مراجعات

هَيْبَانْ رَينْمَيْ: أهميّة الذاكرة وهامشيّة الحقيقة – محمد السعيد

بيضَةٌ عملاقة. فتاةٌ تهوي إلى الأرض. بضعة أطفالٍ أولي أجنحةٍ مّثنى. لقد آن لهذه البيضةِ أن تفقس. يا ترى ما الذي تخفيهِ بداخلها؟ أهو سرّ الحياة، أم سرّ المَوت. إنها كلّ شيءٍ ولا شيء. صبيّةٌ حسناء في أرضٍ ماحِلة، محاطة بأسوارٍ محرّمٌ لمسُها، حاملة بشرًا لا أصلَ لهم ولا فصل. لا يعرفون أنى جاؤوا، وأنى مصيرهم. هؤلاء المجنّحون الذين يضعون حلقةَ ضوءٍ فوق رؤوسهم لا يعرفون من أين أتوَا وإلى أين ذاهبين. يبدأُ أنمي هَيبان رَينمي (Haibane Renmei) من هنا، إذ لا يُوجدُ أساسٌ راسخٌ يخوّلنا لفهمه. وينتهي أيضًا هنا. إذًا ما القصّة وماذا يترتّب عليها، إن كانت بهذا البناء المموّه؟ في إجاباتنا المتناقضة لهذا السؤال، تكمن عبقريّة هذا العمل البسيط. لا يوجد ما هو حقيقيّ فيه وما ليسَ حقيقيًّا.

على غرار أساليب السرد العديدة -والتي معظم صنّاع مسلسلات الأنمي يتبنّونها-، تبدأ القصة في نقطة فراغ من الزمان والمكان لا قبل ولا بعد، كنقطةٍ أقل من فكرة (idea) وأكبر من بذرة لهذه الفكرة (inception) حيث نجد الشخصيات في مزيجٍ غرائبي من صفاء النفس وقرارها إذ لا يحدوهم أمل. هذه الهايبانات كائنات شبه-سماويّة، ولكنهم ليسوا ملائكةً، ففكرة الملاك خاضعة لقوانين لا يُستطاع تجاوُزها، بل لا فكرة لديهم بمفهوم التجاوز. فيمكننا رؤية هذه الهايبانات تعيش في تناغمٍ وألفة إذ لا يمكن للمشاهد إلا الشعور بالملل وأيضًا التماس فكرة الفردوس الذي لا يُمكن إمساكه في الاكتفاء والانكفاء. لا تعرف هذه الكائنات غايةَ وجودهم وما مآلهم، فهُم خالدين في هذه المدينة أبدًا. تستمرّ القصة في هذا الجو المتناغم حتى يقطعها اختفاءُ هايبانة. ويبدأ السعي وراء الحقيقة.

تذهبُ شخصية المسلسل الرئيسية راكّا لمعرفة حقيقة اختفاء صديقها على حين غرّة، وتفشل. إن الحقيقة متطايرة لا يستطاع الإمساك بها كجسد راكّا الهاوِ للأرض. وتتذكر راكّا حلمها وهو هذا السقوط، إذ حاوَلَ غرابٌ إنقاذها من سقوطها المحتم، أي من استيقاظها كهيبانة. لم تستسلم راكّا في البحث عن حقيقةٍ ما وتجد غرابًا يبحثُ في الأرض وتتبعه إذ تسنّى لها أن تبحث عن معنًى في ذاتها. وينتهي بها البحث بإيجاد هيكل هذا الغراب في أبئس بئرٍ في المدينة، حيثُ سقطَت فيها كأنها يُوسُفٌ جريح تخلّى عنه إخوته.

راكّا في جوف البئر

ينقذها واحدٌ من جماعة التوقا، وهم وحدهم المخولون بالخروج والدخول للمدينة، كأنهم نُصّبوا آلهة لهذا العالم. يقرأُ المشاهد عبوسَ هؤلاء الجماعة شبه الدينيّة بأنهم شرٌ مسموم. ولكن يفكّك السردُ حقيقةَ المشاهد بإنقاذ راكّا. يعرض هذا التوقا العملَ على راكّا، إذ أن شرف هؤلاء الهايبانات العمل وقتل الفراغ، ليستطيعوا البقاء في هذا العالم ويصونوا أنفسَهم. ويتضمّن هذا العرض بالاشتغال في أسوار المدينة المحرّمة، تبتهجُ راكّا لقربها من الحقيقة، حيث تسمع ضحكات صديقها بالقرب من هذه الجدران الصمّاء، ولكنها تسأل إلى أين ذهب، فيُجيبها التوقا، بجهلِهِ للجواب؛ فلا جدوى يا راكّا، لا جدوى.

ولا تسعى، يا عزيزي المشاهد، لماهية حقيقة هذا العالم، بل بما يُسفر عنها. تختبر راكّا سعيها في جذرٍ رئيسي وهي شخصية ريكي، وهي بمثابة مستودع الذاكرة للتجربة الجمعيّة للهايانات، ولكن يحيطها بعض الغموض. ومع حرص راكّا للكشف عنه، إذ تعرف أن ريكي لا تستطيع تذكّر حلمها، وبهذا تعيش من دون أمل وهي ترى إخوتها ذاهبين وراحلين. ريكي هي النسخة الكبرى لراكّا، وشخصياتاهما مجبولتَان على السعي الفارغ لهذه الحقيقة المعدومة.

راكّا
ريكي

تسعى الشخصيتَان في إزالة هذا التمويه عن برزَخَيهما بتذكّر حلم ريكي. إنّ الذاكرة مفتاحُ الحقيقة. لا يهمّ السعي نحو الحقيقة، إن كانت الذاكرة متطايرة. خلال مغامرات الشخصيتَين النفسيّة تتذكّر ريكي حلمَها، حيث أن عقاب الهايبانة التي لا تذكرُ حلمها، النسيان، حيث أنه العقاب الأمثل. لكن راكّا تُطمئن ريكي، بل وتساندها. في هذه اللحظة بالذات يتفجّر السرد؛ ليكشف عن الحقيقة الكبرى، التي قلّما ذُكرت في أوساط محلّلي ومراجعي المسلسل: إن هذا العالم برزخُ المنتحرين في الحياة الدُنيا. ما يُخيف ويبهر أن عذاب الهايبان هو النسيان وليسَ نيران الجحيم؛ لأن الجحيم اعترافٌ على الأقل، أما النسيان فلا اعتراف ولا أمل.

نعم، إن المهم هو الذاكرة. ذاكرتنا، ذاكرةُ المنتحرين، ذاكرةُ الأحباب. الحقيقة مجرد شيء هامشي، لا تُسمن ولا تُغني من جوع. والدليل أن الأحلام أساسٌ من أساسات هذا العالم، إذ أن هذه الأحلام منطقيةٌ أكثرَ من الحقيقة ذاتِها. يصيبُ المسلسل باستعماله لنقطة الفراغ السرمديّة، وقتل الفراغ بأهميّة العمل. حالةُ الهايبانات مثل حالةِ ليمبوس دانتي في بداية الجحيم، لا هم معذّبون أو منعّمون. ينتظرون يومًا ينزلُ فيه المسيح لإنقاذهم. هذا بمثابة يوم التحليق (day of flight) في المسلسل. يأتي هذا اليوم للهايبانة التي أمسكَت بلبّ الذاكرة. تتجسّد فوضى النسيان في أحدِ الكُتُب في المسلسل، وهو يتكلّم عن نشأة هذا العالم، ولكن أجزاءه مفقودة وصفحاته ممزقة. إن رسالة المسلسل للمشاهد هي أن يملأ كتابَ حياته وألّا يمزّق صفحاته. وأن يُؤثر الآخرين على نفسه. أن يبحث عن الذاكرة، لا عن الحقيقة؛ إذ بالذاكرةِ نستطيع أن نلتمس وجه الحقيقة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى