تزايد تركيز أبحاث الاستشارات النفسية التي تستهدف قياس مدى فاعلية العلاج النفسي على طرق التدخل العلاجي المثبتة تجريبيًا. من ناحية أخرى، لطالما أدرك الاستشاريون النفسيون أن العلاقة التي تجمع بين المعالج النفسي والعميل هي في حد ذاتها أقوى وسائل التدخل العلاجي الشامل؛ إذ إنها تعزز عملية التغيّر أوالتحوّل الذاتي التي يختبرها العميل. وتعد القاعدة الأولى لدى عالم النفس الأميركي كارل روجرز -التي مفادها أن المستشار النفسي والعميل يجب أن تجمعهما صلة نفسية- شرطًا مسبقًا لأي تدخل علاجي. فبوصفنا مستشارين نفسيين، يجب أن نكون «شخصًا مع العميل» لا «أن نفعل شيئاً ما» له.
غير أن التفاعل الشخصي بين المستشار النفسي والعميل يصعب قياسه كميًا؛ ذلك لأن علاقتهما تحتوي على صفات غير ملموسة لا يمكن حصرها بأساليب القياس والتحقق العلمي. إذْ ٍيبدو أن العلاقة بين المستشار النفسي والعميل تتجاوز أي استراتيجية تدخل معينة. ويعد القول المأثور «إن العلاقة في حد ذاتها هي العلاج الشافي» مبدأ منظمًا يتفق عليه غالبية المستشارين النفسيين، وإن كانوا ينسونه أحيانًا. في رحلة بحثنا عن طرق علاجية مُثبَت صحتها تجريبيًا، هل نواجه خطر فقدان الشيء الأكثر أهميةً على الإطلاق في الاستشارات النفسية؟
يجب أيضًا النظر إلى نقطة أخرى وهي أن التحول الثقافي غيّر الطريقة التي يتواصل بها الناس مع بعضهما بعضًا؛ إذ أصبح التواصل الشخصي شيئًا رقميًا موضوعًا في قوالب عبر منصات التواصل الافتراضية. هل سيواصل الجيل القادم من الاستشاريين النفسيين منح الأولوية لحس «الحضور» في العلاقة العلاجية، والتي تشكل جوهر الاستشارات النفسية؟ من وجهة نظرنا، فإن قدرة المستشار النفسي على بناء علاقةٍ شخصية ذات معنى مع العميل باتت مهمة أكثر من أي وقت مضى.
وصف الفيلسوف مارتن بوبر بالتفصيل الصفات التي يتسم بها «اللقاء الحقيقي»، أو لقاء «أنا وأنت» بين شخصين. وأفكاره ما زالت ذات صلة في عالمنا اليوم مثلما ساهمت مسبقًا في تشكيل الحركة الإنسانية في علم النفس والاستشارات.
لقاء «أنا وأنت»
وفقاً لبوبر، تكمن قوةٌ محتملة رائعة في اللقاء الشخصي بين اثنين مشتركين في محادثة، تتجاوز حدود كيانيهما المنفصلين. وتتبدى هذه القوة الكامنة عندما يشرع الشخصان في التفاعل مع بعضهما بطريقةٍ فعالة وأصيلة في اللحظة الراهنة، عندما «يُظهران جوهرهما» لبعضهما بعضًا بصدقٍ. في هذا اللقاء، يتجلى بعدٌ جديد في العلاقة، يسميه بوبر بالـ «ما بين». عندما يتحقق هذا البعد، تصبح قيمة العلاقة أكبر من المساهمات الفردية للمشاركين فيها. يسمي بوبر هذا النوع من اللقاءات بعلاقة «أنا وأنت».
تتسم علاقة «أنا وأنت» بمبادلة المشاعر، والمباشرة، والحضور في اللحظة، والتفاعل المُكثَّف، وصعوبة وصفها بالكلمات. وصف بوبر الـ «ما بين» بأنه وثبةٌ جريئة إلى تجربة الآخر على أن تكون، في نفس الوقت، شفافاً، وحاضراً في اللحظة، ومتاحًا للتواصل. واستخدم مصطلح «الشمول» لوصف هذه الشكل القوي من التعاطف. ويختلف هذا المفهوم تمامًا عن المشهد الحالي الشائع لمجموعةٍ من الأصدقاء يجلسون حول طاولةٍ في مطعم وهم يحدقون في هواتفهم الذكية.
رأى بوبر أن علاقة «أنا وأنت» هي أهم جانب في التجربة الإنسانية؛ لأنك لا تصبح إنسانًا كامل الإنسانية إلا عبر العلاقات. عندما يلتقي أحدنا بالآخر بوصفه «أنت»، يصبح تَفرّد واختلاف الآخر معترفًا به دون إغفال الصلة أو الجانب الإنساني المشترك الذي يجمعنا. ويقارن بوبر علاقة «أنا وأنت» بعلاقة «أنا وهو»، والتي نعامل فيها الشخص الآخر كأنه شيءٌ نؤثر فيه أو نستخدمه؛ أي، وسيلة لغاية. للأسف، لا تحتاج علاقة «أنا وهو» إلى شرح كثير كي يفهمها أي شخص يعيش في إطار ثقافي، يتسم بشرود الذهن وانتشار المادية التكنولوجية.
يمكن أن يكون العالم المكون من علاقات «أنا وهو» متماسك ومنظم -وقد يكون حتى فعَّالًا- لكن ينقصه العناصر الأساسية المكونة للاتصال الإنساني ووحدته، والتي يتسم بها لقاء «أنا وأنت».
يتزايد انتشار توجه «أنا وهو» لدرجةٍ تنزع عن العلاقات صفتها الشخصية وتسبب الشعور بالاغتراب؛ إذ أصبح منظمًا ومتخذًا أشكالاً مؤسسية من صنع البشر. عندما يصبح توجه «أنا وهو» متجذرًا في الأنماط الثقافية والتفاعلات الإنسانية، يزداد الميل إلى تحويل الآخرين إلى مجرد أشياء، واستغلال البشر والموارد، وانتشار الأحكام المسبقة التي تطغى على الإنسانية المشتركة التي توحدنا.
ورغم أنه كان يرى علاقة «أنا وهو» باعتبارها قطبًا رئيسيًا يتأسس عليه الوجود الإنساني، أعتقد بوبر أن الإنسانية فقدت قدرتها على توجيه بوصلتها نحو «أنت». وأكد على أهمية الحفاظ على التوازن بين هذين القطبين (أو هذين النوعين من العلاقات) إذا أرادت البشرية أن تنجو من خطر التدمير المتبادل لبعضنا بعضًا.
يرى المستشارون النفسيون علاقة المستشار بالعميل باعتبارها أساس أي تطورٍ علاجي؛ لأنها تؤكد على أهمية الصلة الإنسانية، والإقرار بقيمة مشاعر وأفكار الآخر، والمشاركة بين الأفراد. في مجال نفوذنا الصغير، نكون قوةً تحث على بناء عالم أكثر إنسانية وتعاطفًا. لذا، ينبغي أن يراعي المستشارون النفسيون هذا الأمر دائمًا حتى في ظل سعينا نحو تحسين المنظومة التقنية وكفاءتها في «نظام تقديم خدمات الصحة النفسية»، الذي لا يتواءم تمامًا مع أهدافنا الأوسع.
أن تكون موجوداً يعني أن تكون في علاقة
أدرك بوبر أن تطور الإنسان يتحقق في سياق العلاقات. فالبشر كائنات اجتماعية، تحتاج إلى الحب والرعاية من الآخرين كي تبقى على قيد الحياة خلال فترة الطفولة وما بعدها، ويؤدي عدم تلبية هذه الاحتياجات في العلاقات إلى أضرار نفسية دائمًا.
أطلق بوبر على المشاركة العميقة، التي تجمعنا بشخص آخر، وقبولنا له، مصطلح «الإثبات». وأعتقد بوبر أن قدرة المرء الفطرية على إثبات وجود الآخرين، وإثبات الآخرين لتفرده الذاتي في المقابل، هو جوهر إنسانيتنا. يمكن للذاتية الفطرية -والتي تتكشف ملامحها داخل كل إنسان- أن تتحقق فقط عندما تنعكس صورتها في عيني الآخر. يشكل مفهوم «إثبات» وجود الآخر أساس لقاء «أنا وأنت»، وازدهار الإنسان، والاستشارات النفسية.
ويشبه الإثبات مفهوم عدم وضع «شروط مسبقة للاعتراف بقيمة الآخر» في العلاقة. غير أن الإثبات يتجاوز هذا المفهوم بخطوةٍ، إذ إنك تعترف بإمكانات الشخص؛ أي، ما يمكن أن يصبح عليه. على سبيل المثال، يختبر الطفل توترًا بين النمو والخوف في كل خطوة على طريق تطوره. يمكن أن يقبل الوالدان عزوف طفلهما عن اتخاذ خطوة ما، أو تشجيعه على المضي قدمًا. في كافة المراحل العمرية، يكمن ازدهار الإنسان في تلك اللحظات التي يعترف فيها شخصٌ ما بإمكانات شخصٍ آخر. وبينما يعاني العميل التردد في اتخاذ «خيار النمو» أو «خيار الخوف»، يحث المستشار النفسي العميل على المشاركة بدرجة أكبر في اتخاذ خطوات النمو متوقعًا، في الوقت ذاته، الاصطدام بالمخاوف القديمة التي تعيقه عن المشاركة.
للأسف، لا نكون دومًا في حالةٍ من اليقظة والحضور في اللحظة مثلما نتمنى أن نكون مع الآخرين، كما أننا لم نحظ بإثبات كاف لوجودنا في أعين الآخرين مثلما تمنينا. حتى أفضلنا قد يقع في فخ علاقة «أنا وهو» مع العالم، عاجزًا عن رؤية الشخص الآخر تمامًا. أعتقد بوبر أن هذه «اللقاءات المفقودة» هي منتهى فشل العلاقات الإنسانية؛ فهي تجعلنا نخسر جانبًا من أنفسنا.
نرغب جميعًا في أن يُثبت تفردنا شخصٌ آخر، لكن عندما ندرك أن هذا الإثبات لن يحدث، نضحي -على ما يبدو- بالـ«إثبات» الحقيقي لوجودنا في مقابل مجرد الـ«قبول» على أمل الحفاظ على ارتباطنا بالآخرين بهذا القبول فحسب. ننمي مهارة أن «نبدو» بشكلٍ ما أمام الآخرين كي نحظى بقبولهم، لكن هذا القبول لا يغذي وجودنا. يفضل الشخص إثبات الآخرين لحقيقته الزائفة على أن يواجه احتمالية ألا يقبله أحد على الإطلاق.
للأسف، يلتصق هذا القناع الظاهري بنا. وبينما يخفي المرء خوفه خلف هذا القناع، نفقد فرصة الدخول في علاقة «أنا وأنت». ومثلما حذر بوبر «القبولُ بالادعاء جوهرُ جُبن الإنسان، ومقاومةُ هذا الميل جوهر شجاعته». فعندما نضحي بـ «أنا» موجودة في علاقة «أنا وأنت» مقابل التوجه نحو «هو» الموجود في العلاقات المجردة، نفقد النمو الإنساني الأصيل، وصلتنا بالآخرين، وتبدأ الـ«أنا» في التلاشي.
الشفاء عبر لقاء
كيف يمكن، بصفتنا مستشارين، أن نعزز علاقة «أنا وأنت» مع عملائنا ونساعدهم على تجنب إغراء أن «يبدو» على غير حقيقتهم؟
اِعتقد بوبر أن الإجابة تكمن في عملية التخيّل النشط التي سمّاها «الشمول»؛ ففي هذه العملية، تشير العوائق والقيود التي تمنع المرء من الحضور بكيانه كله في لقاء «أنا وأنت» إلى المواضع التي تحتاج إلى تدخل علاجي. ما الذي يجعل العميل مختبئا من الآخرين ويريد حماية أفكاره الداخلية، ومشاعره، وخيالاته؟
في الشمول، يتخيل المرء ما يشعر به الآخر، وما يفكر فيه، وما يعايشه بينما يدخل في علاقة معه بصفته «أنت». يتشابه مفهوم روجرز عن التعاطف مع مفهوم بوبر عن الشمول (في الواقع، اختلف الاثنان حول هذا الأمر). غير أن مفهوم الشمول يركز أكثر على الذات المنفردة للشخص، الذي يحاول أن يفهم الآخر.
إن محاولة فهم العالم الداخلي الذاتي للشخص ليست طريقًا ذا وجهة واحدة لأن المستشار النفسي يجب أن يضع في عين الاعتبار تأثيره على العميل، فالطرفان أصبح يجمعها صلة نفسية.
«أنا وأنت» هو حدثٌ قائم على علاقة يشكلها طرفان، حدثٌ لا يقع كاملاً عند طرف أو آخر؛ بل يحدث بينهما. وتعكس قدرة المستشار النفسي على استخراج الثراء الكامن في اللقاء الحالي والتساؤل «ما الذي يحدث بيننا في اللحظة الحالية» مفهوم بوبر عن الشمول.
نحن، بصفتنا مستشارين نفسيين، لدينا القدرة على إثبات أفكار ومشاعر عملائنا عبر عملية الشمول، بأن نمنحهم علاقةً تشفي جراح لقاءات الماضي المفقودة. يجب أن ندخل في علاقة «أنا وأنت» مع عملائنا كي نُلهمهم التخلّي عن حالة «التظاهر» وبلوغ حالة تتسم بالمشاركة الأصيلة وتجسيد وجودهم الحقيقي.
رغم أن طرق التدخل العلاجي التجريبية مهمةٌ لإرشادنا إلى أفضل الممارسات الواجب اتباعها، يجب ألا ننسى أن أهم معيار للتنبؤ بمدى فاعلية الاستشارات النفسية هو تجربة العميل، في حد ذاتها، بخصوص العلاقة التي جمعته بالمستشار النفسي.
يستحق العميل أن يُرى بصفته «أنت». ومثلما قال بوبر: «على الرغم من كل أوجه التشابه، كل موقف في الحياة هو مثل طفل حديث الولادة، له وجه جديد لم يكن موجودًا مطلقًا، ولن يوجد أبدًا. يتطلب هذا منك ردة فعل غير مُعدَة مسبقًا. لا يتطلب هذا أي شيء من الماضي؛ بل يتطلب الحضور في اللحظة وتحمل المسؤولية؛ إنه يتطلبك أنت».
كل لحظة هي فرصة «للشفاء عبر لقاء».
[1] ماثيو مارتن خريج برنامج ماجستير استشارات الصحة العقلية لدى جامعة جيمس ماديسون. و إيريك كومان هو أستاذ في قسم الاستشارات وخريجي علم النفس لدى جامعة جيمس ماديسون.