
لتحميل النص بصيغة pdf: عن العبقرية – شوبنهاور
ما يشير إليه على وجه الدقة اسم «العبقرية» هو القدرة السائدة على ذلك النوع من المعرفة التي وصفناها من قَبل، وهي المعرفة التي تنبثق منها كل الأعمال الفنية الأصيلة من الشعر، وحتى من الفلسفة. وبالتالي، فبما أن هذه المعرفة تتخذ المُثُل (الأفلاطونية) موضوعًا لها، وبما أن هذه المُثُل تُفهَم فقط من خلال الإدراك الحسي وليس بشكل مجرد؛ فإن ماهية العبقرية يجب أن تكمن في كمال وقدرة المعرفة الخاصة بالإدراك الحسي. وفقًا لهذا، فإن الأعمال التي وصفناها هنا بشكل قاطع بأنها من أعمال العبقرية هي تلك الأعمال التي تبدأ مباشرة من الإدراك الحسي وتحتكم إليه؛ وهكذا تكون تلك الأعمال الخاصة بالفن التشكيلي والتصويري، ثم الأعمال الشعرية، التي تحصل على إدراكاتها الحسية بعون من الخيال. وهنا أيضًا نجد أن الاختلاف بين العبقرية ومجرد الموهبة يصبح ملحوظًا. الموهبة هي جدارة تُوجَد في المعرفة الاستدلالية الدقيقة متنوعة القدرات أكثر مما تُوجَد في المعرفة الحدسية. فالشخص الذي حُبي بموهبة يفكر بدرجة من السرعة والدقة أكبر من الآخرين؛ وفي مقابل ذلك فإن العبقري يشاهد عالمًا آخرَ مختلفًا عن عالمهم جميعًا، رغم أن هذا يكون فقط من خلال النظر بعمق أكبر في هذا العالم الذي يقع أمامهم أيضًا، من حيث إن هذا العالم يكون ماثلًا في عقله على نحو أكثر موضوعية، وبالتالي بدرجة أكبر من الصفاء والجلاء.
الذهن بمقتضى مقصده هو مجرد وسيط للدوافع؛ ووفقًا لذلك فإنه لا يفهم أصلًا الأشياء إلا من حيث علاقاتها بالإرادة، المباشرة منها وغير المباشرة والمحتملة… ولذلك، فإن العقول العادية لا تتوصل إلى صورة للأشياء خالصة وموضوعية تمامًا؛ لأن قدرتها على الإدراك الحسي تصبح على الفور منهكة وخاملة بمجرد أن تتوقف الإرادة عن مواصلة تحفيزها وتحريكها؛ لأنها لا تكون لديها طاقة كافية لفهم العالم بطريقة موضوعية خالصة من خلال مرونتها الخاصة ومن دون غرض تهدف إليه. وفي مقابل ذلك، فإنه عندما يحدث هذا: أي عندما يكون هناك ذلك الفائض في قدرة المخ على تشكيل التمثلات، حتى إن الصورة الخالصة الواضحة الموضوعية للعالم الخارجي تكشف عن ذاتها من دون غرض، باعتبارها صورة تكون بلا نفع بالنسبة إلى قصديات الإرادة؛ بل إنها في واقع الأمر تكون في أسمى درجاتها مزعجة للإرادة، ويمكن حتى أن تكون مؤذية لها- عندئذ يُوجَد هناك على الأقل ذلك الميل الطبيعي نحو الشذوذ عن المألوف، وهو ما يعنيه اسم العبقريةdas Genie الذي يشير إلى شيء ما غريب على الإرادة، غريب على الأنا بالمعنى الدقيق، كما لو كانت العبقرية تأتي من الخارج لتصبح فاعلة هنا. ومع ذلك، فإننا إذا تحدثنا بدون مجاز، لقلنا: إن العبقرية تكمن في أن الملَكة العارفة فيها تكون أكثر تطورًا بدرجة ملحوظة مما يكون مطلوبًا لخدمة الإرادة، تلك الملكة التي من أجلها فقط أتت إلى الوجود. ولذلك، فإننا إذا تحدثنا على وجه الدقة، يمكننا القول بأن الفسيولوﭼﻴا يمكن أن تصنِّف هذا الفائض في نشاط المخ، ومعه المخ ذاته، باعتباره نوعًا من التشوَّهات الناجمة عن الإفراط في نمو أحد الأعضاء monstra per excessum، الذي- كما نعلم- يترافق مع التشوهات من خلال الخلل، ومن خلال الوضع الخاطئ monstra per defectum and the monstra per situm mutatum. ولذلك، فإن العبقرية تكمن في إفراط غير اعتيادي في الذهن، يصلح استخدامه فقط من خلال تطبيقه على ما هو كلّي في الوجود، حيث يكرس نفسه عندئذ في خدمة الجنس البشري في مجمله، مثلما أن العقل العادي يكرس نفسه في خدمة الفرد. ولكي نجعل الأمر مفهومًا بشكل تام، يمكننا القول: إن كان الإنسان يتألف من ثلثين من الإرادة وثلث من الذهن؛ بينما العبقرية- على العكس من ذلك- تتألف من ثلثين من الذهن وثلث من الإرادة.
إن التجلي الأول الذي يصحبه هذا الفائض في قدرة المعرفة يتبدى غالبًا في المعرفة الأكثر أصالة والجوهرية في أساسها، أعني في معرفة الإدراك الحسي (العياني) der Anschauenden، وهي المعرفة التي تؤدي إلى إعادة إنتاج هذا الإدراك في صورة متخيلة؛ ومن هذه المعرفة ينشأ المصوِّر والنحات. وإذن، فإن المسار الذي يتخذانه بدءًا من الفهم الذي يميز العبقرية حتى تحقيق الإنتاج الفني، هو أقصر مسار: ولذلك فإن الشكل الذي تتجلى فيه العبقرية ونشاطها هنا، هو أبسط الأشكال ووصفه هو أيسر ما يكون. ومع ذلك، فإنه هنا أيضًا نجد المصدر الذي ينشأ منه أصل كل الإنتاجات الأصيلة في كل فن، حتى في الشعر والفلسفة، وإن كانت الإجراء الذي يحدث في هاتين الحالتين ليس بسيطًا تمامًا.
لكن الإدراك الحسي في المقام الأول هو ما تتكشف له وتتجلى الطبيعة الحقيقة للأشياء، رغم أن هذا يظل بطريقة محدودة. كل التصورات، وكل الأشياء التي تكون موضوعًا لتفكيرنا، هي في الواقع تجريدات فحسب؛ وبالتالي فإنها تكون تمثلات جزئية مستمدة من الإدراك الحسي، ونشأت فقط من خلال الانصراف عن التفكير في شيء ما. وكل معرفة عميقة، وحتى الحكمة بمعناها الصحيح، تكون متأصلة في الفهم الإدراكي الحسي [أي العياني] إن الفهم الإدراكي الحسي كان دائمًا هو الفهم الذي يتلقى فيه كل عمل فني أصيل، وكل فكرة خالدة، شرارة الحياة. وكل فكر أصيل وأوَّلي يحدث في صور تشكيلية. وفي مقابل ذلك، فمن التصورات aus Begriffen تنشأ الأعمال التي أنتجتها مجرد الموهبة، فهي مجرد الأفكار العقلانية، مجرد أشكال من المحاكاة، بل هي في واقع الأمر كل ما يتم حسبانه فقط على أساس من الاحتياج الراهن والأحوال المعاصرة.
ولكن إذا كان إدراكنا الحسي مرتبطًا دائمًا بالحضور الواقعي للأشياء؛ فإن وسيطه المادي عندئذ سيكون برمته تحت إمرة المصادفة، التي نادرًا ما تُنتِج الأشياء في الوقت الصحيح، ونادرًا ما تُرتِّبها بشكل لائق، وغالبًا ما تقدمها لنا في نُسِخ مَعيبة. ولهذا السبب، فإن الخيال Phantasie يكون مطلوبًا لكي يُكمِل، ويُرتِّب، ويُضفِي اللمسات الأخيرة، ويحفظ، ويعيد بشكل ممتع كل صور الحياة ذات المغزى، وفقًا لأهداف المعرفة الثاقبة بعمق والأعمال الفنية ذات الدلالة، ولما يُراد توصيله من خلال هذه الأعمال. وعلى هذا تقوم القيمة العليا للخيال باعتباره أداة لا غنى عنها للعبقرية. لذلك فإنه فقط بفضل الخيال يمكن للعبقرية أن تستحضر كل موضوع أو حدث في صورة متخيلة نابضة بالحياة، وفقًا للمتطلبات والارتباطات التي تقتضيها أعمالها في فن التصوير والشعر أو التفكير؛ وبذلك فإنها دائمًا ما تستمد غذاءها الطازج من المصدر الأصيل لكل معرفة، أي من الإدراك الحسي. إن المرء الذي وُهِب القدرة على الخيال يكون قادرًا- إن جاز القول- على استحضار الأرواح التي توحي إليه في الوقت الصحيح بالحقائق التي يعرضها الواقع العاري للأشياء، فقط بطريقة خافتة وبشكل نادر، وغالبًا في الوقت الخاطئ. ولذلك فإن المرء الذي يفتقر إلى الخيال يكون ارتباطه بالشخص ذي الخيال أشبه بارتباط “بلح البحر” المربوط بصخرته- متحينًا ما تجود به المصادفة- بالحركة المتحررة، بل حتى بالحيوان المجنح. ذلك أن هذا المرء لا يعرف إدراكًا حسيًّا آخر سوى الإدراك الحسي المرتبط بالحواس؛ وإلى أن يأتي هذا الإدراك، فإنه يقتات على التصورات والتجريدات التي هي مع ذلك مجرد محار وقشور بذور، وليست هي لب المعرفة. وهو لن يحقق أبدًا أي شيء عظيم، ما لم يكن في الحساب والرياضيات. إن أعمال الفنون التشكيلية والتصويرية وأعمال الشعر، وكذلك أعمال المحاكاة التمثيلية، يمكن أن يَنظُر إليها أولئك الذين يفتقرون إلى الخيال باعتبارها وسائل لتجميل هذا العيب في إنتاجهم بقدر الإمكان، ويمكن للذين وُهِبوا الخيال أن يسهلوا لهم استخدامها.
وهكذا، فرغم أن نوع المعرفة الخاصة والضرورية بالنسبة إلى العبقرية هي المعرفة الخاصة بالإدراك الحسي، إلا أن الموضوع الخاص بهذه المعرفة لا يتألف على الإطلاق من الأشياء الجزئية، وإنما يتألف من المُثُل (الأفلاطونية) التي تتجلى في هذه الأشياء. إن رؤية الكلي في الجزئي هو دائمًا على وجه التحديد الطابع الأساسي المميز للعبقرية، بينما الشخص العادي يتعرف في الجزئي فقط على الجزئي بما هو كذلك؛ لأنه بما هو جزئي ينتمي إلى الواقع الذي فيه وحده يجد هذا الشخص اهتماماته، ومن ثم صلاته بإرادته. إن الدرجة التي بها يكون كل شخص قادرًا لا فحسب على أن يتصور، وإنما أيضًا على أن يدرك حسيًّا بالفعل أن الشيء الجزئي يُوجَد فقط فيما يكون جزئيًّا؛ أو يدرك بدرجة أكبر أو أقل الكلي وصولًا إلى إدراك الأكثر كليةً في النوع- هو مقياس مدى اقترابه من العبقرية. ووفقًا لهذا، فإنه فقط الطبيعة الجوهرية للأشياء، أي ما هو عام فيها، أي الكلي- هو الموضوع الخاص بالعبقرية. أما البحث في الظواهر الفردية فهو مجال المواهب، في العلوم الواقعية، والتي يكون موضوعها الخاص دائمًا هو فحسب علاقات الأشياء بعضها ببعض.
إن ما سبق أن بيَّناه باستفاضة، أعني أن فهم المُثُل يكون مشروطًا بأن يكون الشخص العارف ذاتًا عارفة خالصة، أي مشروطًا بتلاشي الإرادة تمامًا من الوعي؛ هو أمر يجب أن نستحضره في عقلنا هنا. فالمتعة التي تُحدِثها فينا أغاني جوته التي تجلب المشهد الطبيعي أمام أعيننا؛ أو رسومات ﭼﺍن باول للطبيعة، إنما تقوم على أننا نشارك بذلك في موضوعية تلك العقول، أعني نشارك في حالة النقاء التي فيها يتبدى عالم التمثل لديهم باعتباره منفصلًا عن الإرادة، وكما لوكان قد خلَّص ذاته منها. إن نوع المعرفة الخاصة بالعبقرية هي بالضرورة معرفة تم تنقيتها من كل إرادة وعلاقاتها، ويترتب على هذا أيضًا أن أعمال العبقرية لا تنشأ عن قصد أو مصادفة، ولكن تكون موجهة هنا بنوع من الضرورة الغريزية. ما يُسمَّى بصحوة العبقرية، أي ساعة استلهامها، لحظة الإلهام، ليست شيئًا آخر سوى بلوغ التحرر بواسطة الذهن حينما يتخلص لحظيًّا من خدمته للإرادة، إنه لا يستغرق في الخمول أو اللامبالاة، وإنما يكون نشيطًا لفترة قصيرة، بمفرده فحسب ومن تلقاء نفسه. والذهن عندئذ يكون في أنقى صورة، ويصبح المرآة الصافية للعالم؛ وبما أنه يكون قد فصل نفسه تمامًا عن منشئه، أي عن الإرادة، فإنه يصبح الآن العالم بوصفه تمثلًا الذي يكون هو ذاته مكثفًا في وعي واحد. وفي تلك اللحظات تُولَد أرواح الأعمال الخالدة. وفي مقابل ذلك، فإنه في حالة التأمل القصدي، لا يكون الذهن حرًا؛ لأن الإرادة في واقع الأمر توجه الذهن، وتحدد موضوعه الأساسي.
إن طابع الابتذال، أي التعبير عن السوقية، الذي يكون مطبوعًا على مُحيّا الغالبية العظمى من الناس، يكمن في الحقيقة في أن مسلكهم يصبح مرئيًّا فيه خضوع معرفتهم بشكل صارم لإرادتهم، وفي السلسلة المُحكَمَة التي تربط الإثنين معًا، وفيما يترتب على ذلك من استحالة فهم الأشياء بطريقة أخرى بخلاف صلتها بالإرادة وأهدافها. في مقابل ذلك، فإن تعبير العبقرية، الذي يشكل التشابه العائلي الواضح لدى كل الناس الموهوبين بدرجة عالية، يكمن في أننا نقرأ بوضوح في هذا التعبير تحرر الذهن، أي العِتق من خدمة الإرادة، وسيادة المعرفة على المشيئة. ولأن كل قلق ينشأ من الإرادة، بينما كل معرفة في مقابل ذلك تكون في حد ذاتها وبذاتها بلا ألم ومُطمَئنة؛ فإن هذا يضفي على جباههم الشامخة، ونظرتهم الإدراكية الصافية التي لا تكون خاضعة للإرادة واحتياجاتها، تلك الطلة التي تتسم بسكينة بالغة كما لو كانت خارقة للطبيعة ولا دنيوية؛ وهي طلة تتخللها وترافقها أحيانًا كآبة ترسم ملامح أخرى على مُحيَّاهم، وخاصةً في الفم؛ على نحو يمكن معه وصف هذا الأمر بلياقة وفقًا لكناية ﭼيوردانو برونو: “مُشرُق الوجه في الحزن، حزين في إشراق الوجه” In tristitia hilaris, in hiaritate tristis.
الإرادة التي هي منشأ الذهن تعارض كل نشاط للذهن يكون موجًّهًا نحو أي شيء آخر سوى أهدافها. ولذلك، فإن الذهن يكون قادرًا على الفهم الموضوعي الخالص والعميق للعالم الخارجي، فقط عندما يكون قد فَصَل نفسه لحظيًّا على الأقل عن هذا المنشأ. وما دام الذهن يبقى مربوطًا بالإرادة، فإنه يكون عاجزًا تمامًا بوسائله الخاصة عن أي نشاط، وإنما ينام في حالة من الإغماء متى كانت الإرادة (أي الاهتمامات) لا توقظه وتحركه. ولكن إذا حدثت هذه اليقظة، فإن الذهن يكون في واقع الأمر مهيئًا تمامًا للتعرف على علاقات الأشياء وفقًا لاهتمامات الإرادة، بما أن العقل الحصيف يجب أن يظل دائمًا متيقظًا، أي باعتباره عقلًا مستثارًا على نحو نشط بالمشيئة؛ وإن كان لهذا السبب عينه يكون عاجزًا عن فهم الطبيعة الموضوعية الخالصة للأشياء. ذلك أن المشيئة والأهداف تجعل هذا العقل ذا بعد واحد، بحيث يرى في الأشياء ما يرتبط فقط بهذه المشيئة والأهداف، بينما كل شيء آخر إما أن يختفي أو يُدخِل الوعي في صورة مزيفة. وعلى سبيل المثال، فإن المسافر الذي يكون قلقًا وفي عجلة من أمره سوف يرى نهر الراين وضفتيه فقط كخط طولي أو جرة قلم، وسيرى الجسر الذي يعتليه فقط كخط عرضي يقطع هذا الخط الطولي. وفي عقل الشخص الممتلئ بأهدافه الخاصة، سوف يبدو العالم مثلما يبدو مشهد طبيعي جميل على مخطط ساحة معركة. ولا شك أن هذه حالات متطرفة قد اتخذناها من أجل التوضيح؛ ولكن حتى كل استثارة طفيفة للإرادة سوف ينتُج عنها تزييف للمعرفة طفيف وإن كان مشابهًا على الدوام. إن العالم يمكن أن يبدو بلونه وصورته الحقيقيين، وفي دلالته التامة والصحيحة، فقط عندما يصبح الذهن- وقد تخلص من المشيئة- قادرًا على أن يتنقل بحُرِّية عبر الموضوعات، ويكون نشطًا بطاقة حيوية ولكن من دون أن يكون مدفوعًا بالإرادة. وهذا بالتأكيد يكون على الضد من طبيعة الذهن وتحدده؛ وبالتالي يكون إلى حد ما شاذًا؛ ولهذا السبب فإنه يكون نادرًا للغاية؛ ولكن في هذا على وجه التحديد تكمن الطبيعة الحقيقية للعبقرية؛ وفي هذا وحده تحدث تلك الحالة بدرجة عالية ولوقت معين، أما فيما عدا ذلك فإنها تظهر بشكل تقريبي واستثنائي. وبذلك، فإن الشخص العادي يكون مستغرقًا في دوامة وجلبة الحياة التي ينتمي إليها من خلال إرادته؛ إذ إن ذهنه يكون ممتلئًا بأشياء وأحداث الحياة، ولكنه لا يعرف هذه الأشياء ولا الحياة ذاتها من حيث دلالتها الموضوعية، مَثَله مَثَل التاجر عند تبديل العملة في امستردام يسمع ما يقوله الشخص الذي بجواره ويفهمه تمامًا، ولكنه لا يسمع على الإطلاق الرنين المتواصل للعملة كلها، والذي يشبه هدير أمواج البحر، وهو ما يثير دهشة الشخص الملاحظ الذي يلاحظ ذلك فقط عن بعد. وفي مقابل ذلك، فإن ذهن العبقري يكون منفصلًا عن إرادته، ومن ثم عن الشخص نفسه؛ فما يشغل هؤلاء لا يحجب عنه العالم والأشياء ذاتها؛ وهو- على العكس من ذلك- يصبح واعيًا بها في وضوح، ويفهمها في ذاتها وبذاتها من خلال الإدراك الحسي الموضوعي؛ وبهذا المعنى فإنه يكون ممارسًا للتأمل الانعكاسي.
فعل التأمل الانعكاسي (reflectiveness) Besonnenheit هو ما يمَّكِّن المصوِّر من أن يعيد بصدق إنتاج الطبيعة على نسيج اللوحة أمام أعيننا؛ ويُمكِّن الشاعر من أن يستدعي مجددًا بدقة- مستعينًا بالتصورات المجردة- المُدرَك بشكل عياني من خلال التعبير عنه، ومن ثم جلبه إلى الوعي في وضوح؛ وكذلك التعبير من خلال الكلمات عن كل شيء يشعر الآخرون به فحسب. الحيوان يعيش من دون أي تأمل انعكاسي. إنه لديه وعي، أعني أنه يعرف نفسه ويعرف يُسرَه وعُسرَه، ويعرف أيضًا الموضوعات التي تصاحب ذلك. ولكن معرفته تظل ذاتية، ولا تصبح أبدًا موضوعية؛ فكل ما يَرِد على هذه المعرفة يبدو له أمرًا طبيعيًّا؛ ولذلك لا يمكن أبدًا أن يصبح قضية للتناول (أي موضوعًا للعرض) أو يمثل مشكلةً (أي موضوعًا للتأمل). ذلك أن وعيه يكون بذلك محايثًا immanent بكليته. وبطبيعة الحال، فإن الوعي لدى النمط الشائع من الإنسان لا يكون من هذا النوع نفسه، ومع ذلك فإنه يكون من طبيعة لها صلة قرابة؛ إذ إن فهمه للأشياء وللعالم يكون أيضًا ذاتيًّا بشكل أساسي ويظل محايثًا بشكل غالب. فهو يفهم الأشياء في العالم، لا العالم نفسه؛ ويفهم فعله الخاص ومعاناته، لا الفعل والمعاناة ذاتيهما. وإذن، فحيث إن تميُّز الوعي يتصاعد بدرجات لا تُحصى، فإن فعل التأمل الانعكاسي يظهر بشكل متزايد؛ وبذلك النحو يحدث شيئًا فشيئًا- أحيانًا وإن كان نادرًا، ومرة أخرى من خلال درجات بالغة الاختلاف- ذلك السؤال الذي يمر من خلال العقل كومضة: “ماذا يكون كل ذلك؟” أو: “كيف يتشكل حقًّا؟”. السؤال الأول، إذا ما بلغ وضوحًا كبيرًا وحضورًا متواصلًا، سوف يصنع الفيلسوف؛ والسؤال الثاني – تحت الظروف نفسها- سوف يصنع الفنان أو الشاعر. ولذلك فإن استدعاء هذين السؤالين بقوة يكون متأصلًا في فعل التأمل الانعكاسي الذي ينبثق ابتداءً من الوضوح الذي يكونون به على وعي بالعالم وبأنفسهم، وهكذا يتأملون ذلك تأملًا انعكاسيًّا. ولكن هذه العملية في مجملها تنشأ من قدر الزيادة التي يحرر بها الذهن نفسه لحين من الوقت من الإرادة التي كان في الأصل خاضعًا لها.
هذه التأملات المتعلقة بالعبقرية المقدمة هنا، هي تأملات مترابطة تتعلق بالانفصال الشاسع دومًا بين الإرادة والذهن، والذي يكون ملحوظًا في مجمل سلسلة الوجود. وهذا يبلغ أقصى درجة في العبقرية تحديدًا، حيث يصل إلى حالة الانفصال التام للذهن عن منشئه، أي عن الإرادة، حتى إن الذهن يصبح هنا حرًا تمامًا، وبذلك فإن العالم بوصفه تمثُّلًا die Welt als Vorstellung يبلغ ابتداءً تحققه الموضوعي التام.
نُبدِي الآن ملاحظات إضافية قليلة تتعلق بالطابع الفردي في العبقرية. وفقًا لشيشرون Cicero (Tusc., I, 33) فإن أرسطو قد لاحظ من قبل أن كل العباقرة مكتئبون omnes ingeniosos melanchollicos esse، ويقول جوته أيضًا:
جذوتي الشعرية كانت ضئيلة
طالما كنت إزاء خير عميم؛
بينما كانت لهيبًا متوهجًا،
حينما كنت أفر من سوء مُقيم.
بيت الشعر رقيق مثل قوس قزح
يُرسَم فحسب على خلفية قاتمة،
فعبقرية الشاعر تستطيب
المِزاج الكئيب.
… ومع ذلك، فبوجه عام نجد أن المِزاج الاكتئابي المصاحب للعبقرية يقوم على أنه كلما كان الذهن الذي يضيء إرادة الحياة أكثر إشراقًا، كان أكثر وضوحًا في إدراكه الحسي لبؤس حالها. إن الميل الاكتئابي لدى العقول الموهوبة بدرجة عالية، قد لوحظ في أحيان كثيرة أنها يُرمز لها بجبل مونت بلاك الذي تكون قمته غالبًا مختفية في السحب؛ ولكن عندما يحدث أحيانًا، خاصةً في الصباح الباكر، أن يتشقق حجاب السحب ويتبدى عندئذ أسفله وادي شامِيني Chamonix* من ارتفاعه السماوي فوق السحب؛ عندئذ يشكل هذا مشهدًا يستثير بعمق بالغ مشاعر كل امرئ. كذلك فإن العبقري، الذي يكون غالبًا ذا مزاج اكتئابي، يكشف أحيانًا عن ذلك الطابع من السكينة التي وصفناها من قبل، والتي يمكن تحققها فيه وحده، وتنبثق من موضوعية عقله في أكمل صورها. إنها تنتشر كوميض ضوء مُشِّع فوق جبينه الشامخ، فهو مُشرق الوجه في الحزن، حزين في إشراق الوجه.
كل المُلهوجين فيما يُنتجِون، إنما يكونون كذلك لأن ذهنهم في النهاية لا يزال مربوطًا بإحكام بإرادتهم، فهم يصبحون فاعلين فقط عندما يكونون مُستحَثين بالإرادة؛ ولذلك فإنهم يَبْقون بكليتهم في خدمتها. وعلى هذا، فإنهم يكونون قادرين فقط على اقتفاء أهدافهم الخاصة. ووفقًا لمسلكهم هذا، فإنهم ينتجون لوحات سيئة، وقصائد شعرية تافهة، ضحلة، سخيفة، وفي الأغلب الأعم سفسطات فلسفية غير أمينة، حينما يكون اهتمامهم هو أن يُزَّكوا أنفسهم لدى السلطات الأعلى من خلال مراوغة خادعة. ولذلك فإن كل أفكارهم وأفعالهم تكون شخصية، وهم ينجحون على الأكثر في اختلاس الأساليب المصطنعة المتمثلة فيما يكون خارجيًّا وعارضًا وتعسفيًّا في الأعمال الأصيلة للآخرين، وهم بمسلكهم هذا يتخذون المحارة بدلًا من اللب، ومع ذلك يظنون أنهم بذلك قد بلغوا كل شيء، بل تجاوزا حتى تلك الأعمال. ومع ذلك، فإذا كان الفشل ظاهرًا للعيان؛ فإن الكثيرين منهم يأملون في أن يبلغوا النجاح في النهاية من خلال نواياهم الخيرة. ولكن هذه الإرادة الخيرة تحديدَا هي ما يجعل هذا مستحيلًا؛ حيث إنها تقتفي أهدافًا شخصية؛ ومع هذه الأهداف الشخصية لا يمكن أبدًا لفن أو شعر أو فلسفة أن يؤخذ مأخذ الجد. ولذلك فإن التعبير الذي ينطبق بوجه خاص على هؤلاء الناس هو: “إنهم يعملون ضد صالحهم”sie stehn sich selbst im Lichte (they stand in their own light). فهم ليس لديهم أية فكرة عن أن الذهن المتحرر من سيادة الإرادة ومن كل مشاريعها، ومن ثم الذي يكون ناشطًا بحرية- هو وحده ما يكون قادرًا على الإنتاجات الأصيلة؛ لأنه وحده الذي يمنح الجدية، ويكون فيه خيرًا لهم، وإلا فإنهم سوف يلقون بأنفسهم إلى التهلكة. في الأخلاقية تكون الإرادة الخيرة der gute Wille هي كل شيء، أما في الفن فهي لا شيء على الإطلاق؛ ذلك أن كلمة “فن” Kunst تدل أصلًا على ما يكون ناتجًا وحده عن “القدرة” können. وهذا كله يتعلق في النهاية بالسؤال عن مناط الجدية الفعلية للمرء. إن هذه الجدية لدى جميع الناس تقريبًا تكمن على وجه الحصر في رفاهتهم ورفاهة أُسَرِهم؛ ولذلك فإن يكونون في وضع بحيث يسعون إلى الارتقاء بهذه الرفاهة ولا شيء آخر،… ولذلك، فإن الناس النادرين وغير العاديين إلى أبعد حد، الذين لا تكمن جديتهم الحقيقية فيما هو شخصي وعملي، وإنما فيما هو موضوعي ونظري- هم وحدهم من يكونون في وضع يمَّكِّنهم من فهم العنصر الجوهري في الأشياء وفي العالم، ومن ثم فهم الحقائق العليا، وإلى حد ما إعادة إنتاجها. ذلك أن جدية الفرد هذه تكمن في شيء يقع خارجه فيما هو موضوعي، أي في شيء ما دخيل على الطبيعة البشرية، شيء ما غير طبيعي، أو على وجه الدقة فائق للطبيعة؛ ولكن فقط من خلاله يكون المرء عظيمًا، وبالتالي فإن ما ينتجه ويبدعه يُعزَى إذن إلى عبقرية مختلفة عنه نفسه، فهي تستحوذ عليه. وبالنسبة إلى هذا المرء، فإن فنه في التصوير أو شعره أو تفكيره يكون غايةً، أما بالنسبة إلى الآخرين فإنه يكون وسيلة. فهؤلاء الآخرون يتطلعون بذلك إلى مصلحتهم الخاصة، وهم بوجه عام يعرفون كيف يعززونها؛ لأنهم يتملقون معاصريهم، ويكونون على استعداد لخدمة حاجاتهم وأهوائهم؛ ولذلك فإنهم يعيشون عادةً في أحوال سعيدة، بينما العبقري يعيش غالبًا في أحوال بائسة للغاية. لأنه يضحي برفاهته الشخصية من أجل الغاية الموضوعية، فهو لا يستطيع أن يفعل بخلاف ذلك، لأنه في ذلك تكمن جديته. وهم يفعلون عكس ذلك؛ ولذلك فإنهم يكونون صغارًا، بينما هو يكون كبيرًا. وبالتالي، فإن عمله يكون لكل الأزمنة ولكل العصور، ولكن الاعتراف به يأتي عادةً مع الأجيال القادمة، بينما هم يعيشون ويموتون في زمنهم.* وبوجه عام، فإن مَن يكون عظيمًا هو وحده مَن لا يبحث عن اهتماماته الشخصية في عمله، سواء كان عملًا عمليًّا أو نظريًّا؛ فهو يقتفي فقط غايةً موضوعية؛ ومع ذلك فإنه يكون على ذلك النحو أيضًا حتى عندما يُساء فهم ذلك في المجال العملي، وحتى عندما يترتب على هذا أن يُعد ذلك جريمة. فما يجعله عظيمًا في كل الأحوال هو كونه لا يبحث عن نفسه واهتماماته الخاصة. وفي مقابل ذلك، فإن كل فعل أو جهد موَجَّه لغايات أو اهداف شخصية يكون تافهًا…
العبقرية هي جزاؤها الخاص؛ لأن الأفضلية التي يكون عليها المرء، هي أن المرء بالضرورة يكون كذلك من أجل نفسه. “فمَن يُولَد موهوبًا بموهبة ما، يجد فيها وجوده الأكثر انصافًا”، كما يقول جوته. فعندما نتأمل إنسانًا عظيمًا من زمن سابق، فإننا لا نفكر في “كم هو محظوظ لكونه لا يزال موضع إعجابنا جميعًا”، وإنما نفكر في “كم كان محظوظًا بسبب المتعة المباشرة التي جلبها لعقل ما، بما خلَّفَّه من آثار حية تمتعت بها القرون”. فليس في الشهرة تكمن القيمة، وإنما في ذلك الذي يمكن بلوغه؛ وفي إنتاج الأطفال الخالدين [أي العباقرة]* تكمن المتعة. ولذلك فإن أولئك الذين يحاولون البرهنة على لا معقولية الشهرة بعد الموت على أساس أن من يحصل على هذه الشهرة لا يعرف شيئًا عنها، يمكن مقارنته موقفهم بموقف المتعالم الذي يحاول بحِكمة بالغة أن يبرهن للشخص الذي يُلْقِي نظرات حاسدة على ركام المحارات البحرية في فناء جاره، بأن يبين له أنها لا جدوى منها على الإطلاق.
وفقًا للعرض الذي قدمناه عن الطبيعة الحقيقية للعبقرية، فإنها حتى الآن تعد على الضد من الطبيعة؛ حيث إنها تكمن في أن الذهن- الذي تكون وجهته الحقيقية هي خدمة الإرادة- يحرر نفسه من خدمة الإرادة كي يكون فاعلًا من تلقاء نفسه. وبالتالي، فإن العبقرية هي الذهن الذي أصبح غير مخلص لوجهته؛ وعلى هذا تقوم الأضرار التي تلحق به. وسوف نمهد الطريق الآن إلى تأمل هذه الأضرار من خلال مقارنة العبقرية بالسيادة الحاسمة للذهن.
ذهن الإنسان العادي- الذي يكون مربوطًا بخدمة الإرادة، وبذلك يكون منشغلًا فقط بتلقي الدوافع والتصرف وفقًا لها- يمكن النظر إليه باعتباره نظامًا معقدًا من الأسلاك التي بواسطة كل منها يتم تحريك الدُمَى على خشبة مسرح العالم. ومن هذا تنشأ الجدية الوقورة التي لا روح فيها لدى معظم الناس، والتي لا تفوقها سوى الجدية لدى الحيوانات التي لا تضحك أبدًا. وفي مقابل ذلك، فإن العبقري- بذهنه الطليق- يمكن تشبيهه بالشخص الحي الذي يساير اللعب وسط الدُمى الكبيرة في عرض الدُمى الشهير بمدينة ميلانو. فهذا الشخص سيكون هو الوحيد من بين هذه الدُمى الذي يُدرك كل شيء، ولذلك فإنه سوف يتخلى عن خشبة المسرح لمدة قصيرة كي يستمتع بالمسرحية من الكواليس؛ وهذا هو فعل التأمل الانعكاسي للعبقرية. ولكن حتى الشخص فائق الذكاء والعقلانية، الذي يمكن أن نسميه تقريبًا بالحكيم، يكون مختلفًا تمامًا عن العبقري، بل هو في واقع الأمر يكون كذلك لأن ذهنه يحتفظ بنزوع عملي. فهو يكون مهتمًا باختيار أفضل الغايات والوسائل؛ ولذلك فإنه يَبقَى في خدمة الإرادة؛ وبالتالي فإنه يكون منشغلًا حقًّا بالطبيعة ومتوافقًا تمامًا معها. إن جدية الحياة الصارمة العملية، التي وصفها الرومان بالوقار gravitas، تفترض مسبقًا أن الذهن لا يتخلى عن خدمة الإرادة، لكي يتسكَّع وراء ذلك الذي لا يهم الإرادة؛ ولذلك فإن هذه الجدية لا تسمح بأي انفصال بين الإرادة والذهن، وهو الانفصال الذي يعد شرطًا للعبقرية… وحيثما يتم فك الارتباط بين الذهن والإرادة، فإن الذهن- الذي تحول عن وجهته الطبيعية- سوف يهمل خدمة الإرادة؛ وعلى سبيل المثال فإنه حتى في لحظة الحاجة الطارئة سيظل باقيًا على تحرره، وربما لا يكون لديه اختيار آخر سوى فهم محيطه وفقًا للانطباع التصويري الذي يروق لخياله، حتى إنه قد لا ينتبه إلى الخطر الذي يهدد المرء من بين الأشياء المحيطة به. وفي مقابل ذلك، فإن ذهن المرء المتسم بالعقلانية والقدرة على فهم الأمور يكون دائمًا على عهده، موجَّهًا نحو الظروف المحيطة ومتطلباتها. ولذلك، فإن مثل هذا المرء في كل الأحوال سوف يقرر ما يكون ملائمًا للحالة التي هو بصددها ويقوم بتنفيذه؛ وبالتالي فإنه لن يقع مطلقًا في تلك السلوكيات الشاذة، والزلات الشخصية، بل الحماقات، التي يتعرض لها العبقري بسبب أن ذهنه لا يبقى حصريًّا موجِّهًا لإرادته وحارسًا لها، وإنما يكون- بدرجة أكبر أحيانًا، وأقل أحيانًا أخرى- منشغلًا تمامًا بما هو موضوعي بشكل خالص. ومن خلال التضاد بين شخصيتي تاسو Tasso وأنطونيو Antonio قدم لنا جوته إيضاحًا للتضاد القائم بين هذين النوعين المختلفين من القدرة الذين نصفهما هنا بطريقة مجردة. إن القرابة التي غالبًا ما نلاحظها بين العبقرية والجنون تقوم أساسًا على أن انفصال الذهن عن الإرادة يكون هو ذاته أمرًا جوهريًّا بالنسبة إلى العبقرية، ولكنه يكون على الضد من الطبيعة. ولكن هذا الانفصال ذاته لا يُعزَى على الإطلاق إلى أن شدة الإرادة في العبقرية تكون أقل حدة، إذ إنها بالأحرى تتميز بطابع الحدة والانفعال الجياش؛ وعلى العكس من ذلك، فإن هذا الانفصال ينبغي تفسيره على أساس أن الإنسان الذي يكون متميزًا من الناحية العملية- إنسان الأفعال- يكون لديه مجرد القدر التام والإجمالي للذهن المطلوب لإرادة مليئة بالطاقة بينما معظم الناس يفتقرون إلى ذلك؛ غير أن العبقرية تكمن في ذهن يكون شاذًا تمامًا ومُفرِطًا بالفعل، وهو ما لا يكون مطلوبًا لخدمة أية إرادة. ولهذا السبب، فإن الأعمال الأصيلة للناس تزيد ندرتها ألف مرة على أفعال الناس. وهذا الإفراط الشاذ في الذهن والذي بفضله يبلغ الرجحان الحاسم لكَفَّته، هو تحديدًا ما يحرر الذهن من الإرادة، ناسيًا مَنشأه، وفاعلًا بمقتضى قوته ومرونته الخاصة به. ومن هذا تنشأ إبداعات العبقرية.
إضافة إلى ذلك، فإن العبقرية تكمن في عمل الذهن الحر، أعني الذهن الذي تحرر من خدمة الإرادة؛ ونتيجة لتلك الحقيقة ذاتها فإن إنتاجات العبقرية لا تخدم أي غرض نافع. إن عمل العبقرية قد يكون موسيقى أو فلسفة أو فن تصوير أو شعر؛ فهو ليس شيء ما من أجل الانتفاع. وكونها بلا منفعة وبلا فائدة من ورائها هي إحدى السمات المميزة لأعمال العبقرية، فهي براءة اختراع النبالة. وكل الأعمال البشرية الأخرى تُوجَد فقط من أجل حفظ وجودنا أو تيسيره؛ وفقط أولئك الذين نتحدث عنهم هنا لا يكونون على هذا النحو، فهم وحدهم يُوجَدون لأجل حسابهم الخاص، وينبغي النظر إليهم بهذا المعنى باعتبارهم زهرة الوجود أو فائدته الخالصة. ولذلك، فإن قلبنا يبتهج باستمتاعه بأعمالهم؛ لأننا نعلو فوق المجال الدنيوي الثقيل من الحاجة والعوز. فضلًا عن ذلك، فإنه مما يناظر ذلك أننا نادرًا ما نرى الجميل متحدًا مع النافع. الأشجار الشاهقة الجميلة لا تحمل ثمارًا، والأشجار المثمرة قصيرة، قبيحة ومتقزمة. وحديقة الأزهار العامرة لا تكون مثمرة، بينما الزهور الصغيرة البرية- التي غالبًا ما تكون بلا رائحة ذكية- تكون مثمرة. وأجمل المباني ليست أنفعها؛ فالمعبد ليس بيتًا للسُّكْنى. والشخص الموهوب بمواهب ذهنية رفيعة ونادرة الذي يكون مضطرًا إلى أن يعكف على مجرد مهمة نافعة من المهام التي تلائم الشخص العادي تمامًا، إنما يكون أشبه بزُهرية غالية الثمن مزَّيّْنة بأجمل لوحة، تُستخدَم كإناء من أواني المطبخ؛ وإن مقارنة الناس النافعين بالعباقرة لهو أشبه بمقارنة حجارة المباني بالماس.
وهكذا، فإن الإنسان الذي يكون عمليًّا فحسب، يستخدم ذهنه من أجل ذلك الذي تكون الطبيعة قد وجهته إليه، أعني من أجل فهم العلاقات، بعضها بالنسبة إلى بعض حينًا، وبالنسبة إلى إرادة الفرد العارف حينًا آخر. وفي مقابل ذلك، فإن العبقري يستخدم ذهنه على الضد من وجهته، من أجل فهم الطبيعة الموضوعية للأشياء. ولذلك، فإن عقله لا ينتمي إليه هو نفسه، وإنما ينتمي إلى العالم، إلى الإنارة التي سوف يسهم بها بمعنى ما. ومن هذا ينبثق حشد الأضرار التي لا بد أن تَلْحَق بالفرد الذي حُبِىَ بالعبقرية. وبوجه عام، فإن ذهنه سوف تتبدى فيه تلك الأخطاء التي عادةً ما تظهَر في كل أداة تُستخدَم في غير الغرض الذي صُنِعَت من أجله. وفي المقام الأول، فإن الذهن سيكون خادمًا لسيدين، إن جاز التعبير؛ حيث إنه في كل فرصة يحرر ذاته من خدمة الحفاظ على وجهته، لكي يتَّبع غاياته الخاصة؛ وبذلك النحو فإنه يتخلى بطريقة غير ملائمة عن الإرادة في وقت الشدة؛ ومن ثم فإن الفرد الموهوب بتلك الموهبة يصبح إلى حد ما بلا نفع في الحياة؛ وهو في واقع الأمر بسلوكه هذا يذكرنا أحيانًا بالجنون. ثم إن الذهن بفضل قدرته على المعرفة فائقة التطور، سوف يرى في الأشياء الكلي أكثر مما يرى الجزئي، بينما خدمة الإرادة تتطلب أساسًا الجزئي. ولكن أيضًا عندما يحدث أحيانًا لمجمل هذه القدرة على المعرفة غير العادية وفائقة التطور أن توجِّه ذاتها فجأة بكل طاقتها لشؤون الإرادة وتعاساتها؛ فإنه سيكون على استعداد لفهم هذه الأمور في صورة بالغة الحيوية، وسوف يشاهد كل شيء في ألوان ساطعة للغاية، وفي ضوء بالغ الإشراق، وفي صورة متطرفة بشكل مخيف، وبذلك النحو فإن الفرد يقع في مجرد موقف متطرف. التالي يمكن أن يعيننا على تفسير هذا الأمر بدرجة أكبر. كل الإنجازات النظرية الكبرى- أيًّا كان نوعها- تُوجَد بفضل توجيه مؤلِّفها لكل قوى عقله نحو نقطة واحدة؛ فهو عند هذه النقطة يجعل هذه القوى متحدة ويركزها بشدة وبقوة وبشكل حصري تمامًا، حتى إن مجمل بقية العالم يتلاشى بالنسبة إليه، والموضوع الذي يشغله يملأ الواقع. هذا التركيز الكبير والقوي الذي يشكِّل إحدى مزايا العبقرية، هو ما يتبدى لها أحيانًا حتى في حالة موضوعات الواقع وأحداث الحياة اليومية، وهي الموضوعات التي يتم جلبها في نطاق هذا التركيز، فيتم عندئذ تكبيرها إلى ذلك الحد الرهيب الذي تظهر فيه مثل برغوث قد اتخذ تحت المجهر الشمسي قامة الفيل. ومن ثم، فإنه ينشأ عن هذا أن الأفراد الموهوبين بشكل فائق تثير فيهم أحيانًا توافه الأمور انفعالات عنيفة من أكثر الأنواع تباينًا، وهي الانفعالات التي تكون غير مفهومة بالنسبة إلى الآخرين الذين يرون هؤلاء الأفراد مأخوذين بحالة من الحزن أو البهجة أو الهم أو الخوف أو الغضب، وما إلى ذلك، مما لا يحرك ساكنًا لدى الإنسان المألوف في الحياة اليومية. وبذلك، فإن العبقري إذن يفتقر إلى الرزانة die Nüchternheit (soberness) التي تكمن ببساطة في ألا يرى المرء في الأشياء شيئًا أكثر مما ينتمي إليها، خاصةً فيما يتعلق بغاياتنا الممكنة؛ ولذلك فإنه لا يمكن لشخص رزين أن يكون عبقريًّا. ومع الأضرار التي ذكرناها العديد منها الآن، فإنه يصحبها أيضًا قابلية الإحساس بدرجة عالية التي يجلبها الجهاز العصبي والمخي المتطور بشكل فائق للمعتاد، بل نراها في واقع الأمر مصحوبة بتوقد المشيئة وشدة انفعالاتها، التي تكشف بالتأكيد عن طابع مميز للعبقرية، والتي تتجلى بدنيًّا باعتبارها طاقة في نبض القلب. ومن هذا كله ينشأ بسهولة بالغة ذلك الإفراط في الميل، وتلك الشدة في الانفعالات، وذلك التغير السريع في المزاج الذي يسوده الاكتئاب، والذي قدمه لنا جوته في شخصية تاسو. وليس هناك وجه للمقارنة بين الحصافة والرصانة الهادئة واليقين التام ولياقة السلوك مما يبديه الإنسان العادي المهيأ تمامًا للحياة اليومية، وبين ذلك الشرود الذهني الحالم والاستغراق في التأمل حينًا، والاستثارة الانفعالية القوية حينًا آخر، مما يميز العبقري الذي يكون أساه الباطني هو رَحِم الأم الذي فيه تنشأ الأعمال الخالدة! ويجب أن نضيف أيضًا إلى هذا كله أن العبقري يعيش بالضرورة وحيدًا. فمن النادر جدًا أن يكون قادرًا على أن يجد شبيهه بسهولة، وهو يكون مختلفًا تمامًا عن بقية الناس بحيث لا يمكن أن يصاحبهم. فما يسودهم هو المشيئة، وما يسوده هو المعرفة؛ ولذلك فإن متعهم ليست مُتَعهِ، ومُتَعه ليست مُتَعهم. إنهم مجرد موجودات أخلاقية، لهم مجرد علاقات شخصية؛ وهو في الوقت ذاته ذهنًا خالصًا، وبذلك فإنه ينتمي إلى البشرية في مجملها. إن مسار فكر الذهن الذي انفصل عن تُربَته الأم، والتي يعود إليها على فترات، سرعان ما سيبدو مختلفًا تمامًا عن مسار الفكر عند الإنسان العادي، وإن كان يظل متشبثًا بالجذع. ولهذا السبب، وبناءً على تباين القدرات أيضًا؛ فإن الناس العاديين يكونون غير مهيأين للتفكير، أعني أنهم بوجه عام يكونون عير مهيأين للحوار مع الآخرين؛ فهم سيجدون متعة ضئيلة في صحبته وتفوقه الطاغي مثلما يجد متعة ضئيلة في صحبتهم. ولذلك فإنهم سوف يشعرون بمزيد من الارتياح مع نظرائهم، وهو سوف يفضل الاستمتاع بصحبة نظرائه، على الرغم من أن هذا بوجه عام يكون ممكنًا فقط من خلال الأعمال التي خلفوها من ورائهم. ولذلك، فإن شامفر Chamfort كان على صواب حينما يقول: “قليل هي الرذائل التي تَحوْل دون أن يكون للمرء أصدقاء عديدين، بقدر ما يَحوْل دون ذلك امتلاك المرء لخصائص عظيمة للغاية”. إن أسعد حظ يمكن أن يكون من نصيب العبقري هو أن يتحرر من الفعل الذي لا ينتمي إلى طبيعته المزاجية، وأن يكون لديه وقت الفراغ لأجل الإنتاج. ويترتب على هذا كله أن العبقرية وإن كانت تنعم كثيرًا على مَنْ أُوْتي هذا الحظ، بتلك الساعات التي يمرح فيها به بسلاسة حينما يكون متفرغًا لها؛ إلا أن هذا لا يكفل له تحصيل مسار سعيد في الحياة؛ بل العكس هو الصحيح. وهذا أيضًا ما تؤكده الخبرة المدونة في الترَاجِم. إضافة إلى ذلك، فإن هناك أيضًا تنافرًا خارجيًّا يحدث هنا؛ لأن العبقري- في جهوده وإنجازاته ذاتها- يكون غالبًا في حالة تناقض وتضارب مع عصره. فالناس الذين يكونون مجرد أناس موهوبين يأتون دائمًا في الوقت الصحيح؛ لأنهم يأتون إلى الوجود مُستحَّثين بروح عصرهم وحاجاته، ويكونون قادرين فحسب على إشباعها. ولذلك فإنهم يسيرون يدًا في يد مع الثقافة التقدمية لمعاصريهم أو مع التطور التدريجي لعلم معين: ولهذا ينالون الجزاء والرضا. ولكن بالنسبة إلى الجيل التالي لم تعد أعمالهم ممتعة؛ إذ يجب أن تحل مَحلَّها أعمال أخرى، لا تكون بدورها دائمة. وفي مقابل ذلك، فإن العبقري يبرز في عصره كنجم مذنب يخترق مسار الكواكب، يكون مساره اللامركزي دخيلًا على مسارات هذه الكواكب المنتظمة بشكل جيد ولها نظام شامل. وبالتالي فإن العبقري لا يمكن أن يسير يدًا بيد مع المسار المنتظم الموجود في ثقافة العصر، بل يدفع بأعماله بعيدًا في مقدمة المسار (مثلما الإمبراطور الذي يُسلٍم نفسه للموت حينما يدفع برمحه بين صفوف العدو)، وهو الوقت الذي يكون فيه قد تخطى ابتداءً هذه الأعمال. إن علاقته بالموهوبين الذين بلغوا الذُرا في عصره، يمكن التعبير عنها بكلمات المبشِّر الإنجيلي التالية: “وقتي لم يحن بعد، لكن وقتك جاهز دائمًا”** (John vii, 6). الموهبة قادرة على أن تحقق ما يتجاوز قدرة الآخرين على تحقيقه، لا ما يتجاوز قدرة الآخرين على فهمه؛ ولذلك فإنها تجد على الفور من يقدرونها. وفي مقابل ذلك، فإن إنجازات العبقري لا تتجاوز فحسب قدرة الآخرين على الإنجاز، وإنما أيضًا قدرتهم على الفهم؛ ولذلك فإنهم لا يصبحون مباشرةً على وعي بهذا الإنجاز. المرء الموهوب يشبه بطل الرماية الذي يصيب تمامًا الهدف الذي لا يمكن أن يصيبه الآخرون، بينما العبقري يشبه بطل الرماية الذي يصيب الهدف الذي لا يمكن للآخرين حتى أن يروه. ولذلك فإن هؤلاء الآخرين يحصلون على معلومات عن العبقري فقط بطريقة غير مباشرة، وهكذا يحصلون عليها متأخرين، وهم حتى يقبلونها فقط في ثقة وإيمان. ولهذا يقول جوته في إحدى رسائله: “المحاكاة مفطورة فينا، وما يكون موضوعًا للمحاكاة لا يمكن التعرف عليه بسهولة. ومن النادر أن يُوجَد الممتاز، والأكثر ندرة أن يتم تقديره”. ويقول شامفور: “تستوي قيمة الناس إن كانت قيمة من الماس الذي يكون سعره ثابتًا ومحددًا وفقًا لقدر معين من الحجم والنقاء وكمال الشكل؛ ولكن ما يتجاوز هذا القدر يكون بلا ثمن ولا يجد مشترين على الإطلاق”. وقد عبر بيكون أيضًا عن ذلك بقوله: “إن أدنى الفضائل يتلقاها العوام بالتصفيق، والفضائل الوسطى يتلقونها بالإعجاب، أما الفضائل العليا فلا تلقى عندهم أي تقدير” (De Augm, Sec. L. vi., c. 3). والحقيقة أن المرء ربما يردد قائلًا: هذا فيما بين العوام! .apud vulgus! “. ولكني يجب إذن أن أدعمه مستعينًا بتأكيد ميكيافيللي على ذلك بقوله: “ليس هناك شيء آخر في العالم سوى المُبْتَذَل”. ويلاحظ تيلو Thilo أيضًا (في كتابه: عن الشهرة Über den Ruhm) أنه يُوجَد هناك القطيع المبتذل بأكثر مما يعتقد كل واحد منا. ويترتب على هذا التعرف المتأخر على أعمال العبقري أنها نادرًا ما يستمتع بها معاصروه، وبالتالي فإنها من خلال لون متجدد يمنحه تعاصريتها وحضورها، تصبح عندهم موضوعًا لاستمتاعهم بدرجة أكبر، مثل التين والبلح الذي يستلذونه عندما يصبح جافًا أكثر مما يكون طازجًا.
وأخيرًا، فإننا إذا تأملنا الآن العبقرية من زاوية جسدية؛ فإننا نجدها مشروطة بخصائص تشريحية وفسيولوﭼﻴﺔ عديدة، نادرًا ما تكون حاضرة بشكل فردي على أكمل وجه، فضلًا عن أنها نادرًا ما تكون مكتملة معًا؛ ومع ذلك فإن كلًا منها يكون مطلوبًا بشكل لا غنى عنه، وهذا يفسر لنا السبب في أن العبقرية باعتبارها حالة منعزلة تمامًا، واستثناءً عجيبًا. الشرط الأساسي هو السيادة اللاطبيعية لقدرة الإحساس على القابلية للتأثر والقدرة التناسلية، والواقع أن ما يجعل المسألة أكثر صعوبة هو أن هذا يجب أن يحدث في بدن الذكر. (فالنساء يمكن أن يكون لديهن موهبة، ولكن ليس لديهن عبقرية؛ لأنهن دائمًا ما يبقين ذاتيات). وبالمثل فإن الجهاز المخي يجب أن يكون منفصلًا بشكل تام عن جهاز العُقَد [الضفائر] العصبية من خلال انعزال تام، حتى إنه يكون على تعارض تام معه، وبذلك فإن المخ يواصل حياته المتطفلة على الجسم العضوي الحي بطريقة محددة ومنفصلة ومستقلة للغاية. وهو بشكل طبيعي سوف يكون له تأثير عدائي على بقية الجسم العضوي الحي، وهو من خلال حياته الارتقائية ونشاطه الذي لا يهدأ سوف يُوهِن هذا الجسم قبل أوانه، ما لم يكن هذا الجسم لديه أيضًا قوة حيوية مليئة بالطاقة وقوي البنية؛ ولذلك فإن هذا الجسم أيضًا يعد أحد الشروط. والواقع أنه حتى المعدة السليمة تكون شرطًا، بسبب التوافق الخاص والوثيق لهذا الجزء من الجسم مع المخ. ولكن بشكل أساسي يجب أن يكون المخ على درجة فائقة من التطور وضخامة الحجم، خصوصًا من حيث الاتساع والارتفاع. وفي مقابل ذلك، فإن عمقه سيكون أقل، كما أن نسبة الجهاز المخي ستكون لها الأرجحية الفائقة قياسًا على نسبة المخيخ. ومن دون شك، فإن هناك الكثير مما يعتمد على هيئة وتشكيل المخ في كليته وفي أجزائه؛ ولكن معرفتنا حتى الآن ليست كافية لكي نحدد هذا بدقة، رغم أننا نتعرف بسهولة على شكل الجمجمة التي تُنتِج ذكاءً أصيلًا وساميًّا. كما أن نسيج كتلة المخ يجب أن يكون على درجة قصوى من اللياقة والكمال، ويتكون من خلاصة المادة الكيميائية الأكثر نقاءً وتركيزًا وحساسية وقابلية للاستثارة؛ ومن المؤكد أن المقدار الكمي للمادة البيضاء بالنسبة إلى المادة الرمادية يكون له تأثير حاسم هنا، وإن كنا هنا أيضًا غير قادرين حتى الآن على قياس ذلك. ومع ذلك، فإن التقرير التشريحي لفحص جثمان بيرون يذكر أن حالته تبيِّن أن مساحة المادة البيضاء كانت ضخمة بشكل غير اعتيادي بالنسبة إلى المادة الرمادية، وأن وزن مخه بلغ ستة أرطال. وقد بلغ وزن مخ كوفييه Cuvier خمسة أرطال؛ بينما الوزن العادي هو ثلاثة أرطال. وعلى الضد من رجحان كفة المخ، فإن الحبل الشوكي والأعصاب يجب أن يكونوا ذا قوام نحيل. والجمجمة جميلة التقويس، المرتفعة، والعريضة، رقيقة العظم، يجب أن تحمي المخ دون أن تكون على الإطلاق قابضة عليه. إن مجمل هذه الخاصية للمخ والجهاز العصبي تكون موروثة عن الأم. ولكن هذه الخاصية غير كافية تمامًا لإنتاج ظاهرة العبقرية، ما لم ينضاف إليها موروثًا من الأب خاص بمزاج حيوي قوي الانفعالات، يتجلى بدنيًّا باعتباره طاقة غير اعتيادية في القلب؛ وبالتالي باعتباره طاقة في الدورة الدموية، خاصةً المتجهة نحو الرأس. ذلك أننا نجد في المقام الأول أن التوسع في الحجم الذي يخص المخ، والذي بسببه يضغط المخ على جدرانه، هو ما يؤدي إلى ازدياد حجم المخ؛ ولذلك فإنه يتسرب من أي فتحة في هذه الجدران التي يحدث أحيانًا أن تُصاب في حادثة ما؛ ونحن نجد في المقام الثاني أن المخ يتلقى من خلال القوة اللازمة للقلب تلك الحركة الباطنية التي تكون مختلفة عن حركته الدائمة في الصعود والهبوط مع كل نَفَسْ، والتي تكمن في ارتجاج مجمل كتلته مع كل نبض في الشرايين المخية الأربعة، والتي يجب أن تكون الطاقة المتولدة عنها متناظرة مع المقدار الكمي المتزايد للمخ هنا، حيث إن هذه الحركة تعد بوجه عام شرطًا ضروريًّا لنشاط المخ. ولهذا السبب، فإن القامة القصيرة، وبوجه خاص الرقبة القصيرة، يكونان أيضًا مفضلين للقيام بهذا نشاط؛ لأنه من خلال المسار القصير يصل الدم إلى المخ بطاقة أكبر؛ ولذلك فإن العقول الكبيرة نادرًا ما يكون لها جسم ضخم. ومع ذلك، فإن هذا القصر في المسافة لا يكون شرطًا لازمًا؛ فجوته- على سبيل المثال- كان ذا طول أعلى من المعدل المتوسط. ومع ذلك، فإذا افتُقِد الشرط الكلي المرتبط بالدورة الدموية، والذي يأتي بالتالي من الأب؛ فإن الخاصية الجيدة للذهن التي تأتي من الأم سوف تُنتِج على الأكثر إنسانًا موهوبًا. ومن بين أخوين تكون هناك عبقرية في واحد منهما فقط، وهذا الواحد يكون بوجه عام هو الأكبر سنًا، كما في حالة كانط على سبيل المثال؛ وهذا الأمر يمكن تفسيره في المقام الأول فقط على أساس أنه عندما وُلِد كان أبوه في سن القوة والعواطف القوية، رغم أن الشرط الآخر المتأصل في الأم يمكن أن يَفسَد بفعل ظروف غير مستحبة.
وينبغي أن أضيف هنا ملاحظة خاصة عن الطابع شبه الطفولي المميز للعبقرية، أعني بناءً على نوع من التشابه الذي يُوجَد بين العبقرية وسِن الطفولة. ففي الطفولة، مثلما في العبقرية، تَرجَح بشكل حاسم كفة الجهازين المخي والعصبي؛ لأن تطورهما يُسرِع متقدمًا كثيرًا على بقية الجسم العضوي، حتى إنه في سن السابعة يكون المخ قد بلغ كامل اتساعه وكتلته… وفي مقابل ذلك، فإن تطور الجهاز التناسلي يبدأ متأخرًا، وفقط في سن الرجولة تكون القابلية للاستثارة، والتناسل، والوظيفة الجنسية، في كامل قوتها، وعندئذ تكون لها بوجه عام السيطرة على وظيفة المخ. وعلى هذا يمكن تفسير السبب في أن الأطفال يكونون بوجه عام حساسين للغاية، وعقلانيين، ومتحمسين لاكتساب المعرفة، وقادرين على التعلم بسهولة، وهم في واقع الأمر يكونون إجمالًا أكثر ميلًا وأهليةً لكل المهام النظرية من الناس الراشدين. وهكذا فإنهم نتيجة لهذه العملية من التطور يكون لديهم من العقل أكثر مما لديهم من الإرادة، أعني أكثر من الميول، والرغبة، والشَغَف. ذلك أن الذهن والمخ هما شيء واحد، وكذلك يكون الجهاز التناسلي متماثلًا مع كل الرغبات المشبوبة: ولذلك فقد سميت هذا الجهاز بؤرة الإرادة. وبالضبط لأن هذا النشاط الرهيب لهذا الجهاز لا يزال في حالة سُبات، بينما الجهاز الخاص بالمخ يكون من قبل في حالة حركة نشطة؛ فإن الطفولة هي زمن البراءة والسعادة، إنها جَنَّة الحياة، جَنَّة عدن المفقودة التي نظل نرنو إليها من ورائنا متشوِّفين طيلة المسار المتبقي من حياتنا كله. لكن أساس تلك السعادة هو أن مجمل وجودنا في الطفولة يكمن في المعرفة أكثر مما يكمن في المشيئة- وهي حالة يدعمها من الخارج جِدَة كل الموضوعات. وهكذا فإنه في إشراق صباح الحياة يتبدى العالم أمامنا في صورة نضرة تمامًا، ساطعة للغاية، وجذابة جدًا. فالرغبات الضئيلة، والميول الضعيفة، والهموم العابرة في الطفولة تبدو فقط كقوة توازن واهية بالنسبة إلى تلك السيادة لنشاط المعرفة. إن النظرة البريئة الصافية للأطفال، التي حينما نطالعها ننتَعِش، والتي تبلغ في حالات معينة مستوى التعبير التأملي الجليل الذي زيَّن به رفائيل Raphael وجوه أطفاله الملائكة في لوحاته- هي أمر يمكن تفسيره على أساس ما قلناه. وبالتالي، فإن القوى الذهنية تتطور بشكل أسبق من تطور الحاجات التي تصبح هذه القوى موجهة لخدمتها، وهنا- مثلما هو الأمر في كل مكان- تَشرَع الطبيعة في عملها على النحو الملائم تمامًا. ذلك أنه في هذه الفترة التي يَسُود فيها الذكاء، يجمَع المرء مخزونًا كبيرًا من المعرفة لأجل حاجات المستقبل التي ما زالت حتى ذلك الوقت غريبة عليه. ولذلك فإن ذهنه الآن يكون نشيطًا بلا توقف على الدوام، ويفهم بحماس بالغ كل الظواهر، ويطيل التأمل فيها، ويخزِّنها بعناية من أجل الزمن القادم؛ مثَلَه في ذلك مَثَل النحلة التي تجمَع من العسل أكثر كثيرًا مما تستطيع أن تستهلكه، توقعًا لحاجات مستقبلية. ومن المؤكد أن ما يُحصِّله المرء من خلال البصيرة والمعرفة حتى سن الاحتلام يُعَّد- إذا نظرنا إليه في مجمله- أكثر من كل ما يتعلمه فيما بعد، مهما أصبح متعلمًا؛ لأنه يكون أساس كل معرفة بشرية. وإلى أن يحين ذلك الوقت نفسه، فإن اللدونة تسود في بدن الطفل، وفيما بعد تنتقل قواها- من خلال الانتقال التمددي للخلايا Metastase (metastasis)- إلى جهاز التناسل. وبذلك النحو تظهر الدافعية الجنسية مع سن الاحتلام، وسوف يكون لها اليد العليا تدريجيًّأ. إن الطفولة- التي يسودها الطابع النظري والرغبة الحماسية في التعلُّم- تصبح بعدئذ متبوعة بفترة الشباب التي لا تهدأ، وتكون حينًا عاصفة، وحينًا تكون متهورة، وحينًا آخر تكون مكدَّرة واكتئابية؛ تنتقل فيما بعد إلى سن الرجولة المفعم بالقوة والعزيمة. وبالضبط لأن تلك الدافعية – الحُبْلى بالشر- تكون مفتقدة في الطفل؛ فإن مشيئته تكون متواضعة وخاضعة للمعرفة، حيث إن ذلك الطابع ينشأ من البراءة والذكاء والعقلانية، وهي الصفات الخاصة بسن الطفولة. وأكاد لا أكون في حاجة لقول إضافي هنا عما يقوم عليه التشابه بين الطفولة والعبقرية: فهذا التشابه يُلتَمَس في زيادة قوى المعرفة على حاجات الإرادة، وفي سيادة نشاط المعرفة الخالصة التي تنبثق من ذلك. والواقع أن كل طفل يكون عبقريًّا إلى حد ما، وكل عبقري يكون طفلًا إلى حد ما. الصلة بين الإثنين تتجلى أساسًا في حالة السذاجة والبساطة الجليلة التي هي طابع أساسي مميز للعبقرية الحقيقية؛ وبجانب هذا فإن هذه الصلة تظهر في سمات عديدة، بحيث يمكن القول بأن هناك حالة طفولية معينة تنتمي بالتأكيد إلى الطابع المميز للعبقرية…ويُروَى أن هردر Herder وآخرين وجدوا عيبًا في جوته، قائلين إنه كان دائمًا أشبه بطفل كبير؛ وهم بالتأكيد كانوا على صواب فيما قالوه، ولكنهم فقط كانوا على خطأ فيما وجدوه عيبًا فيه. ولقد قيل أيضًا عن موتسارتMozart إنه قد ظل طفلًا طيلة حياته.. ويذكر شليشتجرول Schlichtegroll في الكتاب التذكاري عن الموتى حديثًا من العظماء: “في فنه أصبح رجلًا في وقت مبكر من عمره، ولكن في كل الجوانب الأخر ظل دائمًا طفلًا”. ولذلك، فإن كل عبقري هو بالفعل طفل كبير؛ فهو يمعن النظر في العالم كما يمعن النظر في شيء ما غريب ودخيل عليه، أي كمسرحية، وبذلك فإنه يمعن النظر فيه باهتمام موضوعي خالص. وبالتالي، فإنه تمامًا مثل الطفل، لا تكون لديه تلك الرزانة الرتيبة والجدية التي تكون لدى الناس العاديين الذين لايقدرون إلا على الاهتمامات الذاتية، ويرون دائمًا في الأشياء مجرد دوافع لأفعالهم. ومَنْ لم يظل إلى حد ما طيلة حياته طفلًا كبيرًا، وأصبح امرأً جادًا رزينًا، رابط الجأش وعقلانيًّا تمامًا، هو شخص يمكن أن يكون مواطنًا نافعًا ومؤهَّلًا لهذا العالم؛ ولكنه لن يكون أبدًا عبقريًّا. والواقع أن العبقري يكون كذلك من خلال تلك السيادة للجهاز الحاس ونشاط المعرفة، التي تعد أمرًا طبيعيًّا بالنسبة إلى سن الطفولة، وتؤكد ذاتها في نفسه بطريقة غير معتادة طيلة حياته كلها، وبذلك تصبح طبيعة دائمة فيه….
إن سيادة الجهاز العصبي المخي والذكاء عند الأطفال الذي نتأمله هنا، بجانب تدهوره في المرحلة الأكثر نضجًا، هو أمر يمكن أن نجد مثالًا واضحًا مهمًا عليه في أن نوع الحيوانات الأقرب إلى الإنسان، وهو القِرَدة، تُوجَد فيه هذه الصلة نفسها بدرجة مدهشة. وبالتدريج أصبح من المؤكد أن القِرَدة العليا orang-utan بالغة الذكاء هي إنسان غاب صغير junger Pongo، فهو عندما يكبر يفقد الطابع المميز للنظرة الإنسانية التي تنطبع على مُحيَّاه، ويفقد كذلك ذكاءه المدهش؛ لأن الجزء الأدنى والحيواني من وجهه يزداد حجمه، وجبهته تنحسر إلى الوراء، وعُرف الديك الكبير الدال على النمو العضلي يمنح الجمجمة هيئة حيوانية، ونشاط الجهاز العصبي يتلاشى، وتنمو بدلًا منه قوة عضلية خارقة للعادة، وهي القوة التي بينما تكون ضرورية لحفظ نوعه الحيواني، فإنها تجعل أي ذكاء كبير في هذا النوع أمرًا زائدًا عن الحاجة. ومن المهم بوجه خاص ما قاله كوﭬييه F. Cuvier …:”إن حفظ النوع يكون مشروطًا بالخصائص العقلانية بالقدر ذاته بالضبط الذي يكون به مشروطًا بالخصائص العضوية”. وهذه العبارة الأخيرة تؤكد المبدأ الأساسي عندي وهو أن الذهن- مثل المخالب والأسنان- ليس شيئًا سوى أداة لأجل خدمة الإرادة.
* وادي يقع شرق فرنسا أسفل جبل مونت بلاك، وهو منتجع للرياضات الشتوية، وكان مقرًا للأولمبياد الشتوية سنة 1924. (المترجم)
* وكأن شوينهاور يتحدث هنا أيضًا عن نفسه. ولعلنا نتذكر هنا سيرة حياته الشخصية حينما لقى كتابه العمدة هذا الإهمال التام حتى إن الناشر قد اضطر إلى بيعه كأوراق مهملة، وحينما كتب في آواخر حياته كتابه “الحواشي والبواقي” كتعقيبات عامة على فلسفته وكشروح مبسطة لها، فنال الكتاب رواجًا هائلًا، وذاع صيت شوبنهاور ونال شهرة هائلة، ولذلك قال تعليقًا على موقف معاصريه من فلسفته: بعدما مضى المرء حياته في إهمال، جاءوا في النهاية بالطبول والأبواق. وحينما اقتربت منيته سُئِل عن المكان الذي يريد أن يُدفَن فيه، فقال قولته الشهيرة: لا يهم المكان، فسوف تجدني الأجيال. (المترجم)
* إضافة شارحة من جانبنا. (المترجم)
** نقلًا عن ترجمة E. F. Payne للعبارة الواردة في النص الألماني باللغة اليونانية القديمة. (المترجم)
المصدر: Die Welt als Wille und Vorstellung