زان بواغ: أنت تتعامل مع نطاق ضخم هنا، حيث لا حدود لحجم المشاريع التي بمقدورك تنفيذها. فهل هذا الأمر شاقٌّ عليك؟ هل يفوق اتّساعُ المُحيط مقدرتك؟
جايسون ديكيرز تايلور: لا يمكنك تصوّر حجم العمل في المُحيط، إنّه أشبه بأن يطلب منك أحدهم أن تُشيّد بناءً في الصحراء الواسعة. فالمحيطُ شاسعُ ممتد، وهذا ما يُوجّه جزئيًا مسار أعمالي؛ بدايةً من المنحوتات الصغيرة حتى بناء متاحف ضخمة تضم آلاف المنحوتات. ومن أجل أن تحقق الأثر في مثل تلك المساحة الشاسعة، ينبغي عليك أن تكون طموحًا بالفعل. وقد عملت على مشروع في المكسيك يشمل مئات الأعمال والمنحوتات التي ملأت المشغل ومواقف السيارات والشوارع، واكتظتْ الأماكن بها حتى عجزنا عن التحرك. فمضينا وفكرنا بمدى القبول الكبير الذي تحظى به هذه الأعمال. ومن ثم نقلناها إلى البحر في هذه المساحة المستوية الضخمة للرمال، هناك حيث أصبحت المنحوتات مجرد بقعة صغيرة في البحر؛ يمكنني أن أسبح حولها في أربع دقائق فقط.
– إنّ رؤية معظم أعمالك الفنيّة يستلزم على المشاهد أن يكون في أرضية مبللة وغير مستقرة. بوجه من الوجوه، «يغمرهم» ذلك في الفن؛ فلا يكتفي الشخص بمشاهدة العمل الفني فحسب، بل يعيشه. برأيك كيف يؤثر هذا التغيير في جو العرض على طريقة تجربة المشاهدين للفن؟
إنّه يؤثر بشكلٍ هائلٍ طبعًا؛ بصفته أحد الدوافع الرئيسية للفن، لهذا فكرتُ به منذ البداية. ولي خبرة سابقة في الغوص والفن جعلتني أُدركُ مدى روعة المكان. ووجود الفن في قلب المحيط مختلفٌ لعدة جوانب؛ إذ يمكنك رؤية أمور ملموسة تحدث، كاختلاف اللون وانكسار الضوء، والضوء الذي يتغلغل حتمًا سطحَ الماء، وكل هذه التغييرات تحدثُ جليًّا باستمرار. وكلما غطستَ بعمقٍ أكبر، تغيرتْ الألوانُ بشدة. وكما أن الأشياء تظهر بشكل أكبر من حجمها تحت المياه بالنسبة للعين البشرية. ولكن الأهم من ذلك، أن تكون مُعلقًا في هذا الوَسَط السائل. وأعتقد أن هنالك نقطتين؛ أولهما، أن هذه التجربة تمنحك الفرصة للنظر في الأعمال الفنية من زوايا مختلفة تمامًا ووجهات نظر مختلفة كليًّا؛ إذ تكون قريبًا جدًا من العمل الفنّي للحدِّ الذي يجعلك تتحرك حول المنحوتة وتُحلّق فوقها. وتؤثر فيك أيضًا من الناحية النفسية، فتنقلك إلى جوٍّ مختلفٍ جدًا. وتضعك في مكان يجعلك أكثر تأملًا ومفصولًا بعض الشيء عن العالم الواقعي وأكثر انفتاحًا.
– في إحدى مقابلاتك، ونقلًا عن جاك كوستو وتأثيره عليك، قلتَ إنّه يعتقد أن علينا حماية ما نُحب، وهذه هي الفكرة الجذرية لأعمالك؛ أنك في الأساس “تحاول أن تجعل الناس يحبون المحيطات”. ومع قضاء معظم الناس حياتهم في البيئات المتحضرة وانشغالهم على الإنترنت، هل تظن أنّه من الصعب جعل الناس يحبون المُحيط؟
بالتأكيد. إنّه يشكل تحديًا بلا ريب، وهذا ما أحاول التصدي له من خلال أعمالي. وعلى سبيل المثال، أنجزتُ منحوتة حديثة في أستراليا اسمها “صافرة المُحيط” (the Ocean Siren)، وهي قطعة فنية ساحلية تتغير ألوانها استجابةً لتغير درجات حرارة المياه. فعندما تغيّرُ المياهُ حول الحيّد المرجاني العظيم درجةَ الحرارة ويصبح خطر تبييض المرجان أكبر، يتغير لون المنحوتة لتصدر تحذيرًا أو إنذارًا صارخًا بوجود الظاهرة. وهذه محاولة جادة للاهتمام بما يقع على بُعدِ مئات الكيلومترات والنظر في أمره وجلبه إلى البيئة المتحضرة من أجل تقريب الظروف المعيشية التي تحدث في المياه ليستوعبها الأشخاص البعيدون كل البُعد عن هذا الموقف.
– في عملك الذي يُسمى “المدُّ الصاعد” (The Rising Tide)، كان ممكنًا عرض منحوتاتك بالكامل لمدة ساعتين على جانبي المد المنخفض. هل لك أن تشرح رمزية هذا العمل الفني؟
أحاول أن أجعل أعمالي متعددة المستويات، لكن معظمها واضحة جدًا وسهلة القراءة إلى حدٍّ ما. هذه القطعة بالتحديد سمّيتها فرسان نهاية العالم الأربعة[1]، والخيول قد صُيِّرَتْ آلاتِ حفرٍ نفطيةٍ، أو كما تُعرف غالبًا بمضخات النفط، والتي تضم اثنين من رجال الأعمال وطفلين على الخيول. والمعنى يتمحور كثيرًا حول الأشخاص الذين يقودون مستقبلنا والطريق الذي نتجه إليه، ويبدو أنّه توجد مواجهة عظيمة بين مصالح الشركات ومستقبل كوكبنا. ووضع القطع الفنية في هذا الوَسَط مع ارتفاع ثمانية أمتار من المدِّ الذي يغطّيها بالكامل، ما هو إلا بيان عن هشاشتنا القصوى تجاه دورات كوكبنا الأرض وعواقب تجاهل هذه الحقيقة.
– عملك الفني طَوْف لامبيدوزا (The Raft of Lampedusa)، مع لمسة من لوحة طَوَّافة قنديل البحر (The Raft of the Medusa)، يشير إلى محنة المهاجرين القادمين من أفريقيا إلى أوروبا. فما الذي ألهمك لصنع هذه القطعة الفنية تحديدًا؟
كانت تلك المنحوتة جزءًا من سلسلة كبيرة من الأعمال التي تقع قبالة ساحل لانزاروت في إسبانيا، حيث أنجزنا 12 عملًا فنيًا هناك، وأردتُ بشدة أن أعيد سرد الحكايات المحلية وأن أربط المتحف بالمكان وشعبه. وهذه واحدة من القصص المهمة جدًا التي ظننتُ أنه يجب روايتها. وعلى تلك الجزيرة فقط، في وقت الصيف الذي كنت فيه هناك، كانت توجد ثلاثة أو أربعة قوارب انجرفتْ على الشاطئ بدون ركابها. لذلك، كانت القوارب وثيقة الصلة بالمكان. ولقد تتبعتُ، من أجل ذلك العمل الفني، عددًا لا بأس به من المهاجرين الذين كانوا قد قدموا من غرب إفريقيا واستقروا في إسبانيا وجزر الكناري حتى أصبحوا نماذجًا لتلك المنحوتات؛ لهذا كانت معظم القطع الفنية تحكي قصتهم. وكانت قصة لوحة طَوَّافة قنديل البحر (The Raft of Medusa) عن فِرْقاطَة فرنسية غرقت قريبًا جدًا من تلك المنطقة في إفريقيا، وكانت اللوحة تدور حول فكرة أن قادة السفينة تخلوا عن طاقمهم وتركوهم يغرقون ويتولون أمرهم بأنفسهم. وفكرتُ أنها كِناية -إلى حدٍّ ما- تصف ما يحدث في الوقت الراهن؛ إذ تتخلى السُّلطات عن واجبنا في رعاية هؤلاء الأشخاص، في حين أنّه يجب عليهم أن يحاولوا حل المشكلة جذريًا وألّا يروها على أنها تهديد، بل يتوجب معالجتها بطريقة إنسانية.
– من الواضح أن هنالك وعيًا متزايدًا بالقضايا المتعلقة بتغير المناخ، مع هذا تصرفنا نحوها لم يتغير تقريبًا. فما هي الأسباب التي تجعلنا لا نجري التغييرات اللازمة لمكافحة تغير المناخ؟
أعتقد أن جميعنا يدرك أن النظام الرأسمالي لا يفيد كوكبنا. ومن المستحيل أن ترتبط أنظمتنا الحكومية للأبد بهذا النموذج من النمو الدائم والاستهلاك المستمر، فهناك حتمًا نقطة انتهاء. ولا توجد إلا نهاية واحدة مع تزايد أعداد السكان. ما نحتاجه بالفعل هو التغيير المنهجي، وبرأيي أن مصالح الشركات قد أفسدتْ حكوماتنا. فلا أعتقد أنهم يتخذون قرارات من أجل مصلحة الشعب أو الكوكب، بل إنهم يتخذون القرارات بناءً على ما يبقيهم في كرسي الانتخاب وهذا سينتهي في نهاية المطاف بكارثة.
– السؤال هو: هل تملك الحكومات السُّلطة في النهاية؟
لا أعتقد ذلك، ليس عندما يكون لديك أقطاب الإعلام الذين يسيطرون على 70 بالمائة من السندات الملكية للدولة، ولديك شركات ضخمة لديها مبيعات سنوية أكبر من الناتج المحلي الإجمالي لبعض البلدان. لقد تغيرت السُّلطة بدرجة كبيرة نظرًا لعدة عوامل مختلفة، أحدها العولمة. عندما يكون لهذه الشركات سيطرة على الأحزاب السياسية، بالتالي سيكون التغيير صعبًا جدًا، وأعتقد أننا نتجه إلى فترة من الاضطراب الاجتماعي الشديد وشكل من أشكال الانهيار في مرحلة ما، وهذا ما قد يمنح الدافع للتغيير على نطاق واسع. ولا أحيل المسؤولية الكاملة على عاتق الحكومات فقط، إذ إن هنالك بالتأكيد قرارات يمكن أن يتخذها الأفراد، وما زال الأفراد يملكون المقدرة الكبيرة على تغيير أسلوب استهلاكهم ومعيشتهم، ولكن عندما يُوضع العبء على عاتق الفرد وحده فهذا خداع بعض الشيء. ومن المهم حقًا أن يشمل النظام جميع مجالات المجتمع؛ كأن يمنعك من بناء منزل غير قابل للتجديد، ويمنعك من شراء سيارة تسبب التلوث. بالفعل، يجب أن يكون النظام موجودًا حتى يتكيف الناس. ومع الأسف، يجب أن يأتي التغيير من الأعلى وأن يكون سريعًا.
– على الرغم من أن المحيط سيزيل عملك الفنّي مع مرور الزمن، إلّا أنّه سيبقى موجودًا للأجيال القادمة وسيُعرَض لمن لم يُولدوا بعد، حين لا نكون أنا وأنت على قيد الحياة. هل معرفتك في أن فنّك سوف يدوم طويلاً جعلتك تفكر في قوتك الخاصة؟
أفكر في الأمر بالتأكيد ليكون وسيلةً لتوثيق ما يحدث هنا وفي الوقت الحالي. وقد صُنعتْ التماثيل من مواد تقليدية ضخمة للغاية، كالحجر أو الخرسانة، وأشعر أنني أقوم بإنشاء مذكرات لما يحدث في الوقت الراهن، بطريقة تمكّن الأجيال القادمة من معرفة وفهم واقع أننا نعي ما يجري من أحداث وحاولنا أن نسردها، ولكن ربما لم ننجح في النهاية، أو من يدري قد نكون بالفعل نجحنا. فهناك طريقة لينظروا إلينا من خلال الانغماس في البحر أو العودة إلى المناظر الطبيعية، مما يجعلك في مواجهة دائمة مع فنائك الحتمي، وأعتقد أنه يجعلك تعتقد أنّ الكوكب لن يموت في النهاية، بل نحن الذين سنموت، وسيبقى كوكبُ الأرض على قيد الحياة.
– بقولك إنّ عملك الفني بمثابة رسالة تتركها للأجيال المستقبلية، كيف تظن أن هذه الأجيال ستنظر إلينا وإلى كيفية تعاملنا مع المكان الوحيد في الكون المعروف بصلاحيته للمعيشة؟
سيكون هناك رد فعل عنيف غاضب، وأعتقد أن هذا يحدث بالفعل الآن، فيمكننا رؤيته فعلًا مع الفجوة الهائلة التي نراها بين الجيل الأكبر سنًّا والجيل الأصغر. ولقد أدركوا الآن أنّ النظام معطوب وأنّه لا يعمل لصالحهم. وأظن أن هذا يجلب معه الكثير من الأصداء الإيجابية، ولكن في وقتٍ ما -ربما قريبًا- سيصطدم الجيلان بشدة. وهناك بالتأكيد وعي كبير بأن جيلي، جيل “طفرة المواليد” (Baby Boomer generation)، كان لديه بعض الأوقات الطيبة التي كانت قصيرة النظر، ويُنظَر إليها بشكل سلبي للغاية الآن.
[1] إشارة إلى فرسان رؤيا يوحنا الأربعة، وهم أربعة فرسان ذكروا في الأصحاح السادس لسفر رؤيا يوحنا في الكتاب المقدس المسيحي. وهم فرسان الصراعات والحرب والمجاعة والموت (المترجمة).
NewPhilosopher: Climate