– يشرفني أن أرحب بالبروفيسور نيكولا ماكسويل في منصة معنى. أولًا، يطيب لنا التعبير عن امتنانا لقبولك مشاركة هذا الحوار. وبما أنك فيلسوف علم في واحدة من أعظم الجامعات في المملكة المتحدة (كلية لندن الجامعية) هل تتفضل بتقديم نفسك للقارئ في الشرق الأوسط؟
شكرًا جزيلًا لدعوتي إلى منصة معنى! ويسعدني إتاحة الفرصة لي للإجابة عن أسئلتك المتعلقة بأعمالي.
لقد كرست الكثير من حياتي العملية لأحاجّ بأننا نحتاج إلى إحداث ثورة في الجامعات حتى تتهيأ للبحث عن الحكمة وتعزيزها، وليس لمجرد اكتساب المعرفة. نشرت منذ وقت طويل، في العام 1984 كتاب: من المعرفة إلى الحكمة: ثورة في أهداف ومناهج العلوم.[1] يوضح هذا الكتاب الرسالة الأساسية بالتفصيل. تمت مراجعة هذا الكتاب عندما نُشر لأول مرة على نطاق واسع وبشكل إيجابي ــــــــ وظفر بمراجعة حماسية في مجلة الطبيعة- ولكنه أُهمل إلى حد ما منذ ذلك الحين. سعيت في أخر 45 عامًا أو ما يقرب من ذلك للظفر باستجابة لرسالتي الأساسية من كتاب إلى آخر، ومن مقال إلى مقال ومن محاضرة تلو الأخرى. فنحن نواجه مشكلات عالمية خطيرة؛ النمو السكاني وتدمير البيئة الطبيعية والإضرار بالحياة البرية والانقراض الجماعي والحرب وخطرها وتهديد الأسلحة النووية وتلوث الأرض والبحر والهواء والجائحة الحالية، وربما الكارثة الأكثر خطورة هي التغير المناخي الوشيك. ينبغي تكريس الجامعات لتساعدنا على اكتشاف ما نحتاج إلى الاضطلاع به لحل الصراعات والمشكلات العالمية التي تهدد مستقبلنا. ولكن هذا ما لم تضطلع به الجامعات. بل عوضًا عن ذلك كرست نفسها لتعقب المعرفة. نحتاج إلى تعلم كيفية إنجاز هذا إذا أردنا إحراز تقدم في اتجاه عالم أفضل، وهذا يتطلب بدوره أن تكرس الجامعات لأداء هذه المهمة. إلا أنها حاليًا، غير مكرسة لذلك. وهذا يفسر لماذا نحتاج إلى ثورة أكاديمية لتصبح المهمة الأساسية هي مساعدة الإنسانية على اكتساب الحكمة وليس اكتساب المعرفة المتخصصة فحسب.
– نشرت الكثير من الأبحاث والكتب والمقالات، إضافة إلى مساهمتك في كتب، ولديك موقع إلكتروني ثري، ما هو شعورك عندما تكتب في فلسفة العلم، وتدرس مساقاتك؟
كانت ثمة أوقات من البهجة بدت لي عندما اكتشفت شيئًا ما مهمًا في أعمالي. حدثت هذه البهجة منذ فترة طويلة عندما اكتشفت حسم الصراع بين ما تخبرنا به الفيزياء عن العالم، والعالم كما نخبره ونعيش فيه. وحدثت عندما بدا لي أني اكتشفت شيئًا ما مهمًا حول طبيعة العلم: فلكي نفهم معنى العلم نحتاج إلى رؤيته على أنه افتراض ميتافيزيقي (غير قابل للاختبار التجريبي) عن طبيعة الكون، الذي هو بطريقة أو بأخرى، قابل للفهم بطريقة فيزيائية. وحدثت عندما أدركت أن الهدف الأساس للجامعات ينبغي أن يكون بحثًا عن الحكمة وتعزيزًا لها وليس مجرد اكتساب للمعرفة. لقد كتبت في بعض الأحيان ما اعتقدت أني قد اكتشفته، كانت خبرة مبهجة حقًا. كان هذا هو الحال بالتأكيد مع كتابي الأول: ما هي مشكلة العلم؟[2] جاء هذا الكتاب في معظمه على هيئة جدال محتد بين عالم وفيلسوف. وقد أنهيت كتابته في ثلاثة أسابيع للوفاء بالموعد النهائي الذي حدده لي الناشر. في النهاية، عبرت عن ما كنت أصارعه مدة أربع سنوات متواصلة تقريبًا. اعتقدت بحماقة أن هذا الكتاب سيغير العالم ولكن لم يحدث أي شيء من هذا القبيل. أما الكتاب الثاني كان مختلفًا، اجتهدت عليه، وصارعت لكي أعبر عن ما كان يتعين عليْ قوله بوضوح قدر الإمكان.
لقد شعرت في أوقات أخرى بالإجهاد عندما كنت أحاج عن أطروحتي الرئيسة- والمتمثلة في ضرورة أن تبحث الجامعات عن الحكمة وتعزيزها وليس اكتساب المعرفة فحسب- كان ثمة شيء ما فعلًا أحاج من أجله عدة مرات في الماضي ولكن بطرق مختلفة. نشرت سيرة ذاتية عن حياتي الفكرية منذ الطفولة وحتى زمن كلية لندن الجامعية واكتشافي للفكرة التي تقول ينبغي على الجامعات أن تبحث عن الحكمة لا عن المعرفة وما ورائها، وهي بعنوان: محاجة من أجل الحكمة في الجامعات: سيرة فكرية.[3] أوضح في هذه السيرة الفكرية كيف أدين بالكثير لأعمال كارل بوبر.
أما بالنسبة للتدريس في كلية لندن الجامعية، فقد كنت دومًا محظوظًا جدًا، تمكنت من تدريس ما كنت أبحث فيه، وأدرت مساقاتي بوصفها حلقات نقاش. كشف أحد مساقات كلية لندن الجامعية عن مشكلة وهي: كيف يوجد العالم الذي نخبره ونعيش فيه ويكون محايثًا بشكل مشرق أفضل داخل الكون المادي؟ كما كشف مساق آخر عن مشكلة وهي: ما هي الأهداف والمناهج التي ينبغي أن تكون للعلم؟ وبشكل عام، ما هي الأهداف والمناهج التي ينبغي أن تكون للبحث الأكاديمي؟
– زعمت أننا في حاجة إلى ثورة في أهداف ومناهج البحث الأكاديمي، ما الذي تعنيه بكلمة «ثورة» تحديدًا؟
أعني بـ “الثورة” التغيير الجذري. نحتاج إلى تغيير جذري في أهداف البحث الأكاديمي ومناهجه، فبدلًا من البحث عن المعرفة المتخصصة ينبغي أن يناصر البحث الأكاديمي البحث عن الحكمة وتعزيزها. فالحكمة هي القدرة والسعي النشط، والرغبة في إدراك قيمة الحياة للذات وللآخرين (الخبرة والإنجاز) – وبالتالي تشمل الحكمة المعرفة والمهارة التكنولوجية، وغير ذلك الكثير. وقد وضعت في مكان آخر قائمة تضم 23 تغييرًا هيكليًا يجب على الجامعات إجراؤها إذا أرادت أن تتغير تغيرًا جذريًا. فما لدينا الأن هو “البحث عن المعرفة” في حين ما نحتاجه هو “البحث عن الحكمة”[4]
ولا يمكن أن يحدث مثل هذا التغيير الجذري في طبيعة الجامعات إلا عبر النقاش والحوار المطول. اتخذت جامعتي كلية لندن الجامعية، مؤخرًا بعض الخطوات نحو ” البحث عن الحكمة” والابتعاد عن “البحث عن المعرفة” ووضعت الجامعة “برنامج التحديات الجبري” الذي يسعى إلى جلب المتخصصين معا للمساعدة في حل المشكلات العالمية.[5] كانت لأعمالي تأثيرًا على هذا البرنامج، وظهرت مبادرات مماثلة من جامعات أخرى.
– هل صحيح من الناحية الفلسفية أن مشكلتنا الرئيسة (أعتقد أن هذا هو عنوان كتابك في 2020) هي الكيفية التي نصل من خلالها إلى فلسفة عالمية؟ وكيف تختلف هذه الفلسفة التي نراها اليوم عن الفلسفات السابقة؟
هذا صحيح، فقد نشرت للتو كتابًا بعنوان مشكلتنا الرئيسة: مقاربة ثورية في يونية 2020، عن دار نشر جامعة ماكجيل كوين، بمونتريال. يلخص هذا الكتاب الطريقة التي كنت أفكر بها لمدة ثمانين عامًا (فقد بدأت التفكير في هذه المشكلات عندما كنت أبلغ من العمر أربع سنوات) في واقع الأمر أجيب عن أسئلتك في المقدمة. وها هو ما أقوله في هذه المقدمة:
كيف يمكن لعالمنا البشري الذي نخبره ونعيش فيه أن يكون مشرقًا على نحو أفضل داخل هذا الكون المادي؟
هذه هي مشكلتنا الرئيسة. التي تشتمل على كل العلوم الأخرى، والفكر والحياة. إنها المشكلة التي استكشفها في هذا الكتاب. قدمت بعض المقترحات المتعلقة بكيفية حل جوانب هذه المشكلة. وأحاج بأن هذه هي المهمة الصحيحة للفلسفة، أعني محاولة تحسين حدوسنا الافتراضية المتعلقة بكيفية حل جوانب المشكلة، وتشجيع الجميع على التفكير في المشكلة بشكل تخيلي وناقد، من حين لآخر. نحتاج إلى وضع بؤرة المشكلة في تفكيرنا بحيث تتفاعل أفضل أفكارنا المتعلقة بالمشكلة بطريقة مثمرة، في كلا الاتجاهين، مع محاولتنا لحل ما هو أكثر أهمية وتخصصًا، وعلى وجه الخصوص، مشكلتي الفكر والحياة.
يعول هذا الكتاب على أن يكون مدخلًا جديدًا غير تقليدي عن الفلسفة- واتطلع أن يكون مدخلًا يثير اهتمام وإثارة ذكاء من يبلغ من العمر 16 عامًا وكذلك أي شاب لا زال في منتصف الطريق ومهتم بالمسائل الفكرية أو الاجتماعية أو السياسية أو البيئية. وسوف يجد العلماء والفلاسفة المهنيون أهمية ما في هذا الكتاب أيضًا. ففكرة الكتاب هي جلب الفلسفة إلى الأرض، وتوضيح أهميتها الحيوية بالنسبة للعلوم والمنح الدراسية والتعليم والحياة ومصير العالم. ولكن إذا تم هذا بشكل صحيح.
فإذا كان كل شيء مكون أساسًا من كيانات مادية وإلكترونات وكواركات تتفاعل وفقًا لقانون فيزيائي دقيق، فما الذي يحدث في العالم الذي نخبره- في الألوان والأصوات والروائح والصفات الملموسة للأشياء؟ وما الذي يحدث في خبراتنا الداخلية؟ وكيف يكون لنا إرادة حرة ومسؤولين عما نفعل، إذا كان كل شيء يحدث وفقًا لقانون فيزيائي، بما في ذلك أجسادنا وأدمغتنا؟ كيف يمكن لأي شيء أن يكون مجرد فيزياء في نهاية المطاف؟ هذه هي بعض الأسئلة التي سنتناولها في هذا الكتاب.
تُثار هذه الأسئلة لأن الشق الأكبر من تفكيرنا متعلق بالعالم. يصطدم تفكيرنا العلمي عن الكون المادي مع طرق تفكيرنا المتنوعة عن عالمنا البشري. والمهمة هي اكتشاف كيفية تعديل أفكارنا عن كل من الكون المادي وعالمنا البشري. ولكي نتمكن من حل هذا الصراع بين الإثنين علينا أن نحقق العدالة لما يخبرنا به العلم عن الكون ولكل ما له قيمة في عالمنا البشري المحزن والمأسوي- إن معجزة حياتنا توجد على هذه الأرض.
لا مناص من أن أصغر التعديلات التي نأخذها من العلم الذي يخبرنا عن الكون، أو ما نتمسك به على أنه طبيعة وقيمة عالمنا البشري، سيكون له تداعياته ربما على جميع المجالات خارج الفلسفة، على العلم والفكر والحياة. حقًا، تنبثق الأفكار الثورية في هذا الكتاب من استكشاف مشكلتنا الأساسية.
أولًا، ثمة ثورة في الفلسفة. ينبثق نوع جديد من الفلسفة أطلق عليه الأصولية الناقدة وهي التي تبحث عن مشكلتنا الأساسية وتعمل من خلال ذلك على معالجة الشرخ الأساسي بين طريقة تفكرينا تجاه الكون وطريقة تفكيرنا تجاه أنفسنا، هذه الطريقة التي تجعل لتلك المعالجة آثارها المتعددة والمثمرة على الفكر والحياة. ثانيًا ثمة ثورة في ما يخبرنا به العلم عن العالم، وهي تلك التي لا تهتم بكل شيء عن أي شيء، بل تهتم بالجانب المتخصص جدًا في كل شيء. وهو موضوع الفصل الثالث. ثالثًا: ثمة ثورة في مفهومنا الكلي عن العلم، وعن نوع العلم الذي ينبغي السعي إلى تطويره، وهو موضوع الفصل الرابع. ورابعًا: ثمة ثورة في البيولوجيا، نظرية التطور لدارون، إذ تعمل النظرية بعدالة أفضل لتساعدنا على فهم كيف تتطور حياة القيمة، وهو موضوع الفصل الخامس. خامسًا، ثمة ثورة في العلوم الاجتماعية، والتي هي ليست علومًا بل تكمن مهمتها الأساسية الصحيحة في تعزيز الحل العقلاني التعاوني للصراعات الموجودة في العالم الاجتماعي والمشكلات المعيشة، إضافة إلى امتلاكها لمهمة اكتشاف كيفية الوصول إلى مناهج تحقق التقدم في الحياة الاجتماعية وكل مساعينا الاجتماعية والحكومية والصناعية والاقتصاد وهكذا، وتكون مستقرئة من مناهج العلوم الطبيعية (كما ينبغي النظر إليها) بحيث يمكن مقارنة الطريقة التي تحقق التقدم الاجتماعي نحو عالم أكثر استنارة بالطريقة التي يقدمها العلم لتحقيق التقدم الفكري في المعرفة. ينبثق البحث الاجتماعي بشكل أساس بوصفه ميثودولوجيا أو فلسفة اجتماعية وليس كعلم اجتماعي. سادسًا: ثمة ثورة على نطاق واسع في البحث الأكاديمي ككل. نحتاج إلى مشروع أكاديمي مصمم ومكرس بطريقة عقلية لمساعدتنا على حل الصراعات والمشكلات العالمية الخطيرة التي تواجهنا: كتدمير البيئة الطبيعية والإضرار بالحياة البرية وانقراض الأنواع، وخطر الأسلحة النووية والخاصية المدمرة للحروب الحديثة والتفاوت الكبير وتلوث الأرض والبحار والهواء، وقبل كل شيء الكوارث وشيكة الحدوث نتيجة تغير المناخ. ظهرت هذه المشكلات في جزء منها نتيجة اللاعقلانية الهيكلية الفجة في مؤسساتنا التعليمية التي تم تكريسها للسعي لاكتساب المعرفة أكثر من أن تصبح مهمتها الأساسية مساعدة البشرية على حل المزيد من النزاعات والمشكلات المعيشة بطرق عقلية تعاونية، الأمر الذي يحقق، بقدر الإمكان، التقدم نحو عالم خير وحكيم. سابعًا، ثمة ثورة اجتماعية بالغة الأهمية والتي ربما تظهر تدريجيًا إذا كان لدى البشرية فطنة لتطوير ما تحتاجه احتياجًا ماسًّا وهو: البحث العلمي المكرس بشكل عقلي لمساعدتنا على إحراز تقدم نحو عالم أفضل وأكثر تحضرًّا، إن الثورات الخامسة والسادسة والسابعة هي موضوع الفصل السابع.
إذا كانت النتائج المثمرة القادمة من الفلسفة الأكاديمية، والتي يطلق عليها الفلسفة التحليلية أو القارية، على مجالات أخرى من الفكر والحياة محدودة نوعًا، فكيف إذن للأصولية الناقدة كفلسفة، كما وضعت هنا، أن يكون لها نتائجها الثورية الدرامية على العلم والبحث الأكاديمي وقدراتنا على حل المشكلات العالمية التي تهدد مستقبلنا؟ لقد بذلت ما في وسعي لكي أجيب عن هذا السؤال في الفصلين 2، 9.
لماذا فقدت الفلسفة الأكاديمية طريقها بشكل كبير وفشلت في وضع مفهوم مثمر وغني يكون موضع ممارسة للفلسفة، كما تم في هذا الكتاب؟ ما الذي تسبب في أن تفقد الفلسفة الأكاديمية طريقها؟ قدمت إجابتي عن هذا السؤال في الملحق.
ومع ذلك، فإن أملي الأساس من كتابة هذا الكتاب، هو التحايل على القارئ واستفزازه للتفكير في مشكلتنا الأساسية من حين لآخر بطريقة تخيلية وناقدة، أي بطريقة عقلية وليس بهوس.
– نحن في مرحلة يتوجب على المعرفة الجديدة أن تأتي عبر جهد تعاوني على نطاق واسع، إذ ربما يشمل هذا الجهد العديد من الناس من مجالات وتقاليد تخصصية مختلفة، هل تعتقد أن في إمكان فلسفة العلم القيام بدور ما في هذا السياق؟
يأخذ معظم العلماء وفلاسفة العلم اليوم بوجهة نظر واحدة أو بأخرى من وجهات نظر العلم موضع تسليم وهي التي يطلق عليها المرء “التجريبية القياسية”، والتي تنطوي على الآتي: هدف العلم هو الصدق، والمنهج الأساس لتقييم دعاوى المعرفة بشكل محايد هو ضرورة وضع الدليل في الاعتبار. ربما يؤثر الأخذ بعين الاعتبار البساطة أو الوحدة أو القوة التفسيرية على شرعية قبول النظرية بالإضافة إلى الدليل، إلا أنه لا يمكن بهذه الطريقة افتراض أن الكون نفسه بسيط أو موحد أو أن ثمة تفسيرات موجودة يمكن اكتشافها (أي فهمها). لا يمكن قبول هذه الأطروحة بشكل مستقل عن الدليل، ناهيك عن انتهاك الدليل.
من وجهة نظر التجريبية القياسية المسلم بها، يجب أن يكون دور فلسفة العلم نفسه ضئيلًا، لأن فلسفة العلم تتعلق بما ينبغي أن يصير في العلم وليس بما هو تجريبي بشكل مباشر. ولكن لا يمكن الدفاع عن التجريبية القياسية، كما أوضحت بشكل حاسم في عدد من المنشورات.[6] ثمة قبول للنظريات الموحدة في الفيزياء رغم أنه يوجد، باستمرار، العديد من النظريات غير الموحدة والأكثر نجاحًا من الناحية التجريبية، ما يعني أن الفيزياء لديها افتراض كبير وإشكالي بشكل كبير ومؤثر ولكنه ضمني وهو: أن الكون في حد ذاته يقر بأن كل النظريات غير الموحدة هي نظريات كاذبة. ثمة نوع من الوحدة الخفية عن النظار في الطبيعة. يمكن للفيزياء أن تكون أكثر دقة إذا قامت بتوضيح هذا الافتراض الإشكالي بشكل كبير والمؤثر والضمني بحيث يمكن تقييمه وتحسينه بشكل ناقد. عرضت وجهة نظر العلم التي تساعد على تحسين الافتراض الميتافيزيقي الضمني للفيزياء في الوقت الحاضر. نحتاج إلى تقديم هذا الافتراض في صورة تراتبية هرمية من الافتراضات، فعندما يصعد المرء في هذه التراتبية تصبح الافتراضات الميتافيزيقية أقل جوهرية فأقل (وبالتالي من المرجح أن تكون صحيحة) وأقرب إلى أن يكون صدقها هو المطلوب بالنسبة للعلم، أو يكون تعقب المعرفة ممكنًا بوجه عام.
لدينا في القمة أطروحة مفادها أن الكون على هذا النحو سيكون ممكنًا بالنسبة لنا لكي نكتسب بعض المعرفة عن ظروفنا المحلية التي تكفي لتجعل الحياة ممكنة. فإذا كانت هذه الأطروحة كاذبة فقد حصلنا عليها مما قد افترضناه. وليس من مصلحتنا البتة نبذ هذه الأطروحة. وعندما نهبط في هذه التراتبية الهرمية تصبح الاطروحات الميتافيزيقية جوهرية أكثر فأكثر، ومن المحتمل أن تكون كاذبة أكثر فأكثر، وفي حاجة إلى مراجعة. ومع تقدم الفيزياء ننتخب تلك الاطروحات الميتافيزيقية والمناهج المرتبطة بها والتي تتوافق مع أكثر برامج البحث المتقدمة في الفيزياء وتدعمها بشكل تجريبي. بعبارة أخرى، تتقدم الفيزياء وتتحسن فرضياتها ومناهجها وفلسفتها على ضوء تحسين المعرفة العلمية. ثمة شيء آخر من قبيل التغذية الراجعة الإيجابية بين تحسين المعرفة العلمية وتحسين الأهداف والمناهج وتحسين فلسفة الفيزياء. أطلق على هذه الوجهة من النظر ” التجريبية الموجهة نحو هدف” والتي تغير العلاقة بين الفيزياء وفلسفة الفيزياء بحيث يصبح العلم أكثر شبها بالفلسفة الطبيعية. يوضح أثنان من كتبي الأخيرة هذه الحجة بالتفصيل: في مدح الفلسفة الطبيعية: ثورة من أجل الفكر والحياة، (2017) فهم التقدم العلمي: التجريبية الموجهة نحو هدف.(2017)[7]
إن الهدف الأساس للفيزياء هو هدف إشكالي لاحتوائه على أطروحة إشكالية كامنة فيه، ومن المرجح أن تكون كاذبة إلى حدٍ ما، وهي أن الكون قابل للفهم ماديًا بطريقة أو بأخرى. وبسبب هذه السمة الإشكالية للهدف الأساس للفيزياء نحتاج تجريبية متجهة نحو هدف داخل الممارسة العلمية في محاولة لتحسين الأهداف والمناهج وفلسفة الفيزياء بينما نمضي قدمًا. وبشكل أكثر عمومية، فأهداف العلم هي أهداف إشكالية لما لها من افتراضات إشكالية كامنة فيها وعلاقة هذه الافتراضات بالميتافيزيقا والقيم والاستخدام الاجتماعي للعلم. نحتاج إلى وضع التجريبية الموجهة نحو هدف داخل الممارسة العلمية من خلال العلم لكي تقدم لنا أفضل الفرص لتحسين أهداف ومناهج العلم ذاته بينما نمضي قدمًا، ولهذا نطور العلم في اتجاه القيمة الأعظم للبشرية.
ليس العلم وحده هو من يملك أهدافًا إشكالية بشكل عميق؛ تحتاج إلى تحسين للمضي قدمًا، بل هي حالة موجودة في الحياة أيضًا. فالعديد من مساعينا الشخصية والاجتماعية والمؤسساتية لها أهداف إشكالية وتحتاج إلى تحسين. فالحكومة والصناعة والزراعة والقانون والاعلام والتعليم والعلاقات الدولية لديها أهداف إشكالية تحتاج إلى تحسين. يمكن أن تكون الأهداف إشكالية لأن نتائجها غير متوقعة وغير مرغوب فيها لاصطدامها مع أهداف أخرى مرغوبة أو لا يمكن تحقيقها. يمكن استقراء عقلانية موجهة نحو هدف من التجريبية الموجهة نحو هدف ـــــــــ المنهج العلمي كما ينبغي تصوره- وتطبيقها بشكل مثمر على مساعي الإنسان ذات الأهداف الإشكالية. أحاج في أعمالي أن المهمة الأساسية التي ينبغي أن تكون للبحث الاجتماعي وللإنسانيات هي خدمة البشرية للظفر بعقلانية موجهة نحو هدف داخل الحياة الشخصية والاجتماعية والمؤسساتية، وداخل الحكومة والصناعة والزراعة وما إلى ذلك، حيث تكشف عن الكيفية التي نحسن بها الأهداف والمناهج الإشكالية طالما نحن أحياء، وإحراز تقدم تجاه عالم خير ومتحضر وحكيم. لدينا شئيًا ما مهمًا للغاية لكي نتعلمه من التقدم العلمي أو بعبارة أخرى نتعلم كيف نجعل التقدم الاجتماعي يتجه نحو عالم أفضل.[8]
– هل تعتقد أن ما نطلق عليه الإنجازات العظيمة للعلم الحديث غدت إشكالية جراء التطورات الجديدة في العلم؟ وهل ينبغي أن نميز بين العلم وأنواع المعرفة الأخرى؟ وفي الوقت ذاته، هل ثمة دلالة لوضع تمييز بين العلوم الطبيعية والإنسانية؟
أنظر إلى الأشياء بالطريقة التالية: تواجه البشرية مشكلتان كبيرتان في عملية البحث: البحث عن طبيعة الكون ومكاننا فيه، والبحث عن الكيفية التي تجعلنا متحضرين. عولجت المشكلة الأولى معالجة جوهرية في القرن السابع عشر مع نشأة العلم الحديث. في حين تعثر حل المشكلة الثانية للحين. يضعنا حل المشكلة الأولى وتعثر حل المشكلة الثانية في موقف خطير للغاية، نشأت كل مشاكلنا المعاصرة نتيجة لهذا. نشأت كل مشاكلنا مثل السمة المدمرة للحرب الحديثة وتلوث الأرض والبحر والجو وعدم المساواة الشاسعة في الثروة والسلطة حول العالم، وتدمير البيئات الطبيعية والخسارة الكارثية في الحياة البرية والانقراض الجماعي للأنواع وخطر الأسلحة النووية، وربما الأكثر خطورة من كل ذلك، أزمة المناخ، لأن لدينا العلم والتكنولوجيا الحديثة ولكن ليس لدينا حضارة حقيقية. والآن لدى البعض منا سلطة هائلة لكي يعمل على أن يكون العلم والتكنولوجيا الحديثة ممكنان، إلا أن افتقارهما إلى الحكمة يمثل خطرًا. إن الحاجة إلى القيام بهذا هو استجابة لهذه الازمة غير المسبوقة من خلال البحث عن الكيفية التي تجعل التقدم الاجتماعي يتجه نحو عالم حكيم من خلال التقدم العلمي. كانت هذه هي الفكرة الأساسية للتنوير في القرن الثامن عشر ولكن لسوء الحظ، وأثناء وجود هذا البرنامج ارتكب التنوير ثلاثة أخطاء، وقد أضفنا على البحث الأكاديمي في القرن العشرين الطابع المؤسسي من هذه النسخة المعيبة لبرنامج التنوير. نحتاج لحل مشكلة البحث الكبرى الثانية إلى تصحيح أخطاء التنوير التقليدي الثلاثة. وهذا يتضمن تغيير طبيعة البحث الاجتماعي بحيث تصبح العلوم الاجتماعية ميثودولوجيا أو فلسفة اجتماعية معنية بمساعدتنا على بناء مناهج لعقلانية موجهة نحو هدف لتحقيق التقدم حيث توصلنا إليها من خلال استقراء مناهج العلم التي تحقق التقدم. وتتضمن أيضًا بوجه عام إحداث ثورة في طبيعة البحث الأكاديمي ككل بحيث تكون مهمتها الصحيحة هي مساعدة البشرية كيف تصبح أكثر حكمة من خلال المزيد والمزيد من الوسائل العقلية التعاونية. تصبح المهمة العلمية لتحسين معرفة وفهم الطبيعة جزءًا من المهمة الأوسع لتحسين الحكمة العالمية.
ما نعاني منه إذن هو علم بلا حكمة. يقدم العلم الحديث (لبعضنا) سلطة هائلة للعمل ولكن هذه السلطة ليست معززة بحكمة، وكونها مسألة ملحة للغاية فإن جامعاتنا تحتاج إلى أن تكون مهمتها الأساسية مساعدة البشرية للتعرف على الكيفية التي تعالج من خلالها مشكلاتنا المحلية والعالمية الخطيرة للعيش بطرق أكثر عقلانية وتعاونية وحكمة.
فهل يمكن التمييز بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية؟ من وجهة نظري، بكل تأكيد. لا ينبغي النظر إلى العلوم الاجتماعية في المقام الأول على أنها علوم على الإطلاق. وكما أشرت، ينبغي على البحث الاجتماعي أن يكون ميثودولوجيا اجتماعية أو فلسفة اجتماعية تهتم بمساعدتنا على حل الصراع والمشكلات المعيشة بطرق عقلانية تعاونية وحكيمة داخل نسيج الحياة الشخصية والاجتماعية والمؤسساتية. يسعى البحث الاجتماعي إلى الظفر بمعرفة أكثر وضوحًا تتعلق بمشاكلنا المعيشة وتقييم الحلول المقترحة لمشاكلنا وإجراءاتنا وسياساتنا وفلسفاتنا في الحياة. ينبغي أن تبحث العلوم الطبيعية والاجتماعية عن طرق للمساعدة في تعزيز رفاهية الإنسان، ولكن بطرق مختلفة ونموذجية.
– ليس واضحًا بعد السبب في اعتقادك أن العلم يمكن أن يحرر المجتمع من الفقر والجوع وما إلى ذلك؛ هل تعتقد في هذا السياق، أن مقاربتك الجذرية الجديدة التي تحاج بها قادرة على تغيير الطريقة التي يشعر بها الناس ويفكرون؟ وهل تعتقد أن ثمة عقبات تعيق هذا الحل؟
قام العلم والتكنولوجيا الحديثة بالكثير لتحرير العالم من الفقر والجوع والمرض عبر مناهج حديثة في الزراعة والطب الحديث وبطرق أخرى عديدة. ولكن يبقى الفقر والجوع والمرض سمات منتشرة في عالمنا. ولكن أحدثت هذه النجاحات مشكلات جديدة عند معالجة هذه الظروف. فقد نتج عن الطب الحديث والوقاية الصحية نمو سكاني سريع، ونتج عن الجمع بين الزراعة الحديثة والنمو السكاني تدمير البيئة الطبيعية وخسارة الحياة البرية والانقراض الجماعي الوشيك للأنواع، وحدث تغير للمناج نتيجة انتاج الطاقة الحديثة والسفر. ونتج عن الصناعة والزراعة الحديثة وطريقة حياتنا بوجه عام، تلوث الأرض والبحر والجوـ فالمواد البلاستيكية موجودة في كل مكان في المحيطات. كما أنتج العلم وأدت التكنولوجيا الحديثة إلى التسلح بما في ذلك الأسلحة النووي والخاصية المدمرة للحرب الحديثة. كل هذا يوضح النقطة التي أشرت إليها بالفعل وهي: أن علمًا دون حكمة يمثل خطرًا كبيرًا. يزيد العلم والتكنولوجيا الحديثة بشكل كبير من قدرتنا على العمل ولكن لا يزيدان من قدرتنا على العمل بحكمة. فما نحتاج إليه اليوم احتياجًا ماسًّا هو تكريس مؤسسات التعليم والمدارس والجامعات لمساعدتنا على البحث عن كيفية حل صراعاتنا ومشكلاتنا المعيشة بطرق عقلانية تعاونية أكثر فأكثر. تحتاج الجامعات إلى أن تضع المشكلات المعيشة في قلب المشروع، وأن تركز على اكتشاف وتعزيز الحلول الجيدة والفعالة والحكيمة لمثل هذه المشكلات- الإجراءات الشخصية والاجتماعية والسياسية المصممة لحل مشكلاتنا المعيشة. سيكون التعقب العلمي للمعرفة مهما ولكنه ثانوية.
ينبغي أن تكون المهمة الأساسية للجامعات هي تثقيف الجمهور العام بمشكلاتنا وما نحتاج من وسائل للتعامل معها من خلال المناقشة والحوار.
وما هي العقبات التي تحول دون أن تكون فكرة البحث عن الحكمة موضع ممارسة؟ أولًا: يحتاج الفلاسفة الأكاديميون إلى الاقتناع بتبني الأصولية الناقدة. ثانيًا: يحتاج المجتمع العلمي إلى الاقتناع بالتخلي عن التظاهر بأن العلم يسير وفقا للتجريبية القياسية والاقتناع بالاعتماد على التجريبية الموجهة نحو هدف في الممارسة العملية عوضًا عنها. ثالثًا: يحتاج أولئك العاملون في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانيات الاقتناع بأن مهمتهم الأساسية الصحيحة هي المساعدة على تعزيز الحل العقلاني التعاوني لحل الصراعات والمشكلات المعيشة في العالم الاجتماعي. والاقتناع أيضًا أن لديهم مهمة أساسية لمساعدة البشرية على الظفر بعقلانية موجهة نحو هدف للحياة الاجتماعية والحكومة والصناعة والزراعة ووسائل التواصل الاجتماعي وما إلى ذلك. (والتي تم التوصل إليها بشكل مستقرأ من التجريبية الموجهة نحو هدف) رابعًا: يحتاج المشروع الأكاديمي ككل والجامعات حول العالم إلى الاقتناع بوضع البحث عن الحكمة موضع ممارسة. وأخيرًا: هناك مهمة حيوية وهائلة حقًا تتمثل في إصلاح العالم الاجتماعي بالتدريج من أجل أن ننجح جميعًا في تنفيذ شيء ما كالبحث عن الحكمة في حياتنا الشخصية والاجتماعية والمؤسساتية، ولكن ثمة عقبات رئيسة أمام كل هذه المبادرات: عقبات القصور الذاتي والمصالح الخاصة والدوجما والسلطة والثروة. لقد عملت جاهدًا لتحقيق الخطوة الأولى لمدة 45 عامًا ولم أحقق سوى نجاح متواضع للغاية حتى الآن. أنشأت جمعية أصدقاء الحكمة في العام 2003 وهي مجموعة بريدية إلكترونية دولية من أكاديميين وتربويين من أجل تكريس فكرة: أنه ينبغي على الجامعات أن تبحث عن الحكمة، وقد اتخذت كلية لندن الجامعية وبعض الجامعات الأخرى خطوات متواضعة تجاه البحث عن الحكمة، ولكن كل شيء ظل كما هو تقريبًا ولازال يتعين عليْ القيام به!
– هل أنا على صواب بأن الفهم المعاصر لفلسفة العلم يؤكد على أنه لم يعد هناك نزعة تجريبية؟ لديك كتاب بعنوان” ميتافيزيقا العلم” هل بإمكانك إلقاء الضوء على ما دفعك للاهتمام بهذه القضية؟
العنوان الكامل لكتابي هو:” ميتافيزيقا العلم والتجريبية الموجهة نحو هدف: ثورة من أجل العلم والفلسفة” 2019. يقدم الكتاب تفسيرًا لعملي من أول بحث نُشر في العام 1966 إلى أحدث عملين لي، ويقدم من بين أشياء أخرى، تفسيرًا للتجريبية الموجهة نحو هدف- وهي بالتأكيد وجهة نظر من التجريبية! نشأ اهتمامي بميتافيزيقا العلم، جزئيًا، نتيجة اهتمامي بالشيء الذي يجعل للعلم معنى. زعم كارل بوبر أنه قدم حلًّا لمشكلة الاستقراء، إلا أنه فشل في هذا، لأنه من الأساس فشل في تقدير أن أفضلية التمسك في العلم بالنظريات الموحدة يعني أن العلم يخلق افتراضًا ميتافيزيقيًا إشكاليًا كبيرًا عن طبيعة الكون: وهو أن كل النظريات غير الموحدة كاذبة. هناك نوع من الوحدة في الطبيعة خفية عن الأنظار. وكما بينت من قبل فإن هذا الافتراض على وجه الدقة مؤثر ويثير إشكالية بشكل كبير إلى الحد أنه من شبه المؤكد أن يكون كاذبًا في صورة محددة في حين يكون مقبولًا ضمنيًا في مرحلة ما من مراحل تطور العلم. إنه لأمر حيوي أن يكون هذا الافتراض واضحًا داخل العلم بحيث يمكن تقييمه وتحسينه بشكل ناقد. تظهر التجريبية الموجهة نحو هدف كأفضل إجراء لتحسين فروض العلم الميتافيزيقية من أجل تقدم العلم. نجحت التجريبية الموجهة نحو هدف في إنجاز ما فشل بوبر في إنجازه، فهي تقوم بحل مشكلة الاستقراء، وتقدم العلم كمشروع عقلي. ويمكن منها استقراء مفهوم للعقلانية- وهو العقلانية الموجه نحو هدف والمصممة خصيصًا لمساعدتنا على تحسين الأهداف الإشكالية أثناء عملنا والقابلة للتطبيق بشكل مثمر في كل مساعي الإنسان ذات القيمة مع الأهداف الإشكالية.
– تقدم تحت عنوان: ما هي مشكلة العلم؟ مقاربة نظرية جديدة عن العلاقة بين العلم والإنسانية، والعلم والمؤسسة، والعلم والمجتمع، هل تعتقد أن تقليل التوتر الحادث بالفعل بين العلم وأشكال المعرفة الأخرى، يجعلنا نتغلب على هذه التوترات؟ وكيف؟
حجتي الأساسية هي أن البحث عن المعرفة (والذي تكرسه الأوساط الأكاديمية على أنه تعقب للمعرفة) يحتاج أن يصبح بحثًا عن الحكمة، تبحث الأوساط الأكاديمية بشكل أساس عن حل مشكلات الحياة والفقر والظلم والحرب والتدهور البيئي، وللاضطلاع بهذا تفترض وتقيم بشكل ناقد الإجراءات والسياسات الممكنة والبرامج السياسية بحيث يصبح تعقب المعرفة مهمًا ولكن ثانويًا. يغير الانتقال من البحث عن المعرفة إلى البحث عن الحكمة، العلاقة بين العالم الأكاديمي والآخر الاجتماعي ككل. وما يهم حقًا هو الاستمرار في البحث عن الحكمة في العالم الاجتماعي – فالتفكير الذي ننخرط فيه أثناء حياتنا هو الذي يرشد أفعالنا. نحتاج إلى رؤية الجامعات على أنها موارد تساعدنا على تحسين تفكيرنا الذي يرشد أفعالنا في الحياة. فالجامعات التي تبحث عن الحكمة ستكون نوعًا من الخدمة المدنية للناس بحيث تعمل بشكل منفتح من أجل الجمهور وهي الخدمة التي كان من المفترض أن تقوم بها الحكومة فعليًّا بشكل سري. سينخرط كل من الجامعات والجمهور في مناقشة وحوار مشاكلنا وما نحتاج القيام به إزاءها، ستتجه الأفكار والحجج والخبرة في اتجاهين: من الجمهور إلى الجامعة والعكس أيضًا. ستتغير العلاقة بين العلم والمجتمع والعلاقة بين البحث الأكاديمي والمجتمع.
– إحدى المجالات التي ناقشتها في أعمالك كانت مشكلة الموضوعية، هل يمكنك أن تلقي الضوء على هذه المسألة خاصة أن العديد من مدارس فلسفة العلوم نبذت الموضوعية؟
وقع بعض الفلاسفة في إغراء إنكار وجود العالم وجودًا موضوعيًّا وبشكل مستقل عن الطريقة التي نفكر بها في هذا العالم. منذ فترة مررت على كتاب بوبر الحدوس الافتراضية والتفنيدات الذي أقنعني أن كليهما كان خاطئًا وضارًّا، يقول بوبر: إن الاعتقاد في أن الليبرالية- أي الاعتقاد في إمكانية سيادة القانون والعدالة القائمة على أساس المساواة والحقوق الأساسية والمجتمع الحر- يمكن بسهولة أن تبقى على قيد الحياة عندما تعترف بأن الأحكام ليست معرفة نهائية، بل ربما تقع في أخطاء تتعلق بالوقائع، فالعدالة المطلقة تكاد لا تتحقق عند الممارسة العملية في أي حالة محددة، إلا أن هذا الاعتقاد في إمكانية سيادة القانون والعدالة والحرية لا يصمد أمام قبول إبستمولوجيا تعلمنا عدم وجود وقائع موضوعية، ليس في حالة ما بعينها، بل في أي حالة أخرى: فلا يمكن للقاضي أن يرتكب خطأً واقعيًّا لأنه لا يخطئ بشأن الوقائع أكثر مما يمكن أن يكون على حق.”[9] وجدت أن هذه الحجة بشكل عام مقنعة وما زلت مقتنعًا بها. فالعالم موجود بطبيعة الحال بشكل مستقل عنا على الرغم من أننا جزء منه. فإذا أنكرنا أن العالم موجود بشكل موضوعي فنحن نعرض مثل هذه الأشياء الثمينة كالعدالة والحرية للخطر. ليس لدينا حجة حتى الآن ضد أصحاب السلطة عندما يقررون وفقًا لمصلحتهم الخاصة ما هو الصواب وما هو الخطأ. وربما أضيف أنني أحاج ليس فحسب من أجل الوقائع الموضوعية بل أيضًا من أجل القيم الموضوعية.[10] إذا كان هناك ما هو ذو قيمة من الناحية الموضوعية فإننا نحتاج إلى التمسك بأحكام قيمنا على أنها حدوس افتراضية لا على أنها يقينيات دوجمائية. وهذا التفكير يقنعني أن ما هو ذو قيمة موجود وجودًا موضوعيًا. فالشخص الخير يعيش ويموت ولا يوجد قريب أو صديق أو أحد المعارف يقدّر القيمة المرتبطة بحياة الشخص، ولا حتى الشخص نفسه/نفسها. يبدو أنه غير موجود بعد. تحمل هذه الوجهة من النظر التي تقول بأن القيمة ذاتية، تداعيات مخيفة وهي أن ما هو ذو قيمة بالنسبة لحياة الناس لا يدركه الناس، إنه ببساطة غير موجود. أجد أن هذا مرفوضًا.
– ثمة الكثير من الجدل هذه الأيام حول إعادة قراءة برنامج التنوير الغربي، هل تعتقد أن مُثل التنوير الغربي مازالت تلعب دورًا مفيدًا في ظروف اليوم؟
من وجهة نظري كانت الفكرة الأساسية لتنوير القرن الثامن عشر هي التعلم من التقدم العلمي كيفية تحقيق التقدم الاجتماعي من أجل عالم مستنير. أعتقد أن هذه الفكرة مهمة للغاية، ومن الضروري بلا شك تطويرها وتنفيذها بشكل صحيح. ولكن لسوء الحظ ارتكب فلاسفة عصر التنوير- فولتير وديدرو وكوندورسيه وآخرون – ثلاثة أخطاء فادحة عند تطوير هذه الفكرة الأساسية، بل فشلوا في تطوير الفكرة الأساسية على نحو مخيف. أولًا، وبإيحاء من نيوتن، قبلوا وجهة النظر الاستقرائية الفظة للتجريبية القياسية على أنها الطريقة الصحيحة لتسويغ المنهج العلمي. ثانيًا، بعد الأخذ بمنهج علمي خاطئ فشلوا في استقراء طريقة صحيحة لصياغة مفهوم للعقلانية قابل للتطبيق بشكل مثمر على كل ما نفعله. وثالثًا، بدلًا من البحث عن تطبيق العقل بشكل مباشر على الحياة الاجتماعية في محاولة جعل التقدم يتجه نحو عالم مستنير، جعلوا مهمة العقل هي اكتساب معرفة عن العالم الاجتماعي وخلق وتطوير العلوم الاجتماعية، أو بعبارة أخرى، خلق وتطوير علم الاقتصاد والأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع والعلوم السياسية. تطورت هذه الوجهة من النظر الفاشلة الخاصة بفكرة التنوير طوال القرن التاسع عشر عبر جون ستيورات ميل وكارل ماركس وماكس فيبر وآخرين، وتم تضمينها في المشروع الأكاديمي منذ بواكير القرن العشرين عبر إنشاء أقسام وتخصصات أكاديمية للعلوم الاجتماعية. والنتيجة هي ما لدينا اليوم، البحث عن المعرفة حيث رسخ لدى الأوساط الأكاديمية أن الأولوية هي لتعقب المعرفة. نُشر مؤخرًا كتابًا يشيد بوجهة نظر التنوير الفاشلة، وقد فشل الكتاب في التعرف على هذه الأخطاء الثلاثة الفادحة الكامنة فيه، إنه كتاب التنوير الآن لستيفن بينكر 2018.[11]
إذن، ما هي أخطاء التنوير الثلاثة الفادحة، وما الذي نحتاج للقيام به لتصحيحها؟ الخطأ الأول هو الفشل في التركيز على المناهج التي تحقق التقدم للعلوم- لا بلغة التجريبية القياسية بل بلغة التجريبية الموجهة نحو هدف- وهو ما سبق وأن حاججت به فعلًا. فنحن نحتاج إلى الاعتراف بأن العلم له أهدافه الواقعية والإشكالية وأنه في حاجة إلى تحسين هذه الأهداف عند تقدمه. أما الخطأ الثاني هو الفشل في تعميم مناهج تحقيق التقدم في العلم بشكل صحيح. ولكي نقوم بهذا الأمر بشكل صحيح نحتاج إلى تعميم التجريبية الموجهة نحو هدف لصياغة عقلانية موجهة نحو هدف. ليس العلم وحده هو من لديه أهداف إشكالية. فأهدافنا في الحياة الشخصية والاجتماعية والمؤسسية غالبًا ما تكون إشكالية أيضًا. وللعقلانية الموجهة نحو هدف ميزة عظيمة وهي أنها مصممة لمساعدتنا على تحسين أهدافنا مهما فعلنا، عندما نحتاج أن نفعل ذلك لكي نحقق ما هو ذو قيمة حقيقية في الحياة. أما الخطأ الثالث فكان تطبيق المنهج العلمي المعمم لمهمة اكتساب المعرفة بالعالم الاجتماعي-مهمة خلق وتطوير العلوم الاجتماعية بطرق أخرى- فما يجب القيام به بدلًا عن ذلك هو تطبيق العقلانية الموجهة نحو هدف مباشرة على الحياة الاجتماعية وعلى الحكومة والصناعة والزراعة ووسائل التواصل الاجتماعي والقانون وما إلى ذلك، بهذه الطرق تصبح هذه المساعي محركات اجتماعية تعمل بعيدًا لتساعدنا على تحقيق تقدم نحو عالم خير ومستنير بدلًا من اختلاقها للمشكلات.
لقد كرست معظم أعمالي للإشارة إلى فشلنا في اكتشاف الكيفية التي نحل من خلالها العديد من المشكلات العالمية المعاصرة وما إذا كان هذا راجعًا إلى حقيقة، أم لأن مؤسساتنا التعليمية وقبلها الجامعات معيبة بشكل عميق لوجود أخطاء بنيوية ورثناها عن التنوير. فنحن في حاجة ماسة إلى تحقيق تقدم في الأفكار المتعلقة بكيفية تحقيق التقدم، كما في مراجعتي لحالات كتاب بينكر.
– كنت تبحث عن مفهوم جديد للعلم، على ضوء ما تحاج به أين موقع القيم داخل العلم في مشروعك؟ أو بعبارة أخرى هل تعتقد أن ثمة مسؤولية أخلاقية واجتماعية للفيلسوف؟
يجب أن نتحمل جميعًا المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية– على الرغم من أنه كلما زاد تأثير الفرد أو سلطته كلما زادت أهميته- ولهذا ينبغي أن تكون قيم النزاهة الفكرية واحترام الواقعة والحقيقة وإجراء البحث على أمل أن يفيد الإنسانية ثقافيا وبطرق عملية، من القيم المتأصلة في العلم.
– هل وظيفة المجتمع العلمي أن يمارس سلطة أخلاقية على المجتمع؟ وإذا كان العلماء في إمكانهم اخبارنا بعدد الناس الذين سيمتون جراء كوفيد 19 فهل يمكن أن يخبرونا أيضًا بالأنشطة الضرورية الكافية وغير الضرورية التي تخاطر بالناس نحو الموت؟ وإذا كان ليس في قدرتهم هذا، ماذا يعني أن يقول الناس “ينبغي أن نستمع إلى العلماء”؟
لا أعتقد أن المجتمع العلمي يمكن أن يعمل كسلطة أخلاقية ولا ينبغي على الأكاديميين، عندما يعملون داخل إطار البحث عن الحكمة، أن يقوموا بمثل هذا الشيء، أي يعملوا كسلطات أخلاقية. ما ينبغي أن يقترحه مثل هؤلاء الأكاديميون هو الكيفية التي ينبغي اتباعها لحل مشاكلنا، ينبغي أن تكون مسموعة، وما يقترحونه ينبغي أن يكون موضع حكم على أساس أنه مقترح، لا على أساس من قدم الاقتراح. حتى عندما يقتصر العلماء أنفسهم على الأمور العلمية والواقعية فما يهم في النهاية هو الفائدة الجوهرية مما يقال، والأسباب التي تجعله يؤخذ مأخذ الجد، ولا ينبغي تصديقه لمجرد أنه نطق به العالم. في بعض الأحيان يخطئ الخبراء العلميون في أشياء. وتقدم الجائحة الحالية مثالًا على ذلك، بالتأكيد في بلدى المملكة المتحدة.
– هناك الكثير ممن أعجبوا بما تطلقون عليه “عالم أكثر حكمة” كما انتقده الكثيرون أيضًا، هل يمكن تسليط الضوء على هذا المصطلح؟
“عالم أكثر حكمة” بالنسبة لي على وجه الدقة، هو العالم الذي سيتمتع فيه الناس والجماعات والمؤسسات بقدرة ورغبة كبيرتين ومسعى نشط لتحقيق قيمة الحياة بشكل حقيقي لهم وللآخرين. كنت أميل في أعمالي إلى استخدام “عالم أكثر حكمة” للدفاع عن عالم خيّر ومتحضر ومستنير وهو ما نسعى إلى تحقيقه. ولكن ما الذي ينبغي علينا أن نأخذه لكي يوجد هذا العالم- عالم يمكن أن يتحقق وهو عالم خيّر أو متحضر أو مستنير قدر الإمكان؟ كما سبق شددت على أن أهدافنا في الحياة هي غالبًا أهداف إشكالية وهذا ينطبق بوجه خاص على هذا الهدف طويل الأجل للبشرية. لتحقيق عالم حكيم وخيّر بشكل حقيقي. توصي العقلانية الموجهة نحو هدف بتمثل هذا الهدف على أنه تراتبية هرمية – تعكس هذه التراتبية الهرمية أهداف التجريبية الموجهة نحو هدف: انظر المخططين أعلاه. في المخطط الذي يمثل العقلانية الموجهة نحو هدف والمكرسة لتحقيق عالم حكيم، ثمة تراتبية هرمية من خمس خصائص لهدف العالم الحكيم أو العالم المتحضر الذي أصبح أكثر تحديدا وإثارة للحوار وإشكالي – عندما يهبط المرء في هذه التراتبية الهرمية، يجد في القمة العالم الذي يتسم بأنه عالم متحضر، إنه نظام اجتماعي نموذجي قابل للتحقق (مهما كان الأمر) وينبغي تحقيقه على المدى الطويل. يفتقر هذا إلى الوضوح والتحديد، بحيث لا يتفق أحد تقريبًا على توصيف هذا العالم بالحكيم أو المتحضر.. بعد ذلك نهبط إلى عالم يشارك فيه الجميع بشكلٍ متساوٍ في الاستمتاع والحفاظ على، وخلق ما له قيمة بقدر الإمكان” وهو أمر مثير للجدل بعض الشيء، قد يختلف الجميع إلى حدٍّ ما على أن المساواة هي النموذج. ثم نهبط ليكون لدينا بعد ذلك عالم ديمقراطي وليبرالي عادل ومستدام وعقلاني وحكيم (يجب تفسير الحكمة هنا كما وصفتها بالفعل) وهذا أكثر إشكالًا وإثارة للجدل. نهبط بعد ذلك في هذه التراتبية الهرمية ليكون لدينا عالم تسوده ديمقراطية عالمية تضع تنويرًا جديدًا موضع الممارسة (تلافي أخطاء التنوير الثلاثة) إلا أن ثمة مزيدًا من الاعتراض على هذا العالم. هذه هي الطريقة التي يمكن أن تصف أي حالة نموذجية إشكالية من الحالات الراهنة التي نأمل تحقيقها: من هدف غير محدد وغير مثير للجدل وليس إشكاليًا على القمة التراتبية إلى أن يصبح هذا الهدف تدريجيًا أكثر تحديدًا وأكثر إثارة للجدل وإشكالي عندما يهبط المرء من هذه التراتبية الهرمية.[12] هناك ميزة ينبغي أن يمتلكها العالم الحكيم من وجهة نظري وهي التي لم أذكرها أعلاه، أعني أن تسير الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بقدر الإمكان وفق خطوط تعاونية، وهو موضوع تم التصريح به في كتابي من المعرفة إلى الحكمة.[13]
– ما الذي يقنعك أننا لا نعاني من كثرة العقلانية بل من قلتها؟ وهل تعتقد أن مفهوم العقلانية العلمية مفهومًا إشكاليًا؟
يسلم المجتمع العلمي بالتجريبية القياسية، فوفقًا للعلماء تعتبر التجريبية القياسية هي العقلانية العلمية. إلا أن التجريبية القياسية هي تجريبية واهية. فهي ترى أن الهدف الفكري الأساس للعلم هو الصدق في حد ذاته عندما يتم افتراض الصدق على أنه تفسيري – أو الصدق التفسيري. هناك افتراضات ميتافيزيقية محايثة في أهداف العلم حيث تهتم هذه الافتراضات الإشكالية بالقيم والسياسة أيضًا (يبحث العلم بشكل عام عن الصدق الذي له قيمة أو يستخدمه بشكل ما، وهو يبحث بشكل نموذجي عن صدق ذي قيمة يستخدمه الناس ثقافيًا أو عمليًا لتعزيز قيمة الحياة البشرية)
إن محاولة تعقب العلم وفقًا للتجريبية القياسية هي محاولة لتقويض الدقة الفكرية للعلم وعقلانيته لأنها تؤدي إلى قمع الافتراضات الميتافيزيقية الإشكالية والمؤثرة – الافتراضات المتعلقة بالقيم والاستخدام الاجتماعي للعلم أيضًا. إن المطلب الأساس للدقة الفكرية هو توضيح الافتراضات المؤثرة والإشكالية لتقييمها بشكل ناقد، وربما أتطلع إلى تحسينها. وأن العلم الذي يبحث عن الامتثال لأوامر التجريبية القياسية إنما ينتهك مطلب الدقة الفكرية، في حين أن العلم الذي يتم تعقبه وفقًا للتجريبية الموجهة نحو هدف سيفي بمطلب الدقة هذا. هذه هي الفكرة الكاملة عن التجريبية الموجهة نحو هدف: تقديم افتراضات واضحة قابلة للنقد والتحسين وإشكالية، إلا أنها حاليًا افتراضات ضمنية.
كيف نعاني من اللاعقلانية المعاصرة في العلم؟ بطريقتين اثنتين: الأولى، حيث يعاني العلم والقيمة الإنسانية للعلم. ولكي نمنح أنفسنا أفضل الفرص لتحقيق النجاح العلمي نحتاج بالفعل إلى اخضاع الافتراضات الميتافيزيقية الضمنية للعلم إلى تدقيق خيالي ونقدي مستمر.[14] لا يفعل العلم المقيد بالتجريبية القياسية ذلك، ولهذا فهو يعاني (بالطرق التي نوقشت في الكتاب المشار إليه في التو) يتأثر العلم بطريقة عكسية، علاوة على ذلك، لا يدرك العلم المتأثر بالتجريبية القياسية الحاجة الحيوية للاستكشاف الخيالي والناقد للأهداف البحثية الفعلية والممكنة للعلم على أمل اكتشاف تلكم الأهداف التي ستؤدي إلى اكتشافات وتطورات ذات فائدة حقيقية للبشرية، وتلك الفائدة بوجه خاص لأولئك الذين هم في أشد الحاجة إليها، إنهم فقراء الأرض. ولكن الفشل في ذلك العلم الذي يميل إلى التطور بالطرق التي تحقق فائدة أكثر للثروة والسلطة ولأولئك الذين يمولون العلم بدلًا من احتياجات أولئك الفقراء التي هي أعظم. تحظى أمراض الأغنياء باهتمام علمي أكثر من أمراض الفقراء.
ثمة طريقة أكثر أهمية فيما نعاني من اللاعقلانية وهي عدم دقة التجريبية القياسية. فإذا قبلنا هدف التجريبية القياسية الثابت للصدق فلا يمكن الوصول إلى تعميم المنهج العلمي الذي سيؤدي إلى مفهوم للعقل مصمم لمساعدتنا على تحسين الأهداف الإشكالية كما فعلنا. بعبارة أخرى، يتعذر الوصول إلى العقلانية الموجهة نحو هدف. وبالفعل لا تعمل المفاهيم الحالية للعقل التي تدور حول هذه المعاني على تحسين الغايات. نحن في حاجة ماسة وعاجلة إلى تبني مفهوم للعقل يساعدنا على تحسين الأهداف الإشكالية التي يعمل عليها ويضعها موضع ممارسة. ولكن نعاني من فشلنا في فعل هذا. نسعى إلى التقدم الصناعي والاقتصادي ونخلق أزمة مناخ ونقوض البيئة. نسعى إلى الصحة ونخلق الانفجار السكاني، نبني جيوشنا وأسلحتنا ونستفز الأمم الأخرى للقيام بالمثل لزعزعة الأمن وزيادة احتمالية الحرب. نخلق الأسلحة النووية لإنهاء الحرب ونعرض مستقبل البشرية للخطر. نحن في أمس الحاجة إلى اكتشاف الكيفية التي نحسن من خلالها الأهداف والمثل الإشكالية في حيواتنا الشخصية والاجتماعية والمؤسساتية، وينبغي على العلم أن يكون نموذجيًّا ومثاليًّا للقيام بذلك. إن العلم التجريبي القياسي ليس من هذا النوع. كونه يفتقر إلى العقلانية.
وهل أعتقد أن مفهوم العقلانية العلمية مفهومًا إشكاليًّا؟ لا أعتقد ذلك، فالعلم المسوغ بلغة التجريبية الموجهة نحو هدف يزيل المشكلات المتعلقة بالعقلانية العلمية. فقد نشأت هذه المشكلات جراء محاولة تصور العلم بلغة التجريبية القياسية.
– منذ بواكير القرن السابع عشر – مع فرانسيس بيكون وجاليليو جاليلي ورينيه ديكارت – ظلت العلاقة بين العلم والدين علاقة متقلبة نتيجة الصراعات، كيف تنظر إلى هذه القضية؟ وهل تعتقد أن ثمة مساحة للإيمان الديني داخل العلم؟
العلاقة بين العلم والدين حقًا علاقة معقدة. ومن المعروف أن جاليليو واجه صعوبات من قبل كنيسة روما. ومع ذلك بدا لكل من كبلر وجاليليو أنهما يملكان تأويلا للقوانين الرياضية البسيطة التي يعتقدان أنها تحكم الظواهر الطبيعية كما بينتها إرادة الرب. تقريبًا كل أولئك المرتبطين بميلاد العلم الحديث يعتقدون في الإله وهذا الاعتقاد لعب دورا في تبرير إمكانية العلم. فقد كان ثمة اعتقاد بأن الإله خلق الكون ليكون قابلًا للفهم من قبل البشرية وهذا جعل العلم ممكنًا. لا أعتقد أن ثمة مساحة للإيمان الديني داخل العلم الحديث ولكني أعتقد بالتأكيد أن ثمة مساحة داخل العلم للعلماء الذين لديهم اعتقاد ديني. العلم جزء من البحث الأكاديمي وفي الأخير إذا حدث تأويل للبحث عن الحكمة من منطلق ديني، فإنه سيكون مكرسًا لمساعدة القيمة الحقيقية للازدهار. أنا لا أومن شخصيًا بإله لسبب مؤداه أن الإله القادر العالم لابد أن يكون مسؤولًا عن كل الظواهر الطبيعية التي تسبب للإنسان المعاناة والموت. لا أعتقد أن أحدًا يمكن أن يتغاضى عن ذلك. بالنسبة لي تشمل حياة الإيمان الديني أن تعيش الحياة بمحبة.
– ما هي الرسالة الرئيسة التي تحب إرسالها إلى الفلاسفة في الشرق الأوسط؟
تعطي الجامعات في جميع أنحاء العالم الأولوية لتعقب المعرفة المتخصصة وهذه خيانة للعقل، وقد نتج عنها خيانة للبشرية. يهدد عجزنا عن حل الصراعات والمشكلات العالمية مستقبلنا وهذا العجز ناتج عن الخيانة الأكاديمية. نحن في أمس الحاجة إلى إحداث ثورة في الجامعات بحيث تصبح المهمة الرئيسة هي البحث عن الحكمة وتعزيزها وليس فحسب اكتساب المعرفة- الحكمة هي القدرة على إدراك قيمة الحياة والسعي النشط نحوها والرغبة فيها للنفس وللآخرين. تشتمل الحكمة بهذا المعنى على المعرفة والفهم والمهارة التكنولوجية وغير ذلك الكثير. فبدلًا من إعطاء الأولوية الفكرية لحل مشكلات المعرفة والجامعات، نحتاج إعطاء الأولوية للمساعدة على حل النزاعات والمشكلات المعيشة- وقبل كل شيء المشكلات العالمية مثل أزمة المناخ التي تهدد مستقبلنا. من المهم أن تتعلم البشرية كيفية حل الصراعات والمشكلات المعيشة بمزيد من الطرق العقلانية الحكيمة وبشكل تعاوني. ولكي يحدث هذا، نحن في حاجة إلى تصميم جامعاتنا وتكريسها للمساعدة على تقديم هذا الحل. يجب على الجامعات أن تأخذ على عاتقها مهمة تثقيف الجمهور بمشكلاتنا وما نحتاجه إزاءها. إن الحكمة الاجتماعية جوهرية لبقائنا على قيد الحياة. لم يكن الافتقار إلى الحكمة قبل ظهور العلم الحديث يشكل أهمية كبيرة. لقد افتقرنا إلى القدرة على فعل الكثير أيضًا لعدم الاضرار بأنفسنا أو بالكوكب. ولكن لدينا الآن العلم الحديث والتكنولوجيا وكل القدرة لفعل الكثير على ما خلفوه من إرث لنا. أصبح الافتقار إلى الحكمة خطرًا إذ بلمسة ذر يمكن محو البشرية. يجب أن نصبح أكثر حكمة. ولكي يتحقق ذلك من الضروري قطعًا إحداث ثورة أكاديمية كما أشرت، وأن تتولى الجامعات مهمة مساعدتنا جميعا على أن يصبح عالمنا الاجتماعي أكثر حكمة.
– في الختام لقد استقدنا كثيرا من مناقشتك والحوار معك برفيسور ماكسويل. شكرًا جزيلًا.
شكرا لإتاحة الفرصة للإجابة عن أسئلتكم.
[1] From Knowledge to Wisdom: A Revolution in the Aims and Methods of Science, Basil Blackwell, Oxford (2nd ed., 2007); متاح مجانًا على شبكة الإنترنت على الموقع الإلكترونيhttps://philpapers.org/rec/MAXFKT-2
[2] What’s Wrong With Science?, Bran’s Head Books, 1976 (وهو متاح مجانًا على شبكة الإنترنت على الموقع الإلكتروني التالي: https://philpapers.org/archive/MAXWWW-6.pdf ).
[3] Arguing for Wisdom in the University: An Intellectual Autobiography, Philosophia, 2012, vol. 40, no. 4, pp. 663-704, وهو متاح على شبكة الإنترنت على الموقع الإلكتروني https://philpapers.org/rec/MAXAFW .
[4] see https://www.ucl.ac.uk/from-knowledge-to-wisdom/whatneedstochange .
[5] see https://www.ucl.ac.uk/grand-challenges/.
[6] (See The Rationality of Scientific Discovery, Part I: The Traditional Rationality Problem, Philosophy of Science 41, 1974, pp. 123-53; or Popper, Kuhn, Lakatos and Aim-Oriented Empiricism, Philosophia 32, nos. 1-4, 2005, pp. 181-239.)
[7] In Praise of Natural Philosophy: A Revolution for Thought and Life, 2017, McGill-Queen’s University Press, Montreal; Understanding Scientific Progress: Aim-Oriented Empiricism, 2017, Paragon House, St. Paul, MN. See also Aim-Oriented Empiricism and the Metaphysics of Science. Philosophia, 48, 2020, pp. 347–364
[8] انظر الرسم التخطيطي الأول أعلاه من هذين الرسمين حيث يمثل التجريبية الموجهة نحو هدف. أما الرسم التخطيطي الثاني أعلاه يمثل العقلانية الهادفة (والمستقرئة من التجريبية الهادفة والتي لها مهمة تطبيقية هي التقدم في اتجاه عالم متحضر ومستنير).
[9] Conjectures and Refutations, Routledge and Kegan Paul, 1963, p. 5.
[10] see “Are There Objective Values?”, The Dalhousie Review, 1999, vol. 79 (3), pp. 301-317: https://philpapers.org/rec/MAXATO
[11] للنظر في نقدي الحاسم لهذا الكتاب انظر:
We Need Progress in Ideas about how to achieve Progress, Metascience, 2018, vol. 27, issue 2, pp. 347-350.
[12] For more details see my How Wisdom Can Help Solve Global Problems. In Sternberg, R., Nusbaum, H., Glueck, J. (Eds.), Applying wisdom to contemporary world problems. 2019, pp. 337-380, London: Palgrave Macmillan.
[13] : see https://philpapers.org/rec/MAXFKT-2 .
[14] (I have spelled out how this can be done in In Praise of Natural Philosophy: A Revolution for Thought and Life, 2017, McGill-Queen’s University Press, chapter 5.)