تأبين الموجة الغوداريّة
لا يُعتبر رحيل جان لوك غودار مجرد رحيل عبقريّ من عباقرة السينما، وواحد من أهم صُنّاع الأفلام المخضرمين الذين عايشوا أجيالاً سينمائية مختلفة؛ بل هو رحيل حالة سينمائية استثنائية، ونهاية أهم مرحلة سينمائية على الإطلاق، وهي: الموجة الفرنسية الجديدة، التي ظلّت جديدة حتى يومنا هذا الموافق 13 سبتمبر 2022. وبهذا العزاء تنطوي الصفحات، ويُـقْـفل الكتاب على آخر صفحةٍ لموجةٍ فنية هي الأطول والأهمّ في تاريخ السينما مقارنةً بكل الموجات والمدارس والمذاهب السينمائية الأخرى.
لو حاولنا العودة زمنيًا إلى الوراء، وتحديد نقطة بداية مسيرة ج. ل. غودار الفنية، وبالمقابل نقطة التوقف والموت والانتهاء. وقمنا مجازيًا بحذف واقتصاص مساهمات جان لوك غودار وأفلامه، فإننا بالضرورة سنتخيّل سينما عالمية محدودة الإمكانيات، وغير مستقرّة. ولا أقول ذلك مبالغةً، لأن الدور الذي قدّمه غودار للسينما كان بمثابة المفتاح الذي استعان به الجميع لتجديد السينما والمحافظة على حيويتها وتطورها. وهذا المفتاح الذي استخدمه غودار هو الجرأة الفنية على ممارسة الهدم وإعادة البناء، ولولا هذه القدرة لظلّت السينما حبيسة الحدود السينمائية البدائية، والقواعد السردية الأولى. وغودار من النقاد القلّة الذين لم يكتفوا بالكتابة عن السينما فقط، ولكنهم قاموا بممارسة النقد السينمائي عبر صناعة الأفلام.
إشكالية التفكير في صورة الصمت
كان غودار فنّانًا حُرًّا لا يخاف التجريب، ولم يكن يخجل من الوقوع في الأخطاء التي تضعه في موضع الاستهزاء والاحتقار والاستخفاف والسخرية (1)، لأنه لم يكن يعترف بوجود ما يُسمّى: خطأ. بالنسبة إليه لا يوجد خطأ في صناعة الأفلام طالما ظلّت الممارسة واعية. وكان ذلك واضحًا في طريقة استخدامه للمونتاج على المستوى البصري، والسمعي، والقصصي، والسينمائي، بل كان في كثير من الأحيان يجازف بتشويه اللحظة العاطفية عند المتفرج بطرقٍ متنوعة منها على سبيل المثال: التلاعب بالصوت، و قطعه بشكلٍ مفاجئ إلى اللاّصوت. مثلاً في فيلمه: Bande à part (1964)، نشاهد مشهدًا راقصًا يعتمد أساسًا على أنغام الموسيقى المتطابقة مع خطوات الراقصين، الذين يحاولون التحرك بتوافقٍ تام مع النغمات الموسيقية، ثم بشكلٍ مفاجئ يتوقف صوت الموسيقى، وتستمر اللقطة، ويستمر الرقص، وفجأة يُعيد غودار صوت الموسيقى من جديد، ثم يختفي الصوت فجأةً من جديد، وهكذا، فيما لاتزال اللقطة مستمرة في ذات المكان بالرغم من هذا الاضطراب الصوتي الذي يشتت المتفرج. وهذا النموذج يلخّص بشكلٍ عام منهج غودار السينمائي، فهو الناقد الجريء الذي لا يخشى أن يقتطع السرد ليقدّم أسئلة تتعلّق بطبيعة الوسط السينمائي، وحدوده وقدراته؛ ليرفع بذلك عند المتفرج المعرفة الثقافية السينمائية والوعي بصناعة الأفلام.
بالنسبة لغودار الصمت لا يعني اللاّنطق، الصمت ليس نقيضًا للصوت، ولكن الصمت حالة وجدانية شعورية. وغودار كما كثير من صُنّاع السينما في زمانه؛ شاهدَ أفلامًا في المرحلة التاريخية التي تُعرف بمسمى: السينما الصامتة. وبالضرورة شاهد أفلامًا بدون أيّ مؤثرات صوتية، وبالرغم من أنّ تلك الأفلام كانت تفتقر للصوت إلاّ أنها لم تكن صامتة، بل كانت تخاطب الجماهير وترسل المعاني الصاخبة. وحتى ندرك معنى مفهوم الصمت بالنسبة لغودار يجب أن نناقش إحدى عباراته الشهيرة، هو الذي يتميز بخفة الدم بالرغم من جدية طرحه، حين قال: «نمارس الصمت، بعدما نسمع كلمة أكشن!»، بمعنى في أماكن تصوير الأفلام، وكما جرت العادة إذا أردوا بدء لقطة تصويرية، فإن المخرج يصرخ: «أكشن» (2)، كدعوة للحركة، وبداية تصوير اللقطة والتمثيل، وفي هذه اللحظة يصمت كل طاقم العمل ويعمّ الجمود الشبه جماعي، وتبدأ الممارسة الحقيقية للصمت باعتباره تجربة وجدانية مشتركة بين كافة طاقم العمل.
في عام 2020، قدّم غودار إحدى لقاءاته الأخيرة ضمن مشاركته في أحد المهرجانات السينمائية الهنديّة (3)، وكان لقاءً افتراضيًا عبر شبكة الإنترنت، وهو الضيف الذي من المفترض أن يكتفي بالإجابة على الأسئلة؛ توقفَ غودار في منتصف حديثه فيما كان يتحدث عن الوباء العالمي كوفيد 19، وبدأ يسأل المقدّم: «هل تستطيع أن تفكر في صورة الصمت؟»، وكان السؤال صادمًا، ما صورة الصمت؟ وهل نستطيع أن نختزل الصمت داخل لون واحد؟ أو هيئة واحدة؟ فُوجئ المقدّم من السؤال المباشر. وطلبَ من غودار أن يجيب بنفسه على سؤاله، فأجاب: بأنه الآن في غرفته وأمامه نافذة، ولأنه فصل الشتاء فالثلج يتساقط، والمنظر من نافذته يعرض تساقط الثلج، ولحركة تساقط الثلج دلالات صامتة. ثم قارن صورة الصمت بتساقط الثلج على سطح البحر، واختتم بأنّ محاولة التفكير في صناعة صورة الصمت، هي الجوهر الحقيقي لصناعة السينما.
من ثمّ نلاحظ أن فكرة صناعة السينما بالنسبة لغودار ليست مجرد تصوير قصص وكفى، بل هي تجربة وجدانية عالية لصنع الجمال الحيّ مع التفكير في معاني مفهوم الصمت. إذن، وبالطريقة التي يفكر بها غودار، ليس الموت صمتًا لاختفاء صوت الميت أو لعدم القدرة على النطق، بل إنّ صمت الموت بسبب جمود الأثر، كطاقم العمل الذين يختفي أثرهم حين تصوير الأفلام بعدما يصرخ المخرج بكلمة: أكشن!. ومن ثمّ فإن رحيل غودار ما هو إلاّ نضوب لأثر الموجة السينمائية الغوداريّة.
العلاقة بين المتخيّل والحقيقي (4) وازدواجية الفنان / الناقد
لم تكن نشأة غودار سهلة، رغم انتماءه لعائلةٍ برجوازية تحظى بالعديد من الامتيازات الاجتماعية، وذلك لأنّ السياق التاريخي العام لأوروبا في النصف الأول من القرن العشرين ساهم بشكلٍ كبير في انتشار الشعور بعدم الأمان، وفقدان الثقة، والخوف، والرعب، والتفكير في جدوى الوجود، ومشكلة الطبقات الاقتصادية، وتساوي الفرص والحقوق. وكان الإدراك الأول لغودار عن معاني الحياة من خلال الأوجاع التي تلقتها أوروبا في الحرب العالمية الثانية، وهي الحرب الأبشع في تاريخ البشرية جمعاء، ذلك لأنّ الحروب القديمة كانت بدائية، وتعتمد على المعارك في ساحة القتال بشكلٍ أساسي، ولكن بعد الثورة الصناعية التي حدثت في القرن العشرين تطورت أساليب الحرب، لذا اعتمدت الحرب العالمية الثانية على التقنيات الصناعية الجديدة، والأسلحة النفاثة الطائرة، والقنابل النووية التي لا يتوقف حدود تدميرها على جنود المعركة فقط، بل يشمل تدمير المدنيين، والمباني، والأراضي، والنبات، والحيوان.. الكل دون تمييز.
وحين انتهت الحرب، وبدأت تتعافى أوروبا، ويُعاد بناء الأرض، بدأت تظهر في فرنسا النظريات الجديدة على كل الأصعدة الفلسفية والفنية والثقافية والعلمية والمعمارية والأدبية، ساهمت في ظهور مدارس فكرية جديدة، لذا انتشرت النظريات الوجودية التي تبحث عن معنى الوجود، وتطورت الفنون، وتطور الأدب، وظهرت أسماء مثل: جان بول سارتر، وسيمون دي بوفوار، وألبير كامو. حتى أن الأدباء الغير فرنسيين أصبحوا يتباهون بالنشر باللغة الفرنسية مثل مسرحية: «في انتظار غودو» لصمويل بيكيت. وانتشرت الثقافة الفرنسية التي تهتم بأساليب الحياة الجديدة، ونتج عن كل ذلك؛ ظهور جيل من الشباب الفرنسي يؤمن بالتحرّر من كل قديم والنزوح نحو التجديد، ومن ضمنهم جيل الموجة الفرنسية الجديدة، الذين رأوا أن التجديد لا يقتصر على روح الحياة في فرنسا فقط، بل شمل تجديد روح السينما الفرنسية، وطريقة التفكير الجديدة في استخدام هذا الوسيط السينمائي والسمعي والبصري والقصصي.
وكان النموذج الأمثل للشاب الفرنسي في تلك المرحلة، يكمن في دور الممثل الفرنسي جان بول بلموندو، في فيلم غودار الروائي الطويل الأول والشهير Breathless 1960، حيث شاهدناه بكل طاقاته الشبابية المتوهجة، بطريقة حديثه المتعالية، وعدم مبالاته، وتدخينه الشرس، واستشهاده بعباراتٍ ارتبطت بروح باريس حينها، وكأنه مرآة عكست روح عصره وزمنه، ولكنه بذات الوقت شخصية خياليّة داخل قصة متخيّلة. لم يزل الفيلم وثيقةً سينمائية على روح ذلك العصر وروح الموجة الفرنسية الجديدة، باعتباره حالة خاصة اشترك في صناعتها غودار، وفرانسوا تروفو، وكلود شابرول، وهم أركان الموجة الفرنسية الجديدة، وأهمّ أعمدتها.
ولقد حقّق الفيلم نجاحًا ساحقًا في أمريكا خاصة، وفي سائر أوروبا بشكلٍ عام. حيث تأثرّ تأثرًا كبيرًا بالسينما الأمريكية، بمحاكاته لنوع أفلام العصابات ونمط المطاردات، وحتى على مستوى الأداء نشاهد محاكاة لأسلوب همفري بوغارت، و بول ميوني.. وبرغم ذلك مرّت العلاقة بين غودار والسينما الأمريكية لاحقًا بالعديد من التقلبات.
كان غودار مهووسًا بالسينما في شبابه، كان يذهب لنوادي السينما الباريسية الخاصة، لمشاهدة الأفلام النادرة، ومناقشتها. ثمّ نقل هذا الاهتمام إلى ممارسة النقد السينمائي بصيغته الكتابية، ونشر المقالات الانطباعية والتحليلية عن الأفلام. وكان حينها من محبيّ المخرج الأمريكي نيكولاس راي الذي ناقشت أفلامه ثيمة الشباب، كما تكررت هذه الثيمة في معظم أفلام غودار الأولى. كان يضع نيكولاس راي في قمة الهرم الإبداعي، حيث كتب ذات مرّة في مقالٍ له نُشر عام 1957، عن تطور مراحل صناعة السينما، بأنّ صناعة الأفلام: «كانت مسرحًا مع غريفيث، وشِعرًا مع مورناو، ورسمًا مع روسيليني، ورقصًا مع إيزنشتاين، وموسيقى مع رينوار، ومن الآن فصاعدًا؛ فهي سينما، وهذه السينما هي: نيكولاس راي».
من هذا النصّ نتعرّف على معرفة غودار الواسعة والشاملة والمبكرة بتاريخ السينما، وبمخرجيّ المراحل المختلفة، والحقبات الزمنية المتعددة، والأماكن المتنوعة. ومن بين كل الأسماء التي ذكرها اختار بشكلٍ خاصّ مخرجًا أمريكيًا في ذروة شهرته ومجده ليقرن اسمه بمفردة السينما، وهذا أبلغ المديح في حقّ السينما الأمريكية. لكن هذا التقدير لم يدم طويلاً، إذ بات عِداءه للسينما الأمريكية محطة من أشهر محطات حياته، وأصبحت سيرته تتلخص في الوقوف ضد كل ما تقدّمه الأيديولوجية الهوليوودية.
ومن ذلك ما ذكره المخرج الإيطالي المخضرم برناردو برتولوتشي في حديثٍ عن مرحلةٍ مهمة من حياته (5)، حين كان غودار مثله الأعلى، وكان يكنّ له كل الإعجاب والمحبّة. وبالرغم من كونه إيطاليًا بجانب نجاح السينما الإيطالية إلاَّ أنه صنَّف نفسه ضمن مخرجيّ الموجة الفرنسية الجديدة، إذ كان ينظر لصناعة الأفلام بذات العين الناقدة التي يمتلكها جيل الموجة الفرنسية الجديدة، وكان مذهولاً من قدرتهم على ممارسة النقد السينمائي داخل أفلامهم، لذا صنع أفلامًا تشبه أفلامهم، وكان يصنع أفلامه فيما ينتظر رضى ومديح مخرجيّ وسينمائيّ الموجة الفرنسية الجديدة، ولكن الصدمة حدثت بعد أن قدّم فيلمه ( Last Tango in Paris (1972)، اتهمه غودار بخيانة السينما ومبادئ الموجة الفرنسية الجديدة، ما جعله يتوقف لفترةٍ من الزمن عن التحدث إليه.
يمكن تلخيص سبب عداء غودار للسينما الأمريكية في مسألةٍ واحدة تكرّر ذكرها في لقاءاته، وهي: رأسمالية السينما. أيّ، عندما تتحول الأفلام إلى سلعٍ تجاريةٍ شعبية، ذات مبدأ اقتصادي بحت وهو: العرض والطلب بالتركيز على رضاء المستهلك في سبيل التضحية بالقيمة الجمالية للعمل الإبداعي. ومن ثمّ تحكّم العقلية الرأسمالية في صناعة الأفلام الهوليوودية التي نجنح نحو المثالية المبالغ فيها لدرجةٍ تجعل أفلامها مصطنعة وغير واقعية. وكردة فعل عكسية ضد المنهج والنموذج السينمائي التجاري الذي تقدّمه أمريكا الرأسمالية من خلال هوليوود، ظهرت الموجة الفرنسية الجديدة، بجانب العديد من الحركات السينمائية الأوروبية الأخرى مثل: الواقعية الإيطالية، والدوغما 95.
أكاد أجزم بعدم وجود كتَابٍ عن السينما لا يحتوي على عبارةٍ من عبارات غودار، لما لآرائه السينمائية من رونقٍ خاصّ، بجانب سهولة انتشارها في الوسط السينمائي، ولغرابتها في إطلاق الأحكام السينمائية العامة أيضًا. ولهذا الأسلوب النقدي جذورًا من الممكن أن نلحظها في المساهمات والأعمال النقدية التي قدّمها الناقد الفرنسي أندريه بازا – أو بازان كما يُكتب في التراجم العربية- باعتباره المرجعية المعرفية النقدية الأولى التي تعلّم منها غودار النقد. وتتلخص تجربة بازا في كتابٍ من جزئين بعنوان: «ما السينما؟» (6)، في مقدمة الجزء الأول يكتب المخرج الفرنسي إريك رومر بعضًا من الأسباب التي أثّرت على بازا في طريقة فهمه وتناوله للسينما، ومن أهمها، كُتب جان بول سارتر في التحليل النفسي، وتفسيراته ونظرياته الوجودية، وبالتحديد كتابه: علم التحليل النفسي للخيال The Psychology of the Imagination.
