارها، إذ يتمّ تلقيننا إيّاها مرارًا عبر المؤسّسات الاجتماعيّة للمجتمع المهيمن، ثمّ تتابع كيرك أنّ هذه الظّاهرة لا يلاحظها الميسورون اجتماعيًّا، والسّبب أنّهم هم من وضعوها أساسًا. (Kirk, 2009, p. 121). هكذا لا تنحصر التّراكيب اللّغويّة في إطار تحديد المقصد الفرديّ للمتكلّم بل إنّ المقصد نفسه قد حدّدته لغته مسبقًا، لذا إنّ تفكيره وفلسفته ووجهة نظره للعديد من المسائل مرتبطان باللّسان الذي يستعمله. هذه الظّاهرة يدعوها «همبولت» «منظورًا للعالم» «Weltansicht» (Underhill, 2009, p. 16, 55-57)، وهي التي تنعكس في البنى التّركيبيّة، المعجميّة، الصّوتيّة… للألسن.
وإذا سلّمنا بذلك، فلا يمكن حصر التّداعيات التي يرتّبه التّسليم بـ«الحتميّة اللّسانيّة» «linguistic determinism» أو «النّسبيّة اللّسانيّة» «linguistic relativism»، وتحديدًا في قلب مفاهيمنا السّياسيّة راديكاليًّا. إذ مثلما تحدّد/تؤثّر اللّغة في إدراكنا كذلك تلعب دورًا محوريًّا في فهمنا للإشكاليّات السّياسيّة وتلقّفنا للأيديولوجيّات المختلفة. لذا لا يُستغرب الأمر حينما تُطرح مسألة التّلاعب باللّغة. ولكنْ ماذا نعني بالتّلاعب؟ وما هي حدوده؟
ماذا يٌقصد بالتّلاعب؟
يحوي مفهوم التّلاعب دلالاتٍ عديدةٍ منها التّغيير والإخفاء، كما يحمل بُعدًا سلبيًّا يتمثّل بغياب الحقيقة. ولكنْ لا يعني غياب الحقيقة كذبًا، فالتّلاعب مرتبطٌ بـ«الحقيقة التّداوليّة» «pragmatic truth»، في حين أنّ الكذبة تتعلّق بـ«الحقيقة الدّلاليّة» «semantic truth»، وتاليًا يتحقّق التّلاعب اللّسانيّ حينما يتقصّد المتكلّم انتقاء عباراتٍ معيّنةٍ لإخفاء مقصده «intention» عن المستمع (Asya, 2013, p. 78).
في روايته «1984» عرض لنا «جورج أورويل» «G. Orwell» مجتمعًا تتحكّم فيه النّخبة السّياسيّة عن طريق التّلاعب باللّغة، فتعطي دلالاتٍ جديدةً لمفاهيمَ قديمةً، وتحوّر بذلك إدراك الفرد داخل ذلك المجتمع حتّى يصبح مطاوعًا لسّرديّتها السّياسيّة. والظّاهرة التي لاحظها «أورويل» في بنية اللّغة عبّر عنها في مقاله «السّياسة واللّسان الإنكليزيّ» «Politics and the English language» حيث يقول:
“But if thought corrupts language, language can also corrupt thought. A bad usage can spread by tradition and imitation even among the people who should and do better. […] Look back through this essay, and for certain you will find that I have again and again committed the very faults I am protesting against.”
(Orwell, 2002, p 964)
«ولكنْ إنْ يُفسدِ الفكرُ اللّغةَ، فباستطاعة اللّغة أنْ تُفسِدَ الفكرَ أيضًا. باستطاعة الاستعمال السيّء أنْ ينتشرَ عن طريق التّقليد الموروث والمحاكاة حتّى عند النّاس الذين من المفترض عليهم أنْ يتصرّفوا بشكلٍ أفضل. […] أعِد قراءتك لهذه المقالة، وستجد حتمًا أنّني ارتكبت مرارًا تلك الأخطاء التي اعترضت عليها بالأساس.»
