مقدمة
في تأسيسه لنظريته في العدالة، وضع فيلسوف السياسة الأمريكي جون رولز (1921 – 2002) معياراً يتم على أساسه وضع مبادئ ومعايير مجتمع عادل، بناء على عقد اجتماعي بين أناس أحرار ومتساوين[1]. افترض رولز أن العقد الاجتماعي الذي يؤسس المجتمع العادل يتم في حالة أطلق عليها “الوضع الأصلي” The Original Position، وافترض أن عملية تأسيس مبادئ العدالة في هذا الوضع الأصلي تتم في ظل ما أسماه “حجاب الجهل” The Veil of Ignorance. ويعني “حجاب الجهل” التغاضي عن كل ما يميز الناس عن بعضهم البعض من ثروة أو مكانة أو عرق أو جنس، وتنحية الامتيازات التي يتمتعون بها تماماً من أجل تركيز الانتباه على المبدأ الواحد الذي يجمعهم وهو المساواة، وهو أحد أسس أي نظرية في العدالة. يضع رولز نظريته في تأسيس مبادئ العدالة باعتبار أن من شروط هذا التأسيس أن يتم كما لو كان من وراء حجاب الجهل هذا، وهو تجربة فكرية افتراضية thought experiment، يجب أن يقوم بها كل من أراد تأسيس مجتمع عادل.
وما يهمنا في هذه الدراسة هو الكشف عن السر وراء ما أسماه بحجاب الجهل[2]. هذا السر هو أنه لا يمكن تأسيس مبادئ للعدالة والإنصاف حسب رولز إلا بافتراض انتفاء الفروق الطبقية في المجتمع، أي بتخيل مجتمع لاطبقي. إن إلغاء الطبقات حتى ولو كان بالتخيل والافتراض النظري الخالص هو الشرط المسبق لنظرية في العدالة وفق رولز.
لم يتمكن رولز من تأسيس نظريته في العدالة إلا بتجاوز الرأسمالية فكرياً. وإذا كانت الاتجاهات الاشتراكية والماركسية تنادي دوماً بإلغاء الطبقات في المرحلة الشيوعية، فإن دعوة رولز لإلغاء افتراضي نظري للطبقات في تأسيس نظرية في العدالة يمثل نقطة التقاء وعنصراً مشتركاً يجمع بينه وبين كل الاتجاهات الاشتراكية[3]. ولا أعتقد أن رولز قد قدم اقتراحه بتجربة “حجاب الجهل” دون وعي منه بمتضمناتها الاجتماعية وبقربها من الاتجاهات الاشتراكية. هذا بالإضافة إلى أن إجماع نظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي على ضرورة البدء بحالة الطبيعة الأولى أو الوضع الأصلي، السابق على أي انقسامات طبقية وامتيازات وفق الثروة والمكانة، يسير في نفس الاتجاه وهو التلاقي مع الاتجاهات الاشتراكية[4]. كل ما في الأمر من فرق بينهما أن نظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي تضع المجتمع اللاطبقي كفرضية وتجربة فكرية متخيلة لتأسيس مجتمع مساواتي عادل، بينما تضع الاتجاهات الاشتراكية هذا المجتمع اللاطبقي كهدف يجب تحقيقه في المستقبل.
الأسلوب المستور
يستخدم رولز أسلوباً في غاية الحذر ونستطيع أن نقول إنه مستور[5] esoteric، إذ هو يضع الوضع الأصلي باعتباره أساس العدالة، لكنه يخفي صفته الأساسية التي تجعل منه وضعاً أصلياً، وهو أنه مجتمع لاطبقي. يقول رولز: “إن الوضع الأصلي original position هو الحالة الابتدائية المناسبة appropriate، وبالتالي تكون الاتفاقات الناتجة عنه منصفة”[6]. يجب أن ننتبه إلى أن الوضع الأصلي هنا لا يعني الحالة الأولى للمجتمع البشري التي ظهرت في تاريخ مبكر من عُمْر البشرية، بل هو حالة غياب الطبقات والامتيازات الطبقية، وهذا الغياب هو أساس العدالة والحالة المناسبة التي تجعل من “الاتفاقات الناتجة عنه منصفة”. هذا بالإضافة إلى اتصاف تحليل رولز هنا بالطابع الكانطي، فهو يبحث في الشروط القبلية لإمكان العدالة ولإنصاف الاتفاقات. إن ما لا يفصح عنه رولز صراحة ويخفيه خلف أسلوبه النظري عالي التجريد، هو أنه لا يمكن الوصول إلى مبادئ للعدالة إلا على أساس “حجاب الجهل”، أي على أساس التنحية الافتراضية للتراتب الطبقي في المجتمع، والإلغاء الافتراضي لامتيازات الثروة والقوة.
ومن خصائص الكتابة المستورة التي تتبع أسلوب التخفي، تجنب استخدام مصطلحات معينة؛ وربما يتم تجنب أسماء الأفكار والمذاهب التي يرفضها المؤلف لكونه لا يريد أن يظهر في صورة الناقد المباشر لها. وهذا هو حال رولز. فكلمة “رأسمالية” Capitalism غير مذكورة على الإطلاق في كتابه البالغ 587 صفحة في طبعته الأولى (وما يتكرر بكثرة في الكتاب هو كلمة capital بمعنى رأس المال باعتباره من عناصر الإنتاج[7]، وهو استخدام شبيه باستخدام آدم سميث وديفيد ريكاردو. لكنه يذكر capitalist system تعليقاً منه على تحليل كينز لتراكم رأس المال في يد القلة باعتباره كان الشرط الضروري لنمو القوى الإنتاجية ومن ثم ارتفاع مستوى معيشة المجتمع كله[8]؛ كما يستخدم كلمة “الطبقة الرأسمالية” capitalist class، في نفس سياق تعليقه على كينز، إذ يذهب رولز إلى أن النمو وتطور القوى الإنتاجية والتحسن الكلي العام في الأحوال المعيشية والذي يتحقق بتركز الثروة الإنتاجية في يد طبقة رأسمالية هو مجرد استثناء وظروف خاصة special circumstances[9]). لكن لم يمنع أسلوب رولز في التخفي من أن يكشفه كُتَّاب اليمين واليسار على السواء. فها هو كاتب يميني معروف عنه تأييده الأعمى والساذج للرأسمالية، وهو دانيل بيل، الذي قرأ رولز بسطحية المفكر الرأسمالي، لكنه كشفه، إذ قال عنه: “نجد مع رولز أكثر المحاولات اكتمالاً في الفلسفة الحديثة في تأسيس أخلاق اشتراكية”[10]. ومن اليسار أدرك توني سميث المتضمنات الاشتراكية لنظرية رولز، لكنه يعتبر رولز ليبرالياً يسارياً[11]، ومساواتياً ليبرالياً liberal egalitarian.
ورغم المستوى التجريدي العالي لنظرية رولز وطابعها التصوري الخالص، فإنه كان أحياناً ما يأتي بعبارات لا يمكن وصفها إلا على أنها راديكالية، لجرأتها وصراحتها. يقول رولز: “… إن القوانين والمؤسسات غير العادلة يجب إصلاحها أو إزالتها مهما كانت تعمل بكفاءة وجيدة التنظيم”. الإصلاح أو الإزالة reformed or abolished؛ وهذه لغة حاسمة وقاطعة تشي بحقيقة توجهات رولز الذي لم يكن أبداً من المدافعين عن النظام الرأسمالي، بل كان ناقداً له وإن على نحو خفي.
العدالة عند رولز هي العدالة الاجتماعية
إن المبادئ التي يقدمها رولز للعدالة هي للعدالة الاجتماعية، ويقول عنها إنها “تمدنا بطريقة لتعيين الحقوق والواجبات في المؤسسات الأساسية للمجتمع، وتحدد التوزيع الأنسب لمزايا وأعباء التعاون الاجتماعي”[12]؛ الكلمات المفتاحية هنا هي “العدالة الاجتماعية” social justice و”التعاون الاجتماعي” social cooperation. والملاحظ تكرار كلمة social وكلمة social justice عبر كتابه[13]. وهذا في مقابل هايك الذي أنكر وجود العدالة الاجتماعية واعتبرها وهماً وسراباً.
يقول رولز: “إن موضوعنا هو بالأحرى العدالة الاجتماعية”[14]، وليس عدالة المؤسسات أو القوانين أو الأفعال أو الأشخاص، بل العدالة بمفهومها الأعم والأشمل وهو العدالة الاجتماعية. وهو في ذلك يختلف عن هايك الذي هاجم العدالة الاجتماعية بالمعنى الاشتراكي وحده، وهو لم يدر بأن التراث الليبرالي لديه تصوراته عن العدالة الاجتماعية. معنى هذا أن نظرية العدالة التي يقدمها رولز هي نظرية في العدالة الاجتماعية. والموضوع الأساسي للعدالة (بمعنى subject لا بمعنى topic) هو البناء الأساسي للمجتمع، ولا يمكن أن يكون هذا البناء الأساسي إلا بناء القوة والسلطة في المجتمع، أو البناء الطبقي له. إن نظرية العدالة الاجتماعية التي يقدمها رولز تتعامل مع مجتمع طبقي تسوده اللامساواة والتفاوت الكبير في الامتيازات والأعباء، وتحاول حل هذه المشكلة بنظرية في العدالة كإنصاف Justice as Fairness، وهو عنوان الكتاب الذي لخص فيه نظريته في كتابه الأول وزادها وضوحاً[15].
ويعترف رولز بعدم إمكان إلغاء الفروق الطبقية في المجتمع فعلياً على الرغم من ضرورة افتراض اختفاءها في الوضع الأصلي، ويذهب إلى أن الأشخاص في الوضع الأصلي يمكنهم اختيار مبدأين مختلفين. الأول هو اختيارهم أن يكونوا متساويين في الحقوق والواجبات الأساسية، والثاني يعترف باللامساواة الاجتماعية والاقتصادية القائمة بالفعل، لكنه لا يقبل إلا المبادئ التي تؤدي إلى تعويض الأعضاء الأقل حظاً في المجتمع. ويقول في ذلك: “ليس هناك أي ظلم في وضع يحصل فيه القلة على منافع أكثر من غيرهم، بشرط أن تتحسن أوضاع الأقل حظاً”[16]؛ وهذا هو جوهر نظريته في العدالة كإنصاف، فمع استحالة إلغاء الطبقات فعلياً، يتم إلغاؤها نظرياً وفكرياً لوضع مبادئ العدالة، وعند تطبيقها على مجتمع طبقي فعلي، يوضع شرط وهو “أن تتحسن أوضاع الأقل حظاً”، وهي لا يمكن أن تتحسن إلا بتدخل فعال، سياسي وتشريعي من الدولة.
تأسيس رولز لمبادئ العدالة على أساس مثال المجتمع اللاطبقي
يقول رولز عن مبادئ العدالة إنها “المبادئ التي يمكن أن يتفق عليها أشخاص أحرار ومتساوون في وضع أصلي من المساواة initial position، باعتبار هذه المبادئ محددة للشروط الأساسية لاجتماعهم”[17]. الملاحظ أن عبارة رولز تذكر الحرية والمساواة وتشدد على الوضع الأصلي من المساواة. وهو بذلك يؤسس مبادئ العدالة على وضع أصلي من الحرية والمساواة. ولا يمكن أن يكون هذا الوضع إلا وضعاً افتراضياً، لكنه رغم ذلك يتصف بخاصية أساسية، وهي غياب التراتبات والامتيازات، أي غياب التراتب الطبقي والجندري، وتنحية الثروة جانباً واعتبارها غير موجودة. هذه الحالة من غياب التراتب الطبقي ينظر إليها رولز على أنها هي الحالة الأصلية للمجتمع، وهي التي يقيم عليها مبادئ العدالة. معنى هذا أن رولز قد ربط الحالة الأولى، أو الوضع الأصلي أو حالة الطبيعة في نظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي، بحالة غياب التراتب الطبقي، وهي الحالة نفسها التي نظرت إليها الاتجاهات الشيوعية على أنها كانت الشكل الأصلي للمجتمع البشري (الشيوعية البدائية، أو النظام المشاعي).
مبادئ العدالة عند رولز إذن تفترض الوضع اللاطبقي، وتحاول الحفاظ على هذه المبادئ في ظل وجود مجتمع منقسم طبقياً بالفعل. إن لسان حاله يقول: إذا أردتم تأسيس مبادئ للعدالة، يجب تنحية الطبقات والثروة جانباً، حتى ولو على المستوى النظري كافتراض. مبادئ العدالة عند رولز إذن مقامة على أساس مجتمع لاطبقي متخيل ومفترض، أي مجتمع غير بورجوازي وغير رأسمالي. يجب التخلي النظري عن الرأسمالية القائمة بالفعل وممارسة إبوخيه على طريقة هوسرل لتأسيس العدالة. وهذا ضروري للغاية، لأن الوضع الأصلي من الحرية والمساواة هو غياب الطبقات.
كان رولز واضحاً وصريحاً للغاية في تأسيسه لمبادئ العدالة على وضع المساواة الأصلي حتى ولو كان هذا الوضع افتراضياً. لكن هنا يكمن التناقض، فمبادئ العدالة عنده مقامة على وضع “افتراضي”، نظري مجرد، وعلى حجاب الجهل، الذي يشبه القناع الذي تلبسه “سيدة العدالة” حاملة الميزان Lady Justice (Iustitia). لكن لا تتحقق العدالة إلا بإدخال هذه الحالة الافتراضية في صميم التنظيم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. تدلنا تجربة “حجاب الجهل” عند رولز على أنه لا توجد عدالة، ولا يمكن أن تتأسس من حيث المبدأ والنظرية، إلا بإلغاء افتراضي للانقسامات الطبقية في المجتمع. إن المجتمع المساواتي الحر اللاطبقي هو أساس العدالة ومبدؤها ونقطة انطلاقها.
يقول رولز: “من بين المعالم الأساسية لهذا الوضع [الأصلي] أن لا أحد يعرف مكانه في المجتمع، أو وضعه الطبقي، أو مرتبته الاجتماعية، كما لا أحد يعرف نصيبه في توزيع الأصول [رؤوس الأموال وعناصر الإنتاج] والقدرات الطبيعية أو ذكاءه [ثقافته] أو قوته، أو ما إلى ذلك”[18]. هذا هو حجاب الجهل، مشروح بمعناه دون استخدام المصطلح نفسه. لكنه يقول بعد ذلك مباشرة: “تُختار مبادئ العدالة من وراء حجاب الجهل. وهذا يضمن ألا أحد يتميز في اختيار المبادئ بنتائج الصدفة الطبيعية [الميلاد في أسرة غنية مثلاً]، أو عوارض الظروف الاجتماعية [الميراث مثلاً]، وبما أن الكل متطابق في وضعه [الأصلي] ولا أحد مميز في اختيار المبادئ التي في صالح ظروفه الخاصة، فإن مبادئ العدالة تكون نتاج اتفاق أو صفقة منصفة”[19]. أساس العقد والوفاق إذن هو هذا الحجاب نفسه، وهو تنحية الانقسام الطبقي والفروق الطبقية.
الحالة الأصلية التي يقصدها رولز هي الحالة اللاطبقية
يقول رولز: “إن أحد خصائص العدالة باعتبارها إنصافاً هو أن نفكر في الجماعات في الحالة الأصلية initial situation على أنها عقلانية وليس لديها أطماع متبادلة mutually disinterested”[20]. هذا المصطلح في غاية الأهمية. إنه يعني أن الجماعات في الحالة الأصلية ليس لديها علاقات استغلال لبعضها البعض أو أي مصلحة في الكسب أو الهيمنة على بعضها البعض. وهذا يعني اختفاء الاستغلال الطبقي أو الهيمنة الطبقية لطبقة على أخرى. لا يزال توصيف رولز للحالة الأولى يحمل الطابع اللاطبقي بوعي كامل وإصرار. “وهذا لا يعني أن هذه الجماعات أنوية egoists، أي أفراد يحملون مصالح من نوع معين، مثل الثروة أو المكانة أو الهيمنة، لكن يُنظَر إليهم على أنهم لا يحملون مصالح تجاه بعضهم البعض”، أي أنه لا توجد لجماعة ما مصلحة في استغلال مصالح الجماعات الأخرى، من أجل الثروة أو المكانة أو الهيمنة. وهذا هو المجتمع اللاطبقي عن جدارة، لأنه ينفي الاستغلال الطبقي والمصالح الطبقية.
كما أن “عقلانية الجماعات الداخلة في التعاقد” تعني حيادها التام إزاء بعضها البعض، ويعني هذا الحياد اختفاء بنية الاستغلال وانعدام التكريس لمصالح خاصة. نظرية رولز مليئة بالنفي والطابع النافي وبالمصطلحات الدالة على ذلك: اختفاء، جهل، حجاب، كلمات متشابهة. إنه يعمل على إلغاء المجتمع الطبقي كي يؤسس للعدالة.
وينظر رولز إلى مبادئ العدالة على أنها “تنشأ من اتفاق أصلي في وضع من المساواة”[21]. أي أن مبادئ العدالة تفترض وضعاً أصلياً تسوده المساواة التامة داخل الجماعة التي ستتفق على تلك المبادئ. والمساواة التامة في وضع أصلي تعني الوضع الذي لا تحضر فيه الانقسامات الطبقية أو الاستغلال أو الامتيازات الطبقية.
الوضع الأصلي باعتباره غياباً للامتيازات الطبقية
يتحدث رولز كثيراً عن “الوضع الأصلي” Original Position، الذي على أساسه يؤسس مبادئ العدالة. ينشغل رولز بتحديد وظيفة مفهوم الوضع الأصلي في نظريته أكثر من انشغاله بتعريف له، ولذلك فهو يؤجل التعريف قليلاً، وعندما يعرفه فيكون تعريفه له على استحياء وبعبارة واحدة قصيرة، إذ يقول: “من المنطقي أن نفترض أن الأطراف في الوضع الأصلي متساوون”[22]. والمساواة هي اختفاء التمايزات الطبقية، والذي يجعل هذا الوضع الأصلي “أصلي” أنه سابق على وجود الطبقات، ليس بالسبق الزمني بل بالأسبقية والأولوية التي يتصف بها المجتمع اللاطبقي على المجتمع الطبقي.
عندما يقدم المفكر فكرة عن المساواة في مجتمع طبقي، فهو يقدم فكرة مضادة لهذا المجتمع ذاته، وهذا هو ما يفعله رولز هنا. لا يظهر هذا المعنى من تعقيب رولز على هذا التعريف، فهو يقول إن المساواة التي في الوضع الأصلي تعني أن “للكل الحقوق نفسها في عملية اختيار مبادئ [العدالة]…”[23]. هذا التعقيب على مفهوم المساواة في الوضع الأصلي ليس من جوهر المساواة المقصودة بل من آثارها؛ فالمساواة هي اختفاء اللامساواة الطبقية، وعلى أساس هذا المعنى من المساواة يكون الأطراف الحقوق نفسها في اختيار مبادئ العدالة. وفي التحليل الأخير، يبقى الوضع الأصلي هو الوضع اللاطبقي بامتياز، الوضع الذي ينحي الطبقات جانباً ويلغي الانقسام الطبقي والامتيازات الطبقية في الفكر، ويتخيلها غير موجودة، حتى في ظل وجودها، من أجل تأسيس مبادئ العدالة. وإذا كان الوضع الأصلي هو الوضع اللاطبقي، وإذا كان الذي يجعله أصلياً هو أنه غير طبقي [أصلي بمعنى طبيعي، في مقابل الوضع الطبقي المصطنع]، فإن عدد مرات ظهور هذا المصطلح في كتاب رولز يشي بمركزية هذا المفهوم[24] وما يتضمنه من تصور للعدالة يلغي اللامساواة الناتجة عن الوضع الطبقي.
يقول رولز عن البناء الاجتماعي الأساسي إنه “يحوي العديد من الأوضاع الاجتماعية” حيث يولد الناس ويجدون أنفسهم داخل هذه الأوضاع التي تحدد فرصهم وكل ما يمكن أن ينجزوه في حياتهم؛ وهذه هي طريقة رولز في الحديث عن الأوضاع الطبقية وعن الطبقة التي يولد بها المرء ويجد مصيره كله وكل توقعاته وفرصه في الحياة محددة بها. يقول رولز: “إن المؤسسات الكبرى في المجتمع مأخوذة باعتبارها كلاً موحداً تحدد حقوق وواجبات الناس، وتؤثر في مصائرهم… وأفهم بالمؤسسات الكبرى، النظام السياسي والترتيبات الاقتصادية والاجتماعية الأساسية”، أي البناء الطبقي للمجتمع مع ما يدعمه من نظام سياسي؛ رولز يستخدم شفرة في الكتابة، كلمات مجردة لتجنب استخدام المسميات الحقيقية؛ “إن البناء الأساسي [للمجتمع] هو الهدف الأساسي للعدالة لأن آثاره عميقة للغاية وحاضرة منذ البداية”. ولأن الناس يولدون داخل أوضاع اجتماعية معينة يجدون أنفسهم فيها وتحدد مصيرهم، ولأن هذه الأوضاع تتصف باللامساواة العميقة deep inequalities، فيجب أن تكون هي هدف العدالة.
المجتمع المتعاون في مقابل المجتمع المنقسم طبقياً
نعثر مراراً في كتاب رولز على كلمة “تعاون” co-operation (78 مرة)، ويقول عنه: “لنفترض من أجل توضيح أفكارنا أن المجتمع هو تعاون مكتفٍ بذاته بدرجة أو بأخرى بين أشخاص، يعترفون في علاقاتهم ببعضهم البعض بقواعد معينة في السلوك باعتبارها ملزمة لهم، ويسلكون وفقاً لها”[25]. يقترب أسلوب رولز في الكتابة من أن يكون شفرة، في حاجة إلى أن تُفَك. يقصد رولز من المجتمع المكتفي بذاته، المتعاون كله معاً، المجتمع اللاطبقي، أو على الأقل، المجتمع الذي لا تسوده انقسامات طبقية حادة، لأن المجتمع الطبقي لن يسوده التعاون ولن يكون مكتفياً بذته، فالتعاون يفترض عدم وجود هيمنة طبقية من طبقة على أخرى، ويفترض عدم وجود استغلال؛ والاكتفاء الذاتي للمجتمع يفترض عدم وجود سلطة قهرية قمعية تفرض نظاماً بالقوة على المجتمع. إن نص رولز يتضمن ظاهراً وباطناً، ووظيفة ظاهر النص المجرد هو إخفاء ومواراة معناه الحقيقي.
الخلفية السياسية لرولز
والحقيقة أن تاريخ صدور كتاب رولز “نظرية في العدالة” هو مفتاح فهم نظريته في سياقها التاريخي والسياسي والاقتصادي. لقد ظهر كتاب رولز سنة 1971، أي في السنة التي بدأ فيها التحول نحو سياسات الليبرالية الجديدة في الغرب، التي بدأت بالهجوم على دولة الرعاية الاجتماعية Welfare State، والتخلي عن الدور الاجتماعي للدولة في سبيل تحرير تام للاقتصاد، وهي السياسات التي سوف تتبلور بعد ذلك في عصر الليبرالية الجديدة مع ريجان في أمريكا، وثاتشر في بريطانيا. ظهر كتاب رولز إذن في بداية عصر التحول نحو الليبرالية الجديدة، في حين أن نظرية رولز نفسها كانت تناصر دولة الرعاية الاجتماعية وتدافع عن دور تدخلي وتشريعي للدولة لضمان مبادئ العدل والمساواة، أو الإنصاف كما أسماها رولز. وبذلك يبدو كتاب رولز وكأنه يسير على خطى دولة الرعاية في العصر الذي شهد بداية سقوطها والذي شهد أعنف نقد وُجِّه لها من اتجاهات ليبرالية متعددة.
كما يرجع السبب في مفهومه عن العدالة كإنصاف إلى وعيه بأن المجتمع القائم هو مجتمع طبقي ولا يمكن نزع هذه الخاصية عنه، لكن لما كان تحقيق العدالة يفترض المساواة والمساواة تفترض انتفاء الطبقات، ففي ظل المجتمع الطبقي تصير المساواة غير ممكنة وبالتالي تصير العدالة مستحيلة، والحل الوحيد الذي ارتآه رولز هو أن تكون العدالة ممكنة في ظل هذا المجتمع باعتبارها إنصافاً، أي ألا يتعارض تركز الثروة لدى البعض مع سعي البعض الآخر نحو الحقوق والفرص العادلة.
سر عودة رولز لنظرية العقد الاجتماعي
تمثل نظرية رولز في العدالة عودة قوية إلى نظرية العقد الاجتماعي، وذلك بعد أن توارت هذه النظرية في القرنين التاسع عشر والعشرين. إذا اطلعنا على تاريخ الفكر السياسي الغربي وتاريخ النظريات السياسية الغربية، سنجد أن الفترة التي سادت فيها نظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي تنحصر في القرنين السابع عشر والثامن عشر، مع هوبز وسبينوزا وجروشيوس وبوفندورف، ولوك وروسو وهيوم وكانط. أما في القرن التاسع عشر فقد بدأ الانزواء التدريجي لهذه النظريات، لتخلي المكان لنظريات أخرى مستوحاة من الاقتصاد السياسي ورؤيته عن الإنسان الاقتصادي Homo Economicus، والمتناقض مع رؤية الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي. والسبب في ذلك الانزواء يرجع إلى أن هذه النظريات كانت من أهم العناصر الفكرية التي وقفت وراء الثورات البورجوازية والمبادئ الديموقراطية والجمهورية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، اللذان كانا عصر الثورات البورجوازية عن جدارة. وكان اضمحلال هذه النظريات في الفترة التي شهدت استقراراً للبورجوازية في الحكم وفي الاقتصاد، مما جعل مفكروها يتخلون عن نظريات الحق والعقد التي كانت دعماً فكرياً في ثورات القرنين السابع عشر والثامن عشر.
تنتمي نظريات العقد الاجتماعي إلى الماضي الثوري للبورجوازية، عندما كانت في صراع مع الإقطاع والأرستقراطية والنظم الملكية، فكان مفكرو هذه الطبقة يهدفون تأسيس المجتمع والسياسة والقانون على أسس تتجاوز الامتيازات الطبقية الوراثية للأرستقراطية؛ وفي ظل هذا السياق التاريخي كانت البورجوازية طبقة ثورية بحق، لكن كفت عن أن تكون كذلك بعد أن نجحت في السيطرة السياسية والاقتصادية على المجتمع والدولة، وبعد انتهاء عصر ثوراتها العديدة[26]. وعندما يعمل رولز على إحياء نظرية العقد الاجتماعي وما تحمله من أفكار عن الوضع الأصلي الذي تختفي منه الامتيازات والانقسامات الطبقية، فهو يعود إلى الماضي الثوري للفكر البورجوازي هادفاً إحياءه واستئنافه. لكن ما الأسباب التي تجعله يقوم بذلك؟ يبدو أن الأمر يتعلق بزيادة حدة الانقسامات الطبقية وازدياد الامتيازات الطبقية في أمريكا في زمانه. ويبدو أن رولز كان على درجة عالية من الحساسية تجاه المستقبل، لأن كتابه ظهر على عتبة عصر الليبرالية الجديدة، الذي انفلتت فيه الرأسمالية من كل القيود الديموقراطية والرقابة الشعبية.
ويجب أن نأخذ في اعتبارنا أن أمريكا لم تمر بتجربة ثورية راديكالية مثل التي مرت بها أوروبا طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حتى حركة الحقوق المدنية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. ولم تعرف أمريكا اتجاهاً يسارياً قوياً مثيلاً للذي كان في أوروبا[27]، إلا في الستينيات وعلى إثر حركة الحقوق وحرب فييتنام. وعلى هذه الخلفية لم يكن رولز ليستطيع الاستناد على أي تراث فكري راديكالي أمريكي، فكان عليه التخفي وراء نظرية العقد الاجتماعي. هذا بالإضافة إلى أن وجود صراع للبورجوازية مع الإقطاع في أوروبا عمل على خلق فكر سياسي راديكالي وثوري هناك، أما غياب صراع مثيل في أمريكا فقد أدى إلى غياب أي تاريخ وفكر سياسي نضالي وثوري للبورجوازية الأمريكية[28]. رولز إذن يستعيد نظرية بورجوازية ثورية أوروبية بسبب غياب بورجوازية ثورية أمريكية.
كان رولز إذن يعيش شرطاً فكرياً وشرطاً سياسياً. الشرط الفكري هو خلو التراث الفكري السياسي الأمريكي من تيار يساري أو اشتراكي قوي وبارز ومؤثر مثيل للتيارات الأوروبية، والشرط السياسي هو أحداث اجتماعية – سياسية ثورية غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي: حركة الحقوق المدنية للزنوج ومناهضة حرب فييتنام. وكل ذلك داخل سياق دولي هو الحرب الباردة مع الكتلة الاشتراكية. لم يستطع رولز أن يكون صريحاً في مواقفه السياسية ولا في كتاباته، والسياقات الني عاشها فرضت عليه أسلوباً حذراً في الكتابة يصل إلى حد السرية. فلا يستطيع مفكر مثل رولز، يشغل منصباً جامعياً مرموقاً في أمريكا وحريص على عدم المساس بالصوابية السياسية السائدة، الإفصاح عن أفكار مخالفة للتيار السائد، خاصة وأن الطلبة الذين يدرس لهم رولز في الجامعة هم أبناء النخب الحاكمة في كل المجالات. إن أسلوب الكتابة المجرد والذي يظهر في “نظرية في العدالة”، فرضه سياق رولز، الفكري والسياسي والاجتماعي، ثم الأكاديمي أيضاً. تلقى رولز تعليمه في برينستون وأكسفورد، ثم عمل في كورنيل وهارفارد، وليس من المتوقع وسط هذه البيئة الأكاديمية من جامعات النخبة أن يخرج مفكر راديكالي، فهذه الجامعات من حيث الأساتذة ومن حيث الطلبة هي جزء أصيل من المؤسسات الحاكمة في أمريكا، لكن تظهر مواقفه الحقيقية فيما بين السطور ومن فلتات القلم.
خاتمة
إن مغزى “حجاب الجهل” عند رولز هو أنه على الرغم من أن الناس يولدون في مجتمع طبقي، ويجد كل واحد منهم نفسه منتمياً لطبقة، تحدد مصيره وإمكاناته المستقبلية، إلا أن الإلغاء الافتراضي للطبقات ضروري للغاية إذا كان علينا أن نؤسس لأي مبدأ للعدالة.
وعلى الرغم مما تحمله نظرية رولز من رفض مضمر للمجتمع الرأسمالي الطبقي، إلا أنه كان من السهل على رولز أن يمرر مفهوم “الوضع الأصلي” وما يتضمنه من فكرة “حجاب الجهل” رغم كل ما يحمله من متضمنات مساواتية مضادة للمجتمع الطبقي الرأسمالي، وذلك بفضل تناسبه مع الخبرة التاريخية الأمريكية في استعمار القارة الأمريكية في عصر التأسيس. فقد كان السكان الأوروبيون ينتشرون في الأراضي الأمريكية في وضع يشبه كثيراً الوضع الأصلي الذي يتناوله رولز، باعتبارهم أفراداً لا طبقات، وفي حالة شبه مساواتية غير محملة بأعباء الانقسامات الطبقية التي كان يعاني منها المجتمع الأوروبي. فالوضع الأصلي شبيه للغاية بوضع مستعمري أمريكا الأوروبيين الأوائل، ولذلك تناسب هذا المفهوم مع العقلية الأمريكية والخبرة التاريخية الأمريكية رغم كل متضمناته الاشتراكية ووقوفه ضد الانقسام الطبقي للمجتمع الرأسمالي الأمريكي المعاصر له. إن العقلية الأمريكية المستقبلة لنظرية رولز سوف تعمل على الربط المباشر بين الوضع الأصلي وبدايات التاريخ الأمريكي في قارة بكر.
[1]) Rawls, John, A Theory of Justice. Cambridge, Massachusetts: The Belknap Press of Harvard University Press, 1971.
[2] ) يذكر رولز عبارة “حجاب الجهل” the veil of ignorance 56 مرة في الطبعة الأولى من “نظرية في العدالة”، و17 مرة في كتابه “العدالة كإنصاف”.
[3] ) وهذا هو ما لاحظه إدموندسون: Edmundson, William A. John Rawls: Reticent Socialist. Cambridge: Cambridge University Press, 2017
[4] ) وكذلك مع جان جاك روسو في كتابه “أصل التفاوت بين الناس”. انظر في ذلك: Neuhouser, Frederick. Rousseau’s Critique of Inequality: Reconstructing the Second Discourse. Cambridge: Cambridge University Press, 2014، خاصة ص 213 – 225.
[5]) من أشهر المفكرين الذين تناولوا هذا النوع من الكتابة، ليو شتراوس في كتابه “”الاضطهاد وفن الكتابة” Leo Strauss, Persecution and the Art of Writing (Glencoe, Ill.: Free Press. 1952).، وكذلك آرثر ميلزر، Arthur Melzer, Philosophy Between the Lines: The Lost History of Esoteric Writing. (Chicago: University of Chicago Press, 2014).
[6]) Rawls, A Theory of Justice, p. 12.
[7]) Rawls, A Theory of Justice, p. 275, 280, 298,
[8]) Rawls, A Theory of Justice, p. 299.
[9]) Ibid.
[10]) Bell, Daniel. 1972. On meritocracy and equality. The Public Interest 29: 29–68, (at 57).
[11]) Smith, Tony. Beyond Liberal Egalitarianism: Marx and Normative Social Theory in the Twenty-First Century (Leiden, The Netherlands: Brill, 2017), 2 – 3, 12 – 14, et al.
[12]) Rawls, A Theory of Justice, p. 4.
[13] ) وردت كلمة social justice في كتاب رولز (36 مرة) وكلمة social cooperation (44 مرة).
[14]) Rawls, A Theory of Justice, p. 7.
[15]) Rawls, John, Justice As Fairness: a Restatement. Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 2001.
[16]) Rawls, A Theory of Justice, p. 15.
[17]) Rawls, A Theory of Justice, p. 11.
[18]) Rawls, A Theory of Justice, p. 12.
[19]) Ibid.
[20]) Rawls, A Theory of Justice, p. 13.
[21]) Rawls, A Theory of Justice, p. 14.
[22]) Rawls, A Theory of Justice, p. 19.
[23]) Ibid.
[24] ) فيما عدا الفصل الذي خصصه رولز لمفهوم الوضع الأصلي والذي يعد من أكبرفصول الكتاب (وهو الفصل الثالث البالغ 65 صفحة)، فالمصطلح مذكور في 146 صفحة أخرى، بمجموع 211 صفحةـ من أصل 587 صفحة.
[25]) Rawls, A Theory of Justice, p. 4.
[26]) حول الماضي الثوري للبورجوازية والطابع الراديكالي لفكرها السياسي في عصر ظهورها، انظر، Neil Davidson, How Revolutionary Were the Bourgeois Revolutions? (Haymarket Books: Chicago IL, 2012)
[27]) Foner, E. (1984). Why Is There No Socialism in the United States? History Workshop, (17), 57-80.
وانظر كتاب زومبارت الذي بالعنوان نفسه.
[28]) وإذا اعتبرنا أن إلغاء العبودية في أمريكا سنة 1861 ثورة، فقد كانت ثورة من أعلى أعقبتها حرب أهلية، كما ذهب إلى ذلك نيل دافيدسون: Davidson, Neil. (2011). The American Civil War Considered as a Bourgeois Revolution. Historical Materialism. 19. 98-144.
بيبليوغرافيا
Bell, Daniel. 1972. On meritocracy and equality. The Public Interest 29: 29–68
Davidson, Neil, How Revolutionary Were the Bourgeois Revolutions? (Haymarket Books: Chicago IL, 2012)
Davidson, Neil. (2011). The American Civil War Considered as a Bourgeois Revolution. Historical Materialism. 19. 98-144
Edmundson, William A. John Rawls: Reticent Socialist. Cambridge: Cambridge University Press, 2017
Foner, E. (1984). Why Is There No Socialism in the United States? History Workshop, (17), 57-80
Melzer, Arthur, Philosophy Between the Lines: The Lost History of Esoteric Writing. (Chicago: University of Chicago Press, 2014).
Neuhouser, Frederick. Rousseau’s Critique of Inequality: Reconstructing the Second Discourse. Cambridge: Cambridge University Press, 2014
Rawls, John, A Theory of Justice. Cambridge, Massachusetts: The Belknap Press of Harvard University Press, 1971.
Rawls, John, Justice As Fairness: a Restatement. Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 2001
Smith, Tony. Beyond Liberal Egalitarianism: Marx and Normative Social Theory in the Twenty-First Century (Leiden, The Netherlands: Brill, 2017)
Strauss, Leo, Persecution and the Art of Writing (Glencoe, Ill.: Free Press. 1952)