اعتمد بازا على التحليل النفسي و على المنهج الوجودي في نقاشات الأفلام. حتى أنّ عنوان كتابه: «ما السينما؟»، صدرَ لاحقًا بعد كتاب سارتر بعنوان مشابه، وهو: «ما الأدب؟»، والذي يقدّم تحليلًا وجوديًا للأدب، طرح فيه سارتر أسئلة عن دور الكلمة داخل السياق السردي في الأعمال الكتابية، وبالمقابل نشاهد بازا يسأل عن دور الصورة داخل السياق السردي للأفلام المصورة، ويستخدم عبارات مثل: «وجودية السينما Cinema’s existence».
تتسمّ ممارسات بازا النقديّة بشكلٍ عام بأسلوبٍ فريد، إذ بالرغم من الجدية في الطرح وتناول الموضوعات المعقدة إلاّ أنها لا تخلو من الطرافة و اللطافة، إذ يقول مثلاً: «التصور الذاتي هو الخطيئة الأولى للفن التشكيلي الغربي»، والخطيئة الأولى هي فكرة مسيحية دينية، والمقصود أنّ الفنان بسبب امتلاكه للتصور الذاتي أصبح يتلاعب في إظهار الحقيقة. و يقول أيضًا: «الصورة الفوتوغرافية هي أهم حدث في تاريخ السينما البلاستيكي»، والفكرة أنّ الصورة الفوتوغرافية والسينما يمكن ممارستهما بعيدًا عن سُلطة الفنان لأنّ الآلة التصويرية -الكاميرا- تقوم بفعل التصوير بذاتها دون الحاجة لدور الفنان. وهنا يطرح فكرة غريبة ولكنها مهمة، وهي أنّ صناعة الأفلام سهلة لدرجةٍ لا تتطلب سُلطة الفنان، فهي تعتمد على الآلة أولاً وأخيرًا. ولكن أهم أطروحاته كانت في فكرة تحنيط الزمن، كشيء يشبه تحنيط الأجساد الذي قام به الفراعنة، والسينما هي تحنيط الوقت بالقدرة على تسجيل حدث معين من الزمن، وتحنيطه. أيّ، الاحتفاظ به للأبد. (7).
كل ذلك ساهم في تكوين ذائقة غودار السينمائية والنقدية، فغدت أفلامه ذات علاقة تحليلية نفسانية، تعتمد بشكلٍ كبير على فكرة تحنيط الزمن في السياقات السردية المتخيلة و الواقعية، وكأن الفيلم مرآة للعقل المفكر، وصناعة الأفلام مجرد وسيط للتعبير عن هذه الأفكار التي تشمل بداخلها أفكارًا عن ماهية صناعة الأفلام نفسها. إنّ عين غودار النقديّة ربما تبدو صداميّة، وربما تبدو حادة، ولكنها صادقة تأتي من عينٍ ناقدة مكتنزة بالآراء والأفكار والنظريات.
وداعًا غودار.. وداعًا للغة
لا تعدّ أفلام غودار الأعظم في التاريخ، ولا الأكثر اكتمالاً، لكنها الأكبر أثرًا. أفلامه مصدر إلهام مهم لصُنّاع الأفلام، والنقاد، والمهتمين بتاريخ الشاشة. ولا يمكن اختزال تجربة غودار في عدة أفلام قليلة، لأن تجربته واسعة وطويلة، لذا من عدم الإنصاف تحديد أفلام قليلة لفهم ماهية غودار، بل ينبغي على المهتم أن يشاهد كل ما يجد من أفلامه، ويجب أن لا ينزعج المتفرج إذا ظهر جميع طاقم الفيلم فجأة في لحظةٍ للاستعداد لتصوير لقطة من ذات الفيلم الذي يشاهده، ولا ينزعج إذا توقف الفيلم في منتصفه وبدأ غودار التحدث بنبرة صوته الأجشّ عن أوجه الشبه بين المخرج السينمائي والفيلسوف، ولا ينزعج إذا تعطّل الصوت وانقطع بالرغم من أن الفيلم يقدّم مادة وثائقية عن فرقة غناء الروك آند رول – رولينغ ستون-، ولا ينزعج بسبب أيّ استخدام مفرط لخاصية بطء الحركة أو التسريع، ولا ينزعج حين يشاهد حوارًا بين شخصين بصوتٍ عالٍ، وتعرضه الكاميرا من زاويةٍ وكأنهما على خطٍ واحدٍ متساوٍ، دون استخدام القصّ العكسي للتعبير عن الحوار، فهذه الزاوية مجرد أسلوب يقول فيه غودار بأنهما يتفقان وجدانيًا بالرغم من اختلافهما. وإذا قام غودار بأيّ أسلوبٍ مشوّش للمتفرج فهو يتحدث عن شيء ما عن الفيلم، أو عن القصة، أو عن تاريخ السينما بشكلٍ عام. (8).
من ثمّ فإن الهدم السردي، والبصري، والسمعي، والقصصي، وتعطيل الضوء، والقصّ المفاجئ الذي يقوم به غودار؛ هو مجرد محاولة منه للتعبير عن المعاني الوجدانية من جهة، ومن جهةٍ أخرى، هو محاولة للتجريب في جدوى كل الخصائص السينمائية. إذ ظلّ غودار طوال مسيرته السينمائية فنانًا يحاول تعلّم صناعة الأفلام مع كل فيلم جديد يقدّمه، ويعبّر عن ذلك في مقولةٍ شهيرة له، حين سُئل وقت صدور فيلمه Every Man for Himself (1980)، عن موقعه بين كل أفلامه الأخرى، ردّ بأنّ هذا الفيلم هو: «فيلمه الأول الثاني»، وبالأول يقصد فيلمه الأول الطويل الشهير Breathless، حين اكتشف السينما للمرّة الأولى، ومن حينها لم تتوقف التجربة الأولى.. هكذا كان يمارس غودار صناعة الأفلام.
ختامًا
جرَت السينما في جسد غودار مجرى الدم؛ كانت طريقة تفكيره، كانت سببًا لسعادته، سببًا لحزنه، سببًا لحياته، وسببًا لموته.. لكن حتى وإن رحل غودار ستبقى موسيقاه تُعرض بالاستعانة بالضوء في الغرف المظلمة، وفقًا لمبدأه السينمائي الذي دعا إليه، حين قال: «مبدأ السينما هو: اذهب نحو النّور، ودعها تشعّ على ليالينا؛ فهي موسيقانا». (9).
الهامش والمراجع:
1. انظر: لقاء Dick Cavett، مع جان لوك غودار عام 1980
2. انظر: Jean-Luc Godard in conversation with C S Venkiteswaran AT IFFK
3. نفس المرجع السابق
4. في فيلم موسيقانا (Notre musique) (2004)، يظهر غودار في لقطةٍ وهو يلقي محاضرة عن السينما، ويتحدث عن المتخيّل باعتباره أحد أوجه الحقيقة التي تتطلب إغلاقًا للعينين لفتح أفاق الخيال كنقيض للواقع الذي يتطلب فتح العينين، بمعنى: أغلق عينيك وتخيّل قصة، أو افتح عينيك وانظر وشاهد الحال كما هو. لذا فإن المتخيّل أسهل للتصديق. ويظهر غودار ممسكًا بصورتين للحظة تاريخية عام 1948، يظهر فيها الشعب اليهودي كقصة متخيلة يدخلون أرضًا موعودة، ويظهر فيها أيضًا الشعب الفلسطيني كصورة وثائقية يتجهون إلى البحر للغرق، والتهجير، والترحيل، والموت. فالعلاقة بين المتخيّل والحقيقة هي علاقة بين اللقطة واللقطة العكسية.
5. انظر: Brando bertolucci interview with Charlie Rose
6. انظر: What Is Cinema? By André Bazin، وتوجد عدة مقدمات للكتاب من جيل الموجة منهم: تروفو (النسخة القديمة)، وجان رينوار(الجزء الثاني)، وإريك رومر (النسخة الجديدة).
7. انظر: مقال بعنوان: «عن علاقة السينما بالفلسفة وباقي الفنون»، للكاتب حسن الحجيلي
8. كل النماذج السابق وردت في أفلام غودار، مثل:
Contempt 1963 – Masculin Féminin 1966 – Sympathy for the Devil 1968 – Every Man for Himself / king lear– Vivre sa vie / Tout Va Bien / Pierrot le Fou – Goodbye to Language 2014
9. ورد هذا الاقتباس في فيلم موسيقانا لغودار Notre musique (2004)