لكنّما ملاحظة «أورويل» ليست رؤيويّةً بقدر ما هي نقديّةً وتحذيريّةً، لأنّ التّلاعب اللّسانيّ ليس حكرًا على الأنظمة الاستبداديّة والقمعيّة، بل نعثر عليه في أكثر الأنظمة ليبراليّةً وديمقراطيّةً. إذ هنا يصطدم عِلم السّياسة بعالَم اللّغة، وتتسلّل الأيديولوجيا إلى بنيان الألسن لتعيد رسم معالمها، فتولّد بذلك تصميمًا جديدًا يماثل سرديّاتها السّياسيّة، وباختصارٍ هذا هو «التّلاعب اللّسانيّ» «Linguistic manipulation».
وعليّ أنْ أشيرَ إلى أنّني في هذا المقال لن أدخلَ في إطار الدّراسة البراغماتيّة للتّلاعب اللّسانيّ، أي تبعًا لنظريّة أفعال الكلام عند «أوستن» «J. L. Austin»، بل سأدرس أشكال التّلاعب باللّغة انطلاقًا من اللّغة نفسها وليس من تأثير تلك الظّاهرة على المستمع، أو انطلاقًا من العوامل «خارج اللّسانيّة» «extra-linguistic».
- التّلاعب التّركيبيّ
من حيث طبيعة التّلاعب ثمّة نوعانِ أساسيّانِ من التّلاعب اللّسانيّ، الأوّل هو «التّلاعب التّركيبيّ» «Syntactic manipulation»، والثّاني هو «التّلاعب الدّلاليّ» «Semantic manipulation».
النّوع الأوّل ظاهرٌ، باستطاعة المرء تقفّي أثره لغويًّا، أي نكتشفه عبر تشريح العبارات واستخلاص «بنيتها العمقيّة» «D-Structure» وهي الطّريقة التي بإمكاننا أنْ ندعوها «التّحليل التّركيبيّ» «Syntactic analysis». أمّا النّوع الثّاني فيحتاج إلى وسيلةٍ أخرى لاكتشافه، وهي التي تقوم على المقابلة، ويمكن أنْ نسمّيها «التّفكيك الدّلاليّ» «Semantic deconstruction»، وسأتوسّع في هذه المسألة لاحقًا.
يمكن لأية إذاعةٍ أو جريدةٍ أو أيّ موقعٍ إخباريّ أنْ يتلاعب باللّغة عن طريق «التّلاعب التّركيبيّ» «Syntactic manipulation»، وهو، تبعًا لبنيته الظّاهرة، أبسط أشكال التّلاعب. هذا النّوع من التّلاعب يعتمد عمومًا على التّقديم والتّأخير، أي يتلاعب بموقع التّسلسل التّركيبيّ. وتاليًا يدفع باللّسان إلى توليد تراكيبَ جديدةٍ قد تبدو للمتمرّس بالقواعد المعياريّة للسانه الأمّ غريبةً أو غير ضروريّةٍ أحيانًا. وكي لا نبقى محدودين عند التّصوّر والتّنظير فلندرس أمثلةً حسّيّةً عن «التّلاعب التّركيبيّ».
فلنقل على سبيل المثال أنّك أمسكت بجريدتينِ محلّيّتينِ، وتصفّحتهما بحثًا عن خبر «ضرب طفلٍ في مدرسةٍ». ولنقل أيضًا أنّك تجهل الخلفيّة السّياسيّة لكلّ من الجريدتينِ، ولكنّك في الوقت عينه تحبّ قراءة أساليب كتابيّة مختلفة، أو ترغب في التّعمّق في الموضوع. ثمّ تعثر على الخبر تحت عنوانينِ مختلفينِ تركيبًا، إذ في الجريدة (س) عثرت على العنوان (1)، وفي الجريدة (ص) عثرت على العنوان (2).
(1) ضُرِبَ طفلٌ من قبل أستاذٍ بعد محاولته إيذاء تلميذةٍ في صفّه.
(2) بعد محاولة طفلٍ إيذاء تلميذةٍ في صفّه ضربَه أستاذٌ.
إذن كيف تمّ التّلاعب تركيبيًّا في الخبر لإيصال وجهة نظرٍ معيّنةٍ للمتلقّي؟
هنا لا بُدَّ لي من الاستعانة بالتّحليل التّركيبيّ من ضمن «التّقليد التّشومسكيّ» «Chomskyan tradition» (أي دراسة التّراكيب اللّسانيّة انطلاقًا من تحليل «بنيتها السّطحيّة» «S-Structure» وذلك عبر رسم «شجرة التّحليل» «Parse tree»). هذه الطّريقة طوّرها «تشومسكي» «N. Chomsky» بعد اطّلاعه على منطق «بور روايال» «Port-Royal logic» (Chomsky, 2007, 165-168). لكنّ غايتي ليست الكشف عن التّشابه الضّمنيّ الحاصل على المستوى العميق للجملة، بل ملاحظة الاختلاف على المستوى السّطحيّ لها، وذلك عبر لحظ التّحوّلات الحاصلة فيها:
(1) ضُرِبَ طفلٌ من قبل أستاذٍ بعد محاولته إيذاء تلميذةٍ في صفّه.
إذن إذا قارنّا تركيب (1) بعماد الجملة العربيّة المعياريّة (فعلٌ فاعلٌ مفعولٌ به) لوجدنا أنّه غيرُ ضروريّ، بل إنّه تركيبٌ غريبٌ أو دخيلٌ لا يُراعي القواعد المعياريّة. ولعلّ استخدام المجهول بهذه الطّريقة لا يدلّ سوى على تلاعبٍ تمثّل في إبراز فعل الضَّرْب وإبراز صاحبه، وهو الأستاذ، بتعمّدٍ، وتاليًا يُصبح الأستاذ هو الفاعل والطّفل (وهو نائب الفاعل تبعًا للقواعد المعياريّة العربيّة) يُمسي المفعول به. هذا التّلاعب لا يشير إلاّ لأمرٍ واحدٍ وهو تطويع التّركيب لصالح وجهة نظر الطّفل، أي ثمّة طفلٌ تعرّض للضّرب، وتاليًا يكون كاتب الخبر من المدافعين عن حقوق الطّفل في عدم التّعرّض للأذى الجسديّ حتّى في حالة المشاغبة. لذا نرى الجملة (1) تؤخّر الفضلة «بعد محاولته إيذاء طفلةٍ في صفّه» لتنفي فكرة التّبرير عن ذهن القارئ، وذلك على الرَّغم من نقلها المعلومة نفسها التي نعثر عليها في البنية العمقيّة للجملتين (1) و(2) إذا ما قمنا برسم المشجّر.
أمّا (2) فهي من النّاحية النّحويّة سليمةٌ تركيبيًّا، إنّما إذا أمعنّا النّظر في تركيبها فنلاحظ تقديم شبه الجملة (الفضلة) «بعد محاولة طفلٍ إيذاء تلميذةٍ في صفّه»، وذلك يحمل تشديدًا على موضوع «إيذاء»، وهو ما يعكس وجهة نظرٍ مساندةٍ لفعل الأستاذ. وتجلّت وجهة النّظر هذه عبر تأخير الجملة الفعليّة «ضربَه أستاذٌ»، والاستعاضة عن المفعول به الاسم «طفل» بضمير الغائب الهاء في «ضربَهُ». فقد تلاعب كاتب العنوان بالخبر، وإنْ بدا ذلك منسابًا انسيابًا طبيعيًّا على مسمع القارئ، لأنّ القواعد المعياريّة – وحتّى فكرة المعياريّة نفسها – قد حدّدتها سياسة وثقافة المجتمع المهيمن، وهذا ما يؤكّد أنّ اللّغة مؤسّسةٌ اجتماعيّةٌ.
ومثلما تخضع هذه المؤسّسة الاجتماعيّة لتلاعبٍ تركيبيّ فهي تخضع أيضًا لنوعٍ آخر من التّلاعب يصعب كشفه، بل إنّه يحتاج إلى مزيدٍ من الجهد لتحديده.
- التّلاعب الدّلاليّ
إنّ معاني الكلمات في تغيّرٍ دائمٍ، يكفي العودة إلى القواميس لتقفّي تحوّلاتها، وهذه الظّاهرة اللّسانيّة تُعرف بـ«الانعطاف الدّلاليّ» «Semantic shift/change»، وعادةً ما تكون نتيجةَ عوامل «خارج لسانيّة» (الاحتكاك الثّقافيّ، التطوّر التّكنولوجيّ…). وأحيانًا يتّخذ هذا التّحوّل الدّلاليّ منحى سلبيًّا، وهذا ما يُعرف في علم الدّلالة بـ«الانتقاص الدّلاليّ» «Semantic degradation» (Hadumod, 1996)، أي يحمل معنى الكلمة دلالةً سلبيّةً (نحو دلالة كلمة مُعاق). لكنْ ثمّة تحوّلٌ دلاليٌّ يخرج عن الأعراف التّقليديّة للألسن، منطلقًا من مبدأ نسبيّة المعايير، ولا يمكن أنْ نردَّ أسبابه طبيعيًّا، بل إنّه نتيجة تلاعبٍ مقصودٍ، لذا إنّ مصدره مصطنعٌ، أي يكمن في «المؤسّسات المؤدلِجة» «indoctrinating institutions». ويمكن أنْ نسمّي هذا النّوع من التّحوّل «التّلاعب الدّلاليّ» «Semantic manipulation».
إذن يتميّز «التّلاعب الدّلاليّ» بتغييرٍ إراديّ لمعاني الكلمات، وهذا ما يدعوه «يونغ» «J. W. Young» بـ«قتل الدّلالة» «Semanticide» (Young, 1991)، وهو أعمق أشكال التّلاعب. إذ على الرَّغم من أنّ المرء يعي وجود تلاعبٍ ولكنّه في الوقت نفسه عالقٌ في إطاره، أي إنّه حرٌّ في عقله السّجين، وكأنّ حاله، إذا ما جاز التّعبير، كالدّمى الرّوسيّة («ماتريوشكا»). ولعلّ تلك هي خاصيّة «التّلاعب الدّلاليّ»، إذ إنّها عميقةٌ في لاوعي الأفراد ما يجعلها صعبةً على تقفّي أثرها في رؤية المجتمعات للعالم. ولكنّنا نستطيع الاستعانة باستراتيجيّة «دريدا» «J. Derrida» لتبيين هذا التّلاعب ودراسته.
فقد وضع «دريدا»، مستلهمًا من «هايدغر» «M. Heidegger»، طرح «التّفكيك» «Deconstruction». إذ كان همّ «دريدا» الأساس إظهار المهمّش ونقد الحضور، لأنّ الحضور يعبّر عن مركزيّةٍ دغمائيّةٍ هيمنت على الحضارة الغربيّة منذ أيّام الإغريق. لذلك لا بدَّ من تقويض الحاضر للكشف عن الغائب، ففي قولك ثمّة «س» أنت تؤكّد في الوقت نفسه أنّه ثمّة «لا س»، وتاليًا تقوم بتفضيل الأولى عن الثّانية، حتّى تصبح تلك الأخيرة مجرّد وهمٍ بل تتحوّل إلى شيءٍ سلبيّ. لكنّني لست بمعرض شرح فلسفة «جاك دريدا»، فما يعنيني هو مفهوم «التّفكيك» عنده، وكيفيّة مقاربة «التّلاعب الدّلاليّ» من خلاله.
هذه الظّاهرة، أي «التّلاعب الدّلاليّ»، متجذّرةٌ بفعل الاستعمال اليوميّ حتّى أصبح الخروج عنها أمرًا خارجًا عن الطّبيعة، كما في إلحاقك اسم الإشارة أو الضمائر بصيغة المذكّر للأسماء الحياديّة الكلّيّة (Schleifer, 1987, p. 389)، فإذا استخدمت المؤنّث تكون أمام «شذوذٍ» لسانيّ كقولك «أيّتها الإنسان». لذا فالمقاربة التي أحاول أنْ أقدّمَها هي تفكيك المعنى الحاضر في الكلمة عبر دراسة مقابله الغائب، أي إعادة بنائه سلبيًّا. خذ على سبيل المثال قضيّة «الحرب هي السّلام»، ولنعتبر أنّ هذه القضيّة تشكّل عقيدة دولة «ب»، حيث يحيا أبناؤها في صراعٍ مستمرّ مع الدّول المجاورة انطلاقًا من اعتقادهم بأنّ دلالة الحرب هي السّلام. إذن كيف سنفكّكها دلاليًّا؟
«الحرب» هي الموضوع (أو المسند إليه في النّحو العربيّ)، أي إنّ معناها يُستمدُّ من المحمول (المسند) وهو «هي السّلام». فالموضوع لا قيمة له من دون المحمول الذي يحدّده ويعطيه معناه، لذا لا بُدّ من تفكيكه، وهذا ما اتّفقنا على تسميته بـ«التّفكيك الدّلاليّ» «Semantic deconstruction». وتبعًا لهذه المقاربة علينا إظهار النّقيض السّلب للمحمول الحاضر، أي «لا السّلام»، وبذلك نكون أمام القضيّة الآتية: «الحرب ليست السّلام».
بطبيعة الحال هذه محاولةٌ مبسّطةٌ لشرح «التّفكيك الدّلاليّ» وكيفيّة استعماله، والمقاربة تتطلّب مبحثًا خاصًّا للتّوسّع فيها ودراسة جوانبها كلّها، لهذا السّبب سأكتفي بما طرحته من أفكارٍ رئيسةٍ في هذا الموضوع. أمّا وبعد أنْ توسّعتُ في مسألة التّلاعب اللّسانيّ، أودّ العودة إلى السّؤال الذي طرحته في مقدّمة المقال وهو ماذا سيبقى من «اعتباطيّة العلامة» «L’arbitraire du signe» التي نادى بها «دو سوسّور» والتي تشكّل أُسس اللّسانيّات.
مراجعةٌ نقديّة للتّوافقيّة اللّسانيّة
طرح «دو سوسّور» في «محاضراته في اللّسانيّات العامّة» «Cours de Linguistique Générale» مقاربةً جديدةً للعلاقة بين الكلمات ومعانيها: لم يعُدْ المعنى نتيجة الطّبيعة الًوتيّة للموجود، أي إنّ الأصوات تحدّد معنى الكلمات (وهو ما يُسمّى «علم الدّلالة الصّوتيّ» «Phonosemantics»)، بل بات المعنى وليد توافقيّةٍ اجتماعيّةٍ يستوعبها المتحدّث بلسانٍ معيّنٍ من دون أنْ يكونَ لديه أيّ موقفٍ منها. فما علاقة الفونيمات /ه/ل/ا/ل/ (هلال) بالصّورة التي تمثّلها في الواقع (شكل الهلال)؟ الجواب هو أنّ العلاقةَ اعتباطيّةٌ تمّ التّوافق عليها جماعيًّا ثمّ تُلقّن للفرد. ويقول «دو سوسّور»:
«Le lien unissant le signifiant au signifié est arbitraire, ou encore puisque nous entendons par signe le total résultant de l’association d’un signifiant à un signifié, nous pouvons dire plus simplement : le signe est arbitraire.»
(De Saussure, 1995, p. 100)
«صلة الوصل التي تربط ما بين الدّالّ وما بين المدلول اعتباطيّةٌ، أضِفْ إلى أنّنا نستنتج من مفهوم العلامة تلك الخلاصة النّهائيّة لارتباط دالّ بمدلولٍ، لذا نستطيع التّصريح ببساطةٍ أنّ: العلامةَ اعتباطيّةٌ.»
إذن بحسب «دو سوسّور» إنّ «العلامة» «Sign» المركّبة من «دالّ» «Signifier» (الأصوات اللّغويّة) و«مدلولٍ» «Signified» (الصّورة الذّهنيّة) لا تتضمّن أيّة علاقةٍ طبيعيّةٍ بين مركّبيها الأساسيّينِ. فالعرب يسمّون ذلك الحيوان البرمائيّ «ضفدعًا»، أمّا الفرنسيّون فيطلقون عليه اسم «grenouille»، في حين أنّه عند الإنكليز «frog». إذ إنّك لو وجدت قومًا يقطن في مكانٍ جغرافيّ واحدٍ وينطق بلسانَيْنِ فلا يعني ذلك بالضّرورة أنّهم يشاطرون الذّهنيّة نفسها، وذلك يشير إلى أنّ اختلاف الألسن يعني مباشرةً اختلاف ذهنيّاتٍ. ويضيف «دو سوسّور» ملاحظةً أخرى عن الاعتباطيّة، فيقول:
«Le mot arbitraire appelle aussi une remarque. Il ne doit pas donner l’idée que le signifiant dépend du libre choix du sujet parlant».
(De Saussure, 1995, p. 101)
«تستدعي كلمة اعتباطيّة ملاحظةً إضافيّةً. إذ ليس عليها أنْ توهمَنا بأنّ الدّالّ يقوم على حرّيّة الاختيار لدى ذاتٍ متكلّمةٍ».
أي إنّ إرادة المتكلّم لا تستطيع تغيير علامةٍ حينما وحيثما وُجدت في أيّة جماعةٍ لسانيّةٍ، وتاليًا تبدو العلامة مغلقةً أيديولوجيًّا أمام أيّة محاولةٍ للتّلاعب بها.
وهنا أعود إلى السّؤال الذي طرحته في سياق كلامي عن اللّغة كنسقٍ عند «ميرلو بونتي» وهو: أليس الإنسان من يضع الأنظمة؟ طبعًا إنّ الإنسان، سواءٌ أكان في شكله الجماعيّ أم في شكله الفرديّ، هو واضع المعايير والأنظمة والأعراف. فالعلامة التي تبدو للنّاظر على أنّها شكلٌ موضوعيٌّ نشأ ونما طبيعيًّا ليست سوى مرحلةٍ من مراحل تطوّرٍ راديكاليّ لا يمكن استبعاد السّياسة عنه. وأقتبس عن «فولوشينوف» «V. N. Voloshinov» من كتابه «الماركسيّة وفلسفة اللّغة» «Marxism and the philosophy of language»:
«Everything ideological possesses meaning: it represents, depicts, or stands for something lying outside itself. In other words, it is a sign. Without signs there is no ideology.»
(Voloshinov, 1996, p. 9)
«كلّ شيءٍ أيديولوجيّ يملك معنى: فهو يُمثّل، يُصوّر، أو يقوم مكان شيءٍ قائمٍ خارجًا عنه. وبمعنى آخر، إنّه العلامة. فمن دون العلامات ليس ثمّة من أيديولوجيا.»
إذن إنّ كلّ علامةٍ تحمل في ذاتها شُحنةً أيديولوجيّةً، وهي ليست بريئةً كما يُخيّل إلينا، كما إنّها ليست جزءًا طبيعيًّا من الواقع بل نظّارةً نرى من خلالها الواقع تبعًا للّون الذي لُوّنَ به زُجاجُها. وهكذا تسقط فكرة «دو سوسّور» القائلة بأنّ المتكلّم هو متلقّ «سلبيّ» «passive» للعلامة «المؤدلجة». ويتابع «فولوشينوف» كلامه مؤكّدًا على التّرابط العضويّ بين الأيديولوجيا والعلامة:
«A sign does not simply exist as a part of a reality – it reflects and refracts another reality. Therefore, it may distort that reality or be true to it, or may perceive it from a special point of view, and so forth. Every sign is subject to the criteria of ideological evaluation (i.e. whether it is true, false, correct, fair, good, etc.). The domain of ideology coincides with the domain of signs. They equate with one another. Wherever a sign is present, ideology is present, too. Everything ideological possesses semiotic value.»
(Voloshinov, 1996, p. 10)
«ببساطةٍ لا توجد علامةٌ تكون جزءًا من واقعٍ – إذ إنّها تعكس وتكسر واقعًا آخر. إذن، باستطاعتها أنْ تحوِّرَ ذلك الواقع أو توفيه حقَّه، أو قد تدركه من وجهة نظرٍ مميّزةٍ، وهكذا دواليك. تخضع كلّ علامةٍ إلى معايير التّقييم الأيديولوجيّ (أي سواءٌ أكان صادقًا، كاذبًا، مصيبًا، محقًّا، حَسَنًا إلخ…). يتزامن مجال الأيديولوجيا مع مجال العلامات. إذ إنّهما يُساوِيانِ بعضهما. وحيثما توجد علامةٌ ستكون الأيديولوجيا حاضرةً أيضًا. كلّ شيءٍ أيديولوجيّ يملك قيمةً إشاريّةً.»
خاتمة
إنّ العلاقة بين الفكر واللّغة علاقةٌ تكامليّةٌ، والإمساك باللّسان، أيُّ لسانٍ، يعني الإمساك بفكرٍ معيّنٍ. لذا يصبح التبحّر بالألسن تبحّرًا في وجهات نظرٍ مختلفةٍ ومتناقضةٍ، حيث يعكس كلّ لسانٍ فلسفةً وتفكيرًا خاصًّا. والخطورة تكمن في جهل المتكلّم مقدرة لسانه على التّأثير المباشر عليه. وهكذا إذا أعدنا النّظر في جملنا اليوميّة لن ننظرَ إليها نظرة البراءة كما اعتدنا، فالتّلاعب قائمٌ في المجتمعات منذ نشأتها، ويصعب لحظه، إلاّ إذا أراد الفرد أنْ يحيا حياة شكوكيّ متطرّفٍ. بيد أنّ ذلك لا يجب أنْ يدفعَ بالباحث أو المتكلّم إلى الاستسلام والتّسليم بهذه النّسبيّة، فكما أشار «همبولت» أنّ الإنسان يبقى في إعادة تفحّصٍ مستمرّ للسانه وذلك من خلال خلق أشكال تعبيرٍ جديدةٍ، وهذا ما يشير إلى إعادة تفحّص أنماط تفكيره (Underhill, 2009, p. 17). لأنّ الإنسان «لا يستحمّ مرّتينِ في مياه النّهر نفسها»، فنعثر في إعادة تفحّصه للسانه ميلاً قديمًا نحو التّغيّر، والذي يتمثّل بالصّيرورة، وتاليًا ينعكس بتطوّر اللّسان نفسه.
References:
Books (English)
– Chomsky, Noam, On Language, New Press: New York, 2007.
– Crystal, David, language death, Cambridge University Press: United Kingdom, 2014.
– Bourdieu, Pierre, Language and symbolic power, translated by Gino Raymond & Mathew Adamson, Polity Press: Cambridge, 1991.
– Bussmann, Hadumod, Routledge dictionary of language and linguistics, translated by Gregory Trauth & Kerstin Kazzazi, Routledge: London, 1st edition, 1996.
– Kirk, Mary, Gender and information technology moving beyond acsess to Co-Create global partnership, IGI Global: 1st edition, 2009.
– Orwell, George, Essays, Everyman’s Library: United States, 2002.
– Orwin, Clifford & others, the legacy of Rousseau, the University of Chicago Press: United States, 1st edition, 1997.
– Underhill, James W., Humboldt, Worldview and Language, Edinburgh University Press: Edinburgh, 2009.
– Voloshinov, V. N., Marxism and the Philosophy of Language, Harvard University Press: United States, 1996.
– Young, John Wesley, Totalitarian Language: Orwell’s Newspeak and its Nazi and Communist antecedents, University Press of Virginia: Charlottesville, 1991.
Books (French)
– De Saussure, Ferdinand, Cours de Linguistique Générale, Payot: Paris, 1995.
– Merleau-Ponty, Maurice, Signes, Les Éditions Gallimard, collection NRF: Paris, 1960.
Articles
– Asya, Akopova, Linguistic manipulation: definition and types, in International Journal of Cognitive Research in science, engineering and education (IJCRSEE), Serbia: The Association for the Development of Science, Engineering and Education, 2013, Vol. 1, No. 2, p. 78 – 82.
– Port, Robert F., Language as a social institution: Why phonemes and words do not live in the brain?, in Ecological Psychology, England: Routledge, 2010, Vol. 22, Issue 4, p. 304 – 326.
– Schleifer, Ronald, Deconstruction and Linguistic Analysis, in College English, United States: National Council of Teachers of English, 1987, Vol. 49, Issue 4, p. 381 – 395.