الأحداث الجِسام تُحدث شروخًا في نظرة البشرية للوجود، أكثر الفلسفات عدمية وُلدت من رحم الحربين العالمية، ومن ظلامها الدامس خُلقت أشد الأعمال عبثية في الأدب والمسرح والسينما، لأن السخرية كانت دائمًا أكثر طرق التعبير تطرفًا عن الوجع، ولأنه لم يعد للإنسان أي طريقٍ آخرٍ يكمل به درب الحياة، بعد أن باحت ببعض بشاعتها، إلا هذا الطريق المُصاب بشرخٍ عميقٍ في جوهره.
الطاعون والكوليرا وعشرات الأوبئة الفتّاكة الأخرى التي لم تحصد أرواح البشر فحسب كما تحصد المناجل الحبوب في موسم الحصاد، ولكنها ظلت إلحاحًا أبديًا ودائمًا يشير إلى ضآلة الإنسان، ومحدوديته، وتذكيرًا في الوقت نفسه ببداية رحلتنا البشرية، الرحلة التي لا يبدو أن أحدًا ما يتذكرها أو يشير إليها.
منذ قرون، تصرف الإنسان وكأنه السيد الأوحد لهذا الكوكب، ولا شك أنه لم يكن سيدًا جيًدا ولا عطوفًا، يمكنني أن أقول ذلك باطمئنان عن العقود الأخيرة على الأقل، فالسيد الذي كان يبحث عن كهفٍ يحميه من السباع ويحمي رأسه من المطر، سيفجّر أحفاده الجبال بكبرها، ويحرق غابات بأكملها ويبيد سلالات كاملة من الكائنات كي يصنع من جلودها حقائب، ومن فرائها معاطف للزينة، ثم يبدأ سباقه المحموم نحو القمر، هذا الإنسان الذي كان يرتعب كلما أبرقت السماء وأرعدت، وكلما ظهر في الأفق ما لا يفهمه ويرعبه حدّ اختلاق الأساطير التي قد تهدهد الخوف قليلًا، يلقي اليوم بعشرات الأطباق الفضائية التي انتهى عمرها الافتراضي إلى مدار كاملٍ من النفايات الفضائية التي راكمها على مدى سنوات.
ولكن الطبيعة مبنية على التناغم شديد التعقيد، الأمر أشبه بمعادلة هائلة للغاية، إذا قتلت طائرًا هنا، ستنجو دودة هناك، إذا حرقت سلالة الشجر هذه، فأنت حرمت فصيلة من الحيوانات من موطنها الأصلي وأرسلتها للهلاك، ومؤخرًا أصبحت هواية البشر، أو عواقب جشعهم الإنساني بتعبير أدق، هي تدمير هذا التوازن باستمرار، ولكن الطبيعة لها طرقها أيضَا لمحاولة إصلاح الأمر باستمرار أيضًا، وكثيرًا ما يبدو الأمر كانتقام أو غضب، ورغم أن هذا ليس إلا مجازَا في نهاية المطاف، إلا أن الأمور تحصل بشاعرية تبث الشكوك في كون هذا الانتقام واعيًا ومقصودًا بعناية، فيبدو أن الزلازل والبراكين والأعاصير والفيضانات لم تعد الوسيلة الوحيدة لإعادة الأمور إلى نصابها، ولكنه عصر الفيروس!
هذه الشاعرية الفذّة في ردة فعل الطبيعة أعادت إنسان الكهف إلى مربعه الأول، الإنسان الذي كان يبحث عن مأوى يختبئ فيه طوال الليل كي يحميه من الحيوانات الضخمة والمفترسة، عاد بعد أن دار التاريخ دورته إلى كهفه من جديد في القرن الواحد والعشرين، وكما انقلب الكهف إلى منزلٍ مجهزٍ بأدوات الترفيه وأنظمة الحماية، تحولت الحيوانات المفترسة إلى كائنات مجهرية متسللة، وفي لحظة نموذجية نراقب اليوم بأسى علامات أفولها، كان العالم، وبرغم كل الأحقاد المتراكمة يتحرك ككتلة واحدةٍ، ويقلق بقلبٍ واحد، كان الأمر يشبه ذهول الإنسان الأول أمام قوى العالم المختلفة، حيث لا سبيل للنجاة إلا بالاندماج في صيروة العالم لا مواجهتها، ومحاولة فهمه لا تطويعه.
لقد أصاب الوباء كبد الواقع، فكان عليه أن يسيل كما تسيل الدماء قبل أن يتخثر من جديد، ولكن الذين أبصروه سائلًا ولمسوه سائلًا لا يمكن أن يتصوروه في شكله المتخثر من جديد بسهولة، إدراكُ الواقع لا يهتز عند عموم الناس، غالبًا لا يحصل ذلك أبدًا، ولكن كل الذي حصل ويحصل، هذا الشرخ الذي أحدثه الفيروس المجهري الصغير، ربما يمنحنا الفرصة – للمرة الأولى لبعضنا – أن نعيد التفكير في مسلماتنا تجاه الحياة؛ ما هو الجوهري فعلًا؟ ما هي الأشياء الأكثر حقيقية مقابل الأشياء الأكثر زيفًا؟ ولأي درجةٍ كانت حيواتنا ممتئلة بالهراء واللامجدي؟
يتحدث بودريار في بداية كتابه “المصطنع والاصطناع” عن فكرة الواقع الذي يجري اصطناعه، ويحكي قصة رمزية يمكننا استعارتها هنا، يقص الفيلسوف الفرنسي حكاية الحاكم الذي جمع معاونيه وطلب منهم رسم خريطة تفصيلية للمدينة، وبدلًا من رسم هذه الخريطة بالمقاسات المعتادة للخرائط، طلب منهم رسمها بالمقاسات المطابقة تمامًا للمقاسات الحقيقية، وهكذا كان عليهم أن يرسموا مئات الكليومترات من القصور والحدائق والأسواق والساحات العامة، وهكذا عند فرد الخريطة بعد اكتمالها، أصبح لدينا واقعين؛ الواقع الحقيقي (إن كان هناك أي معنى لحقيقي أصلًا بعد سيلان الواقع)، والواقع المصطنع. يذهب بودريار أبعد في المثال ويتصور مرور عشرات السنين؛ وهكذا تمزقت أجزاء من الخريطة، واهترأت أجزاء أخرى، وبقيت بعض الأجزاء على حالها، وفي كل الأحوال لم يعد هناك خريطة ولا أرض، أو واقع (واقعي) وواقع مصطنع، ولم يعد هناك إلا هذا الواقع الجديد المختلط، حيث يمتزج الطبيعي والمصطنع امتزاجًا كليًا يصعب – أو يستحيل – معه التفريق بينهما، بالنسبة للكثيرين فقد تعرفوا على بعض أفكار بودريار المجسدّة من خلال فيلم ماتريكس (The Matrix)، حيث لا يخفي الأخوين وتشاوسكي تأثرهما بأفكار بودريار الفلسفية، ورغم بعض الأقوال عن عدم رضا الفيلسوف بشكل كامل عن الفيلم، إلا أن الفيلم استطاع أن يجسد فكرة انهيار الواقع وتلاشي المسافة بينه وبين الاصطناع، وفي ذروة لحظة الوعي في الفيلم، يتمكن البطل من رؤية المصفوفة مباشرةً من دون حواجز الاصطناع، في قلب الوباء وفي أزمنة الحجر الكلي، ربما شعر البعض باقتراب لحظة الكشف هذه، حدّ ترقب انهيار الواقع في واقعنا هذه المرة، وليس في الفيلم، ولكن هل كان ذلك وهمًا، أم أننا عُدنا للتو إلى قلب الوهم، حيث “الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا”.
فكرت في معظم هذه الأفكار في ذروة العزل، وفي أثناء استيلاء ما أسمّيه ” الحالة الحلمية”، فرغم أن الوباء لا وعيَ له، إلا أن تتالي الأحداث كان يُشعر الكثيرين بأنهم في وسط فيلمٍ هم أبطاله، وأنهم يتحركون وفق سيناريو مُعدّ مكتوب بعناية، ويبدو أن العالم بأكبره كان في قلب هذه الحالة الحلمية، أو أن البشر كانوا منشغلين بأنفسهم بما يكفي لتأجيل الصراعات مع بني جنسهم حتى التعامل مع العدو المشترك الجديد. ولكن، لا الحالة الحلمية استمرت، ولا البشر الذين يواجهون قائمة طويلةٍ من الأعداء المشتركين؛ الاحتباس الحراري، معدلات التلوث، البلاستيك، اختلال التوازن البيئي، أزمة الماء والغذاء، … وأخيرًا الفيروسات التي يُتنبّأ أن تبدأ في زيارتنا بشكل دوري فيما تبقى من حياتنا، ولكن لا يبدو أن البشر الذين لا زالت مستشفياتهم ومقابرهم تشهد توافد ضحايا الوباء باستمرار، يجدون في هذه القائمة وغيرها عدوًا مناسبًا أكثر من الإنسان نفسه، ومن الطبيعة المُرهقة من فرط ما نحاول تطويعها وتخضيعها بالكامل.