مقالات

إمانويل كانط: تجرأ أن تفكر – ستيفن غامبارديلا

الثورة العقلانية لفيلسوف التنوير. ترجمة: علي رضا

في عام 1783 بدأ الكُتَّاب في أوروبا يستخدمون كلمة جديدة: “المستنير”.

اعترض القس يوهان فريدريش زولنر Johann Friedrich Zöllner، مسؤول في الحكومة البروسية، على استخدام الكلمة. مهاجمًا مقالًا مؤيدًا للتنوير على صفحات مجلة برلين الشهرية Berlinische Monatsschrift، استفز قراءه الليبراليين بسؤال بلاغي:

“ما هو التنوير؟ هذا السؤال، الذي لا يقل أهمية عن سؤال الحقيقة، يلزم الإجابة عليه قبل أن يبدأ المرء في الاستنارة! وما زلت لم أجد إجابة من أحد!”.

أجاب العديد من القراء. وكان من بينهم إمانويل كانط (1724-1804)، الذي بدأت مقالته بالتعريف المشهور الآن: “التنوير هو تحرر الإنسان من عدم نضجه المُتكَبد-ذاتيًا”.

ألقى كانط على الإنسانية إحساسًا بالشخصية الذاتية. كان التنوير يعني أن يكبر المرء. لكن ما الذي يتيح لنا حقًا بأن نكبر؟ ليس بالضرورة التغييرات الجسدية التي نمر بها. فقد نظل غير ناضجين حتى بعد وصولنا إلى سن الرشد. فبالنسبة إلى كانط، كان مفتاح نضج البشرية، مثل أي شخص آخر، هو الشجاعة. فكتب:

“عدم النضج هو عدم قدرة الإنسان على استخدام قدرته على الفهم دون توجيه من شخص آخر. يكون عدم النضج هذا مفروض ذاتيًا عندما لا يكمن سببه في الافتقار إلى العقل، وإنما في الافتقار إلى العزم والشجاعة لاستخدامه دون توجيه من الآخر”.

كان التنوير بمثابة نقطة حشد للفلاسفة والعلماء الذين فهموا أن هناك موجة جديدة من التفاؤل حول الإمكانات البشرية تجتاح العالم. وبهدف تعزيز الشجاعة بين أقرانه، منح كانط التنوير شعار “Sapere aude” – “تجرأ أن تفكر!”

استمر عصر التنوير لحوالي قرنين من الزمان. فيقول معظم المؤرخين إنه الحقبة ما بين أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن التاسع عشر. والذي تحقق بفضل اتحاد عدد من التغيرات المجتمعية، والتقنيات الجديدة، والاكتشافات، والابتكارات المالية.

كان من السهل على العلماء والفلاسفة نشر أفكارهم من خلال المطابع. نشأ “المجال العام” من مساحات الاجتماعات التي سمحت باختبار الأفكار وتنقيحها من خلال النقاش. ونتيجة لذلك، تحققت قفزات تقدمية هائلة في مجالات العلوم، والفلسفة، والسياسة.

تمامًا كحال الإنترنت اليوم، كافح المراقبون للحد من تدفق الأفكار. نما اتقاد الأفكار ليصبح نيران الاضطرابات. فاجتاحت الثورات أوروبا مع انتهاء عصر التنوير.

ويُعتبَر كانط شخصية رئيسية وشامخة في عصر التنوير. غالبًا ما يُشار إليه باعتباره الفيلسوف الأكثر تأثيرًا منذ أرسطو إثر عمله على نظرية المعرفة، والأخلاق، وعلم الفلك، والرياضيات، والنظرية السياسية، والفنون.

السبات الدوجمائي

على الرغم من تأثيره الهائل والعواقب بعيدة المدى للحركة التي كان جزءًا قياديًا فيها، إلا أن كانط عاش حياة هادئة وعادية للغاية. فلم يغادر مدينته الصغيرة كونيغسبيرغ Königsberg أبدًا لأي فترة زمنية طويلة.

كان لكانط جذور متواضعة. توفيت والدته عندما كان يبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا، ودفنت في مقابر الفقراء. كما توفي والده في سن مبكرة أيضًا، تاركًا كانط وإخوته في وضع مالي غير مستقر.

تمكن إيمانويل من مواصلة دراسته بواسطة المنح المقدمة من كنيسته ومن خلال إعالة نفسه ماليًا كمعلم خاص لأبناء الأثرياء. على الرغم من تفوقه الأكاديمي، لم يتمكن كانط من إنهاء شهادته في جامعة كونيجسبيرج إلا في سن الواحد والثلاثين.

كان كانط أكاديميًا موهوبًا لكنه كان فيلسوفًا عاديًا في النصف الأول من حياته. كانت الدراسات العلمية التي قام بها في بداية حياته المهنية جديرة بالملاحظة، ولكن لم يصبح كانط شخصية بارزة في المجال الفلسفي حتى بلغ الخمسين من عمره.

صادف الأكاديمي، وهو في منتصف عمره، أعمال معاصره الأكبر سنًا، الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم David Hume (1711-1776)، الذي قال كانط عنه أنه “أيقظني من سباتي الدوجمائي”. كان رد فعل الفيلسوف الأصغر لأفكار هيوم إنجازًا غيّر العالم.

من المشهور أن فلسفة كانط معقدة، لكن استنتاجاته بسيطة. خطوة بخطوة، سأشرح بأكبر قدر ممكن من الوضوح كيف وصل إلى هذا الإنجاز.

.Immanuel Kant by Johann Gottlieb Becker, 1768. Public Domain images (Source: Wikimedia Commons)
David Hume by Allan Ramsay, 1754 (right). Public Domain images (Source: Wikimedia Commons)

تحدي التجريبية

من المهم أن نفهم أن مشروع كانط كان هدفه إعادة بناء ما هدمه هيوم.

بصفته شكاكًا فلسفيًا، كان هيوم مفككًا للأفكار الكبيرة وليس صانعًا لأفكار جديدة. بدا أن الاسكتلندي الأكبر سنًا أظهر بشكل قاطع أنه لا يمكن أن يكون هناك عبارات فلسفية ذات معنى.

تعارضت أفكار هيوم مع الأفكار السائدة في القارة الأوروبية، فقد كان، بالإضافة إلى مجموعة مؤثرة من الفلاسفة البريطانيين، تجريبيًا Empiricist.

في حين أن العقلانية Rationalism – الاعتقاد بأن معرفتنا الأساسية بالعالم تأتي من أذهاننا – كانت سائدة في القارة الأوروبية. اعتقد التجريبيون أن معرفتنا الأساسية بالعالم تأتي من التجربة؛ فلا توجد معرفة فطرية أو حدسية لدى التجريبيين، فعقولنا عبارة عن صفحة بيضاء تملأها التجربة بمرور الوقت.

وبوصفه أكثر التجريبيين تطرفًا، أصر هيوم على أن التجربة هي أساس كل المعرفة. فوفقًا له، نحن ببساطة نخبر سلسلة من الإدراكات الحسية. وأي شيء يتجاوز ذلك فهو مجرد اعتقاد. في حين أن هذا يبدو واضحًا للقارئ العادي، إلا أن آثاره هائلة.

لأنه وفقًا لهيوم فإن أي معرفة لا تستطيع الحواس التحقق من صحتها هي هراء. إن المثال الأكثر عمقًا على التجريبية الشكوكية لهيوم هو السبب والنتيجة. وهذا ما يعرفه الفلاسفة باسم “السببية Causation”.

السببية مهمة لكلٍ من الفلاسفة والعلماء لأنه يبدو أنها تربط الكون ككل. فكل ما يتكشف في الكون ملتصق ببعضه بسبب السبب والنتيجة.

تخيل نارًا بلا حرارة، أو كرة مركولة تطير عموديًا في الفضاء دون أن تعود. هذه السيناريوهات سخيفة بسبب السببية: فيبدو أن قوانين الطبيعة تحدد ما هي الأحداث (الأسباب) التي تسبب أحداثًا أخرى (النتائج).

قام هيوم بملاحظة بسيطة مفادها أنك ترى حدثًا واحدًا – السبب – وحدثًا آخر – النتيجة. وأشار إلى عدم وجود صلة ملاحظة بين هذه الأحداث.

إذا ضربت كرة بمضرب غولف، فسترى الكرة تطير بعيدًا، لكنك في الحقيقة لن ترى سبب طيرانها بعيدًا. فليس لدينا طريقة لمعرفة حقيقة أن حدثًا ما يتسبب في آخر، فنحن ببساطة نخبر (experience) شيئًا تلو الآخر. هذا كل ما نعرفه.

تضمن السببية أن تجربتنا للكون مُطّردة. إنها حرفيًا الطريقة التي يعمل بها العالم. إذا لم تكن لدينا سببية مُطّردة، لم نكن لنوجد. علاوة على ذلك، يلزم افتراض وجود السببية من أجل البقاء. فإذا لم نأخذ قوانين الطبيعة كأمر مسلم به واضطررنا إلى اختبار كل شيء فعلناه، فلن نعيش عيشًا كاملًا أبدًا.

ضربت وجهة نظر هيوم الفلسفة في الصميم: قد نخبر الاطراد، ولكن ما السبب الذي يجعلنا نعتقد أن قوانين الطبيعة ستبقى مُطّردة؟ نحن نعيش بالإيمان وحده، وفق هيوم. حاجج هيوم بأن الشمس ستشرق غدًا هو مجرد تخمين نقوم به لنعيش حياتنا.

ترك هيوم الفلاسفة الآخرين في حيرة. فقد سأل: ما الفائدة من تقديم أي ادعاءات لا تستطيع الحواس إثباتها؟ كان وجود “قوانين” وراء اطراد العلاقات السببية هو أحد هذه الادعاءات.

كان أسهل طريق لتفادي أفكار هيوم هو العودة للتفكير الدوجمائي. فيمكننا أن نحاجج بأن قوانين الطبيعة – التي تضمن اطراد السببية – قد قدرها الله هكذا. إن هذا الرد على شكوك هيوم “دوجمائي” من حيث أنه لا يتطلب أي دليل خارجي. فوجود الله أمر مسلم به.

هذا ما قصده كانط عندما ادعى أن قراءة هيوم أيقظته من “سباته الدوجمائي” باعتباره عقلانيًا. إذا كان هيوم على صواب، فلم يعد من الممكن تأكيد الحقائق الميتافيزيقية على أنها حقائق معرفية.

بنى هيوم قفصًا حول الفلسفة، مما حدّ بشدة ما يمكن أن تقوله عن العالم.

فاسيلي كاندينسكي، عديد الدوائر Many Circles، 1926، (ملكية عامة. المصدر: ويكيميديا).

شوكة هيوم Hume’s Fork

لتوضيح وجهة نظره، ميز هيوم بين نوعين من الأحكام. الأحكام التحليلية Analytic والأحكام التأليفية Synthetic.

بعض الأحكام التي نتخذها بشأن الأشياء مُتضمنة منطقيًا في مفاهيم تلك الأشياء.

على سبيل المثال، “المثلث لديه ثلاثة أضلاع” و”العازب رجل غير متزوج”. يمكننا أيضًا أن نقول “كل الأشياء المادية تشغل حيزًا مكانيًا”. هذه العبارات صحيحة من حيث التعريف – صحيحة بشكل بديهي – ولا تؤدي بالضرورة إلى زيادة معرفتنا بالموضوع. هي منطقيًا صحيحة أو خاطئة.

وبالنسبة لهيوم، كانت هذه العبارات “التحليلية” عديمة الفائدة. فهي لا تقول شيئًا عن العالم على الإطلاق. إنها “تحصيل حاصل Tautological”: إنها صحيحة في جميع الحالات. فمنها على سبيل المثال “العداء سيفوز أو لا يفوز بالسباق”، و”A = A” [قانون الهوية المنطقي].

هناك أيضًا تلك العبارات الأكثر شيوعًا التي يمكن التحقق منها بواسطة الملاحظة. تستند صحة أو خطأ عبارة مثل “القطة على السجادة” إلى ملاحظتنا ما إذا كانت القطة على السجادة بالفعل أم لا. ووصف هيوم هذه العبارات بأنها “تأليفية” لأن معناها ليس بديهيًا.

 

تلك العبارات هي الوحيدة ذات المعنى بالنسبة لهيوم. فهي بعْدية a posteriori، مما يعني منطقيًا صحيحة بعد التجربة. فعلى سبيل المثال، لكي تكون القطة على السجادة، يجب أن نخبر هذه الحالة قبل أن نعرف أنها صحيحة.

يبدو كل هذا وكأنه تمرين جاف في المنطق، لكن فكر في هذه الأنواع من العبارات على أنها مثل “بكسلات” التجربة. هذه القضايا المنطقية هي لبنات البناء الصغيرة التي تشكل معرفتنا بالعالم.

فالعالم بكل ثرائه، وجماله، وتنوعه يكشف لنا عن نفسه في المنطق. كما كتب أحد فلاسفة القرن العشرين لودفيج فيتجنشتاين Ludwig Wittgenstein، “العالم هو مجمل الوقائع، لا الأشياء”.

كان هيوم قد أكد أن قانون السببية كان تأليفيًا وبالتالي بعْديًا: إننا فقط نخمن أن الأحداث تسببت في أحداث أخرى بعد أن نخبر للأحداث.

فلم نكن لنعرف أن النار قادرة على انتاج الحرارة قبل اختبار النار بشكل أكيد. ولإثبات ذلك، يلزم علينا إشعال النار واختبار درجة حرارة الهواء.

إذا كان من الممكن أن تستلزم النار الحرارة قبْليًا a priori (قبل أن نختبرها)، فيجب أن تكون عبارة تحليلية، وهذا ليس الحال هنا. ففكرة أن النار تنبعث منها الحرارة باستمرار هي فكرة ميتافيزيقية رفضها هيوم باعتبارها هراء.

فكتب هيوم عن العبارات الميتافيزيقية:

“دعنا نسأل، هل يحتوي هذا المجلد على إستدلال مجرد يختص بالكم أو العدد؟ لا. هل يحتوي أي استدلالات تجريبية تختص بالوقائع والوجود؟ لا. إذن فألقه في النار: لأنه لا يحتوي إلا على السفسطة والوهم”.

أمضى كانط اثني عشر عامًا يفكر في هذه المشكلة. وبواسطة العمل بالنظام المنطقي الذي طوره هيوم، اكتشف كانط شيئًا هامًا حول كيفية معرفتنا بالعالم. وبعد أن أمضى كل تلك السنوات يفكر في الاعتراضات التي أثارها هيوم حول الفلسفة، لم يأخذ كانط سوى بضعة أشهر لكتابة نقد العقل المحض The Critique of Pure Reason في عام 1781.

وصف كانط نوع ثالث من العبارات أسماه “تأليفية قبْلية synthetic a priori”. وعلى سبيل المثال تندرج العبارة “الخط المستقيم بين نقطتين هو الأقصر” تحت هذا النوع. فهذه العبارة ليست صحيحة من حيث التعريف، لكنها صحيحة كليًا[1] بنفس الطريقة التي يكون بها “جميع الرجال غير المتزوجين عزاب” صحيحة.

فصدق العبارة ليس بديهيًا-ذاتيًا من مجرد العبارة نفسها، ومن ثم فهي “تأليفية”. لكن صحتها لا تزال سابقة على اختبارنا للخط المستقيم، إنها ” قبْلية”؛ صحيحة منطقيًا قبل اختبارها.

بعبارة أخرى – وهنا اللحظة المجيدة لكانط – نعلم فطريًا أن هذه العبارة صحيحة.

وجد كانط أن هذا حال الجوانب الأساسية لمعرفتنا. وهو نفس حال القضايا الرياضية والهندسية. “خمسة أشياء مضافة إلى ثلاثة أشياء تعطينا ثمانية أشياء” أو “5 + 3 = 8” هي عبارات تأليفية قبْلية.

أكد كانط أن القضايا التأليفية القبْلية هي أساس المعرفة، فهي بكسلات التجربة والتي تعتمد على الحدس البشري. ومن ثم حاجج كانط بأن خبرتنا بالعالم هي مزيج من التجربة والحدس العقلاني.

المثالية الترانسندنتالية

أكد كانط أن هذه التجارب تتم من خلال اثنتي عشرة مقولة للفهم: الطريقة التي تفسر بها حواسنا العالم وتنظمه. وتشمل هذه المقولات “الكيف quality” و”الكم quantity” و”الإضافة relation”، و”الجهة modality”.

فكر في عبارة “خمسة أشياء زائد ثلاثة أشياء تعطينا ثمانية أشياء”. لا يوجد شيء بديهي في هذه العبارة، فحدسنا المتعلق بمقولات “الكمية” مطلوب كي نفهمها، كما هو الحال عندما نختار الفاكهة في السوق أو نحسب المال في محفظتنا.

تشكل هذه المقولات معًا نظامًا لكيفية معالجة عقولنا للتجربة وإنتاج المعرفة. إنها ليست جزءًا من تجربتنا – فنحن لا نرى أو نشعر أو نسمع “الكمية” نفسها، على سبيل المثال – ومع ذلك لا يمكننا اكتساب الخبرة بدونها. ومن ثم وصفها كانط بأنها محمولات الأشياء بشكل عام، وليس على وجه التحديد.

وبهذا المعنى، فإن المقولات “ترانسندنتالية” – فهي فوق المعرفة بقدر كونها في الحقيقة تقوم ببناء المعرفة ذاتها.

فكر في الأمر بهذه الطريقة: لا يمكنك رؤية عينيك أو سماع أذنيك لأن هذه الأعضاء نفسها هي الوسيط الناقل لمعطيات هذه الحواس. والمقولات في ذلك مثل هذه الأعضاء الحسية، فهي جوانب العقل التي تجعل الفهم ممكنًا.

أنتج كانط نظامًا للمعرفة مفاده بأن تجربتنا في العالم هي معلومات حسية Sense Data تنقلها لنا أذهاننا بوصفها الوسيط الناقل. فالمقولات موجودة بشكل يسبق التجربة، وهي التي تشكل إدراكتنا الحسية بينما نختبر العالم.

لا يمكن معرفة العالم خارج تجربتنا. لا يمكن معرفة “الأشياء في ذاتها” – مصدر المعلومات الحسية التي تسبب إحساساتنا – خارج نطاق تجربتنا.

أطلق كانط على نظامه اسم “المثالية الترانسندنتالية Transcendental Idealism”. إن السببية، والمكان، والزمان هي عيانات intuitions لأذهاننا. ويحاجج كانط بأننا ندرك الأشياء ليس كما هي في ذاتها، ولكن فقط الشكل الذي تظهر به لنا عبر المقولات. فإن “المثالية” هي الاعتقاد الفلسفي بأن الواقع لا ينفصل عن عقل الناظر.

فالمعرفة لا تُنتَج بالتجربة فقط، ولا بالعقل فقط. إن معرفتنا بالعالم هي معلومات حسية من العالم، شكلتها أذهاننا.

كان كانط يعتقد أنه أحدث ثورة كوبرنيكية Copernican في الفلسفة. فكتب: “إني لأجسر على القول بأنه ما من مشكلة ميتافيزقية واحدة إلا وتجد في هذا العمل حلها”[2].

وفي حين أن معظم الفلاسفة قد يختلفون منذ ذلك الحين على هوية الفيلسوف الغربي الأكثر تأثيرًا منذ أرسطو، يمكن القول أنه ربما كان كانط.

من خلال البدء باكتشافه المنطقي البسيط، طور كانط أفكارًا هائلة حول تقريبًا كل مسألة فلسفية مهمة ظلت مؤثرة إلى يومنا هذا. كيف نحكم أنفسنا؟ (السياسة) ما هو الجميل؟ (الجماليات)؛ ما هو الخير؟ (الأخلاق).

فاسيلي كاندينسكي، التكوين العاشر، 1939 (ملكية عامة. المصدر: ويكيميديا).

الأمر القاطع

من الأمثلة الجيدة على مرونة المثالية الترانسندنتالية الطريقة التي تعامل بها كانط مع الأخلاق. سعى الفيلسوف لإيجاد مبدأ بسيط يمكننا من خلاله أن نعيش حياتنا في وئام. وفي كتابه “نقد العقل العملي Critique of Practical Reason”، استخدم مقولاته لإيجاد قانون أخلاقي قابل للتطبيق كونيًا.

لقد ابتعد عن مفاهيم الخير والشر، لأنه لم يرغب في الخوض في أفعال وظروف محددة. فقد أعتقد كانط أنه لا يمكن للأفعال المحددة التي تُعتبر خيرًا أو شرًا أن تكون بمثابة أساس لقانون شامل. ومن ثم أراد نقل صورة الأخلاق بدلاً من محتواها.

فتوصل إلى ما يلي: “تصرف فقط وفقًا لمبدأ تريده في نفس الوقت أن يكون قانونًا شاملًا”[3].

لقد تم تصميم الأمر القاطع Categorical Imperative لتغيير منظورنا ليصبح تجاه سلوكنا. فيجبرنا المبدأ على التفكير في أفعالنا بطريقة غير شخصية. لأنه من السهل أن نبرر أفعالنا لأنفسنا، ولكن من الصعب تبريرها إذا اعتبرنا أنفسنا ضحايا لمثل هذه الأفعال.

غالبًا ما يتم الخلط بين الأمر القاطع وما يُسمى “القاعدة الذهبية Golden Rule”، والتي تنص على أنه يلزم علينا “معاملة الآخرين كما نعامل أنفسنا”. ولكن هناك فرق واضح بينهما.

فعلى سبيل المثال، قد نتصرف بقسوة مع أنفسنا – كحال الماسوشية masochism – وبالتالي نبرر السلوك القاسي تجاه الآخرين. يتطلب الأمر القاطع أن تعتبر تصرفك، بوصفه متوافقًا مع القانون الشامل، قابلًا للتطبيق على الظرف المعين الذي أنت فيه الآن.

كان كانط يأمل في صياغة مثل هذه القوانين في مبدأ عام واحد. فحاجج بأن الأمر القاطع هو صوت جوهرنا العقلاني، إنه قاعدة أذهاننا العقلانية. أن تكون عقلانيًا هو أن تكون حرًا. كتب كانط: “الإرادة الحرة والإرادة الخاضعة للقانون الأخلاقي هما نفس الشيء”.

التقدم

قدمت رؤى هيوم الفلسفية معضلة لكانط: إما قبول شكوكية هيوم ورفض الميتافيزيقيا باعتبارها تحقيقًا جادًا في العالم وحياتنا، وإما العودة إلى الدوجما.

لكن من خلال العمل الجاد، والكثير من التأمل، وفكرة عبقرية، وجد كانط طريقًا وسطًا بين الدوجما والشك. كان عمل كانط “مستنيرًا” حقًا لأنه تجنب هذين المسارين الرئيسيين إلى العمى.

فالدوجما مريحة ولكنها تعتمد على الإيمان وحده لتأكيد سردية الكيفية التي يعمل بها العالم. أما الشكوكية فهي تحمي من كسل الدوجما ولكنها تقتل غريزة البحث عن الحقيقة.

طور كانط نظامًا يمكن أن يشمل نظرية المعرفة، والواقع، والأخلاق العملية التي هي في الوقت ذاته كونية. لقد دمجت أفكاره مسائل الكون المادي والروح معًا. فكتب:

“شيئان يملآن الوجدان بإعجاب وإجلال، يتجددان ويزدادان على الدوام كلما أمعن الفكر التأمل فيهما: السماء ذات النجوم من فوقي والقانون الأخلاقي في داخلي. إنني لست بحاجة إلى أن أبحث عنهما و أفترض وجودهما مجرد افتراض كما لو أنهما مستتران في الظلمات أو في غلواء الحماس خارج أفقي. إنني أراهما أمامي، وأنا أربطهما مباشرة بالوعي بوجودي”[4].

لا تخلو مثالية كانط الترانسندنتالية من نصيبها من المشاكل أو الانتقادات، ولكنها تفتح آفاقًا جديدة كاملة للمعرفة والفهم. وليس المقصود أن كانط كان لديه الإجابات النهائية، وإنما أن المعرفة تشق طريقها دومًا.

فعندما نمتلك الفضول، والمثابرة، والشجاعة، للسعي وراء العقل؛ سنجده في انتظارنا.

 


[1] في الهندسة الإقليدية فحسب. (المترجم).

[2]  نقد العقل المحض، إمانويل كانط، ترجمة غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2013، ص 21. (المترجم).

[3] ذكر كانط هذه العبارة في عمله Grounding for the Metaphysics of Morals. (المترجم).

[4] نقد العقل العملي، إمانويل كانط، ترجمة غانم هنا، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2008، ص 269. (المترجم).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى