توفي الفيلسوف الفرنسي المعاصر «برنارد ستيجلر» (Bernard Stiegler) في السادس من شهر أغسطس الماضي (2020) بمنطقة (Épineuil-le-Fleuriel) بفرنسا، عن عمر 68 سنة (1952 – 2020). اعتبر من طينة الفلاسفة العصاميين والمتمرّدين، حيث كان على عكس نموذج المفكر المنعزل، محتاجًا دومًا إلى نوع من «التوريط» في خطر التعرض للمعاناة، نظرًا لحدّة مزاجه وانفعاله الشديد.[1]
ولادة الفيلسوف المكافح من رحم المعاناة
كان مبدأه في الحياة أنّ الفيلسوف الحقّ هو الذي “يواجه الواقع الذي يعيشه”، ولمّا كان واقع حال اليوم هو استحكام البعد الصناعي التكنولوجي، كما كان يقول، فقد انصرف للاهتمام بما تفرزه ظاهرة “الصناعة والتكنولوجيا” من آثار وخيمة على الإنسانية في الفترة المعاصرة. وَسَم هذا الشكل من الاهتمام المباشر بالمجتمع حياته منذ مغادرته لصفوف الدراسة سنة 1968.[2] ثم توجّه إلى متاريس الاحتجاجات الطلابية في الحي اللاتيني بشارع غاي- لوساك، أيار/ مايو 1968. هناك رأى كيف سمح رجال الشرطة بحدوث مواجهات وقمع عنيف لطلاب الجامعات. وقد دفعه هذا الشك في وجود مؤامرة رأسمالية نحو الحزب الشيوعي الذي تركه فيما بعد، تحديدًا عام 1976، رافضًا التوجّه الستاليني الذي فرضه السياسي «جورج مارشي» (Georges Marchais»»).
في غضون ذلك، كان منغمسًا في “ثقافة الطبقة العاملة” التي كانت تنتمي إليها عائلته، حيث كان أبوه مهندسًا في التلفزيون الفرنسي وأمّه موظفة بنك، وكان ذلك في نظره جزءًا من الصراع الطبقي، حيث تكون البروليتاريا في مواجهة مع البرجوازية. بعد ذلك، اكتشف القراءة والموسيقى وتاريخ الفنّ. كان «تلفزيون الجنرال ديغول هو الذي عرّفني على أسخيلوس والمأساة اليونانية عندما كان عمري 12 عامًا»، وعندها فقط كان من الممكن للمرء أن «يكون فقيرًا ومتعلمًا» في نفس الوقت.
بعد أحداث سنة 1968، قام «برنارد ستيجلر» بمزاولة العديد من الأعمال: فكان عاملًا بسيطًا، ثمّ عاملَ مكتب، فكاتبَ تسوق في شركة معمارية، وبعد ذلك عاملًا زراعيًا، ثمّ أدار مزرعة في Lot-et-Garonne لمدة عامين حتى حدث الجفاف الكبير. وفي سنة 1976 وضع حدًا لهذه العودة إلى فِلاحة الأرض.
بعد ذلك، افتتح حانة صغيرة تقدّم عروضًا موسيقية في كدينة تولوز، حيث دعا موسيقيي الجاز إليها، وكان يعمل فيها بشكل جيّد جدًّا. كان بمثابة المكان المفضل للفيلسوف «جيرار غرانيل» (Gérard Granel) الذي استهوته أجواء هذا المقهى، وكان الأستاذ في جامعة تولوز الشغوف بموسيقى الجاز. وهكذا أصبحا أصدقاء جيدين للغاية، حيث كان «برنارد ستيجلر» يفتخر جدًا بصداقته وزياراته في مقهاه هذا.
لكن سرعان ما عرفت موارده المالية مشاكل، حيث بين عشية وضحاها، لم يعد يحق له الحصول على أيّ سحب على المكشوف من بنكه بسبب خطة «Barre»، فرفضت وكالته البنكية دفع مدخراته الخاصة به. عند هذه المرحلة تعاطى للكحول، وسرعان ما فكّر في سرقة البنك. يقول «برنارد ستيجلر»: «لقد ذهبت لسرقة أحد البنوك لتعويض السحب على المكشوف الخاص بي.. وقد نجحت». لقد «سارت الأمور بشكل جيد حقًا … تذوقتها وسرقت ثلاث وكالات أخرى» ودائمًا لوحده. لقد كان أكثر كفاءة في ذلك، ولم يكن بحاجة إلى مشاركة أحدهم.
قام «برنارد ستيجلر» برابع سطو مسلح مميت؛ وقامت دورية للشرطة باعتقاله متلبسًا. حكم عليه بارتكاب عدة عمليات سطو على البنوك، فنال عقوبة السجن خمس سنوات سنة 1978. كانت تجربة السجن منعطفًا جديدًا في حياته، فلولا السجن لكان في وضعية سيئة حقًّا. وقد بدأ حبسه الاحتياطي واستغرق فيه ثلاث سنوات، ثمّ عرف تحسّنا إلى حد ما بفضل تدخل صديقه الفيلسوف «جيرار غرانيل»، الذي حصل من قاضي التحقيق على الإذن الاستثنائي لإرسال كتب إليه.[3]
وبما أنّ «برنارد ستيجلر» لم يستسلم لمشاركة زنزانته مع سجين آخر، فقد استمر في إضرابه عن الطعام لثلاثة أسابيع، حتى نال مطلبه بالانفراد في زنزانة خاصّة. وكانت ظروف التخفيف والعزلة في منطقة الأمن المشدّدة المثمرة، حيث بدأ «يلتهم الكتب» ويقرأها بلهفة كبيرة. التحق بجامعة تولوز، واجتاز امتحان القبول بسبب عدم حصوله على البكالوريا. ومن خلال متابعة دراساته الفلسفية، جرّب مهنة التدريس، مما دفعه لمساعدة النزلاء الذين يستعدون لاجتياز البكالوريا داخل أسوار المؤسّسة السجنية.
لقاء «جاك دريدا» وبداية المسار الفلسفي
وبمجرد إطلاق سراحه من السجن، ذهب إلى مطار بلانياك، وهبط في مطار أورلي، وتوجه مباشرة إلى شارع أولم (Ulm) حيث توجد إلى المدرسة العليا، وكان ذلك المكان الرمزي نقطة تحوّله الفكري. التقى هنالك بالفيلسوف الفرنسي الشهير «جاك دريدا» (Jacques Derrida)، بعدما كتب إليه بناءً على نصيحة «جيرارد جرانيل»، وقد ردّ عليه «دريدا» مباشرة بعد أسبوع. وفي نفس السنة، أي عام 1983، تم إنشاء الكوليج الدولي للفلسفة (le Collège international de philosophie) من قبل «جان بيير شيفينمون» (Jean-Pierre Chevènement) بإشراف من «جاك دريدا». كانت انطلاقة «برنارد ستيجلر» من هناك، حيث كان يعقد ندوة فنية كل شهرين هناك عام 1984.
لقد تمت ملاحظته بفضل هذه المنصة، ومن توظيفه باحثًا في وزارة الأبحاث الفرنسية، وذلك قبل العمل في معرض «Mémoire du futur» عام 1988، تحديدًا في مركز بومبيدو. كانت الجامعة التكنولوجية في مجمّع (UTC) هي التي منحته درجة الأستاذية، غير أنّه قد تحصّل لديه انطباع بالخروج منه. وبعد ذلك، أصبح «برنارد ستيجلر» مفكّر ذائع الصيت بفضل تصوّراته النقدية للنزوع الليبرالي الجديد في الاعلام والاقتصاد. لم ينكر أفعاله الماضية، سواء في سطوه على البنك، أو في المكتبة الوطنية بباريس، حيث كان يعمل على رقمنة الكتابة منذ عام 1989.
شغل بعد ذلك منصب نائب المدير العام للمعهد الوطني السمعي البصري (INA) من سنة 1996 إلى عام 1999، وقد كان متحمسًا لفهرسة الصورة بمحتواها، وذلك قبل اتخاذ وجهة معهد البحوث والتنسيق الصوتي الموسيقي (IRCAM) في عام 2002.[4] وتمّ تعيينه عام 2006 في مركز «بومبيدو» (centre Georges-Pompidou) لتطوير التقنيات التفاعلية والفن المعاصر.[5]
كان هذا المعهد مصمم خصيصًا ليكون مرصدًا ومختبرًا لتطوير ممارسات وتقنيات ثقافية ومعرفية جديدة، في سياق الثورة الرقمية الراهنة. ومنذ ذلك الحين، حرص «برنارد ستيجلر» على الوقوف في وجه ثقافة التليفزيون، خاصة قناة TF1 التي كان رئيسها التنفيذي «باتريك لو لاي» مشتهرا بـ “تدجين العقول”. واصل «ستيجلر» تنمية استعداده للثورة ضد البلاهة التي لم تفقد لديه أيًّا من مبرّراتها السياسية؛ ولربّما هنا كانت تكمن دهشته حينما عيّنته الحكومة اليمينية في هذا المنصب.
ولما لم يجد أيّة منافسة، كفّ عن السعي والاجتهاد، حيث يبدأ يومه في حمامه بإلقاء صوت رقمي يسجل نفسه فيه، ثم يستمع اليه عندما يذهب إلى UTC بسيارته لتقديم ندوته الأسبوعية “الأساسية” في الفلسفة؛ بينما يقوم في صباح يومي السبت والأحد بتحويل سجلاته وتدويناته الأولية إلى مقالات وكتب.
في الصيف، يمكث في منزله في جزيرة «كورسيكا» ليتفرّغ للكتابة؛ وهكذا، تم نشر أربعة كتب في عام 2005، والواقع أنّه كان يكتب منذ عام 2004 بشغف أيضًا. تخلت زوجته «كارولين ستيجلر» عن مهنتها القانونية لتتفرّغ لنسخ تسجيلاته، ومن ثمّ التعاون معه في الأبحاث التي يقوم بها. وقد ركّز فكره على انعكاسات التطوّر التقني المعاصر على الثقافة الإنسانية، وعلى تحديات التغييرات الحالية – الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية – الناجمة عن التطور التكنولوجي، خاصة التقنيات الرقمية الراهنة وتأثيرها على الفكر والثقافة الإنسانية.[6]
مع ثلاثة أصدقاء فلاسفة وهم: «جورج كولينز»، «مارك كريبون»، «كاثرين بيريت» (Georges Collins, Marc Crépon et Catherine Perret) ، أنشأ «برنارد ستيجلر» موقعًا على الإنترنت يحمل عنوان (Ars Industrialis)، ويعرف بكونه «من أجل رابطة دولية لسياسة صناعية لتكنولوجيا الذهن» (association internationale pour une politique industrielle des technologies de l’esprit). تم تعيينه لمدة ثلاث سنوات كعضو في المجلس الوطني الرقمي (CNN) في يناير 2013، ثمّ أصبح عضوا في لجنة التوجيه والمستقبل لمنتدىVies Mobiles ، وهو مركز أبحاث (SNCF).
ومنذ أبريل 2013 أصبح «برنارد ستيجلر» عضوًا في المجلس العلمي للمرصد (B2V) للذاكرات، وهو عبارة عن مختبر يشارك في دراسة وتعزيز المعرفة حول أداء الذاكرة. يهدف إلى تعميق فهم الذاكرة بجميع أشكالها. وهي تتعامل بشكل خاص مع الذاكرة الفردية والذاكرة الرقمية والذاكرة الجماعية بالإضافة إلى ذاكرة الشركة باعتبارها «تراثًا غير ملموس» يؤثر على العديد من العوامل البشرية والبيئية والاقتصادية. فمن الحفاظ على الذاكرة، إلى زيادة قدرتها من خلال الوقاية من اضطرابات الذاكرة، أصبح يتيح نهجها المتعدد زيادة نطاق البحث والاكتشاف.
المشروع والتوجه الفلسفي النقدي للتقنية
يقوم التوجّه الفكري الخاصّ بـ «برنارد ستيجلر» على نقد التقنية باعتبارها اكتمالًا للميتافيزيقا الغربية.[7] وفي سبيل هذا المنحى النقدي، يعود هذا الفيلسوف إلى تحليل كيف نشأت الفلسفة اليونانية من خلال القطيعة مع التقنية باعتبارها ممارسة عملية. يقيم فرضيته في دراسة هذه المسألة على اعتبار أنّه من خلال إبعاد ما يسمّى بالمظهر الخارجي البسيط لكلّ ما هو تقني، فإنّ الفلسفة تخلق هذا الجزء الداخلي الذي يشكله الفكر، أي هذا الجسم الكامل من المعرفة الذي تحدّده.[8]
انطلاقا من هذه الفرضية، يفهم هذا الأخير كيف تم التعبير عن الفلسفة اليونانية من خلال تمييز نفسها عمّا يسمّيه أفلاطون «تيخني»، والتي استوحى منها السفسطائيون أساليبهم المراوغة.[9] لقد كان من المفترض أن لا يساهم هذا الخارج في المعرفة الكاملة للداخل، ولذلك فإنّه لا يتمتع بأي مكانة إلا باعتباره عنصرًا مساعدًا فقط. قد يستفيد الفيلسوف من التقنية (الكتابة على سبيل المثال)، غير أنّه ليس من المفترض أن تشارك التقنية في تكوين الحقيقة الفلسفية.
وهكذا، لا تحتوي التقنية على أيّ شيء أصلي أو أصيل، وإنّما هي تبقى دوما مشتقة من أصل ما؛ بالتالي، فهي مجرّد افتراض الأصل (الحياة التامة والمعرفة). يتجاوز كلّ “فكر” في التكنولوجيا، وبالضرورة، حدودا للفلسفة؛ لذلك لا يمكن لنهج “التفكير” التقني إلا أن يمسّ حواف الفكر، كما لا يمكن إلاّ أن يعرض المخططات الفلسفية للخطر.
وفقًا لهذا المنظور الفلسفي الذي يبلوره «برنارد ستيجلر» ، يجب فهم التقنية على أنّها مكوّن أنثروبولوجي، وعلى هذا الأساس فهي «ترياق» (Pharmakon)، قد ينفع وقد يضرّ في نفس الوقت. لذلك، يشارك الـ (Technicity) في الأصل في تكوين الإنساني (hominization).[10] ولهذا السبب لا يمتلك الإنسان الجوهر إلا عن طريق الصدفة.
إنّ الإنسان هو هذا الكائن الحيّ الذي له صفات فقط، خاصّة في الإضافة الأصلية للنزعة الاصطناعية الحديثة، وهنا يتبدى جوهرها من القطع الأثرية. إنّ طبيعتها في الأصل ثانوية وغير كاملة؛ وهذا هو السبب في كون «برنارد ستيجلر» يربط الفكر التقني بالعيب الأصلي الذي توضحه أسطورة بروميثيوس، أي «الشخص الذي يتأمل بعد الحقيقة». إذا كان جوهر الإنسان (وجهته وغاياته) «مصطنعًا»، فإنه دائمًا ما يكون موضوعًا للنقاش والجدال، بل وحتى الحرب: حيث لا يمكن للناس سوى أن يجادلوا حول صفاتهم. تحتوي الطبيعة الفنية للإنسان على مخاطر النزاع دائمًا، ودية كانت أو عدوانية؛ وهذا الخطر لا ينتهي.[11]
هذه هي الطريقة التي اختلق بها النزوع التقني المعاصر الطبيعة السياسية للإنسان: إذ التقنية هي مسألة جوهر الإنسان (الغايات، المقصد، الأصل: الأسئلة الفلسفية)، وكذلك السؤال السياسي (كيف نعيش معًا؟). وكان «برنارد ستيجلر» أحد الفلاسفة الفرنسيين النادرين (جنبًا إلى جنب مع «برونو لاتور» و«دومينيك بورغ») للتعامل مباشرة مع حالة الطوارئ البيئية ومخاطر انهيار الحضارة الصناعية الراهنة.[12]
حسب هذا الفيلسوف، يلزم مواجهة التغيرات المناخية الحالية بشكل آني وفعلي، وأنّه من الضروري إنشاء روابط بين الأجيال، والممرّات بين المعرفة من أجل العمل ضد حالة التبدّد الطاقي «الإنثروبيا». وقد أفضى هذا التبدّد الطاقي إلى حالة من الانهيار النظامي، ولعلّه مقياس لمعرفة مقدار تدهور وتبدد طاقات المجتمع ككل، حيث أدى النزوع التقني إلى الاحتباس الحراري، كما يواجه التضخم الإخباري الناجم عن اللوغاريتمات والبيانات الضخمة خطر الانهيار الذي يرتبط بتغوّل الليبرالية المتطرفة، وباستغلال وتدمير هذا العالم الذي باث يعمل وفقًا لـ “عقيدة الصدمة” الحقيقية.
[1]– Wikipédia, l’encyclopédie libre : https://fr.wikipedia.org/wiki/Bernard_Stiegler
[2]– Mark Hunyadi, «Le philosophe Bernard Stiegler disparaît subitement», Journal Le Temps, Publié vendredi 7 août 2020 à 19:41 ; Site web : https://www.letemps.ch/culture/philosophe-bernard-stiegler-disparait-subitement
[3]– David Zerbib, «Bernard Stiegler, philosophe de la technique au parcours atypique, est mort», Journal Le Monde, num Publié le 07 août 2020 à 21h04 – Mis à jour le 08 août 2020 à 07h53 ; Site Web : https://www.lemonde.fr/disparitions/article/2020/08/07/la-mort-de-bernard-stiegler_6048439_3382.html
[4] – Bernard Stiegler, Révolutions industrielles de la musique, collectif, Cahiers de médiologie, IRCAM, éd Fayard, 2004, pp : 15-16.
[5]– Bernard Stiegler, La télécratie contre la démocratie, éd Flammarion, Paris, 2006, pp: 16 – 17.
[6]– Bernard Stiegler, Qu’appelle-t-on penser : 1 L’immense régression; édition Les Liens qui Libèrent, édition électronique, réalisée le 17 octobre 2018, p132.
[7]– Ibid, p34.
[8]– Bernard Stiegler, La technique et le temps 2, édition Galilée, Paris, 1996, p44.
[9]– Ibid, p45.
[10] – Ibid, p.109
[11] – Bernard Stiegler, Qu’appelle-t-on penser : 1 L’immense régression; op, cit, p254.
[12] – Bernard Stiegler, La société automatique: l’Avenir du travail; édition Fayard, 2015, p85.