حوار خاص بمنصة معنى
– «ربما نحمل هذه الفكرة الخاطئة بأن الإنسان القادر جسديًا مكتفٍ بذاته -بوجه ما- وبشكل جذري»، اسمحي لي بأن أبدأ هذه المقابلة مع تلك النزهة الجميلة التي قمتِ بها مع سنارا تايلور في عام 2010 ([1]). ما دافع تلك النزهة، وما علاقتها بتأملاتك في «التنقّل» كحق تجريدي؛ ولاسيّما مع وجود الكثير من القيود الآن [مع أزمة كورونا] التي تؤثر على قرار بسيط مثل الخروج في نزهة.
لم ألتقِ سنارا من قبل، إلا أن أختها، آسترا، صانعة الفيلم، رأت بأننا نملك الكثير لنقوله لبعضنا البعض، بعد ذلك، أخذت سنارا مقررًا دراسيًا لي، ونشرت عدة مقالات في مجالي دراسات الحيوان ودراسات الإعاقة. وقبل فترة قريبة، أصبحت زميلتي في جامعة بيركلي في كاليفورنيا. بدأنا محادثتنا بالتساؤل عما يعنيه «القيام بنزهة» إنه شيء تقوم به على الدوام إلا أنها لا تمشي على قدميها. «النزهة» تصبح حينها ممارسة مختلفة تمامًا، ممارسة مدعومة بالتكنولوجيا، والمساندة الإنسانية، والطرق المعبدة المناسبة. لقد ساعدتني في التفكير بكل تلك الشروط للبنية التحتية التي تسهّل التنقل، وسأظل ممتنة لها لتعليمها لي بذلك.
– لقد اكتسبنا عادات جديدة؛ التباعد الجسدي، والخوف من لمس الأشياء، ومن التنفس من دون كمامة .. يبدو الأمر وكأنه عقد جديد مع أجسادنا وأجساد الآخرين. هل يمكننا استعمال النظرية الأدائية كعدسة مفهومية لفهم الطريقة التي نتجاوب فيها والسلوك الجسدي الجديد في الأزمة الحالية؟
إن «الأدائية» ليست إلا جزءًا من إطار نظري أشمل بالنسبة لي، لذلك لا أعرف النظرية الأدائية! ولكنك محقة، فقد أصبحنا الآن فجأة شديدي التأني في الكيفية التي نمشي بها، والمسافة التي نفصل بها أنفسنا عن الآخرين، وكيف نلمس الأسطح، والآخرين، وكيف نستنشق الهواء ونزفره بطرق قد لا تضر الآخرين. هنالك نوع من المداراة الأخلاقية التي تمتد إلى التحركات الاعتيادية، والإيماءات، ومناحي حياتنا الأساسية. وبالتأكيد يمكن أن يتحول الأمر إلى ارتياب وقد يبدو الأمر وكأنه تقييد ظالم. إلا أن التقييد الناتج عن كوفيد-19 ليس مماثلًا لتقييد السجن. فنحن نتقبل الإيعاز بالاحتماء في أماكننا لأننا مهتمون بحياة الجميع، ونحن من ضمنهم. ولربما ستكون هنالك أخلاقيات جديدة للعناية بالآخرين ستنبثق من هذه الأزمنة. ولو ظهرت فإنها ستساهم في محاربة الوطنية في تحصيل اللقاح[2] والفاشيات الجديدة.
– «العالم بعد كوفيد-19» هنالك وجهات نظر مختلفة تضع تصورات للوضع الاقتصادي، والرأسمالية، والرعاية الصحية، والعلاقات الاجتماعية، ما هي وجهة نظرك؟ تحدثتِ سابقًا عن أن الجسد الاقتصادي يبدو وكأنه أكثر أهمية من الجسد الإنساني. هل ترين بأن النظام العالمي بعد فايروس كورونا سيستمر كما كان قبله؟
قد يكون أسوأ أو أفضل، لربما يدفع ذلك بعضنا لفهم متجدد للأهمية الجذرية لعدالة والمساواة في الرعاية الصحية؛ إضافة إلى الحاجة العاجلة للحد من التدمير الحاصل على الأرض. إحساسي هو بأننا نشهد الآن اشتدادًا للعنصرية، بل حتى تطبيعًا للفاشية. وفي الوقت نفسه هنالك اشتداد لعدة صراعات للعدالة العرقية؛ ضد عنف الشرطة والمؤسسة العسكرية، وتبعًا لذلك فإن معالم الصراع أوضح الآن من أي وقتٍ مضى. ينتابني القلق حين أرى بأن صحة الاقتصاد أكثر أهمية من صحة الأشخاص. نرى كيف تتم التضحية بالعديد من العمال باسم الإنتاج الاقتصادي والربح، كما أن الحق في الانضمام للنقابات العماليّة قد وضَع على المحك؛ إلا أنني أرى بأن العديد من العمال يعتبرون الانتماء النقابي ضرورة تسمح بمرتب معقول؛ وتبعًا لذلك، حياةً كريمة.
– مؤخراً في اليابان، طلبت المتاحف من الناس منحهم كماماتهم المستعملة، وقفازاتهم، وملصقاتهم (بوسترز) للمناسبات التي لم تحدث، والتذاكر، والمذكرات، وكل الأشياء البسيطة التي تتعلق بحياتهم اليومية خلال الأشهر القليلة السابقة لأن الناس «ينسون بسرعة». أفترض بأن هذا الفقد المستمر للذاكرة سيكون جزءًا من محاضرتك المقبلة في متحف (رينا صوفيا) التي تناقشين فيها أن عددًا من أصعب الحقبات في التاريخ نُقلت إلينا نقلًا معبرًا كاشفًا عبر التفاصيل البسيطة. هل يمكنك أن تخبرينا بالمزيد عن محتوى هذه المحاضرة القادمة؟
كنت مهتمة في تلك المحاضرة بالالتفات إلى أعمال نيلي ريتشارد – كاتبة وناشطة فرنسية أمضت معظم أيام حياتها في سن رشدها في تشيلي – فقد فهمت بأن الإستطيقا ذات موضع محوري في المقاومة السياسية، وقد تحالفت مع بعض أهم الحركات النسوية، الكوير (queer)، والعابرة ( (transexualللتحرر في زمننا التاريخي هذا. أعطانا ماركس تحليلاً مذهلًا في البرومير الثامن عشر[3] عن الكيفية التي تتغلب فيها الرغبات المحافظة تستولي على العادات والإيماءات التي تنتمي إلى أزمنة سابقة، وكيف تُحمّل هذه الأشياء بالرغبة في استعادة امتياز أو توسع إمبراطورية. ترى ريتشارد بأن هنالك طرقًا لاستعمال شظايا التاريخ في دفع الحركات التحررية؛ إلا أنها تقول بأنه يجب علينا أن نوجد طريقة لإنتاج أرشيف للذكريات المفقودة أو المجزوءة من أجل أن نحمل معنا الحزن والرؤية إلى المستقبل. عادة ما نتحسر على وجود مجرد شظايا من أزمنة مضت، خصوصًا للحضارات التي دُمرت، ولكن، بالنسبة لريتشارد، فإن النص المشظّى والذاكرة المجزوءة يعيناننا على تخيل مستقبل على الضد من سياسات الإبادة الجماعية لذلك الزمن الذي مضى.
– أذهل في كل مرة أقرأ فيها الخطاب الذي قدمتيه بمناسبة حصولك على جائزة أدورنو، وبالأخص حين قلتي «لو كنت سأحيا حياة جيدة، فإنها ستكون حياة معاشة مع آخرين، فالحياة ليست بحياة من دون أولئك الآخرين». لقد منحْتنا على الدوام، نحن قرّاؤك، الحجج التي ندافع بها عن أجسادنا، وهوياتنا؛ بل حتى إعادة التفكير في وهننا، والميلانخوليا والحداد كسبل للمقاومة. لقد لامست حيوات الآخرين، آخرون مجهولون بالنسبة لكِ، قد ساعدتهم في فهم شيء شديد الخصوصية، إلا أنه مبهم بالنسبة لهم. كيف تنظرين إلى أثرك كفيلسوفة؟ هل ترين أنك قد أشدتِ هذا الجسر المأهول بين المعرفة التجريدية وحيوات الآخرين؟
لقد دخلت الحقل الفلسفي قبل أن أفهم الفلسفة كنظام أكاديمي. بالنسبة لي، قد كانت الفلسفة مرتبطة دائمًا بسؤال كيف نحيا، ولذلك فقد اتجهت إلى الحقل الفلسفي بأكمله مع هذا السؤال. وقد استغرقت بعض الزمن حتى أفهم بأن السؤال الشخصي «كيف أحيا؟» -بل حتى «أيجب أن أبقى حيًا»- قد كان سؤالاً مجتمعيًا، وبأن النجاة المجتمعية تعتمد على ظروف الحياة. يجب علينا أن نناضل من أجل ظروف قابلة للعيش لحياتنا معًا، ويرجع ذلك بالتحديد لكونها مشتركة (حتى لو تباينت سبل العيش في هذا المشترك). وتبعًا لذلك، فقد أصبحت أرى بأن الفلسفة الأخلاقية مرتبطة بالفلسفة الاجتماعية والسياسية وبأنماط التفاعل مع الآخرين.
– في العقد الأخير، اشتغلت على سياسات جديدة للجسد بناء على «الاعتماد، والاعتماد المتبادل الإنسانيان»، وكذلك على سياسات الحياة والموت كما شكلتها الهشاشة (precarity)، وفي هذا الوقت الذي نُضطَرُ فيه لأن نخلو بأنفسنا لأطول مدة ممكنة كي لا يقربنا غرباء، أصبحنا نعتمد على غرباء مثل الأطباء، الممرضين، وعمال التوصيل. وفي بريطانيا، فإن الموت مرتفع جدًا ضمن تلك الفئات. ونسبة عالية منهم مهاجرون أو ذوو أصول ترجع لدول مختلفة من العالم. هل يمكنك التعليق على ذلك؟
إن ذلك صحيح، خصوصًا في الولايات المتحدة حيث أن العديد من الناس في البيوت البرجوازية مدركون لاعتمادهم على سلاسل التوريد، وعمال الصفوف الأمامية بصورة جديدة. لا يوجد شيء يمكن أن نطلبه دون أن يحمل ضمنًا سؤال العمل. الحراك الآن لعمال آمازون لإنشاء اتحادٍ عمالي شديد الأهمية، وتظل حالة المشردين ملحّة ولم يتم الالتفات لها بالقدر الكافي. وصحيح كذلك بأن العمل اليدوي (البدني الشاق) يقوم به غالبًا غير مواطنين. لذلك يجب علينا أن نناقش أيضًا المطالبة بالاعتراف القانوني بأولئك الذين لم يتم توثيقهم (غير القانونيين). والعنصرية ورهاب الأجانب المتضمنان في الاعتماد على العمال الأجانب للقيام بالأعمال التي تعرضهم للفايروس واضحة. إنهم يعتبرون مجموعات يمكن التضحية بها، من أسميهم «من لا بواكي لهم» إنه النظام الاجتماعي والاقتصادي للقيمة الذي يصنفهم كـ«أساسيين» و«ممكني الاستبدال» في الوقت نفسه. إنه لظلم عظيم في زمننا هذا.
– في لحظات اللايقين، المرض، الخوف المخيم حولنا، ما الذي يمنحكِ الأمل؟ حيث تبدين متفائلةً خصوصًا في كتابك الجديد «قوة اللاعنف».
لربما أسعى لتقديم بعض الدفع المعنوي لقرائي، أعتقد بأن المثالية هي وسيلة من أجل الاستفادة من إمكانات الأمل ضمن محيط محبط. حتى لو كان الأمل غير واقعي، إلا أنه ليس سببًا يمنعنا من الأمل. يجب أن نكون مستعدين للسخرية والتجاهل من قبل الآخرين حين نتشبث بإمكانية التحول الجذري.
– منحتنا فلسفة اللاعنف الخاصة بكِ تفسيرًا جديدًا للعنف، مما ساعدنا على النظر إلى «نحن» من الجانبين، حتى أولئك الذين يؤذوننا، هم يصبحون «نحن» كذلك. على الرغم من أن هذه الطريقة في الرؤية ملحة ومهمة إلا أنها تبدو مستحيلة في الواقع .. هل هي كذلك فعلاً؟
لقد كانت ممكنة بالنسبة لغاندي ومارتن لوثر كينغ. هي ممكنة بالنسبة لBDS (المقاطعة، سحب الاستثمارات وفرض العقوبات) الفلسطينية. هي ممكنة كذلك للنسويات في شوارع الأرجنتين (Ni Una Menos) وتشيلي (Las Tesis)، لذلك لعلنا نسأل: ما الذي جعل تلك الحراكات ممكنة؟
– لقد مضت 40 سنة على كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق»، هل ما زلنا نقف في الموضع نفسه؟ الشرق -الغرب، الكولونيالي- ما بعد الكولونيالي؟
ما زال كتابًا مذهلاً، رغم قصوره، فقد أجبر سعيد العديد من الناس على النظر إلى الكيفية التي يعرَّف فيها «الغرب» من خلال علاقته المتخيلة بـ«الشرق». لقد كانت تلك هي الإطارات المعرفية التي خدمت الإمبريالية الثقافية. وقد أرشدنا حرفيًا إلى الطريقة التي «نلغي» فيها متخيَّلاً من أجل تخيل عالمٍ مختلف. لعلنا نقول إن سعيد قد دشّن مشروعه عبر إعادة تخيل العالم بعيدًا عن الحدود التي فرضها المتخيل الكولونيالي. الآن، يجب علينا التفكير بالشمال والجنوب نظرًا للتاريخ المدمر لاستغلاله والاستئثار بثرواته. وربما بعد حين يمكننا أن نتخطى التفكير القطبي باتجاه مفهومٍ عالمي مثلما ألح على ذلك سبيفاك ومبيمبي.
كل الشكر والتقدير للفيلسوفة والمنظّرة جوديث بتلر.
[1] اضغط على الرابط التالي لمشاهدة هذه النزهة المقصودة (غير مترجم): https://www.youtube.com/watch?v=k0HZaPkF6qE (المراجع).
[2] سعي الدول للوصول إلى اللقاح قبل الآخرين عبر اتفاقيات مع الشركات المنتجة للقاح (المترجم).
[3] مقالة كتبها ماركس محللاً فيها صعود لويس نابليون بونابارت الثالث إلى السلطة عبر التحليل المادي للتاريخ (المترجم).