
كنت أعاني من مشكلةٍ ما، كانت كالإدمان؛ إلا أنني لم أكن أستهلك أيّ شيء؛ بل كان الأمر أشبه بإدمان الرغبة في استهلاك أشياءَ لم يكن بمقدوري استهلاكها، لستُ فخورًا بهذه المشكلة، وفي الحقيقة، كنتُ أخفيها عن العائلة والأصدقاء، كنتُ أتظاهر بأنّه ما من خطب، وأنه لا يوجد ما يزعجني، مع أنها كانت تنخرُني من الداخل.
كنت أعاني من حالة الفومو FOMO، أو “الخوف من فوات الشيء Fear of Missing Out.”
على الأرجح أنك قد سمعت بها، وعلى الأرجح أنك تعاني منها بشكلٍ أو بآخر.
بالنسبة لي، ولعدة سنوات، كان الأمر متعلقًا بالسفر. أرِني صورة جميلة وسيكون رد فعلي التلقائي المتسرّع هو أنه يجب عليّ بيع آخر زوج أحذية لدي للذهاب إلى هناك، وليس فقط الذهاب إلى هناك؛ وإنما الذهاب حالًا، ما الذي أنتظره بحق الجحيم؟ يجب أن أكون هناك بالفعل، اللعنة، لقد فات الأوان!
فلتنسَ حقيقة أن الصورة قد خضعت على الأرجح للكثير من التعديلات، وأن مصورًا محترفًا قد تلقى على الأرجح 10 مليار دولار لالتقاطها بطريقة تجعل المياه تبدو مثاليةً، وأن الجزيرة تقع على الجانب الآخر من الكوكب؛ اخرس. كان. عليّ. أن. أذهب.
وفي معظم الأحيان، أكون قد ذهبت، ليس دائمًا (وإلا لكنت قضيت حياتي على متن الطائرات)؛ وإنما فعلت ذلك بقدر كبير، لقد أنفقت على الأرجح عشرات الآلاف من الدولارات بالسفر إلى وجهات نائية وغريبة كانت تضيء صفحات فيسبوك وإنستغرام كلّ يوم كماكينة قمار لعينة.
كانت بعض تلك الأماكن أخّاذةً؛ لكن معظمها لم يكن كذلك؛ بل كانت في الحقيقة مصدرَ خيبة أمل.
فمع إزالة المؤثرات من على الصور، ووجود طقس غائم وفي نهاية الموسم، وزمرة من السيّاح الصينيين الذين يفسدون لحظتك المثالية في سناب شات، كان ذلك الحلم برحلة شاطئية كنت قد اشتريتها ورهنت نصف الشهر من أجلها غالبًا ما ينتهي بها المطاف بكونها رتيبةً نوعًا ما وعاديةً.
قد تعتقد أن الأمر سيخمد بعد خوضي لبضع رحلات من هذا النوع.
لكنه لم يخمد، ليس في البداية على الأقل؛ بل أتى بتأثير عكسي في البداية؛ إذ جعلني أقتنع بأنني لم أذهب إلى الأماكن الصحيحة، كان تنقيبي في إنستغرام دون المستوى، كنت بعيدًا جدًّا عن التطورات لدرجة لم أكن أتوقعها، ولم تكن وجهاتي غريبة كفاية، ولم تكن مغامراتي مغامِرةً كفاية، لم أكن أجري ما يكفي من الأبحاث أو أُنفق ما يكفي من المال؛ لذا عدت، كما هو الحال دائمًا، إلى آلة الدوبامين المعروفة باسم الإنترنت؛ لتمنحني تغذيةً إخبارية بمنظر آخر لشانغري-لا[1] مثاليٍّ يمكنني إسقاط آمالي ورغباتي كلها عليه.
فعلتُ هذا لسنوات.
وأجل، خضّتُ الكثير من الرحلات الرائعة؛ لكن انتهى بي المطاف أيضًا بمشكلة غريبة تتمثل في سفري، في الكثير من الأحيان، إلى أماكن لم أستمتع بها حقًّا، وإنفاقي للكثير من الأموال على رؤية أمور لم أكن أهتم حقًّا برؤيتها.
أتحدث عن مشكلات العالم الأول (عدا أن هذا كان يحدث عادة في العالم الثالث).
تبيّن لي فيما بعد أنني لم أكن مدفوعًا ببهجة رؤية شيء رائع؛ بل بالخوف من عدم رؤية شيء رائع.
قد يبدو الدافعان وكأنهما الشيء نفسه؛ لكنّهما لم يكونا كذلك، كانا بعيدين عن بعضهما بُعد المشرق عن المغرب (التلاعب اللفظي غير مقصود).
الفومو: رغبة قهرية لفعل شيء ما (أو الحضور في مكان ما)، لا بدافع ما ستكسبه من ذلك؛ بل بدافع الخوف مما قد تخسره من عدم فعل ذلك. وفكرة الخسارة هذه غالبًا (أو بالأحرى دائمًا) ما تكون مُتخيَّلة.
إن الفومو تعذيب سيكولوجي من اختراع الذات، إنه من نسج أسوأ خيالاتنا، إنه ذلك الاعتقاد غير المنطقي بأن الجميع يحظون، طوال الوقت، بمرحٍ أكثر مما تحظى أنت به، وأن لحظة الحياة الملحمية تقع قاب قوسين أو أدنى منك، وأنّك أحمق غبي أبله لعين لبقائك في المنزل وعدم مشاركتك فيها، إنه ذلك الاعتقاد غير المنطقي أن المكان/ الشخص/الحدث القادم سيكون مثاليًّا، وستفوّته على نفسك بتركيزك على أيًّا يكن المكان الذي توجد فيه أو الشيء الذي تفعله، إنه التسكع مع تسعة أصدقاء مختلفين كل أسبوع دون أن تشعر بأنك قريب من أيٍّ منهم، إنه الذهاب إلى خمس حانات مختلفة ليلة يوم الجمعة وكرهك لكل واحدة منها؛ لأنك لا تستطيع التوقف عن التفكير في الحانة التالية التي تقع نهاية الشارع والتي يوجد فيها صديقك، والتي يحتمل أنها أروع بكثير من تلك التي توجد أنت فيها.
أصبحت حالة الفومو تمثل مشكلةً كبيرةً لجيلنا؛ وذلك لحقيقةٍ بسيطة، ألا وهي أن لدى جيلنا أكثر الخيارات تنوعًا للاختيار من بينها، أطلق على هذا الأمر التسمية الشهيرة “مفارقة الاختيار The Paradox of Choice” وهذه المفارقة هي، إلى حد كبير، السبب في أنه كلما زاد حصولك على الأشياء المدهشة صرت أقلَّ سعادةً.
إذا كان أمامك شطيرتي بوريتو لتختار إحداهما للإفطار، فستختار التي تبدو أفضل دون أن تفكر كثيرًا في الأمر.
لكن إذا قُدَّم إليك 37 نوعًا مختلفًا من شطائر البوريتو الصغيرة المعروضة للتذوق، مع كريمة غاناتشي مصنوعة من حليب ماعز مستخرج محليًّا؛ فمن المحتمل أنك ستعذّب نفسك، ليس في أثناء اتخاذ القرار نفسه وحسب؛ إنما ستقضي الخمس ساعات التالية في التساؤل عمّا إذا كانت تلك الشطيرة هي أفضل شطيرة على الإطلاق كنتَ لتحصل عليها في ذلك الموقف أو في أيّ موقف آخر، ثم تقرّر أنه يجب عليك العودة لتجربة بقية الشطائر، باستثناء أن هذا هو المطعم الرابع عشر الذي قلت إن عليك العودة إليه، ولا يقتصر الأمر كذلك على أنك لم تعد جائعًا؛ وإنما لأنك لا تحب شطائر البوريتو من الأساس، ويا إلهي ليس هنالك ما يكفي من الوقت للقيام بالأمور المذهلة كلها.
مشكلة الفومو هي أنها تمنعك من تجربة ما يحدث حقًّا، قد يبدو هذا جنونيًّا؛ نظرًا لأنّ حالة الفومو هي في الأغلب ما تدفع الناس لمراكمة أكبر عدد ممكن من التجارب؛ لكنها في الوقت نفسه تُجرّد هذه التجارب ذاتها من أيِّ أهمية أو معنى دائم.
ويعود السبب في ذلك إلى أن الفومو لا تجعل الناس يتخذون قراراتهم بناءً على واقع التجربة؛ بل على التجربة المُتخيَّلة.
لذا فهم لا يريدون الذهاب لتناول العشاء مع زملائهم في العمل؛ ولكنهم بعد ذلك يظنّون أن هذه قد تكون اللحظة الموعودة التي يقضي فيها الجميع تلك الليلة الملحمية مع بعضهم بعضًا، ويكوّنون روابط قويةً فيما بينهم، ويحبون بعضهم بعضًا كصديقات مقربات دائمًا وأبدًا؛ لذا يذهبون على أي حال، ولأنهم لا يريدون في الحقيقة الوجود هناك؛ تكون النتيجة أنهم لا يختبرون ليلةً ملحميةً، ولا يترابطون، ولا أحد يصبح صديقهم المقرب، وبدلًا من ذلك، يكتفون بالجلوس وتصفّح هواتفهم، متخيّلين الأشياء الأخرى المذهلة كلها التي بمقدورهم فعلها، بدلًا من عشاءٍ مُملٍّ مع زملائهم في العمل.
وبهذه الطريقة المريضة والملتوية، يُتخِم شخص الفومو حياته بالأنشطة، في الوقت الذي لا يكون حاضرًا فيها حقًّا، أو مُمتنًّا لما يحدث، وفي أثناء هوسهم اليائس بنوعيّة التجربة؛ فإنّهم يعوّضون عن ذلك بمراكمة كميات من التجارب.
في السابق، وعندما كنت أحدق ببلاهة في صور إنستغرام العفوية لأشخاص على الشواطئ، أو الجبال الأخاذة، لم أكن أقول لنفسي: “هممم، هل سأستمتع بعملية حزم الأمتعة والطيران والاستعداد والمشي لمسافات طويلة وقلة النوم ودفع أطنان من الأموال واستئجار مرشد سياحي وشراء أحذية جديدة والبحث عن فنادق، وما إلى ذلك، مقابل ما قد يقدّمه هذا المكان؟”
كلا، لم يفكر عقلي قط بما هو أبعد من “هذا يبدو أروع مما أفعله الآن”، وكان هذا كل ما يحتاج إليه ليرغب في فعل الأمر.
ثمّ أدركتُ في وقت لاحق أنه كان وسيلة غير ناضجة ومُتسرّعة لاتخاذ القرارات، فلمجرد أن شيئًا ما كان يبدو أفضل؛ كان ذلك يعني قفزي الفوري إلى استنتاج مفاده أنه سيكون بالفعل أفضل، ومن ثم أستثمرُ وقتي وجهدي فيه.
منذ سنوات خلت، وعندما كنت أقدم الكثير من نصائح المواعدة والعلاقات، كنت ألاحظ مثل هذا السلوك لدى رجالٍ ونساءٍ أصغر سنًّا وأكثر نضجًا.
كان الرجل يشاهد فتاة مثيرة؛ فيقفز عقله مباشرة إلى فكرة “أحتاج إلى أن أكون برفقتها! أخبرني كيف أكون معها!” دون المرور فعليًّا بالخطوات المنطقية المُتمثِّلة في طرح الأسئلة الجليّة على نفسه، مثل كيف كان شكلها، وما إذا كان سيستمتع أساسًا بالوجود حولها، وهل سيتوافقان معًا أم لًا، وما إذا كانت ستعامله بطريقة جيّدة، وهل تتطلّع حتى إلى أن تكون برفقة أحدهما، وهل سيكونان سعيدين بالفعل…الخ.
كان هنالك انصهار في أدمغة أولئك الشباب يتمثل في “إنها مثيرة” يعادل “أريد أن أكون برفقتها”.
وبالنظر إلى الوراء، فقد كانت عقولهم تخوض حالة فومو جنونية. كان أي شيء مثير يبدو لهم مبهرًا للغاية، ويحمل قيمةً تفوق قيمة أيًّا يكن ما يفعلونه في حياتهم وقتها؛ ولأن هنالك دائمًا شيئًا جديدًا ومثيرًا في الأرجاء، فإنهم لم يكونوا راضين مطلقًا عن أي امرأة يقابلونها بالفعل.
لقد كانت لعبةً ذهنية مريضة يلعبونها مع أنفسهم دون أن يدركوا ذلك، كما كانت عملية تشيّؤ تقليدية للرجال أو النساء الذين يريدون أن يكونوا برفقتهم (أو على الأقل يعتقدون أنهم يريدون أن يكونوا برفقتهم).
وهذا في الحقيقة هو أساس الفومو وتلخيصه: التشيُّؤ، وهو لا يكون على الآخرين فحسب، وإنما على أنفسنا كذلك؛ بتعاملنا مع حياتنا على أنّها قائمةُ مهامٍ مفصلة أو نقاط يجب علينا تحقيق الحدّ الأقصى لها قبل أن نموت؛ لكن الحياة ليست لعبة فيديو، ولا يوجد تقرير متابعة في انتظارك عند البوابات اللؤلؤية، وكلا، لا يمكنك أخذ خطّك الزمني على فيسبوك معك عندما تكون ميتًا.
الحياة عبارة عن سلسلة من التجارب المُعقدّة التي تجلب أمزجة مختلفة من لحظات البهجة والكفاح، ويتعيّن علينا تقييمها واتخاذ القرارات بشأنها في أثناء خوضنا إيّاها، وذلك بناءً على مشاعرنا وقِيَمنا الحالية. وكونها تعتمد على أوجه انعدام الأمان لدينا؛ تُوقِع حالة الفومو الضرر على قدرتنا على معالجة أيٍّ من هذه الأشياء أو التعامل معها.
أعلم أن الحقيقة ليست مثيرةً بقدر الشاطئ ذي الألوان الزرقاء والخضراء الفاقعة، أو عارضة الأزياء النحيلة التي ترتدي سروالًا قصيرًا، وهذا على الأرجح السبب في أن الناس لا يجيدون أداءها (أي الحقيقة)؛ لأن الإنترنت بارع في إظهار ما هو مثير؛ لكنه لا يجيد إظهار الحياة.
وتتمثل طريقة الخروج من حالة الفومو في الشروع بقتل تلك الخيالات التي تسمح لها بالتحكم بعملية اتخاذ القرارات لديك، لا يوجد شيء اسمه شاطئ مثالي، لا يوجد شيء اسمه شريك مثالي، لا يوجد شيء اسمه ليلة مثالية أو حفلة مثالية أو مجموعة مثالية من الأصدقاء.
إنّ معايير الأفضل والأسوأ نسبية جدًّا، وتعتمد على أمور أكثر بكثير من مجرد ما يبدو جيدًا على الورق (أو على الهواتف الذكية). يمكنك الذهاب إلى أكثر مكانٍ مثاليّ في العالم؛ لكن إذا تُوفّي كلبك في اليوم الذي يسبق يوم المغادرة، فستكون رحلةً شنيعة، ما من شيءٍ يمكنك فعله حيال ذلك. إن معظم ما يجعل حياتنا “جيدة” أو “سيئة” هي أمور لا يمكن التنبؤ بها، وتقع خارج نطاق سيطرتنا.
تأتي جميع التجارب الرائعة في الحياة بثمن، إنها تتطلب الاستثمار والتضحية، وإنه لأمر طبيعي تمامًا وصحيٌّ بألّا تكون مستعدًا للالتزام بها في بعض الأحيان، هذا لا يعني بالضرورة أنّك تفوّت أي شيء، في الواقع، وإذا ما فكّرت في الأمر، فستجد أنك دائمًا ما تفوّت شيئًا ما، والحقيقة أنه من الأفضل لك أن تفوّت هذه الأشياء.
ما جعلني أتمكن في نهاية المطاف من إيقاف حالة الفومو لديّ كان إدراك أن المرء سيفوّت دائمًا شيئًا ما. نعم، كنت أهرب في هذه الرحلات المدهشة لرؤية أماكن مذهلة؛ لكنني كنت أتخلى كذلك عن الاستقرار والمجتمع الذي يأتي مع بناء منزل، كنت أتخلى عن تكوين روابط قوية مع الناس، وعن أن أكون حاضرًا بطريقة موثوقة من أجل أولئك الذين أهتمّ لأمرهم، كنت أتخلى عن قدرتي على التركيز لفترات طويلة في وقتٍ واحد، وبناء شيء أكبر ناتج عن حياتي المهنية ومجموعة مهاراتي، وبلوغ كامل إمكاناتي المكنونة.
تأتي الخبرات القيّمة في أشكال عديدة، بعضها مثيرة وتستحق الالتقاط عبر سناب شات، وبعضها الآخر ليس كذلك. وبالنظر إلى الوراء؛ أعتقد أنني اكتسبت من قراءتي للكتب في بالي أمورًا تفوق ما اكتسبته من وجودي الفعليّ فيها؛ وقد آلمني الاعتراف بذلك للمرة الأولى أمام نفسي، لكنها الحقيقة.
بعض من تلك التجارب الأخرى القيمة ولكن ليست مثيرة – كالانعزال والمحافظة على الصداقات وتعليم نفسك – لن تراها أبدًا على إنستغرام؛ لأنك لا تستطيع التقاط صورٍ لها، إنها ليست أمورًا تقع هناك في الخارج، خارج نفسك؛ بل أشياء تبنيها في داخلك، وأول خطوة في عملية البناء تلك هي اليوم الذي تدرك فيه أن الحياة لا تتعلق بمراكمة المزيد من التجارب؛ بل بالتركيز بشكل ممتاز جدًّا على الأقل.
[1] شانغري-لا Shangri-La، هو مكان خيالي وُصف في رواية الفردوس المفقود التي كتبها الروائي البريطاني جيمس هيلتون عام 1933. وصف هيلتون شانغري-لا على أنها وادٍ أسطوريٌّ ومتناغمٌ يمكن الذهاب إليه بسهولة (ويكيبيديا).