مقالات

حَتْميات التاريخ وتَفَاعيل الزمان – كريم الصياد

المكان والزمان

نحن نحيا في نسيج من الزمان والمكان. كذا تفيد النظريات العلمية، وكذا يفيد حدسُنا المباشر. نحن نتحرك في مجال من طول وعرض وعمق، هو المكان، ونقطعه في مدة ما، هي الزمان، ولهذا يمكن أن نحسب السرعة والتسارع. ونظرًا لذلك لا يمكن لنا في الطبيعة فصل المكان عن الزمان؛ فأينما، وأيّان كنتَ، كنتَ في مكان، ومرَ عليكَ زمانٌ. لا يمكن في كوننا الطبيعي الملموس المحسوس أن يوجَد جسم ما في مكان فقط، أو زمان فحسب. ولكننا في تصوراتنا العقلية ندرك بعض الظواهر منزوعة الزمان، أي في مكان دون زمان، أو بالعكس: منزوعة المكان، أي في زمان نقيّ.

تأمّل مثلاً اللوحة الفنية، وحاول أن تضعها في منظور زماني. إنها ليست كالفيلم؛ ليستْ تتابعًا معينًا من الصور المتحركة. إنها ظاهرة مكانية بحتة. صحيح أنكَ تدركها في زمان، وفي مكان، وصحيح أن اللوحة المادّية موجودة في مكان، وفي زمان كأي شيء، ولكن “موضوعها” مجرد من الزمان، كما اتضح في المقارنة السابقة بين الرسوم الساكنة، والرسوم المتحركة. ولهذا ندركها في لحظة واحدة، بنظرة واحدة. حتى حين نتأملها بعمق، ونستغرق زمنًا في هذا، فنحن الذين استغرقنا هذا الزمن، أما الرسام نفسه فيراها بنظرة كلية لا تستغرق زمنًا، وأما موضوعها ذاته فيقع كله في لحظة واحدة.

وتأمّل في المقابل مقطوعة موسيقية. هي كذلك تحدث -من حيث وقوعها المادي كموجات صوت- في زمان ومكان، ولذلك لها سرعة محددة، لكنها من حيث موضوعها ظاهرة زمانية محضة؛ فهي غير ذات مكان. لا يمكنك أن تدرك القطعة الموسيقية بنظرة واحدة، بل لا يمكنك أصلاً أن تنظر لها، وإنما يمكنك فقط أن تتابع السماع، وأن تربط –في ذاكرتك- بين ما تسمعه الآن، وبين ما سمعته منذ بداية القطعة.

وهذا الفصل بين الزمان والمكان، الذي يتم في التصور العقلي، لا الطبيعة، ليس كذلك مخالفًا للحدس المباشر. نحن لا نتساءل عادة عن (الزمان الذي تستغرقه اللوحة الفنية)، ولا عن (مكان هذه القطعة الموسيقية). لم نسمع سؤالاً كهذا: ما سرعة لوحة الموناليزا؟ ولا سؤالاً كذلك: أين تحدث سيمفونية بيتهوفن التاسعة؟ والسبب أن الموناليزا لا زمان لها، وأن السيمفونية التاسعة لا توجد في مكان. فما لا سرعة له، لازمان له، وما لا موقع له، لا مكان له. ومن هنا أمكن قول الفيلسوف الألماني لسنج Lessing أن الفن التشكيلي، كالتصوير والعمارة والتخطيط العمراني والبستنة، فن مكاني، وأن الموسيقى في المقابل فن زماني.[1] وهو أساس التصنيف البُعْدي للفنون dimensional على أية حال. ويمكن القول بصفة عامة أن تقسيم الأبعاد، وتفصيلها، كان المنوال الأساسي، الذي عليه نُسجَتْ الفلسفة الألمانية الحديثة بداية من كانط بالدرجة الأكبر من الوضوح.

ولكن السؤال بعد كل ذلك هو: هل توجد موسيقى أميَل في تأليفها للمكان عن الزمان، أو العكس؟ وما عناصر الفن، التي أدت به إلى أن يكون مكانيًا، أو زمانيًا؟

موسيقى المكان ولوحة الزمان

من القضايا المفتوحة إلى الآن في البحوث الموسيقية العربية قضية تعدد الأصوات: البوليفونية، أي سماع أكثر من نغمة في وقت واحد، وهو الهارموني، أي التآلف، أو سماع أكثر من لحن في الآن نفسه، وهو الكونترابنط، أي التعارض اللحني. لماذا تخلو الموسيقى العربية في عمومها من كليهما؟ ولماذا حضر كلاهما في الموسيقى الغربية الكلاسيكية؟ ومتى حدث هذا؟ وهل سار نوعا الموسيقى، العربية، والغربية، في المسار نفسه، ثم وقع افتراق ما بينهما؟ ولماذا؟ وإلامَ أدّى ذلك؟

لقد قلنا في التقدمة أن الموسيقى عمومًا فن زماني بالدرجة الأولى، وهو رأي متفق عليه تقريبًا، ويتوافق والحدس المباشر البسيط كما أكّدنا. ولكن حين نسمع في الآن الواحد ثلاث نغمات مختلفة مثلاً: دو.. مي.. صول، فإننا تلقائيًا، وذهنيًا، نتخيل مكانًا ما، تترابط فيه هذه النغمات في نظام معين، هو نظام التآلف الموسيقي. وليس عليك أن تكون ملمًّا بأسس نظرية الهارموني، أو حتى عموميات نظرية الموسيقى، كي تفهم ذلك. فكلما وُجدَ شيئان مختلفان في الطبيعة، كالنغمات المختلفة مثلاً، في آنٍ واحد، كلما تصورنا مكانًا ما، نفهم من خلاله علاقاتها الداخلية، ولماذا وجدت هذه النغمات معًا دون غيرها؟ وماذا ينتج عن ذلك؟ كالرسم الهندسي، الذي يخطط العلاقات الداخلية لهذا التركيب، الذي ندعوه بالتآلف. وهو ما أطلقنا عليه ذات مرة: “ظاهرة إنتاج المكان في الموسيقى”.[2] إن الموسيقى، وهي فن زماني خالص، يمكنها أن تُنتج لدينا تصورًا تجريديًا عن المكان، وذلك لخاصية مهمة فيها، هي إمكانية إحداث “التزامُن” synchrony، أي وقوع حدثين في وقت واحد. وهذا التزامن ناتج عن البوليفونية بنوعيها: الهارموني، والكونترابنط.

وتقوم السينما بالعكس: فهي تقوم أولاً على مشهد ثابت، لوحة معينة، ولكنها حين تنضاف إلى غيرها من اللوحات المتتابعة بعلاقات معينة، نستشعر فيها الحركة، كأنها حية، وبالتالي تُنتج لدينا تصورًا عن الزمان. نتصور لها زمانًا ما، هو زمن حدوث الدراما المرئية، الذي تترابط فيه لوحاتها. ليس في السينما فحسب، بل كذلك في المسرح، والأوبرا، وكذلك في الروية. إن وصف مشهد ما في بداية الرواية، وطبيعة الشخوص إلخ، ينتج عنه تصور مكاني، لم يحدث فيه شيء بعد، ولكننا حين نتابع القراءة تتحرك تلك المشاهد والشخوص بخيوط خفية، فنتخيل سينما معينة. إن الرواية سينما غير مرئية، والسينما رواية مرئية. أما في الشعر الخالص،[3] في الشعر غير الدرامي، أي الذي لا يتضمن قصة معينة، فنحن نقرأ معانيَ محددة، ولا نتصورها جارية في تسلسل ما، ولهذا فالشعر فن مكاني من حيث الموضوع، واختلافه عن اللوحة هو اختلاف الكلمة عن الجسد، اختلاف المجرَّد عن المجسَّد. وبين الموسيقى والرواية والسينما من جهة، وبين اللوحة والعمارة والقصيدة من جهة أخرى فارق مهم فيما سبق: هو زمانية الفن، ومكانيته. وهذا الفارق تبدّى في أنواع الفنون السائدة في كل حضارة.

حضارة المكان وحضارة الزمان

إننا نلاحظ أنّ العرب قد برعوا في الشعر، أكثر بكثير مما برعوا في الرواية، حين نقيس على مستوى الامتداد التاريخي الكلي للحضارة العربية. وفي المقابل نلاحظ براعة الغرب في فنون السرد والدراما والمسرح منذ الإغريق حتى اليوم. إن العقلية العربية عقلية مكانية إن جاز التعبير، في مقابل العقلية الغربية، التي هي زمانية بشكل ما. ولهذا ليس من الغريب أن يُقارَن القرآن بالشعر، وأنْ ينفي عن نفسه أن يكون شعرًا، في مقابل الطبيعة الدرامية للعهدين القديم والجديد. وبرغم أن الديانات الثلاث الإبراهيمية الكبرى: اليهودية، والمسيحية، والإسلام، سامية الأصل من حيث نشأتها، فهي لم تنتشر بالتوزيع النوعي نفسه من حيث ارتقائها. انتشر الإسلام في بلاد العرب، وعلى مستوى العقلية العربية، في حين احتضنت العقليةُ الغربية التراث اليهودي-المسيحي.

وهو فارق بين عقلية مكانية-شعرية، وعقلية زمانية-درامية. وهو فارق يتعلق كما هو واضح بالتوزيع النوعي المركَّب للفنون؛ فقد ظهر كل من هذه الفنون لدى العرب والغرب، ولكن ليس بالدرجة نفسها من الانتشار الأفقي-الجغرافي، ولا بالمقدار نفسه من العمق الرأسي-التاريخي. أيْ أن الشعر ظل لفترة طويلة جدًا، بطول تاريخ الإسلام تقريبًا، وما قبله، ديوان العرب. وأما ما شاع اليوم من الاهتمام بالرواية والمسرح، فقد بدأ منذ القرن الأخير فقط. وكان الشعر كذلك ذا مكانة سامية في الغرب، ولكنه اقتسم الاهتمام مع الدراما، فظهر لدى الإغريق المسرح الشعري، والملاحم الشعرية، في حين ظل القصيد العربي شعرًا نقيًّا في الأعم الأغلب.[4] وبرغم تجارب أحمد شوقي، وصلاح عبد الصبور (أساسًا، وغيرهما) في صوغ مسرح شعري عربي، عمودي عند شوقي، وتفعيلة عند صلاح، في سياق كل من الكلاسيكية الجديدة، والواقعية، على الترتيب، فإن المسرح الشعري العربي في أزمة، كثر الحديث عنها.[5] وأساس هذه الأزمة ليس في رداءة التأليف، ولا ضعف الأداء، ولكنه انصراف الجمهور العربي الواعي بالشعر، والمحبّ له، إلى الشعر الخالص؛ فقارئ الشعر سيقرأ شوقي وصلاح في دواوين الشعر الخالص غير الدرامي عادةً، وسيقرأ عنترة وابن كلثوم والمتنبي والبحتري والمعري إلخ، أكثر بكثير مما سيقرأ الملاحم الشعرية العربية والغربية، أو المسرح الشعري، وهو ما يمكن التحقق منه بالمشاهدة المباشرة. في المقابل فقد برز الشعر الدرامي بأنواعه في الغرب في كل العصور: هوميروس، وفرجيل، وأوفيدوس، وسوفوكليس، وشكسبير، ومارلو، وجوته، وشيللر، الذين يأتي ذكرهم قبل شعراء الشعر الخالص عادةً.

وهكذا كان الفارق بين شعر خالص عند العرب، يتبوّأ المكانة الأولى بين أنواع الشعر، وبين شعر درامي (قصصي، ومسرحي، وملحمي) هو الأشهر والأكثر تأثيرًا في الغرب، فارقًا حضاريًا هامًا، مهّد أرض العرب لتلقي القرآن من أعلى إلى أسفل (رأسيًا)، ويسّر لأرض الغرب استقبال العهدين: القديم، والجديد، من الشرق إلى الغرب (أفقيًا). وشكل هذا الفارق ما يمكن تلخيصه في المعادلة البسيطة التالية: حضارة عربية مكانية، لا-درامية، رأسية، وحضارة غربية زمانية، درامية، أفقية. وقد انعكس هذا، وعليه انعكس كذلك، وضع التوزيع النوعي سابق الذكر للفنون.

مُوجَز تاريخ تفكيك الزمان

بدأ منذ القرن الخامس عشر تقريبًا في أوروبا التخلّي الطوعي عن التفاعيل الإيقاعية، والتي لم تزل تميز الموسيقى العربية عن الموسيقى الغربية إلى اليوم. إن إيقاع الموسيقى السيمفونية مثلاً يكتَب في أقصى يسار المدونة الموسيقية كعدد كسري، مجرد، أما في الموسيقى العربية فإن الوحدات الإيقاعية تجتمع فيما يسمى بالتفاعيل الإيقاعية، لتصنع لنا الإيقاعات العربية المعروفة: الزفّة، المقسوم، المصمودي، الصعيدي، المخمَّس، السُّداسي، إلخ. والفرق بين الميزان (في النوتة الغربية) وبين التفاعيل الإيقاعية، هو الفارق تقريبًا بين قصيدة النثر، وقصيدة التفعيلة، على الترتيب، لتقريب المثال. فكاتب قصيدة النثر يعرف ما التفاعيل العروضية، ويعرف قوانينها، وقد يستعملها حين الضرورة، لكنه لا يلتزم بها دائمًا، أما شاعر التفعيلة فهو يستعمل تفاعيل معدة مسبقًا، ويلتزم بها، ويطوّع المعنى، والتركيب، والصرف، ليوافقها. الأول يفرض المعنى على الشكل، أما الثاني فيضفّر بينهما. ولهذا قد نسمع في أعمال بيتهوفن وبرامز وتشايكوفسكي تفاعيل إيقاعية أحيانًا، أكثرها انتشارًا الفالس، والمارش، والبولونيز، والمينويت، والسكرتسو، ولكن أغلب العمل، السيمفونية، أو الكونشرتو، أو الرباعي.. إلخ، فهو يخلو منها عمدًا، وذلك لإتاحة المساحة للتعبير فوق الشكل. ولذلك قد يعد تاريخ تطور الفن في الغرب تاريخًا للتغلب على الشكل، بينما يمكن بالمقارنة وصف كفاح الفن العربي بما هو محاولة إتقان التوافق بين الشكل والمضمون. هذا وإنْ كان الفن العربي مؤخرًا، بداية من سبعينات القرن العشرين، قد سار في مسار تحدّي الشكل، ووصفه عائقًا للملكة التعبيرية، وسَدًّا واقفًا أمام المعنَى، كما نرى في انحلال العمود إلى تفعيلة، وانحلال التفعيلة إلى نثر، وانحلال النثر إلى النص النثري الجديد، وذلك في الشعر. ولكنها فترة وجيزة، أقل من قرن واحد من الزمان، لا تصف المسار الكلي للفن العربي بالتأكيد، وتعكس التأثر الحضاري بالغرب، أكثر مما تعكس الاستقلال الإبداعي عند العرب.

وهذا التخلي عن تفاعيل الإيقاع سابقة التجهيز في الموسيقى الغربية يتساوَق تاريخيًا تمامًا مع بداية نهضة الموسيقى الغربية، وتحولها من الموسيقى اللحنية إلى الموسيقى التركيبية، أي خروجها من عباءة الموسيقى العربية، وتحقيق استقلالها كموسيقى كلاسيكية.[6] بالتالي فإن من أهم ما يميز الموسيقى الكلاسيكية عن العربية، وربما ما أسسها كموسيقى كلاسيكية، هو التحول الإيقاعي الجذري، الثوري، في القرن الخامس عشر الميلادي في أوروبا. هذا الإسقاط للتفاعيل الإيقاعية هو الذي منح الموسيقار الغربي المساحة الحرة للتركيب، والفكّ، وتكوين تفاعيل إيقاعية خاصة بالعمل، ومناسبة له، حيثما، وأيّان، اقتضى التعبير. وقلنا سابقًا أن الاشتقاق اللحني، القائم على عمليات الفك والتركيب، هو الذي يميز الموسيقى الكلاسيكية عن غيرها. فلماذا لم تتخلَّ الموسيقى العربية عن تفاعيلها الإيقاعية؟

صِراعُ الزمن: الحتميات التاريخية والتفاعيل الزمانية

لم تخضع الموسيقى العربية دائمًا لسلطة الزمن الإيقاعي المعد مسبقًا، أي التفاعيل الإيقاعية. فأغاني شهيرة لأكبر الملحنين العرب، وأكثرهم عبقرية، قد تخلت عن تلك التفاعيل، مثل “أهو دا اللي صار” لسيد درويش، أو “ما دام تحب بتنكر ليه؟” للقصبجي، فكلاهما ليست مبنية إيقاعيًا على أساس التفاعيل. ولكن جل الإنتاج العربي في الموسيقَى تفعيلي من جهة الإيقاع. وبرغم أن الموسيقار العربي كان يخضع عادة لهذه السلطة الزمانية، فإنه حاول التوافق معها بشتى الطرق، وهو ما أنتج الضفائر اللحنية-الإيقاعية المميزة للموسيقى العربية، وهو ما استبقى البناء الإيقاعي العربي ثريًا، شاهقًا، إذا ما قورن بإيقاع الغرب.

ولكن الثمن كان على حساب البناء اللحني، ففي المقابل نجد أن البناء اللحني الغربي أكثر ثراء بكثير من جهة التأليف (وليس المقصود مدى الثراء المقامي من جهة العدد والتنوع). إن الموسيقار الغربي الكلاسيكي أقدر على تطويع اللحن، بعمليات الفك، والتركيب، والاشتقاق، والتنويع؛ ليس لقدرة أصيلة، ولكن لأنه ضحّى بالبناء الإيقاعي في سبيل حرية التصرف باللحن، في حين بقي الموسيقار العربي مقيدًا بقيود التفعيلة.

وهنا تتبلور لدينا صورتان: صورة الموسيقار الغربي في صراعه مع الزمن، وانتصاره عليه، وتحكمه فيه، وصورة الموسيقار العربي الذي لا يعلن على الزمن الحرب، بل يتوافق معه بتعديل جمله اللحنية، وتقسيمها، تبعًا لتركيب التفعيلة الإيقاعية. باختصار يمكن لنا القول أنه بقدر ما كانت الموسيقى الكلاسيكية موسيقى التركيب اللحني، بقدر ما كانت الموسيقى العربية موسيقى التركيب الإيقاعي. وقد توافق كل ذلك مع الرؤية الفنية العامة، والتركيب الذهني لكل من العرب والغرب في التعامل مع أبعاد الكون.

فإن الحضارة العربية حضارة مكان، حضارة جغرافيا، في مقابل الحضارة الغربية، حضارة الزمان والتاريخ. وبقدر ما احترف العرب الجغرافيا، فلسفة المكان الواحد، وذهنية التزامُن، بقدر ما احترف الغربيون فلسفة التاريخ، وعقلية التتابع diachrony. الأولى حضارة غير متمكنة من الزمان، وليس في نواياها أن تتحكم فيه، وتفهم الكون في أبعاد رأسية بالدرجة الأولى، تبدأ من الله في الأعلَى، وتنتهي إلى الأرض في الأدنى، أما الثانية فحضارة تصارع الزمن، وتحاول تطويعه، وتفهم الكون في حالة تغير دائم (المنهج الجدلي من هيراقلطيس إلى هيجل وماركس)، في أبعاد أفقية أساسًا، هي مجال الانتقال المكاني، ومجال التغير التاريخي. ولهذا كان مفكر مثل ابن خلدون أقرب إلى عقلية الغرب، إلى ماركس في التفسير الاجتماعي للتاريخ، وإلى دارون في تطور الأحياء، منه إلى عقلية العرب، وهو السبب في اهتمام الغرب والعرب به حديثًا أكثر من مواطنيه من المغاربة كابن حزم والشاطبي الغرناطي اللخمي وابن سبعين وغيرهم.

الأولى حضارة الشعر الخالص، الذي لا يحدث فيه شيء بالمعنى الدرامي، ولكن تتجلى فيه المعاني تدريجيًا، كما نمسح تدريجيًا الغبار عن نقش، وكما يبرز لنا هذا النقش بدرجة أوضح، فأوضح، ولكنه لا يغادر مكانه، ولا يصور لنا حركة، بل نحن الذين نتحرك في إدراكنا إياه، ومَسْحنا للغبار عن مبناه، أما الثانية فهي حضارة الشعر الدرامي، الذي نقف أمامه ساكنين، بينما هو الذي يتحرك، وتتابع فيه الأحداث، حضارة الملاحم، والمسارح، والرسوم المتحركة، والسينما الحَيّة. وهو ما مهد التربة الحضارية إلى تلقي القرآن ذي البناء غير الدرامي في الغالب عند العرب، وفي المقابل تلقي الكتاب المقدس ذي البناء الدرامي في أعمّه عند الغربيين. وهما شكلان من الوحي على الترتيب، أحدهما لا يميل إلى التوسع في القصّ، ولا إلى التفاصيل التاريخية، ويستهدف المعاني المباشِرة، وآخَر تتكاثر فيه تلك التفاصيل، إلى حد تواري المعاني، بما استلزم تأويله مجازيًا منذ عصر آباء ما قبل نيقية.[7]

ونظرًا لكون الموسيقيين الغربيين الكلاسيكيين كبيتهوفن، وبرامز، ومالر، وشوستاكوفيتش من مصارعي الزمان من الوزن الثقيل، وكون العرب معتزِلينَ هذه المعركة من الأصل، فقد انهمّ الغربيون بتطويع الإيقاعِ طبقًا للضرورات التعبيرية، والتاريخِ حسب الحتميات التاريخية، بينما وقف العرب موقفًا معتدلاً من الزمان، محتفظين في الغالب بتفاعيله الزمانية، وناسجين زمكانًا متآلفًا من الموسيقى، يضفّر العنصر الزماني في الموسيقى، أي الإيقاع، مع المكوِّن المكاني فيها، أي اللحن، في توازن مقصود.

ويبقى التحدّي حاليًا أمام العرب: كيف يحتفظون بالبناء الإيقاعي المعقَّد، المشيَّد، مع القدرة على تطويع اللحن، وإنتاج عمارة لحنية مقابلة، في التوازن المذكور؟ لن يمكن للعرب تجاوز منخفضهم الحضاري المؤقَّت إلا بفهم ذهنيتهم الأصيلة، والعمل على تطويرها، وليس استبدالها كليةً، ذهنية المكان، التي تضيف للغرب صاحب ذهنية الزمان، وربما تتجاوزه نحو ذهنية أشمل، وأثرى، وأرقى، من المكان، ومن الزمان، ذهنية الزمكان.

 

 


 

[1] Lessing, Gotthold Ephraim, Laokoon, oder über die Grenzen der Malerei und Poesie, The Clarendon Press, Oxford, 1892, S. 28-29.

[2]  الصياد، كريم: مكان الموسيقى، وزمانها، مؤسسة معازف، لندن، 2015.

[3]  يطلق عليه عادة في الأدبيات العربية التقليدية “الشعر الغنائي” تمييزًا له عن الشعر القصصي، والمسرحي، والملحمي. وقد آثرتُ هنا استعمال “الخالص” درءًا لاحتمال تضليل القارئ؛ فالشعر الغنائي يطلق كذلك في الأوساط الموسيقية والعامة على ما هو مغنَّى فعلاً من الشعر. والشعر الخالص كمصطلح أقدر على تجسيد معنى النص الحامل للمعاني الشعورية، والذي لا يتحرك في سياق من الأحداث الدرامية.

[4]  انظر في أنواع الشعر الغنائي، والقصصي، والدرامي، والملحمي: يوسف، حسني عبد الجليل، موسيقى الشعر العربي- دراسة فنية وعروضية، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 1989، ص 8-9.

[5]  مثلاً: عبد الغني، مصطفى: المسرح الشعري العربي- الأزمة والمستقبل، سلسلة عالم المعرفة (402)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يوليو، 2013، ص 19-20.

[6]  للتفاصيل: الصياد، كريم: ما الذي منع الموسيقى العربية أن تكون “كلاسيكية”؟ وما الذي جعل الغربية كلاسيكية؟ منصة معنى، قيد النشر، 2020.

[7]  للتفاصيل حول ضرورات منهج التفسير المجازي للكتاب المقدس في عصر آباء ما قبل نيقية انظر: الصياد، كريم: الهرمنيوطيقا ضد التاريخ،  دورية المبادئ للدراسات المسيحية، السنة الأولى، العدد الثاني، القاهرة، 2013.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى